الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

حيث المحور هو الآية الظاهرة في وجوب الاستعجال ، ونتيجة قياس الروايات عليها بقاء الوجوب الظاهر الا لعذر ام في المفرد.

وقد يوهن الوجوب ب «ثم» هنا (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وهي للتراخي ، فالواجب بعد الذبح وفاء النذر وطواف البيت في وقت متراخ ، خرج الحلق او التقصير بدليل وبقي الباقي ومنه الطواف.

ذلك ، اضافة إلى ان (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وآخرها ذو الحجة إلى آخرها ، ولان البيتوتة في منى هي ـ فقط ـ في ايام التشريق ، وليس بعدها إلا الطوافان فليسمح فيهما إلى آخر الشهر الأخير من المعلومات ، فلا يبقى في البين الا رجاحة تقديم الطواف ، وهو الأحوط مطلقا إلا لعذر عاذر.

ولان الآية (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) مطلقة في مسرح الطواف ، فطليقة ما صدق انه طواف ، فقد يصح الطواف حوله من ايّ المسجد الحرام ، مهما توسع المسجد ما صدق أنه المسجد الحرام ، فالمقام داخل في حد الطواف ، كما ان المسجد الحرام بمسارحه الثلاثة ، ارضية وتحت الارضية وفوق الارضية ، كله مطاف ، مهما كان الأقرب إلى البيت فالأقرب أفضل كما الصلاة ، وقد سئل الصادق (عليه السلام) في الصحيح عن الطواف خلف المقام فقال : ما أحب ذلك وما ارى به بأسا فلا تفعله إلا ان لا تجد منه بدا» (١).

ولا تعارضها الرواية اليتيمة القائلة أن حدّه ما بين المقام والبيت (٢)

__________________

(١) الفقيه كتاب الحج ب ٧٢ ح ١.

(٢) في الكافي ٤ : ٤١٣ والتهذيب ١ : ٤٧٧ مضمرة حريز عن ابن مسلم قال سألته عن حد الطواف بالبيت الذي من خرج عنه لم يكن طائفا بالبيت؟ قال : كان الناس ـ

٨١

لضعفها في سندها وفي متنها لنفسها قضية تعارض أجزائها ، وتعارضها ككلّ اطلاق الآية ونصّ الصحيحة.

__________________

ـ على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوفون بالبيت والمقام وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام وبين البيت فكان الحد موضع المقام اليوم فمن جازه فليس بطائف والحد قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي البيت كلها فمن طاف متباعدا من نواحيه ابعد من مقدار ذلك كان طائفا بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد لأنه طاف في غير حد ولا طواف له».

أقول : بعد مخالفتها لإطلاق الآية وصريح الصحيحة هي مضمرة غير منسوبة صريحا إلى المعصوم وهذا كسر في الرواية ، ثم ان بدايتها خلاف نص القرآن بالنسبة للطواف (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) فلو كان المقام زمن الرسول قبل موقفه الآن ـ وكما في بعض الأحاديث ـ ملتزما بالبيت وعمر هو الذي نقله إلى موقفه الآن لكانت صلاة الطواف قرب البيت حيث موضع المقام زمن نزول الآية ، وهذا خلاف الضرورة الاسلامية بالاطباق.

ثم الطواف بالبيت والمقام زمن الرسول والطواف بينهما اليوم ليس لزامهما أنهما سيان ، حيث الأول غير محدود بحد والثاني محدود ، اللهم الا بتلزيق الجملة التالية «والحد قبل اليوم واليوم واحد» فالجملة السالفة اجنبية عن اثبات الوحدة بين الحدين.

ثم القول «فمن طاف متباعدا من نواحيه ابعد من مقدار ذلك كان طائفا بغير البيت» هذا خلاف الواقع الملموس ، فانه طائف بالبيت ولو دل الدليل على بطلانه ، كمن يصلي إلى القبلة بصلاة باطلة ، فهو قطعا مصل إليها مهما كانت باطلة والتعبير الصحيح هنا من طاف هكذا كان طوافه باطلا ، لا انه لم يكن طائفا بالبيت كمن طاف بالمسجد.

ثم المحكوم بالبطلان في هذه الرواية هو الطواف الذي كان متباعدا من نواحيه ، فلا تحكم بالبطلان إذا تباعد من بعض نواحيه ، ومحور الابطال هنا ان يطوف بكلا المقام والبيت من كل نواحيه فان طاف بينهما في موضع المقام ثم طاف ابعد من هذا المقدار في سائر الطواف فلا تبطله هذه الرواية حيث يصدق انه لم يطف بالبيت. متباعدا من نواحيه ابعد من ذلك.

ومن ثم كيف يصح فقهيا بيان مثل هذا الحكم المبتلى به دائما بمثل هذه اليتيمة : ـ

٨٢

ثم الحجر مطاف كما البيت فهو بيت في مسرح الطواف ، فليكن الفصل المحدد بين المقام والبيت في هذه اليتيمة ، هو الفصل بين جدار الحجر دون البيت.

ثم الممنوع فيها هو الطواف متباعدا من نواحيه أبعد من ذلك ، إذا فالابتعاد في بعض النواحي كناحية الحجر ولا سيما رأس الزاوية ، غير ممنوع في نصها.

وبعد كل ذلك ليس الطواف خاصا بزمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون الحجاج قلة ، حتى يصح ذلك التحديد ـ ان صح دليله ـ بل هو عام يحلّق على الطول التاريخي والعرض الجغرافي الاسلامي ، ففيما يحج مئات الآلاف والملايين من المسلمين كيف يمكن الطواف المحدد بذلك الحد ، ولا سيما في قياس هؤلاء الذين يفتون باحتساب ساحة الحجر في هندسة حدّ الطواف ، إذا فلا يبقى في رأس الزاوية إلّا زهاء ثلاثة امتار ونصف يجب ان يجتازها دون تجاوز مئات الآلاف من الطائفين! وما كان ليجتازها القلة القليلة في البداية ، ولا سيما الركاب ، ولقد طاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحيانا بالبعير ، فهل كان يهندس هذه الهندسة الضيقة المضايقة في رأس الزاوية؟!

إذا فلا اشكال في الطواف في ايّ المسجد الحرام ، مهما كان مكروها في موضع المقام ان يدخله في الطواف إلا عند الحرج او المشقة.

__________________

ـ المشوشة ، المخالفة للآية والصحيحة الصريحة ، غير القابلة للتطبيق حين كان المسلمون قلة فضلا عن هذه الكثرة الكثيرة؟

ثم الحجر في المطاف محسوب من البيت فلما ذا التضييق عنده بانحسابه من المطاف فلا تبقى في رأس زاويته الا زهاء ثلاثة امتار!.

٨٣

ثم (لْيَطَّوَّفُوا) قضيته ان يطوف الطائف باختيار منه ، فان طيف به دون اختيار منه ام هو نائم لم يكن من الطائفين ، وان طيف به باختيار منه ورضى ، ام طلب منه فهو من الطائفين ، ومجرد الطواف باختيار ونية من الطائف ما صدق انه طاف يكفي أداء لذلك الركن الركين.

ولان طبيعة الحال في المطاف اصطكاك الطائفين بعضهم ببعض ، وتدافعهم في ذلك السباق ، وان الطائف يحمل أحيانا بطوف من سيل الطائفين ، شاء ام ابى ، ويحوّل أخرى إلى غير أمامه شاء ام ابى ، علما منه في ذلك المسيل الجارف غير المجازف والدوارة الهائلة ، علما انه قد يطاف به او يحوّل!

لذلك كله لا يضره في كونه طائفا باختيار هذه الحالات التي هي من لزامات الطواف ، ولا نص من غير آية الطواف يشترط عدم التحول عن الأمام حالة الطواف ، وما مثل من يحمل ماشيا بحمل الطواف ، إلا كمثل من يركب في الطواف ، فلا ضير ـ إذا ـ في تلك العوارض التي هي لزام الطواف في ذلك السيل الجارف الدائر مدار البيت العتيق ، كدوارة سيالة في ذلك المدار.

فمن يوغل نفسه في مجرف السيل باختيار ، ثم يجرفه السيل اي مجرف دونما اختيار ، فقد ينحسب كل انحراف له بمبدإ الإختيار ، حيث الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وحكمه ـ أيا كان ـ حكم الاختيار.

ثم طبيعة الحال العادية غير المصطنعة في الطواف حول البيت ، انحراف اليسار عند الحجر عن جدار البيت لحد المواجهة للبيت نفسه ، وهذا ـ قطعا ـ لا يضر بواجب الطواف ، فلا يجب بل لا يجوز تحويل اليسار إلى البيت عند الحجر ، إما لان الحجر محسوب في الطواف بحساب البيت فجداره جداره كما ساحته ساحته ، ام لان المأمور به هو الطواف عاديا دونما

٨٤

اصطناع حول البيت ، ولا سيما في ذلك المجرف الدائري ، الجراف القوي القوي ، الذي لا يسمح بذلك الطواف باختيار ، فضلا عن الهندسة المصطنعة للمحتاطين ، تحويلا لليسار إلى جدار البيت في زاوية الحجر ، فانها حالة مضحكة مبكية ، شاقة محرجة وأحيانا غير ممكنة للطائف.

لا نص هنا ولا اشارة لان يجعل جدار البيت في زاوية الحجر على اليسار ، فاصل جعل البيت على اليسار ايضا لا دليل له لفظيا إلا عمل المعصومين ، وحتى لو كان هنا لك نص على وجوب هذه الهندسة الملتوية ، لكان ساقطا عند الضرورة التي يعيشها الطائفون في الحج ، كيف ولا نص هنا او هناك إلا (لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وكانوا يطوفون على اليسار.

ولان المسألة هي من أهم ما تعم به البلوى ، فلو كانت تلك الهندسة المحرجة شرطا في الطواف لكانت النصوص عليها متواترة ، وليس هنا لك نص ولا إشارة!.

(.. بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

مواصفة البيت بالعتيق لم تأت الا هنا و (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٤ : ٣٣)

وعلّ العتيق هو القديم زمانا ومكانا ، وهو الطليق عن أسر الملكة والسلطة الخاصة لغير الله ، فلم يملك ولن يملك لأيّ كان وايّان ، وقد يجمعهما : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٣ : ٩٦) فهو اوّل زمانا ومكانا وقد مكّت الأرض من تحته وبكّت منذ حرّكت ، وهو للناس كل الناس دون اختصاص ودون أية ملكة فانه بيت الله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٤ في الكافي بسند متصل عن أبي حمزة الثمالي قال قلت لأبي ـ

٨٥

ومن ثم فهو عتيق طليق عن التهديم كما انعتق عن اصحاب الفيل ، ومن قبل عتق من الغرق (١). و «لان الله اعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط» (٢) وهم الملحدون والمشركون الداعون إلى غير الله ، مهما سيطر عليه ـ دون ملكة ـ جبابرة من المسلمين ، ام تهدم ثلاث مرات في التاريخ الإسلامي!

والطواف بالبيت العتيق هو أركن أركان الحج ، بل هو هو الحج فانه قصد البيت لزيارته ، وقد سميت سائر شعائره حجا بضمنه وضمانته ، فما إحرام العمرة بواجباته ومحرماته الا مقدمة تحضيرية للطواف ، وما السعي بعده الا تلحيقا له وتعقيبا ، ثم الإحرام للحج والوقوفان وبيتوتة مني بواجباتها ، هي كذلك تحضيرات للطواف الثاني وهي طواف الحج : الزيارة ، ثم السعي له تعقيب ثان.

__________________

ـ جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام لأيّ شيء سمى الله العتيق؟ فقال : انه ليس من وضعه الله على وجه الأرض الا له رب وسكان يسكنونه غير هذا البيت فانه لا رب له الا الله وهو الحر ثم قال : ان الله تعالى خلقه قبل الأرض ثم خلق الأرض من بعده فدحاها من تحته. وفيه عنه (عليه السلام) هو بيت حرّ عتيق من الناس لم يملكه احد.

(١) المصدر عن أبي عبد الله (عليه السلام) انما سمي العتيق لأنه أعتق من الغرق عتق الحرم معه كف عنه الماء وفي البحار ١١ : ٣٢٥ ص بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله تعالى أغرق الأرض كلها يوم نوح (عليه السلام) الا البيت فمن يومئذ سمي العتيق لأنه أعتق من الغرق فقلت له : صعد إلى السماء؟ فقال : لم يصل الماء اليه وانما رفع عنه (قصص الأنبياء مخطوط).

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣٥٧ ـ اخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انما سمى الله البيت العتيق لان الله ...

٨٦

مناسك الحج كلها تحوي أسرارا ، فطواف البيت هو محور الأسرار ، حيث تحللت الآن عن كل طواف حول كلّ مطاف ، فتطوف الآن حول البيت العتيق.

لقد كنت قبل طائفا حول نفسك ونفسياتك ، ام أنفس الآخرين ونفسياتهم ، ثم لبيّت دعوة ربك لحج بيته العتيق ، لبيك لله ولا لبيك لسواه ، فأنت الآن وبعد إحرامك تطوف حول البيت العتيق ، بعد ما كنت طائفا طوف الرقيق حول الرقيق ، فالآن أنت منعتق عن التطواف حول ما سوى الله ومن سوى الله ، حيث بيت الله في كونه مطافا يمثل التطواف حول محور الحق لا سواه ، الله لا سواه ، كما الطواف محصور في بيت الله لا سواه.

أنت في حياتك كلها طائف حول مطاف ، حركة دائرية دائبة حول مركز من مراكز الحياة والحيوية كما تروم ، فتحوم حومه ، وتطوف حوله ، واصلا اليه ام غير واصل ، حاصلا على بغيتك ام غير حاصل.

فأنت طائف أينما كنت وحيثما كنت ، فأنت أنت بنفسك الطواف طائفا حول نفسك ونفسياتك ، حول إنّياتك ومراداتك ، حول أصنامك وطواغيتك ، حول شخصياتك ومصلحياتك في كل محاورك ، حركة دائبة دون أيّة وقفة ، وكلها هباء وإلى العراء ، والآن ـ بعد ما لبيّت ـ تبدّل محور الطواف عن كل المحاور سوى الله ، من غير الله الى الله ، من سائر البيوت وأصحابها إلى بيت الله وإلى الله.

وانه حركة دائرية لا توصلك إلى مركزها ، حيث الله لا يوصل إليه ، ولا نهاية لها قضية الدائرة ، لان معرفة الله وعبوديته لا نهاية لها ، وانما تجعل هنا ـ كأمثولة ـ كلّ حركاتك حول محور الحق ، فليس لله مكان ولا بيت يحله حتى يطاف حوله ، وانما جعل هذا البيت رمزا للتطواف الحق ،

٨٧

انه فقط حول مرضات الله ، حول بيت الله كأنه حول الله وليس له حول.

أنت في ذلك الطواف حول البيت العتيق تحرر نفسك عن كل طواف غير عتيق ولا طليق ، وتحصر نفسك في حركاتها في ذلك الطواف ، فتصبح طوافا ـ وعلى طول خط الحياة ـ حول البيت العتيق ، حول الحق الطليق.

تطوف بالبيت العتيق ، الذي لا ظاهر له باهرا إلا أحجار سوداء ، ولا باطن إلا خلوا عن كل باطن ، غير مزخرف البنيان ، ولا ساكن فيه أيّ كان ، من نبي أو إمام ، وليس الله ـ وهو بيته ـ من السكان ، محور ومطاف حاسر عن كل ما يجلب العيون ، ويجذب الأهواء ، اللهم الا مرضات الله حيث أمرنا ان نطوّف ببيته العتيق ، تحررا عن كل حركة وطواف ، وانحسارا فانحصارا في التطواف حول ما يرضاه الله.

ذلك تدريب اديب ، يؤدبنا كيف علينا ان نطوف في كل مجالات الحياة تحررا فيها ـ عن كافة المحاور إلا الله ف (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

تذيب هنا كافة التشخصات عن نفسك ، وتخفي شخصك بين سيول الطائفين ، غارقا فيهم دون تميّز ، درسا لك ملموسا لتكون في حركاتك إلى الله مع عباد الله ، فان «يد الله مع الجماعة».

تطوف سبعا ـ عله ـ لكي تزيل عنك الوصمات السبع الابليسة ، فتغلق على نفسك الأبواب السبع الجهنمية ، وكما تسعى سبعا وترمي الشيطان الأكبر والأوسط والأصغر سبعا ، سبعا تلو بعض ولصق بعض ، ولكي تتخلص بالنتيجة عن السبعة اللعينة الشيطانية وأبوابها.

ولان الطواف بالبيت العتيق عبادة لا تؤتي إلا بأمر ، ولم يؤمر به الا بالبيت العتيق ، فلا يجوز الطواف حول النبيين وسائر المعصومين ، او

٨٨

بيوتهم ، او قبورهم ، فإنهم معكم طائفون حول هذا البيت فلا يطاف حولهم ، كما الصلاة ـ فقط ـ لله وسائر العبادات خاصة بالله لا سواه ، والعبادات توقيفية حسب المقرر في شرعة الله ، فلا يؤتى حتى بصورتها لغير الله ، لأنه تشريك بالله وتسوية في حرمة الله.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(٣٠).

«ذلك» البعيد البعيد المدى ، العظيم العظيم الصدى ، من حج البيت بمناسكه ، فانها من حرمات الله التي احترمها ، وحرّمها على من يخترمها ، حرمات وحرمات واجبة الاحترام عقيديا وعمليا.

(وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) في أية مجالة من مجالاتها «فهو» ذلك التعظيم (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) «له» دون ربه ، ومهما لم تكن خيرا عند من سوى ربه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فمن يهتكها فهو شر له عند ربه ، ومن لا يحترمها ولا يخترمها ، عوانا بين تعظيمها وتصغيرها ، فلا خير له ولا شر له إلا تركا لتعظيمها الواجب ، بل ان «خير» هنا يقابل الشر ، فمن لا يعظمها فهو شر له عند ربه ، فكما الله يعظّم فرضا ، كذلك حرمات الله ، حيث احترمها الله وحرّم خلاف التعظيم لها.

و (حُرُماتِ اللهِ) في وجهة عامة هي ما لا يحل هتكه وتجب حرمته ورعايته ، من واجبات او محظورات ، فليست هي ـ فقط ـ المحرمات ولم تذكر هنا من ذي قبل إلا واجبات ، وليست هي ـ فقط ـ الواجبات ، بل هي حدود الله في ما فرض او حذّر ، مهما اختلفت درجاتها حسب قراراتها ،

٨٩

رجاحة في فرض أو واجب أو مندوب ، وكراهة في فحشاء أو منكر أو مكروه ، وهي كلها واجبة الاحترام فعلا او تركا وعلما واعتقادا : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) (٢٧ : ٩١) وهكذا سمي المسجد الحرام بالحرام لواجب الاحترام ، وكما تسمى المحرمات ايضا حرمات (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) (٢ : ١٩٤).

إذا فحرمات الله هي عبارة اخرى عن شرعة الله ككل ، وقد ذكر هنا ويذكر قسم منها عظيم ، لعبادة جماهيرية سياسية هي من شعائر الله ، ومن مكبرات ومذياعات شرعة الله ككل.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في الكتاب من قبل هذا ومن بعد ، تلاوة دائبة في العهدين مكيا ومدنيا ، حيث الاستثناء لا يختص بما يتلى بعد وقد تلي من قبل كما يتلى من بعد ، حيث تلي في مكيات من قبل كالأنعام وكما هنا وفي النحل في أخريات العهد المكي ، ثم في البقرة المدنية وإلى المائدة وهي آخر ما نزلت من المدنيات ، إذ نجد في مكيات سالفة ولاحقة ام في مدنيات مستقبلية استثناءات عما أحلت من الانعام.

و «أحلت» هذه هنا دون رباط ظاهر بما يتلوها ، إلا ما سلف (مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أكلا وايكالا ، انها تنديد بالمشركين الذين كانوا يحرّمون لحوم الاضاحي من الأنعام على أنفسهم وعلى الفقراء ، لأنهم قدموها لله! فهنا وفي التالي يأمر الله بأكل لحومها وايكالها وأنها ليست مما يتلى عليكم.

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) حيث تضحون باسمها (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) أن لحومها محرمة لأنها لله ، ف (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ..)!

٩٠

وترى ما هو «الرجس» وما هو موقف «من» في (مِنَ الْأَوْثانِ)؟

الرجس هو القذر ماديا او عمليا او معنويا ، يجمعها الرجس المنفي عن اهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣ : ٣٣) وتتلوها (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٥ : ٩٠) حيث الخمر رجس ذاتها وعملها وشربها وكل محاولة فيها الا تحويلها خلا ، والميسر عملها وأكل المال فيها ، والأنصاب وهي ما ذبح على النصب فعملها رجس وذاتها وأكلها. ومن الذاتي والعملي : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٦ : ١٤٥) ومن الذاتي والمعنوي : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٩ : ١٢٥) ومن الفاعلي (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) (٧ : ٧١) وفي صيغة شاملة كل واجب الاجتناب رجسّ مسا او عملا او عقيدة فيعم الرجاسات الظاهرية والباطنية.

و «الأوثان» هي رجس صناعة ، ورجس عبادة ، ورجس ما ذبح عليها باسمها ، ورجس سائر المعتقدات فيها والطقوس لها.

إذا ف «من» هنا قد تكون نشوية فهو رجس ناشئ عن الأوثان مثل ما ذبح على النصب ، وما ذبح مذكورا عليها اسم غير الله ، وما أهلّ به لغير الله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) : ما اهل به لغير الله ، رجس صادر عن الأوثان.

واخرى جنسية : «الرجس» الكائن «من» جنس «الأوثان» صناعة وعبادة واية محاولة شركية فيها.

وثالثة بيانية كأن الرجس ـ فقط ـ هو الأوثان ، ولأنها مبدء كل رجس في جنبات الحياة.

٩١

ورابعة تبعيضية «الرجس من» بعض المحاولات «من الأوثان» ككل المحاولات الشركية الناشئة عن عبادة الأوثان ، وأما كسرها وإحراقها وأمثالهما من محاولات توحيدية فهي واجبة «من الأوثان» كبعض آخر مما يرتبط بالأوثان.

وقد تكون كلها معنية والأنسب في هذا المسرح هو الأول ، اجتنابا مما اهل لغير الله به عملا واكلا ، واجتنابا من القول الزور فيها أنها آلهة تستحق الإهلال لها في الذبائح ،

والقول بحرمة الاكل والإيكال من الاضاحي لأنها لله إذ كانوا يقولون فيها : لا يحل لنا ان نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير فرد الله عليهم امرا بالأكل والإيكال بشروط الحلية ، وانه (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ..).

ثم (قَوْلَ الزُّورِ) لا القول الزور ، هو قول من الزور او في الزور او للزور بمثلث التقديرات في الإضافات الطليقة ، فيحلق على كل قول مصدره زور ، او في مجال زور ام لغاية زور.

والزور من الزّور والتزوير هو الميل عن الحق تظاهرا بالحق ، نفاقا عارما ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ، فهو أخص من مطلق الكذب ، لأنه الكذب المنافق.

وواجب اجتناب قول الزور لا يخصه فاعليا ، بل وحتى حضورا لمحضره وانفعاليا ، فسماع شهادة الزور كنفس الشهادة مأمور باجتنابه وسائر قول الزور ، فمنه شهادة الزور ومنه قول المشركين في تلبيتهم : «لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك» (١) كما منه قولهم في الاضاحي

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية يعني الشرك بالكلام وذلك انهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون ...

٩٢

وتسميهم غير الله عليها ، وكذلك الغنى الملهي (١) لفظيا بأصوات مطربة ام معنويّا بمعاني ملهية ام جمعا بينهما فوا ويلاه! ومن قول الزور ان تقول للذي يغنّي أحسنت (٢) مهما اختلفت دركاتها.

وقد قرن قول الزور أيا كان بالرجس من الأوثان ومن أنحسه شهادة الزور فقد «قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا فقال ايها الناس عدلت شهادة الزور اشراكا بالله ـ ثلاثا ـ ثم قرء : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (٣).

إذا فقول الزور هو كل قولة هارفة جارفة مزخرفة بظاهرة الصدق ، مهما اختلفت دركاته ، وكما تختلف دركات الشرك ، وقد قورن قول الزور

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٥ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : الغناء ، أقول :

انها مخصوصة بالغناء الملهى كما في بعض الروايات لأنه في اللهو ، واما غير الملهي كالتفنن بالقرآن فهو غير محظور بل هو مشكور كما في الحديث : تغنوا بالقرآن ـ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ، فالقول ان كل غناء زور هو نفسه من القول الزور ، وفي المجمع روى أصحابنا انه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية.

(٢) المصدر عن معاني الاخبار عنه (عليه السلام) في الآية قال : منه قول الرجل للذي يغني أحسنت ، أقول : وهذا من باب بيان بعض المصاديق الخفية المختلف فيها ، وكافة الرجس من الأوثان بالشطرنج فان اللاعب به ينجذب اليه تاركا ما يعنيه إلى ما لا يعنيه عاكفا عليه كأنه يعبده ، وهذا جار في كل ما يلهيك عما يعنيك كأنك تعبده.

(٣) الدر المنثور ٤ : ٣٥٩ ـ اخرج احمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ايمن بن خريم قال قام ... وفيه اخرج احمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي بكرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال ـ : الا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

٩٣

بالشرك ، دركات بدركات مما يجعله تلو الشرك ، وهو في الحق إشراك للكذب بالصدق حيث يزوّر بظاهرة الصدق.

ذلك ـ والزور أيا كان : قولا وعلما وعملا واعتقادا ومشهدا محظور (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٢٥ : ٧٢)(فَاجْتَنِبُوا ...)!

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) ٣١.

ان كل زور حالا ومقالا وأعمالا ، ناشئ من الإشراك بالله مهما كان شركا خفيا ، إذا (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) حال انكم (حُنَفاءَ لِلَّهِ) مائلين عما سوى الله (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) كلّ من سواه وما سواه ، في أية دركة من دركاته جلية وخفية ، فانما يريد الله من عباده ان يميلوا عن الشرك كله ، الى التوحيد كله ، وان يجتنبوا قول الزور كله إلى الصدق كله ، استقامة على التوحيد الخالص حالا وقالا وافعالا.

وهنا يرسم النص مشهدا عنيفا مخيفا يصوّر حال من يشرك بالله (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ..) فإذا هو ذاهب بددا كأن لم يكن من ذي قبل ابدا ، فانه مشهد الهويّ من اعماق السماء إلى اعماق الأجواء الواسعة ، فلا يجد مهبطا إلا مخطف الطير في الطريق (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) : بعيدا عن الانظار ، في هوّة هاوية ليس لها من قرار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

ذلك هو صورة الهوي من أفق التوحيد السامق الشاهق ، الى درك الشرك الساحق الماحق.

وقد يعني (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) بعد (حُنَفاءَ لِلَّهِ) تعريضا بناس كانوا

٩٤

يحجون وهم مشركون فكانوا يسمونهم حنفاء الحجاج فنزلت هذه التلحيقة (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)(١) إذ ليست الحنافة لفظة تقال ، الا رفضا لكل ما سوى الله.

وهكذا نجد في آيات عدة نفي الإشراك بالله بعد الحنافة لله تأكيدا في حق المعني منه:

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠ : ١٠٥) (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦ : ١٢٠).

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ٣٢.

(شَعائِرَ اللهِ) وما ادراك ما هي شعائر الله؟ ان الحج بكل نسكه شعائر الله ، اذاعة عالمية تبين الإسلام الحركي السياسي للعالمين ، مهما كانت هذه الشعائر درجات : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (٢ : ١٥٨) أفلا يكون ـ إذا ـ الطواف بالبيت من شعائر الله ، وإن سبقه على (شَعائِرَ اللهِ) هنا قد يجعله كأنه كل شعائر الله ، ام هو المحور الأصيل فيها ، كما (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٣٦) وهي على هامش شعيرة الطواف!

بل والشهر الحرام وهو مسرح هذه الشعائر هو ايضا من شعائر الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ..) (٥ : ٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥٩ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال ...

٩٥

وعلى الجملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) معرفيا وقوليا وعمليا واذاعة بين الجماهير (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) إذا فمن لم يعظم شعائر الله فانها من طغوى القلوب.

ولماذا سميت (شَعائِرَ اللهِ) بما سميت؟ انها جمع شعيرة وهي ما يدرك بلطف ودقة من اصل الشعر لدقته ـ وكما الشعور هو دقة الإدراك والشعار هو الثوب الرقيق الذي يلبس تحت الثياب ، ملاصقا للشعر وكما الشعر دقة في الإدراك ـ والعلامات المعنية المقررة لقوم من المحاربين مستسرة ، فالأصل في كل صيغها الدقة واللطافة ، وهكذا يكون شعائر الحج ومشاعره حيث تدرك أسرارها بدقة التفكير ، مناسك لها معاني ومرامي دقيقة لا يدركها الا أهلوها ، ويرفضها او يهينها البسطاء في المعرفة والايمان.

هذه المناسك الشعائر كلها اعمال ، وهي بحسب الظاهر بين سلبية كالوقوفين وايجابية كالطوافين ، اعمال رقيقة المعاني ودقيقة المرامي ، كما الألفاظ الغامضة ، والمشتبهة المعاني ، ولكنها حكيمة الدلالة ومحكمة المدلول لمن يتعرف إلى الدلالة والمدلول.

هذه الشعائر ، رغم لطافتها وغموضة المعني فيها ، هي اذاعات عالمية اسلامية ، تعريفا بالإسلام الجماهيري الحركي ، اشعارا إلى ضرورة تأسيس دولة اسلامية وحيدة ، فان مملكة الحج نموذجة بارعة تحضّر لها حضورها ، وكما هي رحمة وبركة وهدى للعالمين.

وهذان بعدان بعيدان لهذه المناسك الشعائر ، ليسا في سائر الفرائض والطقوس الاسلامية بهذه الصورة الرائعة والجمعية البارعة ، اللهم الا شذرات بينها هنا وهنا لك وهناك.

فالحج بكل مناسكه ـ إذا أقيمت كما رسمت ـ هو مدرسة سيارة تجعل من الحاج إنسانا كاملا محتلّلا عن كافة الوصمات فردية جماعية ، متحليا

٩٦

بكل بصمات الحق ونسمات القدس ، وذلك «لمن (أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

وترى كيف اختصت تقوى تعظيمها بالقلوب؟ لأن تقوى القوالب ليست بتلك الاهمية مهما كانت مظاهر للتقوى ، وانها ايضا في صالحتها من تقوى القلوب.

ثم لا يشعر هذه الشعائر الا اصحاب القلوب التقية ، المدركة لقلوب هذه الشعائر ومغازيها ومراميها ، فإنها قوالب لها قلوب وأسرار ، ليس ليدركها إلّا اصحاب القلوب.

ثم وتعظيم شعائر الله يحلّق على كافة المراحل والمسارح ، تعلما وتفهما وتأدبا وتطبيقا واذاعة.

فمن تعظيم شعيرة الاضحية اصطفاء الجميلة السليمة السمينة الثمينة ، وإيفاء ما يتوجب في شأنها دون افراط ولا تفريط ، وكما يأتي في مجاله القريب.

ثم ولسائر الشعائر حرمات وتعظيمات كما تناسبها ، قلبيا وقالبيا ، ولكي يعلم العالمون انك في موقف التعظيم والتكريم ، دون ان تبذرها بذرا او ترذّلها رذلا ، بل وتهتم بها اكثر من كل مهام الحياة ، بكل دقة وهمامة.

وعلّ ضمير التأنيث في «فإنها» راجع إلى تعظيمات حسب الشعائر ، جمعا بجمع ، فان هذه التعظيمات من تقوى القلوب ، ام إلى الشعائر نفسها ، فان الشعائر من تقوى القلوب ، فان محاورها هي محاور التفكير الدقيق العميق ، وهي من قضايا تقوى القلوب ، حيث القلوب غير المتقية لا تدرك حق الشعائر واسرارها حتى يعظمها ، والمعنيان علهما معنيّان حيث

٩٧

يتحملها ادب اللفظ والمعنى.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٣٣).

«لكم» في بهيمة الأنعام (مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو ما قبل واجب الذبح والنحر ، من ظهورها واشعارها وأوبارها وألبانها واوراثها ، وهذه من منافعها الدنيوية غير الشعائرية «ثم» بعد منافعها إلى اجل مسمى «محلّها» الذي تحل فيه إحلالا باسم الله وإحلالا للأكل والإيكال (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) منافع اخرى هي كلها للأخرى ، نسكا وايكالا وشعيرة عظيمة من شعاعر الله.

ولتكن واجهتك لها (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أوجه منها من ذي قبل (١) ولتعظمها منذ صممت وعزمت على هديها ، حيث تخرجها من ملتك إلى ملكة الله ، ومن بيتك إلى بيت الله ، ومن حوزتك وحيازتك إلى حوزة الله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). و «ثم محلها» قد يعم زمان الحلول ومكانه ، وكيف يكون محل الأنعام إلى البيت العتيق والمنحر في منى هو يحلّها ثم الطواف فقط إلى البيت العتيق؟.

قد تعني محلها ما عنته هديا بالغ الكعبة» (٥ : ٩٥)؟ ولكنه يختص بمن قتل الصيد محرما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ...)! أم تعني «محلها» زمانا ومكانا ومصدرا ، وهو حلولها للذبح ، تحليلا عن الإحرام ،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٧ في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : البدن يركبها المحرم من موضعه الذي يحرم فيه غير مضر بها ولا معنف عليها وان كان لها لبن يشرب من لبنها إلى يوم النحر.

٩٨

ناحية منحى البيت العتيق ، لأنه بطوافه هو المحور لكل المناسك الشعائر ، فانه ام الشعائر.

ام يعني (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الحرم كله ، ام منى ومكة كلها وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر» (١) ولكن البيت العتيق هو البيت العتيق ، دون مكة كلها او الحرم كله!

ام وباحرى «محلها» تعني محل شعائر الحج كلها ، ومرجعها ومختمها (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) طوافا ، حيث الشعائر كلها تنحو منحى الطواف فانه اصل الحج ، بل هو الحج كله ، ثم شعائره كلها تعبيدات له وتلحيقات كهوامش على ذلك المتن المتين والركن الركين.

ثم وهكذا (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) تحلّق على شعائر الحج كلها ، فان فيها منافع من كافة أنواعها ، روحية ومادية ودنيوية واخروية ، ولا سيما مدرستها السيارة ، من إحرامها ووقوفيها وبيتوتتها ، مدارس مسلسلة متصلة ترقى بالحاج إلى مراقي المعرفة والكمال وكما الله قال (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٣٤ قال (عليه السلام) : ... وفي الوسائل ١٠ : ٩٢ ح ٢ والوافي ٢ : ١٦٩ عن الصادق (عليه السلام) «مكة كلها منحر» ولكنه خاص بغير هدي الحج ، ام مخصوص بحالة الاضطرار ام مضي ايام التشريق ، والآية في مقام بيان ضابطة عامة تعني الحالة العادية.

٩٩

اجل (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) كأصل اصيل عريق ضارب في اعماق الزمن ، حيث كان مطافا لكافة الموحدين منذ كانوا وإلى يوم الدين ، فهذه الحرمات المناسك الشعائر ، كلها إلى حرم الله (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فانه المحور والمدار ، والمستقر القرار ، ولا ركن في الحج يوازي الطواف او يساميه ، فانه اركن أركانه وأعظم شعائره.

وانها كلها تتسل مندغمة مع بعض ، ثم تحل إلى البيت العتيق طوافا ، فانها تحضّر الطائف ليحل ذلك المحل الرفيق ، فيكون طوافه جامعا لشروطاته.

يخطو الحاج تلك الخطوات الرائعة ، اللائقة البائقة ، بأقدام المعرفة وإقدام التضحية والعبودية ، دارسا في مدرسة الإحرام ، عارفا في عرفات ، مغربلا عرفاته في المشعر الحرام ، مطبقا مناه في منى ، وإلى تقديم الأضحية التي ترمز إلى تقديم النفس والنفيس ، تحلّلا عن كل ما يملكه منهما في الله (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)!

ان لكل شعيرة من شعائر الحج أجلا معجلا (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ثم أجلا مؤجلا بعد البيت العتيق ، حيث الحاج يستمر بهذه الذكريات منذ الحج وطيلة الحياة ، أجلان هما مسميان ، واين اجل من اجل ، والثاني خير مؤول ، والاول خير معوّل ، حيث الأجل المحل إلى البيت العتيق أمثولة ودراسة تدريبية ونموذجية من برمجة الحياة السليمة الاسلامية ، ومن البيت العتيق إلى آخر الأجل مسرح للتطبيق.

ثم وليست هذه المناسك الشعائر (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فقط لهذه الامة الاخيرة ، بل :

١٠٠