الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

ومصير واحد ، تدلنا على كمال خضوعها دون تلفت وتخلف عن ارادة الله الواحد القهار ، فهو هو المسجود لا سواه ، فحريّ ان لا يعبد إلا إياه.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) ١٩.

«اختصموا» هنا دليل ان «خصمان» لا تعني شخصين اثنين ، وانما جمعين ، ثم (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) تأييد ثان لهذه الجمعية وان الأولين هم الذين آمنوا ، وتقول الروايات انها نزلت في جمعي البدر ، ثلاثة مؤمنون يقودهم علي (عليه السلام) وآخرون كافرون ، وقد قال علي (عليه السلام): انا اوّل من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٤٨ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي ذر انه كان يقسم قسما ان هذه الآية : هذان خصمان ... نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة قال علي (عليه السلام) انا ...

وفيه ـ اخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية ـ قال لما التقوا يوم بدر قال لهم عتبة بن ربيعة لا تقتلوا هذا الرجل فانه ان يكن صادقا فأنتم اسعد الناس بصدقه وان يكن كاذبا فأنتم أحق من حقن دمه فقال ابو جهل بن هشام لقد امتلأت رعبا فقال عتبة ستعلم أيّنا الجبان المفسد لقومه قال فبرز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فنادوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقالوا : ابعث لنا أكفاءنا نقاتلهم فوثب غلمة من الأنصار من بني الخزرج فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اجلسوا قوموا يا بني هاشم فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فبرزوا لهم فقال عتبة تكلموا نعرفكم ان تكونوا أكفاء قاتلناكم ، قال حمزة انا حمزة بن عبد المطلب انا اسد الله واسد رسوله فقال عتبة كفء كريم فقال علي (عليه السلام) انا علي بن أبي طالب فقال كفؤ كريم فقال عبيدة انا عبيدة بن الحارث ـ

٤١

ولان اختصام فريقين لا يختص بمورد خاص فلتعن الآية كلّ اختصام في الرب ، بين البدريين ام اهل الكتاب والمؤمنين (١) ام اهل الجنة والنار أجمعين (٢) مهما كانوا في ظاهر الحال في المسلمين كبني أمية ، واهل الحق من امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (٣) وقد فصل الله بين الفريقين ، المشركين وسواهم ، والمؤمنين وسواهم في آيات سالفة ، إذا فهما (خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) ككل دونما اختصاص.

والمختصمون في الله هم بين محق ومبطل ولا ثالث لهما ، إذا ف (هذانِ خَصْمانِ ..) على طول خط الزمن الرسالي ، وكافة الاختصامات راجعة

__________________

ـ فقال عتبة كفؤ كريم فأخذ حمزة شيبة بن ربيعة وأخذ علي بن أبي طالب عتبة بن ربيعة وأخذ عبيدة الوليد ، فاما حمزة فأجاز على شيبة واما علي فاختلفا ضربتين فأقام فأجاز على عتبة واما عبيدة فأصيبت رجله ، قال فرجع هؤلاء وقتل هؤلاء فنادى ابو جهل وأصحابه : لنا العزى ولا عزى لكم ، فنادى منادي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فانزل الله (هذانِ خَصْمانِ ...).

(١) المصدر ـ اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : اختصم المسلمون واهل الكتاب فقال اهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن اولى بالله منكم ، وقال المسلمون : ان كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء فنحن اولى بالله منكم فأفلج الله اهل الإسلام على من ناواهم فانزل الله هذه الآية.

(٢) المصدر ـ اخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال : هما اهل الجنة والنار اختصمتا فقالت النار خلقتني الله لعقوبته وقالت الجنة خلقني الله لرحمته.

(٣) نور الثقلين ٣ : ٤٧٦ عن الخصال عن النضر بن مالك قال قلت للحسين بن علي (عليهما السلام) يا أبا عبد الله حدثني عن قوله تعالى (هذانِ خَصْمانِ ..) فقال : نحن وبنو امية اختصمنا في الله تعالى قلنا صدق الله وقالوا كذب الله فنحن الخصمان يوم القيامة ، وعن الكافي بسند متصل عن أبي جعفر (عليه السلام) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) بولاية علي (عليه السلام) (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ).

٤٢

الى ربوبيته تعالى.

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالحق لما جاءهم كفرا عاندا عامدا مقصرا (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان ، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم ، ولا يغيب عنها شيء من أجسادهم ، وعلّها هي (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار لاحاطتها بهم ، واشتمالها عليهم ، ولا فحسب بل (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) مادة حارة حارقة لباسا فوق اللباس ، كدثار فوق الشعار ونار فوق نار ، اضافة إلى ذواتهم النارية حيث (أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) فهم إذا محشورون في ثالوث النار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) ٢١.

والصّهر هي الإذابة ، فذلك الحميم المصبوب من فوق رؤسهم يذيب ما في بطونهم من أمعاء وأحشاء ، ويذيب الجلود نضجا : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ..)

والمقامع هي المداقّ والعمد ، حيث تضرب على رؤسهم بما يصبّ ، ويصبّ بما تضرب ، جمعا بين جموع العذاب.

ففي هذه الضفة الكافرة ثياب من نار تقطع وتفصل ، وحميم ومقامع تصبّ وتضرب عذابا دائبا لا حول عنه :

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ٢٢.

ارادة للخروج تشرفهم على واقع الخروج ، ثم اعادة فيها قطعا لأمل كأنه واقع عذابا فوق العذاب.

٤٣

و «كلما» هنا تحلّق على كل زمن العذاب دون كل الزمن حتى يدل على لا نهائية في العذاب ، فالخروج عن العذاب ما دام استحقاق العذاب للآبدين فيه ممنوع ، ولا ينافيه فناء النار بمن في النار فانه ليس خروجا عن النار وهي باقية.

فالنار ـ إذا ـ تعمهم وتغمهم دون خروج عنها للدائمين فيها ما دامت هي مشتعلة ، ولا خروج عنها او عن غمها كما لا تخفيف ، وانما عذاب قدر استحقاق ، قضية العدل والتسوية بين عصيان محدود وعذاب محدود.

ويقال لهم عند ردهم إليها (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) هنا كما أذقتموه من اضللتموه هناك جزاء وفاقا ، عذابا فوق العذاب.

ثم نرى ضفة الايمان كيف تزفّ بحلية من لباس وطيب من القول :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ٢٣ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) ٢٤.

فأين الثياب المقطوعة من حرير من مقطوعة النار ، واين التحلية من أساور الدستوار الذهبية زينة للأيدي ، من حميم مصبوب فوق رؤسهم ومقامع من حديد ، واين الهدي الى الطيب من القول تحية وسلاما وإكراما من الرد إلى النار للمغتمين فيها والقول (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

هنا (يُحَلَّوْنَ فِيها .. وَلِباسُهُمْ فِيها) يلمحان بحلّيتهما لهم! فقط ـ فيها دون الاولى ، وقد تظافر الحديث عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم): من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (١) وبالطبع

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥ ـ اخرج البخاري ومسلم عن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ

٤٤

ذلك التهديد التحديد خاص بقبيل الرجال فان التزين بهما للنساء غير محظور بل هو مشكور.

«وهدوا» هداية كهديّة (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) تكلما به واستماعا له (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) لان صراطهم في الدنيا كان حميدا بهدي الله الحميد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)

__________________

ـ والنسائي والحاكم عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن الزبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج النسائي والحاكم وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. وزاد : وان دخل الجنة لبسه اهل الجنة ولم يلبسه.

أقول ويساعده (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لمكان الجمع ، فمن عمل بعض الصالحات لم يكن بهذه المثابة والمثوبة الكاملة.

٤٥

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

٤٦

وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(٣٧)

ثلاثة عشر آية تحوم حوم الحج في البعض من هامة مناسكه ، والتوجيهات العقائدية والسياسية اما هيه مما يقصد من هذه العبادة الجماهيرية السياسية القيادية ، ولكي يتبنىّ دولة الإسلام قوية صامدة عالمية ، رباطا تاما بين الكتلة المؤمنة في ارجاء المعمورة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ).

فلذلك ترى (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يختص بالذكر بعد (سَبِيلِ اللهِ) كأصدق مصداق شاخص يتجسد فيه سبيل الله ، وهي سبيل صالح الإنسان بما يصلحه إصلاحا جماعيا جمعيّا في كافية الجنبات.

صحيح ان سائر الفرائض الإلهية كلها سبل الله ولكنما الحج تجمع بين

٤٧

كافة السبل قضية مناسكها الهامة التي تجمع جموعها في عبودية جماهيرية حركية عالمية :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ٢٥.

فكما الإسلام بضوابطه هو لكافة المسلمين ، كذلك قبلة الإسلام وعاصمته : (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فقد جعله الله للناس ـ وطبعا المسلمين منهم ـ فإنهم الذين يقصدونه كسبيل الله الموحّدة بينهم ـ جعله لهم حال انه (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) سكنا وعبادة ، فلا يفضّل عاكف فيه على باد ، وذلك لأنه المعكف والمطاف والقبلة لكل المسلمين على حد سواء ، بيت عتيق طليق لا يملكه احد سوى الله ، وقد جعله الله لعباده (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) فكل ترجيح لعاكف على باد لحاضر على مسافر ، ولمواطن على سواه ، كل ذلك الحاد فيه بظلم ، (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

لا يعني «العاكف» فقط المعتكفين في المسجد الحرام كعبادة معروفة حيث العبارة الصالحة عنه المعتكف ، ولا «الباد» غير المعتكف ، بل هما «المقيم والذي يرحل» سواء اعتكفا ام أحدهما ام لا ، وعلّ التعبير بالعكوف للتأشير إلى مدى المسؤولية الهامّة على عواتق المقيمين بمكة المكرمة ، أن عليهم حياة العكوف والعبودية فيها بكل رقابة.

وطبعا لا يعني (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هنا نفس المسجد إذ لا يقيم فيه المقيم ولا البادي ، بل هو مكة المكرمة كلها او الحرم كله ، تعبيرا بأقدس مكان فيه ، كما و (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢ : ١٩٦) ليست لتعني نفس المسجد فانه ليس مسكنا للأهلين ، وذلك عناية في التعبير عن البلاد المقدسة ان يذكر الامكنة المقدسة فيها.

وليس ذلك الصدّ ـ فقط ـ عن المسجد الحرام ، فانه صدّ عن المناسك

٤٨

كلها ، وليس في المسجد الحرام إلا شطر منها ، إذا فالمسجد الحرام هنا هو امكنة المناسك كلها ، الحرم وما والاه من عرفات ومشعر ومنى.

وقد يقال ان «فيه» في (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) تتعلق ب «سواء» ف «سواء فيه» : نفس المسجد «العاكف» في مكة او الحرم «والباد» الا ان «العاكف» اقرب تعلقا ومعنى ، فان كانت «فيه» متعلقة بسواء لكانت الصيغة الصالحة «سواء فيه العاكف والباد».

او ان (الْعاكِفُ فِيهِ) هو المعتكف كعبادة خاصة ، ولكنه لا يقابله الباد ، فرب باد يعتكف.

إذا ف (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) تسوّي بينهما في بيوت مكة ، فهي مباحة للباد كما العاكف؟ فلا تؤخذ اجرة من زوار البيت والا فلا سواء ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «مكة مباحة لا توجر بيوتها ولا تباع رباعها» (١) و «من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا» (٢) وقد «توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى اسكن» (٣) ومن كتاب لعلي (عليه السلام) الى قثم بن عباس وهو عامله على مكة «وأمر أهل مكة ان لا يأخذوا عن ساكن اجرا فان الله سبحانه يقول (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) والعاكف المقيم به والبادي الذي يحج اليه من غير اهله» (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٥١ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عمران النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

(٢) المصدر اخرج الدار قطني عن ابن عمران رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

(٣) المصدر اخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة قال : ...

(٤) نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي عن الإمام علي (عليه السلام) : ... وفي نور الثقلين ٣ : ٤٨٠ عن قرب الاسناد للحميري باسناده إلى أبي جعفر عن أبيه عن ـ

٤٩

والصد عن المسجد الحرام كسائر الصد عن سبيل الله هو الصد عن ان يعبد الله فيه بخاصة المناسك وعامة العبادة ، ومن الصدّ عنه التمييز بين العاكف فيه والباد ، ومنه تملكه روحيا او زمنيا ، والسيطرة الخاصة عليه الا تنظيما ادبيا بين جموع الوافدين عاكفين ام بادين.

وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «يا بني عبد مناف من ولى منكم من امور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت او صلى اية ساعة من ليل او نهار»(١) فكلما يرغب في المسجد الحرام او يؤمر فيه او يندب لا يجوز الصدّ عنه.

__________________

ـ علي (عليهم السلام) كره إجارة بيوت مكة وقرء (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) وعن تهذيب الأحكام موسى بن القاسم عن صفوان بن يحيى عن حسين ابن أبي العلا في الصحيح قال ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية فقال : كانت مكة ليس على شيء منها باب وكان أوّل من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور ومنازلها وروى مثله في العلل عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) فقال لم يكن ينبغي ان يصنع على دور مكة أبواب لأن للحاج ان ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدار حتى يقضوا مناسكهم وان أول من جعل لدور مكة أبوابا معاوية وعن الكافي روى مثل ما في التهذيب باختلاف يسير.

وفي تفسير البرهان ٣ : ٨٤ عن الحميري باسناده عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى اهل مكة عن إجارة بيوتهم وان تعلقوا عليها أبوابا وقال : سواء العاكف فيه والباد ـ وقال : وفعل ذلك ابو بكر وعمر وعثمان حتى كان في زمن معاوية.

وفي الصحيح عن حفص البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ليس ينبغي لأهل مكة ان يجعلوا لدورهم أبوابا وذلك ان الحاج ينزلون معهم في ساحة الدار حتى يقضوا حجهم (التهذيب ٥ : ٤٦٣ ورواه مرسلا في الفقيه : ٣ : ١٢٦).

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٢٤ قال (عليه السلام) : ...

٥٠

وهل ان تلك التسوية تقتضي ألّا تملك دور مكة المكرمة؟ علّها لا ، إذ يجوز ان تملك على ذلك الشرط ألا يمنع الحجاج من سكنها زمن الحج.

هنا بيت الله ، فلا يعبد فيه الا الله ، وكل عباد الله فيه على سواء ، ومهما اختلفت درجاتهم روحية وزمنية ، فلا ينبغي لأحد ان يختص فيه بكرامة وحرمة زائدة ، اللهم الا بتقوى الله ، ولكنها ايضا ليست لتميز عباد الله في بيت الله بشأن من شؤون عبادة الله مكانا او مكانة او زمانا ام أيا كان ، فان (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) تحلّق على كافة التسويات من حيث كون المسجد الحرام سبيل الله.

ثم الإلحاد فيه يعم كل ميل عن الحق ، عامة في كل الحقول ، وخاصة في حقل المسجد الحرام بما له من حرمات خاصة ، فيشمل كل عصيان وظلم في مثلثه ، بحق الله او بحقك وبحق الناس.

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) ـ لا فقط ـ من يعمل فيه أو يلحد فيه ـ تجتث عن هذه الساحة المباركة كافة التخلفات عقائدية وعملية وحتى في النية والطوية ولمن لم يصل إلى الحرم رعاية لقداسة الموقف فانه اقدس مقدس في الكون كله بأسره وعن بكرته ، فكما من الإلحاد في المسجد الحرام تهديمه وعوذا بالله ، او الإشراك بالله ، كذلك كل تخلف عن شرعة الله ، حيث يتضاعف في المسجد الحرام وفي الحرم كله ومنه الصيد في الحرم لا سيما حالة الإحرام ، وارتكاب محرمات الإحرام حاله ، ودخوله الحرم بلا إحرام الا لمن استثني ، بل و «احتكار الطعام في الحرم الحاد فيه» (١) وعلى الجملة «كل

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥١ ـ اخرج البخاري في تاريخه وعبد بن حميد وابو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلي بن امية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... واخرج مثله البيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ...

٥١

ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكة من سرقة او ظلم احد او شيء من الظلم فاني أراه إلحادا ولذلك كان ينهي ان يسكن الحرم (١).

ولا فحسب فيه ، بل ومن يرد فيه قبل ان يوافيه وان لم يصله فضلا عن وصوله بما أراد ، وباحرى من يرد فيه وهو فيه ولم يحقق ما أراد ، وهذه من ميزات قبلة الإسلام ، ان الارادة السيئة بمجردها في غيرها لا تؤخذ بشيء ، ولكنها فيها مأخوذة مهددة بعذاب اليم ، فضلا عن تحقيقها فيها! وقد يتوسع (مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) الى غير الإنسان من حيوان كسباع الطير إذا صارت في الحرم (٢).

وهل يتحصن بالحرم عن اجرام فيه ام خارجه؟ كلا! فانه ليس ملجأ للمجرمين ، بل ونفس «التحصين بالحرم الحاد» (٣) فانه حرم للمؤمنين ، دون المجرمين.

اللهم إلا تحصينا مؤقتا مشروطا لمن جنى في غيره ثم لجأ اليه فانه يضيّق عليه في مأكله ومشربه حتى يضطر للخروج عنه فيقام عليه الحد ، واما

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٨٢ في كتاب علل الشرايع بسند متصل عن أبي الصباح الكناني قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية قال : ... أقول : والراويات بذلك مستفيضة.

(٢) المصدر عن العلل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قيل له : ان سبعا من سباع الطير على الكعبة لا يمر به شيء من حمام الحرم الا ضربه ، فقال (عليه السلام): انصبوا له واقتلوه فانه قد الحد في الحرم.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ١٠ : ٩٢ ح ٢١١ ـ يب ٥٧٩ احمد عن ابن محمد الحسن بن علي الوشاء عن بعض أصحابنا يرفع الحديث عن بعض الصادقين (عليه السلام) قال : التحصين بالحرم الحاد.

٥٢

الجاني في نفس الحرم فيقام عليه الحد في نفس الحرم «لأنه لم يدع للحرم حرمة» (١).

وعلى اية حال فكل الظلم فيه الحاد (٢) بل وارادته ايضا من الإلحاد فيه.

وترى ما هو موقف «بظلم» بعد «بإلحاد» وكل الحاد ظلم؟ عل الباء في «بإلحاد» للملابسة ، تعني ملابس الإلحاد فيما يريد ، وفي «بظلم» للسبية ، تعني إلحادا ظالما ، عله هنا بحق الناس حيث (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) وكما بحق الله وأدناه الظلم بالنفس ، ام انهما حالان ل «يرد» والمفعول محذوف ليتناول كل متناولاته ، انحرافا بظلم.

ام ان «بظلم» بدل عن «بإلحاد» تعني ارادة ملابسة بظلم أيا كان ، فانه الحاد ، اكبارا لاي ظلم يراد فيه انه الحاد ، وان كان ظلما بالنفس فضلا عن سواها ، ام انها كلها معنية مهما تفاضلت.

وكل ذلك لسيادة منقطعة النظير في ذلك الموقف العظيم ، فانه قبلة الإسلام ومطاف المسلمين ، فليقدّس عن كل الحاد وكل ظلم وكل ما لا يرضاه الله تعالى ، منطلقا لكافة الأبعاد الإسلامية السامية (٣).

فكما ان المسجد الحرام هو اقدس مكان في الكون كله ، فليكن كل

__________________

(١) تفصيل البحث راجع إلى تفسير آية «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» فراجع.

(٢) كما رواه أصحابنا مستفيضا كصحيحة ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) ان كل ظلم فيه الحاد ، ومثلها غيرها.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ١٠ : ٩٣ في الرضوي (عليه السلام) فمن هم لمعصية (اي في مكة) ولم يعملها كتب عليه سيئة لقوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب السعير» وليس ذلك في بلد غيره.

٥٣

عاكف فيه او باد واقدس ممن سواه بواقع القداسة ام ـ لأقل تقدير ـ بحراسة وقتية ، تصنيعا لنفسه وتصنيعا لآخرين.

وهكذا يسبق الإسلام سبقا بعيدا عريقا بإنشاء واحة السلام ومنطقة الأمان ، ودار الإسلام المفتوحة لأهل السلام والإسلام ، مهدّدا هؤلاء الذين يريدون اعوجاجا في هذا المنهج القويم المستقيم بعذاب اليم (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

وعلّ ذلك التعقيب يكفي جوابا عن (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كما هو جواب ل (مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) فلا حاجة إلى تقدير ، ام انه لوضوحه بعظم عذابه ليس بحاجة إلى جواب حيث يعرفه البسطاء فضلا عن اولي الألباب.

ولقد ذكر المسجد الحرام في اربعة عشر موضعا بمختلف المناسبات ثم مسجد ومساجد اخرى بنفس العدد ، ويا لها توافقا بين عديد الذكر للمسجد الحرام وسائر المساجد ، وفقا فيهما لعدد المعصومين الأربعة عشر ، فإنهم من شروط المسجد الحرام سبيلا إلى الله ، وتقبلا لفريضة الله.

ولماذا يعطف هنا المستقبل «ويصدون» على الماضي (الَّذِينَ كَفَرُوا)؟ علّه للتأشير إلى استمرارية صدهم منذ كفرهم الماضي ، اضافة إلى كل صادّ عن سبيل الله في المستقبل على مر الزمن فإنهم يكفرون ويصدون ، فلا يكفي ـ إذا ـ وصدوا ، حيث لا يشمل استقباله واستمراره ، فهم بعكس التعبير ك (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ).

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ٢٦.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ

٥٤

السُّجُودِ) (٢ : ١٢٥).

(وَإِذْ بَوَّأْنا) كأنه قبل ان يبني البيت ، لمكان (مَكانَ الْبَيْتِ) دون ـ فقط ـ «البيت» فقد جعله الله له بواء مباءة : مرجعا يرجع إليه إسكانا من ذريته ، وعمارة للبيت ، وطوافا به ، فلان الأولين يختصان به ، لذلك يختص هو بتلك المباءة (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) نهيا صارما يحلّق على كافة دركات الإشراك بالله حتى الرئاء وما دونه.

لا فحسب نفسك بل (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) عن مظاهر الإشراك وملامحه وعمن يشرك بالله ، إخلاء (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

صيغة «بيتي» مصوغة لخصوص الكعبة المشرفة ، اضافة تشريفية ما أشرفها ، مهما كانت كل مساجد الله بيوت الله ، إلّا ان الكعبة إمام البيوت كما هي أمام البيوت.

هنا وفي (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) (٢ : ١٢٥) و (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (١٤ : ٣٧) الكعبة فيها بيت الله ، لأنها مباءة العبادة لله ، ثم في ثلاث اخرى (١) هي بيت الناس لأنها معبد الناس ومطافهم ، فهي إذا بيت الله وبيت الناس ، ثم وفي عشر هي الاخرى «البيت» اشارة إلى بيت الله وبيت الناس.

فهو بيت الله حيث يعبد فيه الله وهو قبلة المصلين لله ، وهو بيت عتيق لم يكن ولن يكون في ربقة غير الله.

__________________

(١) «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ..» (٣ : ١٦) و «جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» (٥ : ٩٧) «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً» (٢ : ١٢٥).

٥٥

وهو بيت الناس ، فإنهم هم الذين يبيتون فيه ويستقبلونه ويطوفون به لله ، إذا فهو بيت الناس كما هو بيت الله مهما بان البون بين الانتسابين كالبون بين الناس وبين الله.

ثم الطهارة المأمور بها ظاهرية عن كافة الأنجاس والأقذار ، وبأحرى باطنية عن الإشراك بالله في مربع «الطواف والقيام والركوع والسجود» كالقمة المعنية من توحيد الله في عبادته.

فكما ان هؤلاء عليهم تطهير بيوت قلوبهم وافكارهم ومظاهر أبدانهم وملابسهم واعمالهم حتى يصلحوا لحج هذا البيت ، كذلك (طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ ...) ومن تطهير ذلك البيت ان تكون عمارته بصدق النية وطهارة الطوية : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ ..) (٩ : ١٠٩) وكما منه تنحية المشركين عنه (١).

وترى من هم «الطائفين والقائمين» حيث (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) هم المصلون؟ فهل الطائفون هم من يطوف البيت ، والقائمون هم القائمون في الصلاة ، فهو والركع السجود تعبيرات ثلاث عن الصلاة؟

و (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) يكفي تعبيرا عن الصلاة ، فإنهما تعنيان عبادة تحويهما قضية ردفهما دون عطف ، وهما معا لا يوجدان إلّا في الصلاة ، وقد عطفا بالقائمين دليلا على مفارقتهما إياهم!

ولو كانت الثلاثة هم المصلين فصحيح العبارة عنهم «القائمين الركع السجود» ردفا دون عطف قضية وحدة العبادة ، رغم ان ضم (الْقائِمِينَ) لا يفيد زيادة معنى!

__________________

(١) تفسير القمي ص ٣٢ عن الصادق (عليه السلام) نح عنه المشركين.

٥٦

ثم وذكر (الْعاكِفِينَ) في آية البقرة بديلا عن (الْقائِمِينَ) هنا مما يحتّم انهم هم العاكفون المقيمون في مكة المكرمة ، فالطائفون هم البادون ، الحاضر للطواف دون الإقامة.

وتأييدا ثالثا قرن السواء في غاية التطهير ، بالسواء بين العاكف والباد ، فكما لم يميزوا في البداية فكذلك الأمر في النهاية ، هناك (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) وهنا (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ).

فالطائفون هم الزائرون ، والعاكفون هم القائمون ، والركع السجود هم المصلون ، مهما شمل الطائفون كل الطائفين حوله ، والعاكفون من يعتكف فيه وسواه.

فقد جعل الله هذا البيت للناس سواء العاكف فيه والباد في كل شعائر الحج ، ولذلك امر ابراهيم ان يطهره للناس سواء الطائفين والقائمين بعكس الترتيب هناك كيلا يتقدم مقيم على مسافر ولا مسافر على مقيم تحقيقا للتسوية حتى في التعبير.

ثم الأمر بتطهيره لا يخص ابراهيم الخليل ، بل هو مستمر إلى يوم الدين ، كما التسوية المجعولة المرمية إلى يوم الدين.

وذكر (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) مقيما او مسافرا بعد «الطائفين والقائمين» مسافرا او مقيما ، لطواف البيت وسواه من مناسك الحج والعمرة ، يصوّر لنا صلاة الطواف بعده ، مع ان «الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥٤ ـ اخرج الحاكم عن ابن عباس قال قال الله لنبيه : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود قال : طواف قبل الصلاة وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة إلا ان الله قد أحل فيه المنطق فلا ينطق الا بخير.

٥٧

فليكن ذلك البيت العتيق بالمسجد الحرام والحرم كله ، اطهر بيت في الكون كله ، متخليا عن كل مظاهر القذارة والرجاسة ، متحليا بكل مظاهر الطهارة والقداسة ، بعيدا عن كافة المفارقات والتمييزات لاي مقيم او مسافر ، في طواف وصلاة وسواهما من مناسكه.

وهنا (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) دليل جواز الصلاة في جوف الكعبة المشرفة ، فانها أصدق مواضع «بيتي» حين يشمل المسجد الحرام ، وتأويل (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) بكونها فقط أمامها قبلة عليل خارج عن التحصيل.

واما الطائفون الزوار والقائمون المقيمون ، فهم بين طائف ومصلّ ، ومعنى الطواف هو التطواف حوله ، فالداخل فيه السائر في حواليه لا يسمى طائفا بالبيت العتيق (١).

واما الآية (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فهي للخارجين عن الكعبة والمسجد الحرام ، حيث امر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون معه في المدينة المنورة.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) ٢٧.

وترى من هو المخاطب المأمور هنا بالأذان الإعلان بالحج؟ أهو ـ فقط ـ ابراهيم الخليل (عليه السلام) وهو دعوى دون دليل إلّا سبق الخليل بأمر قبله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) والآيات التالية المخاطبة للحاضرين ومن

__________________

(١) البحار ٩٦ : ٤٨ ـ ٥٠ عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال : لما اوحى الله إلى ابراهيم (عليه السلام) ان طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، اهبط إلى الكعبة مائة وسبعين رحمة فجعل منها ستين للطائفين وخمسين للعاكفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين.

٥٨

يلحقهم مستقبلين تطارد ذلك الاختصاص ، لا سيما وان ذلك الخطاب «في الناس» كل الناس كقضية حقيقية تحلّق على كافة المكلفين إلى يوم الدين ، فحتى إن كان خطابا لإبراهيم ، فهو كأوّل من يحمله إلى الناس دون اختصاص ، والخطابات الشرعية للناس دائبة ما دام الناس إلا ان يأتي نسخ او تبديل ، وليس في القرآن دليل على اي تبديل بالنسبة لذلك الخطاب بكل ما يضمنه من مضامين.

ام هو خطاب لخصوص الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بعيد عن السياق حيث سبق الخطاب ابراهيم الخليل وهو اوّل بان للبيت ، فهو ـ بطبيعة الحال ـ اوّل مؤذّن للحج ، مهما يستمر حتى الرسالة الاخيرة بأكمل صورة وسيرة.

حقا انه خطاب أولا لإبراهيم كأذان اوّل ، ثم للرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كأذان ثان ، مهما كان بينهما عوان على طول خطوط الرسالات منذ ابراهيم حتى محمد (عليهما السلام) (١).

ومجرد ذكره هنا مجردا عن احد المخاطبين دليل الشمول ، ثم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرى من يشمله كما نتلمح او نتصرح من خطابات تالية ، (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا ... وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ... إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ..)

__________________

(١) فروع الكافي ١ : ٢٣٣ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم انزل الله سبحانه (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ...) فامر المؤذنين ان يؤذنوا بأعلى أصواتهم بان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحج في عامه هذا فعلم به من حضر المدينة واهل العوالي والاعراب ...

أقول : ولا تنافيه الرواية القائلة ان المأمور به ابراهيم (عليه السلام) حيث الأمر يحلق كافة الرسل منذ ابراهيم حتى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

٥٩

(فَاجْتَنِبُوا .. وَاجْتَنِبُوا .. لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) ومن ثم (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ..) فالهكم آله واحد ـ امة واحدة ـ! (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ .. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها ... فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا ... كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ... وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٢٨ : ٣٧).

ثمانية عشر خطابا في مناسك الحج تحملها آيات عشر بعد آية الأذان تعم الحاضرين من المسلمين وإلى يوم الدين ، كيف نتجاهلها باختصاص خطاب الأذان بأصل الحج لإبراهيم الخليل ، اللهم الا بتأويل عليل وتدجيل.

وهذه ضابطة ثابتة في فقه القرآن ، أن كل امر او نهي فيه لاي رسول ، يبقى امرا او نهيا لكل المرسل إليهم ، اللهم إلّا ببرهان قاطع من القرآن نفسه ينسخه او يحدده ، حيث الرسالة واحدة ، والمرسل إليهم امة واحدة ، اللهم إلّا في بعض مظاهر العبودية وسواها حسب المصالح ، فما لم يثبت نسخ من الكتاب لحكم مذكور فيه فهو ثابت ، ولا سيما مثل أذان الحج الذي هو بطبعه زمني يشمل كافة الأمم ، مهما تكامل في الامة الاخيرة.

__________________

ـ «وأذن» امر صارم (فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) وهو زيارة البيت حجا او عمرة ، و «يأتوك» دون «يأتونك» هو جواب الأمر ، فذلك أمر بأمر ، أمر أن يأمر الناس بالحج ، مقدّما للمشاة على الرّكب (يَأْتُوكَ رِجالاً) جمع راجل وهو الماشي (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) وهو اي مركوب مهزول ، ضمره الجوع او المرض ، وقد أهمل هنا اي مركوب قوي مزين مرمول ، مما يدل على ان الراحلة في أصلها ـ فضلا عن سليمها ـ ليست شرطا في فرض الحج.

٦٠