الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

عيني قلبه فيشاهد بها ما كان غائبا عنه» (١).

فقلب مقلوب واه ، ذاهل عن التفكر في آيات الله فلا يعقلها ، انه أعمى «وشر العمى عمى القلب» (٢)

وهنا معنى عجيب وسر لطيف في (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) حيث لا يعني نفي العمى عن الأبصار جملة ، فقد تعمى وقد لا تعمى ، وانما يعني ان الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق واتصال الشعاعات لم يجز ألا ترى ما يرى ، ولكن القلوب هي على خلافها ، إذ تكون فيها آلة التفكر والنظر وهي معذلك لاهية عن النظر ، متشاغلة عن الفكر ، إلا من هدى الله.

وهنا «في الصدور» بيان لعنوان القلوب ومكانها من الأرواح ، فالعقل الأول مكانه المخ ، والثاني المغربل الأصفى مكانه الصدر وهو برّاني القلب ، والثالث المصفّى مكانه القلب ، فكما ان قلب الجسم هو محور حياة الجسم ، كذلك قلب الروح المستكن في قلب الجسم الكائن في صدره ، انه محور حياة الروح ، ولا يحيى الروح الا ببصره وبصيرته ، فإذا عمي فالروح ميت انسانيا وايمانيا ، مهما كانت له أحظى حظوة الحياة حيوانية.

__________________

(١) المصدر في عوالي اللئالي وقال (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) المصدر علي بن ابراهيم في خطبة لعلي (عليه السلام) وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وشر العمى عمى القلب.

وفيه عن الخصال عن علي بن الحسين عليهما السلام حديث طويل يقول فيه : ان للعبد اربع أعين عينان يبصر بهما امر دينه ودنياه وعينان يبصر بهما امر آخرته فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب وامر آخرته وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه.

١٤١

(فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) لا عقول ام صدور يعقلون بها ، رغم ان العقل هو الذي يعقل في البداية ، فقد يعقل العقل والصدر ضيق لا ينشرح به (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) فانه استيقان العقول فقط.

ام يعقل الصدر وينشرح بما عقله العقل ، والقلب بعد غير عاقل كما يحق ، فهو عوان بين الكفر والايمان ، فقد يفسق وقد لا يفسق.

واما إذا عقل القلب ما عقله الصدر عن معقول العقل ، فهنالك الايمان القمة المرموقة ، سواء أكان عقله ما عقل ظنا فهو من اصحاب اليمين ، ام علما فهو من السابقين والمقربين : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٢ : ٤٥) وذلك ظن القلب عقلا راجحا فيه ، دون ظن الصدر أو العقل!

فلأن أبصار القلوب هي قلوب الأبصار ، لذلك اختصرت هنا فيها كأنها احتصرت ، فما تفيد سائر الأبصار فوائدها المرغوبة منها إلا إذا انتشأت من ابصار القلوب ، فما يبصره البصر او يسمعه الأذن يتنقل إلى بصيرة العقل ، وما يبصره العقل في نفسه أم ببصر العين او الاذن يتنقل إلى بصيرة الصدر ، ومن ثم إلى بصيرة القلب (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) عينا وسمعا وعقلا وصدرا (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) التي لا تنفع معها سائر الأبصار ، مهما كانت ابصار العقول او الصدور فضلا عن ابصار العيون.

فالمعرفة ما لم تصل شغاف القلب فهي متقلبة ، مهما اختلفت الدرجات ، فإذا وصلت إلى القلب وأخذ شغافه فهنالك البصيرة التامة الطامة دون تزعزع ولا تلكع.

١٤٢

بل وعمى القلوب تصد الصدور عن الانشراح ، والعقول عن التعقل ، كما الإبصار عن الأبصار ، فتعطّل في عماها كل الأبصار عن الإبصار (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)!

اللهم أنر ابصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ، ولا تجعلنا ممن لهم (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٧٩ : ٩) فانها عميت وكلّت يوم الدنيا ثم (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(٤٧) ـ

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣٢ : ٥).

وترى كيف تتجاوب الآيتان هاتان وآية المعارج : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ...) (٦ ـ ٩)؟ فأين الف سنة من خمسين الف سنة!

علّ المعني من ألف الحج انه في شدة العذاب كألف سنة مما تعدون اي ٣٥٥٠٠٠ ضعفا ، فلما ذا يستعجلون العذاب وكل يوم منه عند ربك في شدته كذلك الضعف الهائل.

ثم والف السجدة ـ علّه ـ هو واحد الزمان لعروج الأمر اليه عند الساعة ، فقد يعني انه يعرج امره اليه في واحد من الزمان قدر ما كان يفعله يوم الدنيا من تدبير الأمر في الف سنة مما تعدون ، فالف الحج يصّور شدة العذاب ، والف السجدة تصوير لسرعة النفاد ، وعل الألفين ـ كل فيما

١٤٣

يعنيه ـ هما تصويران للكثرة الهائلة ، والألف تعبير عن الكثرة ، دون تحديده بحده ، ام وبهذا الاعتبار يعني ان (يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) ـ و ـ (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) على سواء حيث الزمان لا يبعّد له قريبا ولا يقرب بعيدا ، فسواء استعجل في عذابهم ام استاجل فهما عنده سيان.

ام لأنهما سيان عنده في قدرته وعلمه فان أخّركم الف سنة مما تعدون فكأنه أخركم يوما ، فان بعد الزمان ليس بعيدا عنده ، فلما ذا تستعجلون في العذاب؟

وخمسون الف المعارج مفصلة في المعارج بتفصيل منقطع المثيل في الفرقان قدر المستطاع من التحصيل ، وعلّ الله يحدث بعد ذلك امرا (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)!

وعلى أية حال فذلك الاستعجال ليس من صالحهم او تعجيزا لرب العالمين فلما ذا يستعجلون؟

وليس الله ليعجّل باستعجالهم ام يؤجّل باستأجالكم ، وانما يعجل من يخاف الفوت ، وليس املاءه الظالمين الا امتحانا ومزيد بلاء :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) ٤٨

فلما ذا يعجل وهم في قبضته واليه مصيرهم عاجلا ام آجلا على سواء : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)؟!

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ٤٩.

لست ربا ولا أن الأمر بيدي حتى تستعجلوني بالعذاب ام تستأجلون و (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ) من ربي كما أنذر «مبين» في انذاري كما أبين فما ذا تطلبون!

١٤٤

انما انا رسول وليس لي من الأمر شيء! ممحّض كياني بالنسبة للكل اني نذير ، ثم للمهتدين بشير ، ومن بشارتي ونذارتي :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٥٠).

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١).

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله عما اخطأوا (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو جنة النعيم (وَالَّذِينَ سَعَوْا) مسرعين (فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) يصارعونها سراعا لإبطالها بكل سرعة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ٥٢.

هذه الآية من معارك الآراء بين المفسرين المسلمين وسواهم من مستشرقين طاغين بها وباضرابها من متشابهات في ذلك الدين المتين ورسوله النبي الأمين ، فقد أثاروا حولها عجاجة من القيلات التي هي ويلات على هذه الرسالة السامية وعلى كل الرسالات ، وسانده جماعة من المسمّين مسلمين ظاهرين بمظاهر المفسرين والمحدثين (١) حيث تناقلوا مختلقات وثنيات ، ام إسرائيليات وكنسيات جهلا او تجاهلا ، قصورا او تقصيرا بحق القرآن العظيم.

ولو ان هذه الفرية الجاهلة القاحلة على هذا الرسول (صلى الله عليه

__________________

(١) لقد أحدث رواة من الفريقين احدوثة كاذبة حول الآية ، فرواة من العامة تناقلوا حديث الغرانيق ، وآخرون من الشيعة تناقلوا حديث «محدث» في الآية كأنها ساقطة عنها ، والكل محجوجون بالقرآن والسنة.

١٤٥

وآله وسلم) ثبتت انه قال : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، تجلّبا لخواطر المشركين ، اختلاقا وثنيا يناقض جذور الرسالة التوحيدية ، لكانت إذا فاشية في كافة الرسل والنبيين ، حيث الآية تعم مادة الفرية المتخيلة لكل رسول ونبي دون إبقاء.

ولكن الآية نفسها ، بعسكر مجنّد من آيات سواها وبراهين اخرى معها ، تذود هذه الوصمة الوقحة عن ساحتها وساحة الرسالة السامية ، لو ان الناظر إليها تأملها كما هيه ، دون تحميل للآراء والروايات عليها.

فالذي يبدو أولا من وجه الآية صارحة انها تعرض سنة رسالية شاملة لا تشذ عنها أية رسالة صغيرة ولا كبيرة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ...) وطبيعة الحال في السنة الرسالية على اية حال ان تكون بمصلحة الدعوة ، دون خصوص الداعية ، او مصلحية الرعاية لناكريها المعارضين ، فانها ليست تجارة تحلّق عليها المصلحيات الخاوية من مكائد وأكاذيب واحتيالات ، فانها تملك من البراهين القاطعة أقواها ومن السبل الجادة اعبدها وأصفاها ، دونما حاجة إلى سياسات زمنية تحوم حولها شيطنات وإغرائات ، فلا تجد في قاموس الدعوات الرسالية شيئا من هذه المصلحيات القاحلة التي يعبدها أصحابها كاصنام ، وهي من الأخطار الهامة في الدعوات الحقة انحرافا عن نهجها السليم المستقيم غير الملتوي ، وانجرافا إلى هوّات السياسات الإبليسية التي يلعب بها الساسة الزمنيون.

فلا مسايرة في الرسالات الإلهية ولا أنصاف حلول بجعل البلد شطرين ، والدعوة في واجهتين ، فانما هي شطر واحد منذ بدايتها إلى ختامها ، صدقا صارما دونما خليط ، حتى في لفظة قول مهما كانت ثورية وتقية ، وإليكم البحث والتنقير حول ألفاظ الآية :

١٤٦

(مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) وهما هنا مرسلان (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) ذلك دليل افتراقهما في بعض الشؤون مع الاشتراك في اصل الرسالة ، وذكر «نبي» بعد «رسول» مما يجعله في قمة أعلى من اصل الرسالة وكما في آيات عدة : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١٩ : ٥١ و ٥٤) في موسى وإسماعيل ، و (الرَّسُولَ النَّبِيَّ) (٧ : ١٥٨) في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو كان كل رسول نبيا لكان ذكر «نبيا» بعد «رسولا» زائدا بائدا ، إلا ان تكون النبوة مرحلة راقية من الرسالة وكما تلوح من آياتها.

وعل الروايات المعاكسة بينهما تعني النبوءة من النبإ ، دون النبوّة من النّبوة والرفعة : «نبي منبئ في نفسه لا يعدو غيره ..» وحين يخاطب يا نبيء الله يرده قائلا : لست انا نبيء الله ، انا نبي الله.

إذا ف (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) يحلّق على كل اصحاب الرسالات بدرجاتهم ، من مرسل دون كتاب او بكتاب ، من رسالة هامشية بكتابها كغير اولي العزم ام رسالة اصلية كهؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وهم اصول النبوات وقواعد الرسالات.

إذا ف «إذا تمنى» تشملهم كلهم في التمنيات الرسالية ، التي تحصل أحيانا منها دون كل ادوارها لمكان «إذا».

ثم التمني هو تقدير وجود المحبوب ، وصورته قبل حصوله عند المتمني هي أمنيته وأصله المني : التقدير ، وتمنيات الرسل هي بطبيعة الحال التمنيات الرسالية تقوية لها وتطبيقا بعد حصولها ، وتلك التمنيات بما هي مصحوبة بمحاولات لتحققها تعرقل في مسيرها ومصيرها بإلقاءات الشيطان من جن وانسان ، وكما تعرقل أصل الرسالات منذ بزوغها ، وكلما ازدادت انتشارا وتقبلا وازدهارا ازدادت ضدها العرقلات (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي

١٤٧

الشَّيْطانُ) في تمنيات ودعوات او كتابات الرسل (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) الملقاة فيها ما يناحرها (وَاللهُ عَلِيمٌ) تلك الالقاآت «حكيم» في تحقيق تمنيات الرسل نسخا لما يلقي الشيطان.

ولقد حصلت هذه الإلقاءات الشيطانية كلها في كل الرسالات ، خلقا لأجواء معرقلة دونها ، وتضليلا لمن لا يحن إلى الايمان تمام الحنان ، وإلقاء في كتاباتهم تحريفا وتجديفا ، ولكن الشرعة الاخيرة سليمة من ذلك الأخير.

إذا ففي ذلك العرض الشامل تسلية لخاطر الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله هو الذي ينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته.

وهكذا نرى كل كتاب رسالي ينسخ التحريفات التي ألقيت فيما قبلها من كتاب (١) حتى وصل الدور إلى القرآن فأصبح مهيمنا على كافة كتب الوحي.

ونرى ان الأجواء المضلّلة الملقاة من الشياطين تتبدل صالحه هادية زمن الرسل وبعد كل رسول برسالة تالية وتأييدات ربانية ، والقلوب المزعزعة

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٠٢ ـ عن الاحتجاج للطبرسي في حديث عن امير المؤمنين (ع) قال : فذكر عز اسمه لنبيه ما يحدثه عدوه وفي كتابه من بعده بقوله (وَما أَرْسَلْنا ..) يعني انه ما من نبي يتمنى مفارقة ما يعانيه من نفاق قومه وعقوقهم والانتقال عنهم إلى دار الاقامة الا القى الشيطان المعرض بعداوته عنه ـ عند فقده ـ بعده في الكتاب الذي انزل اليه ذمه والقدح فيه والطعن عليه فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله ولا تصغى اليه غير قلوب المنافقين والجاهلين ويحكم الله آياته بان يحمي أوليائه من الضلال والعدوان ومتابعة اهل الكفر والطغيان الذي لم يرض الله ان يجعلهم كالأنعام حتى قال بل هم أضل سبيلا.

١٤٨

بهذه الإلقاءات تثبت على ما كانت من الايمان واليقين شرط ان تنحو منحى الإيمان واليقين ، وذلك هو النظر الموعود للرسل والمؤمنين :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١) (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٣٧ : ١٧٢).

فليست امنية الرسل هي فقط آيات الوحي الرسالية حتي يفسّر إلقاء الشيطان فيها بزيادة عليها ، فانها حاصلة دفعة واحدة ام تدريجية طيلة كل رسالة دون حاجة إلى تمنّ ، ف «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» ليست من تلك الإلقاءات في آيات الوحي المحمدي ، بل هي من إلقاءاته على مختلقيها ، مردودة إليهم ومضروبة عرض الحائط ، حيث تضاد طبيعة الرسالة ولا سيما هذه الأخيرة السامية.

وتراه كيف ينطق هكذا عن أضل الأهواء الشركية (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٥٣ : ٤) تصون تنطقاته كلها كتابا وسنة عن كل هوى حتى العقل ، حاصرا لها في وحي يوحى؟!

ام كيف يتقول على الله هكذا (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٦٩ : ٤٦) ولم نره حينا ما مقطوع الوتين او مأخوذا باليمين ، إلا في مزيد من التامين المكين ، والتأييد الرصين! : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (١٠ : ٢٥) ثم (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤) هذه ، تجتث عنه جذور هذه الفتن ، والمسايرة بها ليتخذوه خليلا كما افتراه عليه مختلقو الغرانيق العلى!.

ثم الله ضمن له ألّا ينسى الوحي فلا يزيد عليه ولا ينقص منه ،

١٤٩

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٨٧ : ٦) وليست أمثال قصة الغرانيق الا من سلطان الشيطان شر سلطان ، وليس الا على الغاوين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢) (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ : ٨٢) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو من أخلص المخلصين ، وهو أول العابدين.

وفرية الغرانيق تعارض هذه الآيات وطبيعة الرسالات ، وتكذب هذه التضمينات والصيانات لأبعاد الرسالات ، فهي باطلة متنا مهما كثرت فيها الروايات ، كما هي ضعيفة سندا ، حيث رواها المطعون فيهم ، وحتى لو صحت أسنادها فهي كاذبة المتون لمعارضة القرآن ، وان الآية نفسها لا تتحملها.

هؤلاء المختلقون هم من اعداء الرسل وكما قال الله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥ : ٣١) (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (٦ : ١١٣) والافئدة هنا هي القلوب المتفئدة بنيران النكران حيث تستزيد نكرانا على نكران.

فإيحاء زخرف القول غرورا منهم هو ـ فقط ـ إلقاءهم ، سواء في الأجواء والقلوب ، ام في كتب السماء ، والقرآن مصون عن ذلك الإلقاء ، ثم لا تصغى إلى زخرفاتهم إلا (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ).

ولماذا (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) إذ (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ثم الله لا يصد عن ذلك الإلقاء الزخرف؟ :

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ

١٥٠

قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ٥٣ ـ :

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ..)

فذلك ـ إذا ـ بالنسبة للقاسية قلوبهم والمرضى الناكرين للآخرة ، امتحان الامتهان ليزدادوا مرضا على مرض ونكرانا على نكران ، وكما (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

وهو في نفس الوقت مزيد علم وايمان لاولي العلم والإيمان (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) اكثر مما كان (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) ايمانا فوق ايمان ، حيث الايمان يتبلور بالامتحان ، فلما يرى المؤمنون تلك العرقلات الشيطانية ضد الدعوة القرآنية واضرابها ، يتأكدون أكثر مما كان (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

إذا فليس ما يلقي الشيطان فتنة إلا للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين لا يؤمنون بالآخرة ، ولو كان ذلك الإلقاء مثل ما يفترى على رسول الهدى من قصة فرية الغرانيق لكان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه من هؤلاء المرضى الكافرين ، خارجا عن الذين أوتوا العلم! بل هو خارج عن القبيلين حيث المرسلون هم مليء العلم والايمان والإخبات إلى ربهم ، لولاها لما أرسلوا إلى العالمين ، فلقد اجتازوا مراحل الإخلاص من العلم والإيمان بالله والإخبات لله حتى أخلصهم الله واصطفاهم على علم على العالمين : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥) (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٣٨ : ٤٧) (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٤ : ٣٢).

انهم عليهم السلام كلهم خارجون عن ذلك الثالوث المنحوس ، وحتى عن اولي العلم المتدرجين إلى ايمان الإخبات ، فهم في قمة الإسلام بعد ما اجتازوا درجات الايمان والإخبات إلى ربهم فاصطفاهم ربهم على العالمين.

١٥١

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) بينهم وبين الحق ، فليسوا ليكتفوا بنفاقهم العارم وكفرهم الصارم ، فيستزيدون نفاقا على نفاق وكفرا على كفر بما يلقي الشيطان ، صاغية اليه افئدتهم (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) ـ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢) ف (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠).

ف (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم مرضى القلوب لعدم استقامتها في التعقل ، فلا تذعن بما به يذعن إذا استقامت وصحت القلوب ، ثم تقسوا لحدّ لو أرادت الإذعان لما تيسر لها حيث ختم الله عليها بكفرهم وهم (الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) ويجمعهما (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) حيث تصغى إلى ما يلقي الشيطان وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) وهم هؤلاء الصاغون اليه (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) غارقون فلا ينجون ، واصحاب الشقاق القريب قد ينجون ، ثم الرفاق للحق المحتارون الفاحصون عنه أولئك هم يؤمنون :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ٥٤.

ان المهديين إلى صراط مستقيم هم الراسخون في العلم ، ويتلوهم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) حيث الامتحان يستدرجهم إلى الرسوخ في العلم فالى صراط مستقيم ، حيث العلم هنا هو الايمان على بينة فانه مغزى المعرفة بالله دون العلم فقط ، وهكذا (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ..) (٣ : ١٨) (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٢٩ : ٤٩) (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (٣٤ : ٦) (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)

١٥٢

(٥٨ : ١١).

ذلك هو العلم الذي يزيد في الايمان ويحقّق الإخبات إلى الرب و «انه» ما يتمناه الرسل وهي مادة الرسالة أصلا وتطبيقا وخيرها أخراها وهي الرسالة الاخيرة. (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) لا سواه ، وان ما يلقي الشيطان هو الباطل (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالحق «فتخبت له لله «قلوبهم» حيث يصبحون لهم رفاقا في أمنياتهم دون فراق ولا شقاق ، متسابقين إلى مزيد الايمان في ميدان السباق (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)!

وهنا في محتملات المراجع لضمير الغائب «انه ـ به ـ له» وجوه عدة ، فقد يرجع الاول إلى ما يتمناه الرسل (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا) بالحق «فتخبت له» : الحق الرب «قلوبهم» ام إلى خير ما يتمنونه وهو الوحي الأخير «القرآن» ماثلا فيه الحق كله ، ممثلا لكل أمنيات الرسالات (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) : القرآن (فَتُخْبِتَ لَهُ) القرآن ـ او ـ منزّله «قلوبهم» ، (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قد يقوّم كون المرجع هو الصراط المستقيم ، فانه أمنية الرسل كلهم ، ف «انه الحق» نفس الصراط المستقيم ، (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالصراط ، ام ـ وباحرى ـ صاحب الصراط وهو الله (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) او ان نسخ ما يلقي الشيطان او جعل ما يلقي الشيطان فتنة (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

اجل انه ليس للشيطان إلقاء الا بإذن الله تخييرا دون تسيير امتحانا للمكلفين (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).

كما وان نسخه بعد سماح الإلقاء (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) إلقاء (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ..) وإلقاء ونسخ (لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..).

ولان قرآن محمد ومحمد القرآن هما الصراط المستقيم القمة ، تعريفا بالله ومعرفة بالله وتجسيدا لشرعة الله ، فالحق من ربك هو القرآن

١٥٣

ورسوله ، وإخبات القلوب ليس إلا إلى الرب : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) (١١ : ٢٣) (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٢٢ : ٣٤).

هذه قضية العلم والايمان في كتلة العلم الايمان ، ان ما يلقي الشيطان لا يزيدهم الا نورا :

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) ٥٥.

هؤلاء في مزيد الإيمان وإخبات القلوب ، وأولاء (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : الحق ـ أيا كان ، فإنهم في شقاق بينهم وبين الحق أينما حلّ (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) وهي ساعة الموت (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وهو ساعة القيامة الكبرى ، والآخرون هم الذين تقوم الساعة في حياتهم الدنيا ، والأولون في حياتهم البرزخية ، فهذه الكتلة الكافرة لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم قيامتهم الصغرى أو الكبرى ، وهم في هذه الساعات أحياء لم تفدهم حياة التكليف إيمانا إلا مرية.

ف (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم عامة كفار التاريخ الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في حياة التكليف (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) بمباغتة الموت حيث لا ينفع الايمان (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وهو اليوم الآخر.

فتفسير الساعة بالقيامة تفسير عقيم ، إذ لا تبقى المرية حتى القيامة لمن مات قبلها (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)! حيث تكشف الحقائق فلا تبقى أية مرية الا زالت مهما لم ينفع الايمان لمن لم يؤمن من ذي قبل.

فانما الساعة هي ساعة انقضاء التكليف بقيامة صغرى هي الموت ، ام كبرى هي الكبرى ، وقد يعني «عقيم» انه لا ينفع فيه عمل ولا ايمان ، ولا

١٥٤

يوم بعده فانه اليوم الأخير خلاف اليومين الأولين ، وانه لا رجوع فيه عنه إلى حياة التكليف ، وقد كان بالإمكان من قبل وان بصورة خاصة كما يرجعون يوم الرجعة وقد رجع قبلهم افراد وجماعات.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٥٦ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ٥٧.

«الملك» كله ، ظاهره وباطنه ، إذ كان لهم الملك قبل «يومئذ» استخلافا ظاهرا وعارية مضمونة (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ..) (٥٧ : ٧).

ظاهر كأن يتظاهر لأهل الظاهر أنه لمن يملك ظاهرا وباطنا ، و «يومئذ» يعلمون انه كان لله ولم يكن لهم إلا ظاهر مستخلف فيه ابتلاء وامتحانا.

«يومئذ» حين انقضاء التكليف برزخا وقيامة ، إذا ف «جنات النعيم وعذاب مهين» تعم النشأتين مهما اختلفت جنات عن جنات وعذاب من عذاب.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ

١٥٥

لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما

١٥٦

تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ

١٥٧

بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٧٨)

في هذه الآيات تعقيبات لما سلفت من الاذن في القتال ، مهاجرة في سبيل الله مع وعد النصر في ختام بأمر الجهاد حق الجهاد واعتصام بالله (وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

والمهاجرة في سبيل الله ـ وحياة المؤمن كلها مهاجرة ـ هي تجرّدة كاملة شاملة من كل ما تهفو له النفس في سبيل غير الله ، إيثارا لتلك السبيل على كل سبيل.

ولا تعني المهاجرة هنا ـ فقط ـ ترك الوطن السكن إلى سواه كما حصل

١٥٨

مرتين في مكة المكرمة ، تارة إلى الحبشة واخرى إلى المدينة ، حيث المهاجرة في الله لا تحمل معها صورة خاصة ، ولا سيما ان السورة مدنية وقد تمت تلك المهاجرات الخاصة ، وانما تعني التباعد عن كل ما يعرقل المسير في سبيل الله ، وأهمه المهاجرة الأنفسية ، ثم الافاقية هي من مظاهرها ، فقد تقتضي الهجرة عن ارض الوطن ، واخرى البقاء في ارض الوطن ، كما قد تنتهي إلى القتل واخرى إلى الموت.

ومن ميّزات هذه الآيات ان تسعا منها متتالية تحمل ثمانية عشر من اسماء الله تعالى ، تختم كل واحدة باسمين من اسماء الله الحسنى بعد الجلالة : وان الله لهو خير الرازقين ـ العليم الحليم ـ العفو الغفور ـ السميع البصير ـ العلي الكبير ـ اللطيف الخبير ـ الغني الحميد ـ الرؤوف الرحيم ، أحياكم ثم يميتكم».

وهذه ظاهرة منقطعة النظير في الذكر الحكيم ، مما يدل على عظم الموقف للمهاجرين في سبيل الله :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ٥٨ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) ٥٩.

هنا (هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هو الأصل (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) دون تفاضل ، فقد يقتل في سبيل الله ، وقد يقتل ثم يموت ، ام لا يقتل ولا يقتل ثم يموت ، والمهاجر في سبيل الله هو في ايّ من هذه الحالات الثلاث على سواء في (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) بعد القتل او الموت ، وهو حياة طيبة عند الله ، ممتازة عن سائر الحياة لسائر القتلى او الأموات الذين لم يهاجروا في سبيل الله ، ثم لم يقتلوا او يموتوا في سبيل الله ، مهما كانوا مؤمنين ، فان المهاجرة في سبيل الله تصبّغ القتل او الموت بنفس الصبغة الإلهية

١٥٩

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (٢ : ١٣٨).

إذا فلا يفضّل القتيل في سبيل الله على الميت في هذه السبيل ويفضّل ذلك الميت على القتيل في غير هذه السبيل (١) وقد سمع سلمان الفارسي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : من مات مرابطا اجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وامن الفتانين ، واقرؤا ان شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) ـ الى قوله ـ (حَلِيمٌ)(٢) بل والآيتان نزلتا بشأن الميت في هذ السبيل (٣).

وهذه التسوية هي قضية (إِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) حيث المفاضلة هنا خلاف الخير ، كما هي قضية انه «عليم» بأحوال المهاجرين في سبيل الله ، ولو كان بينهم تفضيل فهو على حدّ السبيل ، وانه «حليم» بعباده ، فلا يختص رزقه بخصوص القتل في سبيله ، حيث الأصل هو المهاجرة في هذه السبيل ، فمن يعيش حياته مهاجرة في سبيل الله ، فهو من اهل هذه الآية على قدر نصيبه من هذه السبيل : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٤ : ١٠٠).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٦٩ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الانصاري الصحابي انه كان برودس فمروا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى فمال الناس على القتيل فقال فضالة : مالي ارى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله ، فقال : والله ما ابالي من اي حفرتيها بعثت اسمعوا كتاب الله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا ..).

(٢) المصدر اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ....

(٣) في جوامع الجامع وروى انهم قالوا : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا ان متنا معك ، فانزل الله هاتين الآيتين.

١٦٠