الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

أوسطها ، والآخر ان أولاها ، وتعاوض الروايات في السماع إيجابا ونفيا مردود إلى القرآن الظاهر في شموله للسماع.

والفقه الطليق عن أسر الشهرات والإجماعات ، حيث يتمحور القرآن والسنة الموافقة للقرآن ، ذلك هو الفقه الحري بالتصديق والتطبيق والله المستعان على ما يصفون.

(.. ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) في ركوع وسجود وسواهما من مظاهر العبادة ، وقد اختصا بالذكر من بينها لاختصاصهما القمة في ذلك المظهر ، ثم (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وهو أعم من العبادة المرسومة تحليقا لأفعال المؤمنين على كل خير ، ولتصبح كلها عبادة لله وركوعا وسجودا لله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وتشقّون أمواج الفتن وأفواج العراقيل بسفن النجاة ، فان الخير الصامد يذيب الشر ويذبله مهما زمّز وعربد ، فان للحق دولة وللباطل جولة ، وقد يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) خير ما في فعل الخير من قوله : «رأس العقل بعد الايمان التودد إلى الناس واصطناع الخير الى كل بر وفاجر» (١) و «اصطنعوا الخير إلى من هو أهله وإلى من هو ليس من أهله فان لم تصب من هو اهله فأنت اهله» (٢).

و «الخير» علاقة عامة مع عباد الله ، بغير الركوع والسجود والعبادة لله ، فالمؤمن هو الذي يصلح علاقاته مع عباد الله كما أصلحها مع الله.

__________________

(١ ، ٢) نور الثقلين ٣ : ٥٢١ في عيون الأخبار باسناده قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه عن أبي جعفر (عليه السلام) من هم بشيء من الخير فليعجله فان كل شيء فيه تأخير فان للشيطان فيه نظرة ، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.

١٨١

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ٧٨.

ترى من هم المراجع للضمائر الجامعة الإحدى عشر؟ أهم كل (الَّذِينَ آمَنُوا) المأمورون في سابقة الآية؟ وليس حق الجهاد إلا لأحق المجاهدين! ولا يشمل الاجتباء كل المؤمنين! ولا أنهم كلهم من ولد ابراهيم! وما هم مسمّين ككلّ مسلمين من قبل مهما سمّوا في هذا مسلمين! ولا انهم شهداء على الناس ككل بمن فيهم من غير العدول!.

وعلّ هذه الخمس تكفي دليلا باهرا ان المخاطبين في هذه الإحدى عشر هم جماعة خصوص من المؤمنين ، تناسبهم هذه المواصفات وكما في آية البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ..) (١٤٣).

١ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) الجهاد هو بذل المجهود واستفراغ الوسع في دفع العدو ، وهو في الله عبارة عن دفع ما سوى الله الذي يمانع عن سبيل الله ويصدّ عنها ، وهو كل شيطان مريد ، انفسي كالنفس الامارة بالسوء والهوى وآفاقي ككل شياطين الجن والانس فهكذا (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢٩ : ٦٩) وذلك هو تقوى الله حقا : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٣ : ١٢٤) الجهاد القمّة الطليقة والتقوى القمة المطلقة.

وعلى حد المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» (١) وكما سماه الجهاد الأكبر حين سمى

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٧١ ـ اخرج ابن مردويه عن فضالة بن عبيد قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

١٨٢

القتال في سبيل الله الجهاد الأصغر ، فلا يخص القتال وهي أصغر الجهاد ، مهما كان اظهر مظاهر جهاد النفس ان يبذل نفسه في الله فان رأس النبعة هنا هو جهاد النفس لحدّ يفتدي المجاهد بها في سبيل الله» (١).

وكما المجاهدون في الله درجات كذلك الجهاد في الله درجات أعلاها حق الجهاد ، وهي للمؤمنين القمة كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة عليهم السلام ومن نحى منحاهم وحذى محذاهم.

٢ (هُوَ اجْتَباكُمْ) والجباية هي الجمع فالاجتباء هو الجمع على طريق الاصطفاء ، وهو هنا جمع الطاقات اصطفاء في الله ، دون تبعثر فيها ولا تفرق ، فهو ـ إذا ـ تجنيد كل الطاقات في الله ، دون ان يكون لغير الله منها نصيب ، وتلك هي العصمة أمّا يقاربها ، كما ولم يأت في القرآن فيما أتى لغير المعصومين (٢) وكيف يعم الاجتباء كل الأمة وقليل منهم عدول

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢٣ عن الخصال عن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن الجهاد أسنة هو ام فريضة قال : الجهاد على اربعة أوجه ، فجهادان فرض وجهاد سنة لا يقام الا مع فرض وجهاد سنة فاما احد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي الله وهو من أعظم الجهاد ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض واما الجهاد الذي هو سنة لا يقام الا مع فرض فان مجاهدة العدو فرض على جميع الامة ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب وهذا هو من عذاب الامة وهو سنة على الامام ان يأتي العدو مع الامة فيجاهدهم واما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال لأنه احياء سنة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شيء.

(٢) «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (١٦ : ١٢١) «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى» (٢٠ : ١٢٢) «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (٦٨ : ٥٠) «وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» (٣ : ١٧٩) «وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ ـ

١٨٣

فضلا عن العصمة الخاصة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من آل الرسول (١).

٣ (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والحرج هو الذي ليس له مخرج من الحرجة الشجرة التي ليس لها مخرج فهو «أشد من الضيق» (٢) والعسر ، وقد وصف الضيق بالحرج (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٦ : ١٢٥) فليس ـ إذا ـ مطلق الضيق ، والرواية المفسرة (٣) له بالضيق تؤوّل ردا على الآية.

__________________

مستقيم» ـ (٦ : ٨٧) (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (٤٢ : ١٣) (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) (١٢ : ٦) (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) (١٩ : ٥٨).

فترى كل هؤلاء المجتبين هم من المرسلين دونما استثناء ، أفلا يكفي هذه شهود صدق على ان «اجتباكم» هنا لا تعم كل الامة.

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢١ في اصول الكافي عن بريد العجلي قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ) قال : إيانا عنى ونحن المجتبون ..».

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣٧١ ـ اخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير ان ابن عباس سئل عن الحرج فقال : ادعو لي رجلا من هذيل فجاءه فقال ما الحرج فقال : الحرجة .. فقال ابن عباس هذا الحرج الذي ليس له مخرج ، وفي نور الثقلين ٣ : ٥٢١ في اصول الكافي عن الباقر (عليه السلام) في حديث حول الآية : فالحرج أشد من الضيق.

(٣) المصدر ـ اخرج ابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة انها سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قال : من ضيق وفي قرب الاسناد للحميري باسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : مما أعطى الله امتي وفضلهم به على سائر الأمم ... (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يقول : من ضيق

١٨٤

(وَما جَعَلَ) يعم الجعل البدوي ، جعلا لأحكام محرجة ، والاستمراري ، ان يتطلب تطبيق حكم غير محرج حرجا في خاصة الظروف ، فكل حرج أما يستلزم الحرج سواء أكان حكما ام سلبا لحكم ، كل ذلك منفي عن هذا الدين.

فلو ان زوجا يؤذي زوجته ناشزا عما يتوجب عليه. فلا يقيم صلبها ، ولا يقوم بواجب الزوجية معها ، فيذرها كالمعلقة لا ذات زوج ولا أيّم ، ثم ولا يطلقها مضارة إياها ، نظرة أخذ مال منها أمّا ذا ، جاعلا إياها في حياة محرجة ، فان بقيت هكذا كان حرجا عليها ، فليس ـ إذا ـ بقاءها كما هيه مفروضا عليها بحكم الشرعة ، فللحاكم الشرعي تطليقها دون اشتراط اذن من زوجها وهو على حالة المضارة دون تنازل عن احراجه إياها.

فضابطة اللّاحرج محلّقة على كافة الظروف ، نافية للحكم المحرج او العمل المحرج ، او الترك المحرج ، فلا إحراج في الدين إطلاقا من ناحيته ، اللهم الا من أحرج نفسه فانه ليس من الدين في شيء.

فالواجب المحرج ، والمحرم المحرج ، لا يبقى على وجوبه او حرمته ، فضلا عما يحرج ولا يعرف حكمه كطلاق المحرجة في زواجها ، ف (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥ : ٦).

فهذا الدين كله ، بأحكامه العبادية والسياسية والاقتصادية والحقوقية أما هيه ، ملحوظة فيه فطرة الإنسان وطاقته ، قد لوحظ فيه تلبية الفطرة الطليقة والاتجاه إلى البناء والاستعلاء فلا تبقى حبيسة كالبخار المحتبس ، ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشم.

لذلك ترى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من آل الرسول يستندون في نفي الاحراج بهذه الآية ، ويرجعون الامة إليها

١٨٥

كضابطة عامة لا تستثنى (١).

وإذا كان العسر والضيق منفيين في شرعة الإسلام فبأحرى للحرج أن ينفى ، و «في الدين» دون «الشرع» مما يلمح كتصريحه ان الحرج منفي عن كافة الشرائع من الدين ، فلا حرج في دين الله إطلاقا ، في اية شرعة من الدين دونما استثناء ، مهما كان في بعض الشرائع عسر كشرعة التوراة ، كما ويعم الدين أصله إلى فرعه والأصل أحرى ، فلا حرج في اصول الدين كما في فروعه.

٤ (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ألزموا ملة أبيكم ابراهيم ، والجهاد في الله حق جهاده ، وعدم جعل الحرج في الدين ، هما يعنيان (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ).

أترى «كم» هنا تعم الامة الاسلامية؟ وليس هو أباهم ، اللهم الا قليلا منهم هم من ذرية ابراهيم وإسماعيل! وليست هذه الأبوة هي الروحية فانها تأويل دون دليل ، ثم وأحرى بهذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يكون أبا للامة الاسلامية روحيا كما هو أب لكافة المرسلين ف (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٣٣ : ٦)!

فإنما الأبوة هنا هي النسبية مضافة إلى الروحية ، ف «كم» ليسوا هم

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢٤ عن تهذيب الأحكام في صحيحة عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة كيف اصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله : «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». امسح عليه ، وفيه عن الكافي في الصحيح عن ابن مسكان قال حدثني ميسر قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ثم يتوضأ ثم يغتسل هذا مما قال الله عز وجل (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

١٨٦

إلا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آل الرسول عليهم السلام (١) دون الأمة ككل ، ولا ذرية ابراهيم المسلمين ككل إذ لا يصدق عليهم حق الجهاد ولا الاجتباء مهما شملتهم الابوة الابراهيمية نسبيا ، فها هي الابوة الروحية إلى جانب النسبية وكما في دعاءه (عليه السلام) لهم (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

٥ (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) وترى من «هو» أهو ابراهيم إذ سماهم مسلمين في دعاءه من قبل عند ما دعى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣ : ١٣٨) فكيف سماهم «في هذا» الدين؟ فهل هي تسميتهم من قبل؟ ف «في هذا» زائد ، ام سماهم بعد القبل وليس هو معهم في هذا!

فحقا إنه هو الله (٢) إذ سماهم المسلمين من قبل «في الكتب التي

__________________

(١) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى سليم بن قيس الهلالي عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال في جمع من المهاجرين والأنصار بالمسجد ايام خلافة عثمان : أنشدكم الله أتعلمون ان الله عز وجل انزل في سورة الحج (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) الى آخر السورة فقام سلمان فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس الذين اجتباهم الله ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم؟ فقال : عنى بذلك ثلاثة عشر رجلا خاصة دون هذه الامة قال سلمان : بينهم لنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : انا واخي واحد عشر من ولدي ، قالوا اللهم نعم وفيه عن بريد العجلي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قال الله عز وجل : ملة أبيكم ابراهيم؟ قال : إيانا عنى خاصة.

أقول : وفي تفسير البرهان ٣ : ١٠٦ في رواية قيس «أسباطا» بدل «رجلا» وهو أليق تناسبا لدعاء ابراهيم ، وبدل «من ولدي» من ولد علي.

(٢) نور الثقلين : ٣ : ٥٢٢ الكافي عن بريد العجلي قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قوله تعالى (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الله عز وجل سمانا المسلمين من قبل في الكتب ـ

١٨٧

مضت» (١) منذ صحف ابراهيم إلى توراة موسى وإلى الإنجيل (وَفِي هذا) الدين المتين حيث السمة البارزة المتميزة في القرآن لخاصة المسلمين وعامتهم هي «المسلمين».

ونموذجا مما في كتابات السماء من هذه التسمية المباركة من التورات حسب الأصل العبراني : «وليشمعيل شمعتيخا هينه برختي أوتو وهيفرتي أوتو وهيربتي أوتو بمئد مئد شنيم عاسار نسيئيم يولد ونتتيو لغوى غادل» (تكوين المخلوقات ١٧ : ٢٠)

«ولإسماعيل سمعته (ابراهيم) ها انا أباركه كثيرا وأنميه كثيرا وأثمره كثيرا وارفع مقامه كثيرا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واثني عشر إماما يلدهم إسماعيل وأجعله أمة كبيرة» (٢).

وطالما التورات لا يذكر في هذا النص دعاء ابراهيم الا اشارة ، فالقرآن ينص عليه قائلا : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢ : ١٢٩).

ومن الإنجيل ما في لوقا ٣ : ١٤ : «وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماويين يسبحون الله ويقولون : الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض

__________________

ـ التي مضت وفي هذه القرآن.

(١) المصدر في اصول الكافي عن بريد العجلي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) قال : إيانا عنى خاصة (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) في الكتب التي مضت» (وَفِي هذا) القرآن ...

(٢) راجع كتابنا رسول الإسلام في الكتب السماوية ٤٠ ـ ٤٣.

١٨٨

إسلام ، وللناس «أحمد».

فالأصل المنقول عنه «إسلام» هو «إيريني» و «احمد» «أيودكيا» كلمتان يونانيتان ، وقد ترجموا «إيريني» ب «سلامة ـ مسالمة ـ سلام» وهي في السريانية «شلم» وفي العبرانية «شالوم» ومن المعلوم ان لفظة «إسلام» تفيد معاني واسعة كالسّلم والسلام والصلح والمسالمة والأمن والراحة ، فالإسلام الذي هتفت به الملائكة هو ذلك الإسلام حيث يضمن كل معاني السلم والسلام (١).

وقد يعني «هو» ـ ضمن المعني منها ـ ابراهيم الخليل حيث سماهم المسلمين من قبل ، وليس ذلك إلا بوحي من الله وكما أوحي إلى نبيين اخرين.

ترى ولماذا اجتباكم مجاهدين في الله حق جهاده دون حرج ، وسماكم المسلمين من قبل وفي هذا؟ :

٦ (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ـ

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢ : ١٤٣) فهؤلاء المسلمون الأكارم الخصوص المعصومون من ذرية ابراهيم وإسماعيل ، هم وسط بين الرسول وبين الناس ، وهم شهداء على الناس والرسول شهيد عليهم.

فما كل مسلم حتى العدول منهم شهيدا على الناس مهما كانوا كافرين ، حيث الشهادة هي على الأحوال والأقوال والأعمال ، وهي تتطلب حضورا لتلقيها ، واستحضارا لإلقائها ، حضورا دائبا عند ما دق وجل من

__________________

(١) المصدر ١٧٨ ـ ١٨٢.

١٨٩

اعمال الناس ، ما كان الشهداء احياء وأمواتا ، وذلك خارج عن قاصر العلم والحضور لكل عالم من المسلمين وحاضر ، اللهم الا بإشهاد الله ، وليس ليشهد إلا رجالات الوحي والعصمة كما هو مسرود في آيات الشهادة ومن أشملها (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤ : ٤١) فهو إذا شهيد الشهداء ، حيث الامة الوسط شهداء على الناس كافة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد عليهم تحليقا على الشهداء والمشهود لهم وعليهم.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ٨٩).

ف «الناس» ـ في تلكم الشهادة ـ هم كل الناس ، مسلمين وسواهم ، وهذه الأمة الوسط هم شهداء على كل الناس والرسول شهيد عليهم (١) وقد تحلّق شهادة الأمة الوسط : الأئمة الاثني عشر ، على شهداء كل امة حيث

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢١ عن الكافي بسند عن الباقر (عليه السلام) في الآية ، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى ونحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن كذب كذبناه وعن بريد العجلي مثله عن الصادق (عليه السلام). وفيه عن المناقب في خبر ان قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) فدعوة ابراهيم وإسماعيل لآل محمد (عليهم السلام) فانه لمن لزم الحرم من قريش حتى جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم اتبعه وآمن به واما قوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) النبي يكون على آل محمد عليهم السلام شهيدا ويكونون شهداء على الناس وفيه عبد الله بن الحسن عن زين العابدين (عليه السلام) في قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس قال : نحن هم وفيه عن كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى ابراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه السلام) حديث طويل وفيه : نحن حجج الله في خلقه ونحن شهداء الله واعلامه في بريته.

١٩٠

هم داخلون هنا في نطاق الناس.

وهذه قضية ذلك الاجتباء القمة بالجهاد في الله القمة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة ، أن تحتصر الشهادة المحلقة على الناس كلهم فيهم ، فآية الحج والبقرة حاكمتان على ساير آيات الشهادة.

وهؤلاء الشهداء هم أفضل الشهداء على الأعمال من المرسلين والنبيين والملائكة ، ومن الجوارح والأجواء ومن الأرض وما عليها ، فانها عساكر مجنّدة تتحمل شهادات ثم تلقيها يوم القيامة ، وكما هي مسرودة مشروحة في آيات انعكاسات الأعمال في سجلاتها الأربع.

أترى بعد ان المخاطبين بهذه الخطابات هم كل الامة الإسلامية بمن فيهم فسقة ومنافقون ، فحتى العدول منهم وعلماءهم الربانيون غير المعصومين لا تشملهم هذه الخطابات ، اللهم إلا هامشيا ، أم في بعضها «وكان زيد والله ممن خوطب بهذه الآية» كما يروى (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢٢ في عيون الاخبار باسناده إلى ابن أبي عبدون عن أبيه قال لما حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون وقد كان خرج بالبصرة واحرق دور ولد العباس وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقال له يا أبا الحسن لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج زيد بن علي (عليه السلام) فقتل ولولا مكانك مني لقتلته فليس ما أتاه بصغير فقال الرضا (عليه السلام) يا امير المؤمنين لا تقس اخي زيدا إلى زيد بن علي (عليه السلام) فانه كان من علماء آل محمد ، غضب لله تعالى فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر (عليه السلام) انه سمع أباه جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول : رحم الله عمي زيدا انه دعا إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو ظفر لو فى بما دعا اليه ، ولقد استشارني في خروجه فقلت له : يا عمي ان رضيت ان تكون المصلوب بكناسة فشأنك فلما ولى قال جعفر بن محمد عليهما السلام ويل لمن سمع داعيته فلم يجبه ، فقال المأمون يا أبا الحسن أليس قد جاء فيمن ادعى الامامة بغير حقها ـ

١٩١

٧ (... فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ٧٨.

تلك الأمانة الكبرى تتطلب علاقة دائبة بالله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وصلة بعباد الله: (وَآتُوا الزَّكاةَ) واعتصاما بالله على أية حال : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) لكي يعصمكم عن الزلات في هذه السبيل الشائكة ، المليئة بالأشلاء والدماء والعرقلات «هو مولاكم» لا سواه (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

ومن لطيف الأمر في هذه الآية الاخيرة من السورة ، ان واجهات الخطابات فيها تعم المسلمين في ظاهر الحال ، وهي خاصة بالقادة المعصومين عند التأمل والتعمل ، وذلك لكي يدرس المسلمون في مدارس العصمة والطهارة هذه الدروس القيمة القمة.

فالصلاة المقامة بشروطها الظاهرية والباطنية هي صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد ، والزكاة هي صلة الجماعة المؤمنة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد ، والاعتصام بالله هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها بين المعبود والعباد.

وبهذه العدّات وما سبقتها تملك الامة المسلمة بقياداتها الصالحة ـ معصومة وعادلة ـ ان تقود البشرية جمعاء ـ

__________________

ما جاء؟ فقال الرضا (عليه السلام) ان زيد بن علي (عليه السلام) لم يدع ما ليس له بحق وانه كان أتقى لله تعالى من ذلك إنه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانما جاء ما جاء فيمن يدعي ان الله تعالى نص عليه ثم يدعو إلى غير دين الله ويضل عن سبيله بغير علم وكان زيد والله ممن خوطب بهذه الآية (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ).

١٩٢

(٢٣) سورة المؤمنون مكية

وآاتها ثمان عشر ومائة

١٩٣
١٩٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١)

١٩٥

سورة «المؤمنون» وكل سور القرآن هي للمؤمنين ، الا ان الجو الشامل فيها هو جو الايمان ، صفات الايمان ، ودلائل الايمان في الآفاق والأنفس ، وحقيقة الايمان وحده وتفرق الناس عنها ، وما للمؤمنين من فضائل الأخلاق والأعمال ، ولمن سواهم من رذائل الأخلاق وسفاسفها. فهي تبدء بفلاح المؤمنين الحاملين شروطات الايمان في آيات عشر «من أقامهن دخل الجنة» (١) و (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) توضيحة للعاشرة دون ان تحمل مواصفة زائدة.

ثم عرضا لخلق الإنسان وخلق الطرائق السبع وإنزال نصيب الأرض من ماء السماء ، ثم قصصا من دعوات الرسل وعرقلات الناكرين منذ نوح ورسل بعده إلى موسى وهارون وعيسى بن مريم ، توحيدا لدعواتهم وأممهم ، وإلى خاتم النبيين ، بما يطمها ويتمها من دلائل التوحيد والوحي والمعاد ، وكلها تحول حول صالح الايمان وطالح الايمان.

وفي بعض الروايات اليتيمة ان عليا (عليه السلام) قرء هذه الإحدى عشر عند ولادته أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) وفي لطيمة انه

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢ ـ اخرج جماعة عن عمر بن الخطاب قال : كان إذا انزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فانزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ : قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر واخرج آخرون عن يزيد بن بابنوس قال قلنا لعائشة كيف كان خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : كان خلقه القرآن ثم قالت : تقرأ سورة المؤمنون فقرأ حتى بلغ العشر فقالت هكذا كان خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) بحار الأنوار ٣٥ : ١٧ في رواية شعبة عن قتادة عن انس عن العباس بن عبد ـ

١٩٦

قرء حينذاك كافة الكتب السماوية ومنها القرآن من أولها إلى آخرها (١).

__________________

ـ المطلب ورواية الحسن بن محبوب عن الصادق (عليه السلام) والحديث مختصر ـ انه انفتح البيت من ظهره ودخلت فاطمة فيه ثم عادت الفتحة والتصقت وبقيت فيه ثلاثة ايام فأكلت من ثمار الجنة فلما خرجت قال علي (عليه السلام) السلام عليك يا ابه ورحمة الله وبركاته ثم تنحنح وقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الآيات فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد افلحوا بك أنت والله أميرهم تميرهم من علمك فيمتارون وأنت والله دليلهم وبك والله يهتدون ووضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسانه في فيه فانفجرت اثنتا عشرة عينا قال فسمى ذلك اليوم يوم التروية فلما كان من غده وبصر علي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضحك في وجهه وجعل يشير اليه فأخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت فاطمة : عرفه فسمي ذلك اليوم عرفة فلما كان اليوم الثالث وكان يوم العاشر من ذي الحجة اذن ابو طالب في الناس اذانا جامعا وقال : هلموا إلى وليمة ابني علي ونحر ثلاثمائة من الإبل والف رأس من البقر والغنم واتخذوا وليمة وقال هلموا طوفوا بالبيت سبعا وادخلوا وسلموا على علي ولدي ففعل الناس ذلك وجرت به السنة ووضعته امه بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ففتح فاه بلسانه وحنكه واذن في اذنه اليمنى واقام في اليسرى فعرّف الشهادتين وولد على الفطرة.

أقول وفي الحديث من الغرائب ما يعجز عنها التعبير ، وكأن مختلق الحديث نسي ان النبي بعد لم ينبأ فكيف اذن واقام ، وابو طالب كان فقيرا ذا عيال فكيف قدم هذه الوليمة التي كانت تكفي اهل مكة أياما عدة وسنة الطواف هي كانت منذ آدم إلى ابراهيم وإلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف كانت منذ هذه الولادة ... ورواه مثله الشيخ الطوسي في اماليه.

(١) بحار الأنوار ٣٥ : ١٩ ح ١٥ خص ضه روي عن مجاهد عن أبي عمرو وأبي سعيد الخدري قالا كنا جلوسا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دخل سلمان الفارسي وابو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وابو الطفيل عامر بن واثلة فجثوا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحزن ظاهر في وجوههم فقالوا : فديناك بالآباء والأمهات يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انا نسمع من قوم ـ

١٩٧

ذلك! مع العلم ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم ينبأ

__________________

ـ في أخيك وابن عمك ما يحزننا وانا نستأذنك في الرد عليهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) وما عساهم يقولون في اخي وابن عمي علي بن أبي طالب؟ فقالوا يقولون : اي فضل لعلي في سبقه إلى الإسلام ، وانما أدركه الإسلام طفلا ونحو هذا القول ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا يحزنكم؟ قال : اي والله فقال : بالله اسألكم. هل علمتم من الكتب السالفة ان ابراهيم هرب به أبوه من الملك الطاغي فوضعت به امه بين أثلال بشاطئ نهر يتدفق يقال له حزر ان من غروب الشمس إلى اقبال الليل فلما وضعته واستقر على وجه الأرض قام من تحتها يمسح وجهه ورأسه ويكثر من شهادة ان لا اله الا الله ثم أخذ ثوبا واتشح به وامه تراه فذعرت منه ذعرا شديدا ثم هرول بين يديها مادا عينيه إلى السماء فكان منه ما قال الله عز وجل : وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السماوات والأرض ـ ثم نقل قصة موسى وعيسى فقال ـ : وقد علمتم جميعا ان الله عز وجل خلقني وعليا من نور واحد ـ الى قوله ـ ولقد هبط حبيبي جبرئيل في وقت ولادة علي ويقول : هذا أوان ظهور نبوتك وإعلان وحيك وكشف رسالتك إذ أيدتك بأخيك ووزيرك وصنوك وخليفتك ومن شددت به ازرك وأعلنت به ذكرك فقم اليه واستقبله بيدك اليمنى فانه من اصحاب اليمين وشيعته الغر المحجلون فقمت مبادرا فوجدت فاطمة بنت اسد ام علي وقد جاء لها المخاض وهي بين النساء والقوابل حولها فقال حبيبي جبرئيل يا محمد نسجف بينها وبينك سجفا فإذا وضعت بعلي تتلقاه ففعلت ما أمرت به ثم قال لي امدد يدك يا محمد فمددت يدي اليمنى نحو أمه فإذا انا بعلي على يدي واضعا يده اليمنى في اذنه اليمنى وهو يؤذن ويقيم بالخفية ويشهد بوحدانية الله عز وجل وبرسالاتي ثم انثنى الي وقال : السلام عليك يا رسول الله ، ثم قال لي يا رسول الله أقرء؟ قلت : اقرأ ، فوالذي نفس محمد بيده لقد ابتدأ بالصحف التي أنزلها الله عز وجل على آدم فقام بها ابنه شيث فتلاها من أول حرف فيها إلى آخر حرف فيها حتى لو حضرت شيث لأقر انه احفظ له منه ثم تلا صحف نوح ثم صحف ابراهيم ثم قرأ توراة موسى حتى لو حضر موسى أقر له بانه احفظ لها منه ثم قرأ زبور داود حتى لو حضر داود لأقر بانه احفظ لها منه ثم قرأ إنجيل عيسى حتى لو حضر عيسى لأقر بانه احفظ لها منه ثم قرء القرآن الذي أنزله الله علي من اوله إلى آخره فوجدته يحفظ كحفظي له الساعة من غير ان اسمع منه آية ثم خاطبني وخاطبته بما يخاطب الأنبياء ـ

١٩٨

بعد ولما ينزل عليه القرآن الا بعد اثنتي عشر سنة ، فما كان يعلم من القرآن شيئا : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (٤٢ : ٥٢)!

فهل نزلت على علي (عليه السلام) هذه الآيات ، أم القرآن كله بسائر كتابات السماء ، قبل ان ينزل القرآن على رسول القرآن ، فأصبح ـ إذا ـ رسولا قبل الرسول ، ام علمها دون وحي حيادا عن رسالته ، ولم يكن الرسول يعلمها دون وحي ، إذا فهو اعلم من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)!

ومما لا ريب فيه أن عليا علم ما علم بتعليم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف علم ما قرأه قبل تعليمه بوحي أم دون وحي! إذا فهذه الروايات اليتيمات لطيمات من إسرائيليات وكنسيات ووثنيات ، والهدف من اختلاقها القضاء على سيادة القرآن وكرامته ، والجهلة البسطاء من الشيعة المتطرفين يتقبلونها زعما انها ترفع من كرامة الإمام ، غفلة او تغافلا عن انها من واجهة اخرى تمس من كرامة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

لا نقول ان الصبا تمنع عن نزول الوحي فان يحيى (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) والمسيح قال في مهده : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ ..) فليس من المستحيل ذاتيا ان يقرء الامام علي حين ولادته هذه الآيات ام القرآن كله ، ام كتب السماء كلها.

__________________

ـ والأوصياء ثم عاد إلى حال طفوليته ، وهكذا احد عشر اماما من نسله فلم تحزنون وماذا عليكم من قول اهل الشك والشرك بالله ...

١٩٩

ولكنه من المستحيل ان يوحى وحي الرسالة إلى من ليس برسول ، وقبل ان يوحى إلى الرسول!

والنظر الصائب المجرد ، المتحلل عن العصبيات العمياء الجهلاء يطمئن الناظر إليها انها من المختلقات الزور ، وساحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته الطاهرين براء من هذه التقولات التي تمس من كرامة الرسالة والشرعة القرآنية.

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ١

الفلح هو الشق ، والفلّاح : الأكّار الذي يشق الأرض للزراعة ، والفلاح الظفر وإدراك بغية دنيوية او أخروية او الطليقة الشاملة لهما ، والآخرة خير وأبقى.

فالإفلاح هو بالغ الفلاح دخولا فيه (١) تشقيقا لأرض الحياة ، وسحقا لكافة الشهوات والحيونات ، وإزالة لكل العرقلات ، فوصولا إلى بغية الإيمان في الدارين وكما وعد الله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١).

ثم «المؤمنون» هنا وفي سواها لا يخص الذكور ، بل هم كل من حمل الإيمان ذكرانا وإناثا ، اللهم إلا في البعض من هذه المواصفات التالية التي لا تناسب الأناث ك (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).

وترى «المؤمنون» هنا تشمل كل من آمن أيا كان ، مهما حمل في قلبه ـ فقط ـ صورة الإيمان ، دون ان يأتي بسيرته؟ كلّا! بل هم المؤمنون الموصوفون بهذه الثمان عدد أبواب الفردوس :

__________________

(١) كأبشر دخل في البشارة ويقال افلحه صيّره إلى الفلاح.

٢٠٠