الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ

١٢١

الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) ٣٨.

إعلام صارخ في هذه الاذاعة القرآنية يطمئن الذين آمنوا في حياة المعارضة الدائبة بين كتلتي الكفر والايمان (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فليدافعوا هم عن ايمانهم صامدين ، دون تزعزع ولا تلكع في تلكم العقبات والعقوبات ودوائر السوء المتربصة بهم ، حيث الله هو الدافع عنهم ما لا يستطيعون ، وهو القائم بأمرهم ما لا يقدرون ، شرط ان يوفوا بشرائط الايمان ، ويقدموا أشراطه جاهرين متجاسرين امام الكفر الطاغي أيا كان (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) وهو لا يدافع إلّا عمن يحب ، ثم يذر من لا يحب في طغيانهم يعمهون ، ويكلهم إلى أنفسهم (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

وليست هذه المدافعة الربانية ـ فقط ـ كما يزعمه البطّالون ان شرعة الله هي لله فهو الذي يدافع عنها ، والمؤمنون بالله هم أهل الله ، فهو الذي

١٢٢

يدافع عنهم ، دون ان تكون منهم دفاع.

انها دفاع رباني بعد دفاعهم كما يستطيعون كما هنا بفاصل آية (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ...) وفي البقرة (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) ثم ونفس «يدافع» دون «يدفع» لمكان المفاعلة حيث تقتضي فعل الدفاع من الذين آمنوا كما من الله ، ان يدفع عنهم كما يدفعون ، وكما الشياطين يدافعون عن غير المؤمنين كما يدفعون ، واين دفاع من دفاع ، واين مدافعة من مدافعة؟.

ثم و (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تأييد ثالث بالتزام شريطة الايمان الدفاع ، فالمؤمن الذي حمّل امانة الايمان ، عليه ان يؤديها سليمة فلا يخون ، وان يحوطه شاكرا لنعمته بنفسه ونفيسه فلا يكفر به كفرانا ، إذا ف «يدافع» قدر حفظ أمانته والشكر له ، و «لا يحب» قدر الخيانة والكفران ، من ايّ كان مهما يدعي الايمان و (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٤٧ : ١١).

إذا فعليك الحركة وعلى الله البركة ، دون بطالة للايمان وعطالة لأهل الايمان ، متكلين كليا على الله دون ان يأتوا بشرائط الايمان ، وبالصمود والحركة اللائقة في مجالات الامتحان: (... وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ـ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ، الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣ : ١٦٨).

اجل وهذه قضية أمان الله لأهل الايمان في هذه المعركة الصاخبة

١٢٣

المستمرة بين قوى الخير والايمان ، وقوى الشر والطغيان ، فالشر جامح مسلح ، وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع ، ويسانده كل الطاقات الشريرة داخلية وخارجية ، فلا بد ـ اذن ـ للايمان من قوة تدفعه من بطشه ، وتمنعه عن طيشه ، وقاية للايمان من فتنة الدوائر ، وحراسة له من الأشواك في كل المحاور.

وليست قوة الايمان في النفوس ـ فقط ـ لتكفي مكافأة ومكافاة ، فللصبر حد وللاحتمال أمد ، والله اعلم بما في النفوس من أصالة الضعف والطموس ، فلذلك يعدهم ـ إن قاموا بشرائط الايمان ـ أن يدافع عنهم قدر ما يدافعون ، وان ينصرهم كما ينصرون : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).

ولقد صبر المؤمنون طيلة العهد المكي وقاية لكيانهم الجديد كيلا يهدر بددا ، لحد غلى مرجل اصطبارهم (١) فكان يطمئنهم الله انه هو ناصرهم وسوف ينصرهم ، والآن وقد حان حين الدفاع الجاهر في العهد المدني ، يجدد لهم وعد المدافعة ، ثم يأذن لهم في الدفاع لأوّل مرة ، وهم في استعداد لائق للقيام بشروطات الدفاع ، إذا ف :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ٣٩.

__________________

(١) في المجمع كان المشركون يؤذون المسلمين لا يزال يجيء مشجوج ومضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشكون ذلك اليه فيقول لهم : اصبروا فاني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر فانزل الله هذه الآية بالمدنية وهي اولى آية نزلت في القتال.

وفي الدر المنثور ٤ : ٣٦٣ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس قال : لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مكة قال ابو بكر اخرجوا نبيهم انا لله وانا اليه راجعون ليهلكن القوم فنزلت هذه الآية.

١٢٤

«لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتال ولا اذن فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية .. وقلده سيفا (١) فهي أول آية نزلت في الدفاع والقتال ، وكل حروب الإسلام مصبوغة بصبغة الدفاع مهما اختلفت صورها وظروفها وبواعثها ، حيث يجمعها (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) طيلة العهد المكي ، ومن ثم في العهد المدني ، (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) حين هم قلة قليلة ، ولكنهم وهم خارجون عن مكة ، قائمون على سوقهم في المدنية ، «اذن لهم» حينئذ بالدفاع ـ فعلا ـ دون الهجوم البدائي وان لم يظلموا بل حين ظلموا وقوتلوا.

ذلك هو الذي يبرّر خوضهم للمعركة حيث هم منتدبون لمهمة انسانية كبرى ، يعود خيرها إليها كلها ، ولا سيما الكتلة المؤمنة المظلومة بين الكتل ، ضمانا لحرية الأنفس والأعراض والعقائد والعبادات الإسلامية حيث ظلمت وأهينت في بداية عهدها ، مستمرة حتى الدفاع الصارم.

فليس الدفاع الإسلامي صراعا على عرض من اعراض هذه الأرض المتشجرة فيها الأطماع ، دفاعا وحربا توسّعيا لمكسب اكثر متعة في هذه الأدنى ، وإنما هي عرض الانسانية المؤمنة المظلوم في جو الظلامات.

هكذا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) دفاعا إذا ظلموا وقوتلوا دون افراط المتوسعين المهاجمين ، ولا تفريط التنابلة الكسالى القاعدين اولي الضرر باسترخاء ، نظرة ان ينزل عليهم النصر والرخاء سهلا هينا بلا عناء ، لمجرد انهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويرتلون القرآن ترتيلا ، فانها على فرضها ورجاحتها لا تؤهلهم وحدها لحمل دعوة الله وحمايتها وحياطتها.

ذلك ، وقد ينمو الايمان في ثنايا المعركة وهي في سبيل الله ، كما ينمو

__________________

(١) مجمع البيان وروي عن الباقر (عليه السلام) انه قال : لم يؤمر.

١٢٥

اللاايمان في ثناياها وهي في سبيل اللهو وزخرفة هذه الأدنى (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) إذا هم مضحّون في سبيله ، فعليهم الحركة وعلى الله البركة وهم منتصرون قاتلين ومقتولين.

إذا فالمدافعة الربانية عن الذين آمنوا انما تتم عن طريقهم هم أنفسهم ، دون لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء إلّا الدعاء.

انها حين تذوب الغايات والحميات وإبداء الشجاعات ثم ليس كيانهم الدفاعي إلا «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (١) فالمقاتلون المظلومون هم :

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ٤٠.

ف (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ذلك تصوير لغاية الظلم ، وهم قبل الإخراج كانوا في العهد المكي في كل إحراج وارتجاج في كل متطلبات الحياة ، فقد أحرجوهم حتى أخرجوهم مرة إلى الحبشة واخرى إلى المدينة المنورة.

فالآن وقد ظلموا من قبل حتى اخرجوا ثم ظلموا من بعد أن قوتلوا ، اذن لهم بدفاع صارم ، حيث الصبر على الظلم مع امكانية الدفاع ، هو ضيم وظلم على ظلم ، ظلم بالعقيدة وظلم بالمعتقدين وظلم بالآخرين حيث يعبّد عليهم طريق الظلم ف «لا يكون مأذونا له في القتال حتى يكون

__________________

(١) رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين انه سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى فأيها في سبيل الله فقال : ...

١٢٦

مظلوما ولا يكون مظلوما حتى يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون قائما بشرائط الايمان التي اشترط الله تعالى على المؤمنين والمجاهدين فإذا تكاملت فيه شرائط الله تعالى كان مؤمنا وإذا كان مؤمنا كان مظلوما وإذا كان مظلوما كان مأذونا له في الجهاد» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٠٢ عن الكافي في الصحيح عن أبي عمر الزبيدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له اخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله اهو لقوم لا يحل الا لهم ولا يقوم به الا من كان منهم ، ام هو مباح لكل من وحد الله عز وجل وآمن برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن كان كذلك فله ان يدعو إلى الله عز وجل وإلى طاعته وان يجاهد في سبيل الله؟ فقال (عليه السلام) : ذلك لقوم لا يحل الا لهم ولا يقوم بذلك الا من كان منهم ، قلت : من أولئك؟ قال : من قام بشرائط الله تعالى في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل ومن لم يكن قائما بشرائط الله في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد والدعاء إلى الله حتى يحكم في نفسه بما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد بينّ لي يرحمكم الله. فقال فقال : ان الله عز وجل اخبر في كتابه الدعاء اليه ووصف الدعاة اليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعض ويستدل بعضها على بعض ـ الى ان قال ـ (عليه السلام) ثم اخبر تبارك وتعالى انه لم يؤمر بالقتال الا اصحاب هذه الشروط ، فقال سبحانه وتعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) وذلك ان جميع ما بين السماء والأرض لله عز وجل ولرسوله ولاتباعهم من المؤمنين من اهل هذه الصفة فما كان من الدنيا في ايدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من اهل الخلاف لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمولي عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من اهل هذه الصفات وغلبوهم عليه مما أفاء الله على رسوله فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم وانما معنى الفيء كلما صار الى المشركين ثم رجع مما كان غلب عليه او فيه فما رجع إلى مكانه من قول او فعل فقد فاء مثل قول الله عز وجل : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اي رجعوا ، ثم قال : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقال (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا

١٢٧

(أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) استثناء منقطع ،

__________________

ـ بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى امر الله» اي ترجع (فَإِنْ فاءَتْ) اي رجعت (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يعني بقوله : تفيء ـ ترجع فذلك الدليل على ان الفيء كل راجع إلى مكان قد كان عليه او فيه ، ويقال للشمس إذا زالت قد فاءت الشمس حين يفيء الفيء عند رجوع الشمس إلى زوالها ، وكذلك ما أفاء الله على المؤمنين من الكفار فانما هي حقوق المؤمنين رجعت إليهم بعد ظلم الكفار إياهم فذلك قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ما كان المؤمنون أحق منهم.

وانما اذن للمؤمنين الذين قاموا بشرائط الايمان التي وصفناها وذلك انه لا يكون مأذونا في القتال ... لقوله عز وجل : اذن للذين ... وان لم يكن مستكملا شرائط الايمان فهو ظالم ممن ينبغي ويجب جهاده حتى يتوب وليس مأذونا له في الجهاد والدعاء إلى الله عز وجل لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين اذن لهم في القرآن في القتال فلما نزلت هذه الآية في المهاجرين الذين أخرجهم اهل مكة من ديارهم وأموالهم أحل لهم جهادهم بظلمهم إياهم واذن لهم في القتال.

فقلت : فهذه نزلت في المهاجرين بظلم مشركي اهل مكة لهم فما بالهم في قتال كسرى وقيصر ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟ فقال : لو كان انما اذن لهم في قتال من ظلمهم اهل مكة فقط لم يكن لهم إلى قتال جموع كسرى وقيصر وغير أهل مكة من قبائل العرب سبيل لأن الذين ظلموهم غيرهم وانما اذن لهم في قتال من ظلمهم من اهل مكة لإخراجهم إياهم من ديارهم وأموالهم بغير حق ولو كانت الآية انما عنت المهاجرين الذين ظلمهم اهل مكة كانت الآية مرتفعة من الأرض عمن بعدهم إذ لم يبق من الظالمين والمظلومين احد وكان فرضها مرفوعا عن الناس بعدهم إذ لم يبق من الظالمين والمظلومين احد وليس كما ظننت وكما ذكرت ولكن المهاجرين ظلموا من جهتين ظلمهم اهل مكة بإخراجهم من ديارهم وأموالهم فقاتلوهم بأذن الله لهم في ذلك وظلمهم كسرى وقيصر ومن كان دونهم من قبائل العرب والعجم بما كان في أيديهم مما كان المؤمنون أحق به منهم فقد قاتلوهم بإذن الله تعالى لهم في ذلك (٣).

بحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان وانما اذن الله للمؤمنين الذين قاموا بما وصف الله تعالى من الشرائط التي شرطها الله على المؤمنين في الايمان والجهاد ومن كان قائما ـ

١٢٨

فان القول (رَبُّنَا اللهُ) لا يحق ذلك الإخراج الإحراج ، فهو ـ إذا ـ يستغرق سلب كل حق في ذلك الإخراج.

__________________

ـ بتلك الشرائط فهو مؤمن وهو مظلوم ومأذون له في الجهاد بذلك المعنى ومن كان على خلاف ذلك فهو ظالم وليس من المظلومين وليس بمأذون له في القتال ولا بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف لأنه ليس من أهل ذلك ولا مأذون له في الدعاء إلى الله تعالى لأنه ليس يجاهد مثله وأمر بدعائه إلى الله ولا يكون مجاهدا من قد أمر المؤمنين بجهاده وحضر الجهاد عليه ومنعه منه ولا يكون داعيا إلى الله تعالى من امر بدعاء مثله إلى التوبة والحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يأمر بالمعروف من قد امر ان يؤمر به ولا ينهى عن المنكر من قد امر ان ينهى عنه فمن كانت قد تمت فيه شرائط الله تعالى التي وصف بها أهلها من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد وكما اذن لهم في الجهاد لأن حكم الله تعالى في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء الا من علة او حادث يكون والأولون والآخرون ايضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء الفرائض عما يسأل عنه الأولون ، ويحاسبون عما به يحاسبون.

ومن لم يكن على صفة من اذن الله له في الجهاد من المؤمنين فليس من أهل الجهاد وليس بمأذون له حتى يفيء بما شرط الله تعالى عليه فإذا تكاملت فيه شرائط الله تعالى على المؤمنين والمجاهدين فهو من المأذون لهم في الجهاد فليتق الله تعالى عبد ولا يغترّ بالاماني التي نهى الله تعالى عنها من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يكذبها القران ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها ولا يقدم على الله بشبهة لا يعذر بها أفإنه ليس وراء المعترض للقتل في سبيل الله منزلة يؤتى الله من قبلها وهي غاية الأعمال في عظم قدرها ، فليحكم امرء لنفسه وليرها كتاب الله تعالى ويعرضها عليه فانه لا احد اعرف بالمرء من نفسه فان وجدها قائمة بما شرط الله عليه في الجهاد فليقدم على الجهاد وان علم تقصيرا فليصلحها وليقمها على ما فرض الله عليها من الجهاد ثم ليقدم بها وهي طاهرة مطهرة من كل دنس يحول بينها وبين جهادها ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط الله عز وجل على المؤمنين والمجاهدين لا تجاهدوا ولكن نقول قد علّمناكم ما شرط الله تعالى على اهل الجهاد الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنان فليصلح امرء ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك ويعرضها على شرائط الله فان رأى انه قد وفي بها وتكاملت فيه فانه ممن اذن الله تعالى له في الجهاد ـ

١٢٩

أترى (أَنْ يَقُولُوا) هو ـ فقط ـ قول بالأفواه والأعمال لاهية والقلب لاه؟ ذلك القول الهازىء قولة المنافقين ، وهي تتطلب الإفراج دون الإخراج ، بل هو قول ينبئ عن عقيدة صارمة ظاهرة في الأفعال والأحوال على اية حال ، حيث يحرج غير الموحدين لحد إخراجهم من ديارهم : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٨٧ : ٨).

فإذن الله لهم بالدفاع دفاع ، وأمرهم إياهم بالدفاع دفاع ، ونصرته إياهم زاوية ثالثة من الدفاع قد يعنها كلها (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ ...) وهكذا الأمر (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ..).

فذلك الدفع يجمع مثلثه تكوينا وتشريعا ، تطبيقا منهم ونصرة من الله ، لولاه لكان مسرح الحياة كله للشر والطغيان ، دون اية مجالة للخير والايمان (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

هنا (دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) تعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع والجهاد ، فالناس الآخرون هم المؤمنون القائمون بشرائط الايمان في الأمر والنهي والدفاع والجهاد ، وليس كل الناس ، ف «لا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به ولا ينهى عن المنكر من قد امر ان ينهى عنه» (١).

__________________

ـ وان ابى ان لا يكون مجاهدا على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والاقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على الله عز وجل بالجهل والروايات الكاذبة فلقد لعمري جاء الأثر فيمن فعل هذا الفعل ان الله تعالى ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فليتق الله امرء وليحذر ان يكون منهم فقد بين لكم ولا عذر لكم بعد البيان في الجهل ولا قوة الا بالله وحسبنا الله عليه توكلنا واليه المصير» أقول : الأرقام الاخرى راجعة إلى مقتطفات من الحديث فلتراجع.

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٠١ في روضة الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول ـ

١٣٠

ثم لا تختص هذه الآية بزمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ككل الآيات حيث تحلّق على العالمين إلى يوم الدين ، و «لو كانت الآية انما عنت المهاجرين الذين ظلمهم اهل مكة كانت الآية مرتفعة من الأرض» (١).

«وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان» ١ ولها مجالات متدرجة منذ حروب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإمام علي (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) ٣ وإلى حروب صالحة اخرى ، حتى حرب القائم المهدي (عليه السلام) ٤ حيث تتحقق هذه الآية حقها وكمالها الشاسع دون إبقاء لكل خوّان كفور.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ .. لَهُدِّمَتْ ..) وذلك تهديم عميم لكل آثار الحق واهله وذكر الحق واهله :

(لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً).

تهديما لأمكنة الذكر والصلاة لأهل الملل الثلاث وهم هامة اهل

__________________

ـ الله تبارك وتعالى : الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله قال : نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وحمزة وجعفر وجرت في الحسين (عليهم السلام) أجمعين وفي كتاب المناقب عنه (عليه السلام) في الآية قال : نحن ـ نزلت فينا.

(١) المصدر في تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن مكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل : اذن للذين يقاتلون .. قال : ان العامة يقولون نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أخرجته قريش من مكة وانما هو القائم (عليه السلام) إذا خرج يطلب بدم الحسين (عليه السلام) وهو يقول : نحن اولياء الدم وطلاب العترة.

١٣١

الكتاب بل وعامتهم ، اليهود والنصارى والمسلمون.

ف «صوامع» هي الامكنة الخاصة المنعزلة عن الناس لعبادة النصارى حيث تتخذ من البراري والجبال ، و «بيع» معابد اليهود والنصارى ، «ومساجد» هي معروفة للمسلمين فما هي «صلوات»؟

أهي العبادة المعروفة الخاصة بالمسلمين مقرونة بذكر أمكنتها «مساجد»؟ ام إنها صلوات كل الفرق الثلاث فان لكلّ صلاة ، فحين تذكر معابدهم (صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَ .. مَساجِدُ) فلتذكر المعني منها كلها وهي «صلوات» فيعني تهديمها كما يناسبها من المنع عن إقامتها في محالها ، ام في كل المحال مختصة وسواها ، ام انها من صلوات العبرانية ، أماكن عبادة اليهود ، او الصابئين.

انها قد تعني كل صلة بالله ، ظاهرة وباطنة ، ولأن الامكنة الثلاث او الأربع هي المحال والمحاور المعدة لعمودها الصلاة ، لذلك أفردت بالذكر ، وكلها تجمعها الصلاة كعبادة خاصة لكل شرعة ، ثم «صلوات» تجمعها وكل صلة بالله ، فردية وجماعية اما هيه ، فان دوائر السوء المستديرة على اهل الحق من طغاة التاريخ لا تبقي ولا تذر أية صلة بالله (لَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بمختلف المدافع في مختلف الميادين والجبهات ، عقائدية وثقافية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وعسكرية أما هيه ، ف (أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)!.

هذه ، ولا سيما الصلاة الإسلامية السامية ، وقد قرنت «صلوات» ب «مساجد» عناية لهذه المعنية بين كل الصلوات والمساجد عبر الشرائع طول التاريخ الرسالي.

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) من ينصره في نفسه تخلقا بأخلاق الله ، وفي الحفاظ على دينه دفاعا عن حرماته : مساجده

١٣٢

وصلواته وكل صلاته ، ذلك هو الذي (لَيَنْصُرَنَّ اللهُ)(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ينصر كل قوي في ايمانه ، عزيز في الدفاع عن ايمانه ، وهم :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)

٤١ وترى ما هو المعني (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) حيث هو شرط الوجوب او السماح لهذه الفروع الهامة من الشرائع كلها : «اقام الصلاة ـ إيتاء الزكاة ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؟

ان تطبيق هذه الفرائض الثلاث ـ كسائر الفرائض والواجبات ـ مشروط بالامكانية والتمكن.

وكما انها مرحليات كذلك الإمكانيات طبقا عن طبق ، فلا تعني (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) فقط تمكين السلطة الزمنية والروحية المحلّقة على البلد الذي يعيشه المتمكنون فيه ، فلا يجب ـ إذا ـ اقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من ليست لهم تلك السلطة! فنظرا إلى الواقع المستمر في التاريخ ان السلطات ليست الا بأيدي النمردات والفرعنات تسقط هذه الواجبات الاصيلة عن المؤمنين العائشين تحت وطأة هذه السلطات!.

وانما تعني ان هذه الفرائض تقدّر في تطبيقاتها المرحلية بقدر الامكانيات ، فإذ لا إمكانية لمرحلة عليا لم تجب على من لا يتمكنها ، فانما على كلّ كما يستطيع (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

فهنا لك مكنة عامة تعم كافة المكلفين منذ بداية الرسالات إلى يوم الدين : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٧ : ١٠) ف «ان» بالنسبة لذلك التمكين وصلية لا شرطية

١٣٣

حيث الشرط لكل من يعيش على هذه الأرض حاضر ماثل أمامهم ، مهما اختلفت امكانياتهم في تطبيق واجباتهم : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (٤٦ : ٢٦).

ثم مكنة خاصة كما كان لذي القرنين (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ..) (١٨ : ٩٥) حيث مكن في مطلع الشمس ومغربها ، ففرضه ـ إذا ـ في مرحلة عليا قدر الإمكانية والمكنة (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (١٨ : ٨٤).

وكما حصل ليوسف : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) (١٢ : ٥٦) ومثلهما التمكين الموعود في الأرض للمستضعفين المؤمنين شرط ان يجنّدوا طاقاتهم وإمكانياتهم للحفاظ على الايمان : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٢٨ : ٦).

وذلك الوعد مستمر التحقيق للذين يطبقون شروطه في أنفسهم ، وإلى يوم القائم المهدي (عليه السلام) حيث يمكّن الله له وللمؤمنين معه في الأرض كلها (١)(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢٤ : ٥٥) ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٠٦ في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في آية التمكين ، فهذه لآل محمد إلى آخر الآية والمهدي وأصحابه يملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل كما أمات الشقاة الحق حتى لا يرى اين الظلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

١٣٤

فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢١ : ١٠٥).

ثم وإقام الصلاة حقها له مراتب ودرجات حسب الامكانيات ، فإقامها كما تنهى عن الفحشاء والمنكر لفاعلها ومجتمعه الذي يعيشه هي القمة المعنية منها ، وإيتاء الزكاة كما تكفي لمصلحة الدولة الاسلامية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث يحلقان على كل معروف متروك وكل منكر مفعول ، هذه المرحلة من تلك الفرائض القمة تقتضي الامكانية القمة بتمكين مكين في الأرض كلها ، ثم وما دونها لما دونها ، وكما ان هذه الثلاث مفروضة كذلك المحاولة للتمكن من تطبيقها حسب المستطاع مفروضة ، وكما الله ينصر من ينصره في الدفاع عن حوزته ، كذلك ينصره ـ وباحرى ـ في خلق جوّ فيه يتمكنون من ذلك الدفاع والتطبيق لشرعته (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ـ (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) دون المتخاذلين البطالين والتنابلة المهملين.

اجل ـ انه النصر القائم على أسبابه ومقتضياته ، المشروط بتكاليفه وأعباءه ، والأمر بعد ذلك لله (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ ٤٢ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ٤٣ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ٤٤.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) بسرد من نظائرهم من المكذبين السبعة كالسبعة من أبواب الجحيم المفتّحة طول التاريخ الرسالي على المرسلين ، ذلك تسلية لخاطر الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهؤلاء هم أشد المكذبين للمرسلين إلا ان طبيعة الرسالة الإلهية في هذه الأدنى ان تجتاز هذه المعاريض ، وهي سليمة لا تزداد الا تشعشعا وتلألؤا فلست أنت بدعا من

١٣٥

الرسل في سنة التكذيب فانها مطردة عبر الرسالات كلها.

ثم «ثم اخذتهم» تنديد شديد بهؤلاء الاغباش الأنكاد ، وقد كانوا من سبقوهم أشد منهم وأقوى ، أخذ شديد بعد إملاء وإمهال مديد ، وأمدّهم قوم نوح ثم فرعون ثم إخوانهم «ان أخذ ربك لشديد».

ولماذا يفرد موسى في جملة خاصة بتكذيب مجهول دون (قَوْمُ مُوسى)؟ لأنه كذبه القبط الفرعوني كأصل ، مهما كذبه قومه أحيانا عن جهالة وغباوة دون فرعنة وعناد ، كذبه هؤلاء وأولاء رغم آياته البينات التي هي اكثر من آيات الرسل الذين قبله! وضخامة الأحداث التي صاحبتها ، فعليك بالتصبّر يا حامل الرسالة الأخيرة لتجتاز كل العقبات وتتحمل كل العقوبات فانك موعود بالنصر كمن سبقوك من حملة الرسالات ، والمكذبون موعدون بالأخذ النكير (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)؟ : نكراني عليهم عمليا في هذه الأدنى وهي ليست دار جزاء ، فويلاهم إذا من الأخرى ، وانه هنا نكير الطوفان والغرق والتدمير ، والخسف والهلاك والزلازل والعواصف والترويع ما يعجز عنه التعبير.

فتلك مصارع الغابرين المذكورين في صحائف التاريخ أمام الحاضرين والآتين ، إنذارا للمكذبين وتبشيرا للمؤمنين ، ولهم نظائر دونهم او أمثالهم :

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ٤٥.

قرى كثيرة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي «أهلكناها» مساكن بساكنيها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أهلها ، لحد كأنها هي الظالمة بجوّها ، (أَهْلَكْناها فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) والعروش هي كل السقوف القائمة على الجدران ، والأشجار الجنات القائمة على العمدان ، وعرش السلطان ام أيا

١٣٦

كان من سقوف العمران ، والخاوية هي الخالية كالمنزل الخاوي ، وهي الساقطة كالنجم الخاوي ، فمنها ما هي خالية عن ساكنيها على بقاء عروشها ، ومنها ما هي ساقطة على عروشها حيث خوت وتهدمت فخلت من ساكنيها.

ثم وكأين «من (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) : لا يستفاد منها حيث هلك أهلوها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) مجصّص بألوان الجصّ وأشكاله ، وهي كسائر عروشها بين ساقطة مهدومة وخالية محرومة.

مناظر موحشة كئيبة تدعو إلى التأمل في صورها الخاوية وربوعها الخربة ، تستجيش للعبرة ، وإلى جوارها الآبار المعطلة المهجورة الخواء ، والقصور الخالية البواء ، تطوف بها الرؤيا والأشباح والذكريات والأطياف ، والله من أهلها براء!.

وقد يجري (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) في الإمام الصامت او الغائب و (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) في الامام الناطق (١) أهلكت هذه القرى وفيها حجج الله صامتة تتقي أم ناطقة تهدي أم غائبة ترتجى.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٠٦ ف كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : البئر المعطلة الإمام الصامت والقصر المشيد الإمام الناطق ومثله في معالي الاخبار باسناده إلى ابراهيم بن زياد عنه (عليه السلام) وثالثة فيه عن نصر بن قابوس عنه (عليه السلام) ورابعة في الكافي موسى بن القاسم البجلي عن علي بن جعفر بن أخيه موسى (عليه السلام) وفيه عن تفسير القمي قال هو مثل لآل محمد (عليهم السلام) قوله (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) هو الذي لا يستقي منها وهو الإمام الذي قد غاب فلا يقتبس منه العلم إلى وقت ظهوره (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) هي المرتفع وهو مثل لأمير المؤمنين (عليه السلام) والائمة منه صلوات الله عليهم وفضائلهم المنتشرة في العاملين المشرفة على الدنيا وهو قوله : ليظهره على الدين كله. ـ

١٣٧

والمعنيان معنيان في ظاهر التفسير وباطن الجري والتأويل ، تنديدا بمن يهلكون عطاشا وعندهم بئر ، ويسكنون بواء دون ظل وعندهم قصر مشيد ، فليهلكوا ـ إذا ـ بقريتهم (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)!

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ٤٦

ويلهم! إن مصارع الغابرين أمامهم ماثلة ، وحيالهم شاخصة موحية ، تتحدث بالعبر ، ما بين مرئية بالبصر ومسموعة بالخبر ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) سيرا تاريخيا وسيرا جغرافيا ، سيرا في ارض الحياة الغابرة والحاضرة ، ام ساروا دونما سمع ولا بصر من إيحاءات الأرض بآثارها من الصالحين والطالحين ، ليروا عواقب أولاء وهؤلاء هنا في الأولى ، فضلا عن الأخرى.

فالسير في الأرض تحرّيا عن نبهات واعتبارات يكون لمتحريها قلبا به يعقل ، واذنا به يسمع ، آيات آفاقية بين مسموعة ومبصرة ، تنضم إلى أخرى أنفسية ، فتكمل الحجة بما تتبين المحجة ، ارض معروضة للسامعين الذين يعقلون ، والعقلاء الذين يسمعون ، ارض التكوين ، وارض التدوين وأفضلها القرآن (١) فانه معاريض لكل غابر ومستقبل وحاضر ، وهو خير

__________________

ـ وقد قال الشاعر في ذلك :

بئر معطلة وقصر مشرف

مثل لآل محمد متطرف

فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى

والبئر علمهم الذي لا ينزف

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٠٧ في كتاب الخصال وسئل الصادق عن قول الله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ..) قال : معناه او لم ينظروا في القرآن.

١٣٨

تأريخ يخبر عن اخبار الماضين وارض الرسالات وفاعلياتها ، وارض المرسل إليهم وانفعالاتهم ، ام اي ارض هي عرض لمن يستعرض.

هناك قلوب لا يعقل بها ، مقلوبة عن ان تعقل انسانيا ، وآذان لا يسمع بها ، صما أن تسمع انسانيا ، فأصحابها لا يهتدون بهدي آياتهم الأنفسية ، فليسيروا في الأرض ، في معرض الآيات الآفاقية (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) قلوب تعقل ما تراه من حقائق ، ام إذا لا تعقل في أنفسها بالمعاقل الآفاقية ، ف (آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ممن يعقل ، فانما الأصل ان تعقل الحقائق بالقلوب البصيرة ، غير المقلوبة العمي الحسيرة (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) الشاهدة لمشاهد الأرض ، حيث ابصار العيون فاتحة (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وعلى حد المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس الأعمى من يعمى بصره ولكن الأعمى من تعمى بصيرته» (١).

فالأعمى البصر الذي له بصيرة يبصر ما لا يبصره من ليست له بصيرة ، كما الأصم المفتوح اذن قلبه له سمع ليس لمن يسمع باذنه ، فانما العمى عمى القلب حيث لا ينفع معها بصر العين ، والبصر هو بصيرة القلب التي لا تضر معها عمى العين.

وانما الأصل في سير الأرض أيا كان آفاقيا ، وسير النفس ، وهو بصيرة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٦٥ ـ اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابو نصر السجزي في الابانة والبيهقي في شعب الايمان والديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. وفي نور الثقلين ٣ : ٥٠٨ ـ عن روضة الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : وأعمى العمى عمى القلب ، وفيه قال ابو جعفر (عليه السلام) انما الأعمى عمى القلب.

١٣٩

القلوب التي في الصدور ، فالقلوب العمي هي ميتة مقلوبة لا تنفع معها الأبصار والآذان ، حيث تسمع كحيوان وتبصر كحيوان ، وهذه من صفات الدنيا «من ابصر إليها أعمته ومن ابصر بها بصرته» فأصحاب القلوب العمي يبصرون إليها كغاية ونهاية فيركنون إليها ، واصحاب البصيرة يبصرون بها إلى غايتها الاخرى ونهايتها فلا يركنون إليها.

والقرآن يعبر عمن ليست له بصيرة كما هنا (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وانهم صم عمي : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٢٥ : ٧٣) (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) (٤٣ : ٤٠) وأحيانا يزيد عليها البكم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٤ : ١٨).

هذا ـ ولكنما اصل البلاء في ذلك الثالوث المنحوس هو «العمى» (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) حيث السمع مدخل لتبصّر القلب ، واللسان مذياع لما يعتقده القلب ، فالقلوب العمي التي لا تحن إلى البصيرة ، لا مدخل إليها سمعا فأصحابها «صم» ولا مذياع لحق فيها فأصحابها «بكم»!

فقد «تاه من جهل واهتدى من ابصر وعقل» (١) «ولا يصح الاعتبار الا لأهل الصفا والبصيرة» (٢) : و «إذا أراد الله بعبد خيرا فتح

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٠٧ ـ في اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ... فانها لا تعمى .... وكيف يهتدي من لم يبصر وكيف يبصر من لم يتدبر ، اتبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته عليهم السلام وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى فإنهم علامات الامانة والتقى.

(٢) المصدر في مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) ... قال الله تعالى : فاعتبروا يا اولي الأبصار وقال عز من قائل : فانها لا تعمى الأبصار .. فمن فتح الله عين قلبه وبصر عينه بالاعتبار فقد أعطاه منزلة رفيعة وملكا عظيما.

١٤٠