الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) (٤٠ : ٦٧).

ولان النطفة مخلوقة في المني كجزء منه ، فالمني مخلوق من طين سلالة عنه ، ولكن النطفة ليست مخلوقة ثانية مع المني ، وكل ما يحصل لها بعد لمرحلة ثانية ان تجعل في قرار مكين من الرحم دون خلق لها ثان ، ولذلك.

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ١٣.

دون ثم خلقنا نطفة ، فانه مخلوق عند خلق المني السلالة عن الطين (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٧٥ : ٣٧) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٥٣ : ٦) فالنطفة تمنى مع مني يمنى ، إذا فليست مخلوقة منه ، بل هي كائنة فيه منذ يمنى ، ثم يجعلها الله في قرار مكين.

وهكذا يقرر القرآن هذه الحقيقة الطينية للإنسان ككل ليتخذها مجالا للتدبر في صنع الله ، تاملا في تلك النقلة البعيدة العجيبة بين الطين وذلك الإنسان دون تفصيل الا انه على أية حال (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)

والنطفة هي نقطة منوية ، وهي خلية واحدة من ملايين الخليات السابحات في البحر اللجي المنوي يجعلها الله (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) من الرحم ، محميّة عن كافة الاختلاطات والاهتزازات والانصدامات وما يصيب الظهر والبطن من كدمات ورجّات وتاثرات (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

وذلك (قَرارٍ مَكِينٍ) مكانا في هندسته وحرارته الخاصة ، ومكانة في حراسته وحفاظته ، فلا مكين أمكن منه وأمتن واحسن تمكينا وضيافة من ذلك المضيف المكين الأمين الرزين الرصين (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ

٢٢١

الْخالِقِينَ)(١).

هذه النطفة التي لا تحسب بشيء في ظاهر الحساب ، الغريقة في ذلك البحر الملتطم ، انها تجعل في قرار مكين «بما مكنها الله ، وأمكن لها كل شروطات النمو والارتقاء ، فخالق كل شيء يجعل هذه اللاشيء في صيانة كاملة لكي يخلق منه إنسانا خلق له كل شيء ، فيا لهذا الإنسان النسيان من كفران بآلاء الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

هذا الإنسان العظيم العظيم ، بكل اجزاءه الجسمية ، وبكلّ خصائصه الروحية ، كان مختصرا محتصرا في تلك النطفة النقطة الهندسية ، كأنها لا وجود لها فلا تبصر إلا بالمكبرات القوية ، سبحان الخلاق العظيم!

وفي التعبير عن مقر النطفة ب «قرار» مصدرا ، إشارة إلى دور الرحم بالنسبة لها ، كأنه لا شأن له إلا إيوائها ، فهو إذا قرار لا شأن له إلّا ذلك الإقرار.

ثم «مكين» تأكيدة ثانية لاستقرارها في ذلك القرار ، ذي مكنة ومكانة راقية فائقة ، لا تتطرق إليها أية هجمة داخلية ام خارجية ، حيث أعمق أعماق كيان الام ، مستقر قارّ ، ذو مكان مكين لا يضرها فيه ضار.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ....)

وهي كالدودة العالقة بجدار الرحم ، مرحلة ثانية جنينية لها التقدير الثاني من الدية إذا أسقطت ، فللنطفة عشرون وللعلقة أربعون ،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٣٤ في الكافي ابن محبوب عن رفاعة قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) في حديث تطور الجنين : وان النطفة إذا وقعت في غير الحم؟؟؟ لم يخلق منه شيء.

٢٢٢

وللمضغة ستون ، وللعظام ثمانون ، وبعد كسوها لحما مائة ، وبعد إنشاءه خلقا آخر ـ هو الروح ـ الدية كاملة ، إذا كان ذكرا فألف وان أنثى فخمسمائة (١).

ثم بين كل مرحلتين ـ الدية ـ بحساب الرحلة ، مقدرة بقدرها (٢)(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) وهكذا يكون دور الإنسان جسدانيا ، ثم دوره روحيا

__________________

(١) قد استفاضت الرواية على هذه التقادير في دية الجنين بمراحله.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٥٨ عن تفسير القمي في الآية إلى «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» فهي ستة اجزاء وستة استحالات وفي كل جزء واستحالة دية محدودة ففي النطفة عشرون دينارا وفي العقلة أربعون دينارا وفي المضغة ستون دينارا وفي العظم ثمانون دينارا وإذا كسي لحما فمائة دينار حتى يستهل فإذا استهل فالدية كاملة فحدثني أبي بذلك عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان خرج في النطفة قطرة دم؟ قال : في القطرة عشر النطفة ففيها اثنان وعشرون دينارا قلت فقطرتان؟ قال : اربعة وعشرون دينارا قلت فثلاث قال : ستة وعشرون دينارا قلت فأربعة قال ثمانية وعشرون دينارا قلت فخمس قال : ثلاثون دينارا وما زاد على النصف فهو على هذا الحساب حتى تصير علقة فيكون فيها أربعون دينارا قلت فان خرجت متخضخضة بالدم؟ قال قد علقت ان كان ماء صافيا فيها أربعون دينارا وان كان دما اسود فذلك من الجوف فلا شيء عليه الا التعزيز لأنه ما كان من دم صاف فذلك للولد وما كان من دم اسود فهو من الجوف قال فقال ابو شبل : فان العلقة صارت فيها شبه العروق واللحم؟ قال : اثنان وأربعون دينارا العشر قلت ان عشر الأربعين دينارا اربعة دنانير؟ قال : لا انما هو عشر المضغة لأنه انما ذهب عشرها فكلما ازدادت زيد حتى تبلغ الستين ، قلت فان رأيت في المضغة مثل العقدة عظم يابس؟ قال : ان ذلك عظم أول ما يبتدى ففيه اربعة دنانير فان زاد فزاد اربعة دنانير حتى يبلغ الثمانين ، قلت : فان كسي العظم لحما؟ قال : كذلك إلى مائة قلت : فان وكزها فقط الصبي لا يدري حيا كان او ميتا؟ قال : هيهات يا أبا شبل إذا بلغ اربعة أشهر فقد صارت فيه الحياة وقد استوجب الدية.

٢٢٣

واين دور من دور ، ثم لا قيمة لهذا الجسد إلا لاستعداده حلول الروح بعيدا او قريبا ، وكذلك الدية طبقا عن طبق دون فوضى جزاف.

(... فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ..) هي اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ ، وكأنها ممضوقة مهشّمة ، فلا هي لحمة كسائر اللحم ، ولا هي مهضومة كسائر الهضم.

(... فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ...)

ناعمة كأنعمها كما تناسب الجنين لأولى النشأة العظامية ، عظاما فيها الأسس الاولية لكل عظام الإنسان الأصلية مهما خفّت وقلّت ورخت.

(.. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ..) وهنا لك تتم الصورة الجنينية دون إبقاء ، وكيف هنا «كسونا» دون «خلقنا» خلاف التطورات السابقة ، لان اللحم غير نابت من العظام ، وغير متحول عنها ، فخلايا العظام هي خلايا المضغة والعلقة والنطفة وليست هكذا خلايا اللحم.

وهكذا كشف العلم اليوم النقاب عن وجه هذه الحقيقة الخفية ، على ضوء تقدم علم الأجنّة ، ان خلايا اللحم لا تشاهد ولا واحدة منها إلا بعد ظهور خلايا العظام واستكمال الهيكل العظمى ، وهكذا (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) عارضا عليها من غيرها ، من المواد المساعدة لنشوء الجنين في الرحم.

(.. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ)

عبارة ثالثة عن ذلك التطور الجنيني ، أم رابعة بجعل الجعل أولا في «ثم جعلناه» تعابير قاصدة دقيق المعنى المرام ، دون فوضى التعبير.

هناك جعل وليس خلقا إذ لم يكن خلقا إلا قبل حيث (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ..) ومن ثم خلق في زوايا ثلاث ، كل لاحق يتبنى سابقه ، وكل تطور عن أسبقه مزيدا عليه.

٢٢٤

ثم كسوة العظام لحما ليس في هذه التطورات له نصيب ، وأخيرا ـ وبعد تكملة الجنين جسميا ـ (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ـ دون خلقناه او جعلناه ـ مما يدل على ان المنشأ غير مجعول ولا مخلوق كمثلث الخلق او مربعة.

«انشأناه» الجنين ، دون «انشأنا له» فليس الخلق الآخر الروح من غير جنس الجنين ، مجرد ام سواه ، بل هو هو إنشاء ، فلم تتحول العظام المكسوة باللحم روحا ، كما تحول كل من النطفة والعلقة والمضغة تاليتها ككل ، وإنما (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ليس آخر كما كانت هذه الثلاث ، وانما آخر في الحالة والخاصة الحاضرة رغم كونه من المادة الجنينية.

فكما يقال انشأت الوردة جلابا وعطرا ، وانشأت التراب الذهبي ذهبا ، فالمنشأ سلالة وصفوة من المنشأ منه وليس كلّه ، كذلك الروح منشأ من نفس المادة الجنينية وليس كلها ، ولا بعضا منها كسائر أبعاضها ، بل هو سلالة منها مصطفاة ، لها خاصتها الخاصة التي ليست لسائر اجزاء الجنين مهما اشتركا في اصل المادة ، كما الذهب والتراب! وكما الئيدروجين وهي أخف وأصفى الذرات بالنسبة لأثقلها وأكدرها.

وقد تعني «ثم» المراخية هنا ـ كما في (ثُمَّ جَعَلْناهُ) ـ انفصال الروح عن البدن بعيدا من حيث الكيان ، مهما كانا متحدين في الكون المادي ، كما ان جعل النطفة متراخ عن خلقه من سلالة من طين ، والفاء في الثلاثة المتوسطة دليل التقارب والتماثل.

«ثم» بعيدا عن الكثافة الجسمية الجنينية وبعيدا عن كدرتها والأكثرية الساحقة من آثارها «انشأناه» : الإنسان الميت لحد الآن «خلقا آخر» يختلف عن الاول في شاكلة المادة وخاصتها بحيوية شاعرة مريدة لم تكن له من ذي قبل ، الا حركات تكاملية ـ ان صح التعبير ـ هي أتوماتيكية.

٢٢٥

ثم الإنشاء هو إيجاد الشيء وتربيته ناشئا عن الآخر ، إذا ف «خلقا آخر» وهو الروح (١) ناشئ عن البدن نفسه ، مهما كان منفوخا فيه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (٣٢ : ٩) فتربية البدن تخليصا منه ـ صفوة مختارة وسلالة صافية غير كدرة ـ هي إنشاءه خلقا آخر.

فالإنسان قبل نفخ الروح خلق وهو بعد نفخة خلق آخر ، مهما كان منشأ عن الاول ، كما أن الحطب قبل حرقه خلق ، وبعده ـ حيث يتحول نارا ودخانا ـ هو خلق آخر ، والمادة نفس المادة إلا في الصورة المتحولة.

إذا فليس الروح مجردا عن المادة ، فلا هو روحانية النشأة ولا روحانية البقاء ، بل هو جسمانية نشأة وبقاء مهما اختلفت حالاته وتصرفاته وخاصياته عن البدن الميت.

إذا فشعوره دون البدن ، وبقاءه دون البدن ، وسائر ميزاته دون البدن لا يدل على شيء إلا انه ليس هو البدن أو جزء عاديا من البدن ، بل هو صفوة مختارة وسلالة منسلّة عن البدن ، وعلّ عقله سلالة عن مخّه وصدره عن صدره وقلبه عن قلبه ، وسائر أبعاضه عن سائر أعضاءه حسب المناسبات والتجاوبات (٢).

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ١٤.

وكيف هو احسن الخالقين و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) حتى يكون هو أحسنهم؟

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٤١ في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فهو نفخ الروح فيه.

(٢) لتفصيل البحث حول الآية وآية الروح راجع تفسير سورة الأسرى عند «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ».

٢٢٦

علّه يعني فيما يعني : لو ان هناك خالقين فهو احسن الخالقين (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (٣٧ : ١٢٥) فلو ان بعلا خالق فالله هو احسن الخالقين!

او يعني من جمع الخالقين خالقياته المختلفة حسب اختلاف الكائنات فقد جعل أحسنها في الإنسان (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٩٥ : ٤) (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ : ٧).

أم ان الخلق في هذا الجمع أعم من حق الخلق ، ومن مجازه ككل صنع ، فهو إذا احسن الخالقين ، وقد نسب الخلق بهذا المعنى الطليق إلى الخلق (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٢٩ : ١٧) كما نسبه إلى المسيح مقيدا له باذنه (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) (٥ : ١١٠)(١).

هذا ولكن الخلق الربوبي وهو حق الخلق ، يختص برب العالمين : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦ : ١٠٢) (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٣ : ٦) (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣).

ومن الأقاويل المختلقة الزور هنا ان ذلك التعقيب مما جرى على لسان عمر قبل ان يسمع وحيه (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٤١ في كتاب التوحيد باسناده إلى الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) حديث طويل وفيه : قلت جعلت فداك وغير الخالق الجليل خالق؟ قال : ان الله تبارك وتعالى يقول : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) «منهم عيسى بن مريم (عليه السلام) خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فنفخ فيه فصار طائرا بإذن الله والسامري اخرج لهم عجلا جسدا له خوار.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٦ ـ اخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل قال : نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى قوله : ثم انشأناه خلقا آخر قال عمر : فتبارك الله احسن الخالقين فقال والذي نفسي بيده انها ـ

٢٢٧

تفضيلا للخليفة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أكثره في أمثال هذه المختلقات الزور من روات كاذبين مبتدعين!.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ١٦.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ) بعد تلكم الحياة الدنيا ، بانقضاء أجلها المحتوم او المعلق (بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) انتقالا إلى حياة برزخية «ثم» بعد انقضاء البرزخ (إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) العامة «تبعثون» من اجداثكم في أرواحكم باجسادكم الاصلية التي كنتم فيها تعيشون.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) ١٧.

هذه طرائق سبع تعني السماوات السبع واخرى في الجن تعني طرائقهم القدد المفصولة عن بعض في سبلهم الحيوية العقيدية والعملية : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (٧٢ : ١١).

__________________

ـ ختمت بالذي تكلمت يا عمر.

أقول وفي تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٨٦ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا نزلت يا عمر وكان عمر يقول : وافقني ربي في اربع في الصلاة خلف المقام وفي ضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن لتنتهن او ليبدلنه الله خيرا منكن فنزل قوله تعالى : عسى ربه ان طلقكن ان يبدله أزواجا خيرا منكن. والرابع قلت : فتبارك الله احسن الخالقين فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا أنزلت وفيه روى الكلبي عن ابن عباس ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما انتهى إلى قوله تعالى : خلقا آخر عجب من ذلك فقال : فتبارك الله احسن الخالقين ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اكتب فهكذا أنزلت فشك عبد الله وقال : ان كان محمد صادقا فيما يقول فانه يوحى إلي كما يوحى اليه وان كان كاذبا فلا خير في دينه فهرب إلى مكة فقيل انه مات على الكفر وقيل انه اسلم يوم الفتح!!!.

٢٢٨

ولان «طرائق» هي جمع طريقة دون طريق ، فكلّ سماء فوقنا ـ إذا ـ طريقة بالإمكان التطرق بها إلى ما فوقها وإلى السابعة إلى السدرة المنتهى ، وكما تطرّقها كلها رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكما يتطرق من فوقها إلى تحتها وإلينا ، فهي السبل المطروقة لبعض المقربين السابقين كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وللملائكة (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (١٩ : ٦٤) ولأمره المدّبر (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) (٦٥ : ١٢) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) (٣٢ : ٥) ولنزول الأمطار (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ..) (١٨) (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) عن هذه الرحمات الروحية وسواها المتنزلة بين الأرضين والسماوات ، فالكون كله بسماوته وأرضيه وحدة مدبرة من عليم حكيم ، سبحان الخلاق العظيم.!

نحن وحتى الآن ـ على ركب العلم السريع السير ـ لم نتطرق إلا بعض الأبواب من طريقة السماء الأولى ، فأنى لنا السير في سائر طرقها والطرائق الست الأخرى سبحان الخلاق العظيم!

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) ١٨.

من هذه الطرائق السبع طريقة الماء من السماء إلى الأرض ، فقد كانت أرضنا هذه محروقة عطشانة قبل حياتها والحياة عليها ، فانزل الله عليها من ماء السماء بقدر مقدر فأسكنه في الأرض نصيبا لها خاصا ، فالأبخرة المائية الأرضية الصاعدة إلى السماء ترجع كما هيه ماء دون زيادة ولا نقيصة ، اللهم إلا زيادة في حالات استثنائية كطوفان نوح : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ف «ماءك» هو الماء النازل إليها بقدر الساكن فيها على حذر : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) ذهابا عن بكرته كما في يوم قيامتها ، ام ذهابا مؤقتا عن قدره تجديبا كما يفعله أحيانا في ارض دون اخرى ، ولكي يعلموا (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).

٢٢٩

إذا فكل مياه الأرض هي من نازل السماء دون إبقاء ، كما ويؤيده التهديد في (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) وذلك خلافا لما كان يزعمه الإنسان إلى وقت قريب ألّا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية ، والقرآن يقرر العلاقة الوثيقة بينهما وأن الكل من نازل السماء.

فلا تعني (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) سكناه فيها دون صعود مؤقت ، وانما تعني ان النازل منها بقدر إليها هو نصيبها الخاص ، دون ان يصعد بأسره إلى غيرها ويبقى.

ومما يلمح له «فأسكناه» ملحّقا «بذهاب به» انه لولا إسكانه فيها لما رجعت امطارا عن الابخرة الصاعدة عنها ، فان طبيعة الحال في الماء المحكوم بحرارة الشمس وسواها الصعود إلى السماء ، وقضية إسكان ماء الأرض فيها رجعه مطرا إليها بعد تبخّره : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أمانات الأرض من ماء وسواه.

اجل «ماء بقدر» دون افراط ولا تفريط (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (١٣ : ٩) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١).

فهناك في النطفة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) بغية تحوله إلى جنين ، وهنا (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كذلك الأمر ، حيث الماء كنطفة والأرض قرار مكين بغية حياتها بإنشاء مختلف النبات :

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ١٩.

فكما هناك في نهاية المطاف للأطوار الجنينية (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) حياتا بعد ممات ، كذلك هنا (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ ..) حياة بعد ممات واين حياة من حياة هي في احسن تقويم!

٢٣٠

وعلّ تخصيص (نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) بالذكر بين (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) لأنهما طعام وإدام وفاكهة رطبا ويابسا دون سائر الفاكهة ، وان منافعها تحلّق على سائر المنافع كما :

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) ٢٠.

وهي الزيتونة وعلّها في أصلها خارجة من طور سيناء ثم انتشرت في غيره ، ام هي فيه أطيب من غيره ، ام اكثر وأوفر ، والقصد (مِنْ طُورِ سَيْناءَ) المحيط الشرق الأوسطي الأقرب الى الطور فالأقرب ، ومن ميزاتها بين سائر الشجر انها (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) وعلّ الباء هنا سببية فهي تنبت بسبب الدهن ، حيث الأصل النابت عليه هو الحصى التي تحمل الدهن ، وكذلك هي تعدية تنبت دهنا ، ام ومعية ، وبالدهن حال ل «تنبت» فهي تنبت مع الدهن ، وهذه هي الشجرة الوحيدة بين الشجر حيث تنبت بالدهن ، وكذلك (صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) يصبغون به خبزهم وطعامهم فتصبح سابغة طيبة الطعام ، سريعة الهضم ، كما وتصبغ أمعاءهم.

فالزيتونة هي ضوء وإدام وطعام وشفاء من داء ، فهي منقطعة النظير بين سائر الشجر ولقد جاءت الرواية عن خير البشر : «الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه وادهنوا»(١).

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ٢١ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ٢٢.

هنا (مِمَّا فِي بُطُونِها) وفي النحل (مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٦٦) ولقد فصلنا القول فيه فيها فلا نعيد.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٤٣ ، في المجمع في الآية وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٣١

«وعليها» : الأنعام الرّكوب والفرش أمّا بالإمكان ان يركب (وَعَلَى الْفُلْكِ) أيا كان «تحملون» وذلك جمع بين حمل البر والبحر بنعمة الله.

وان لكم فيها لعبرة لمن القى السمع وهو شهيد ، لمن ينظر بعين عقله ويبصر ببصيرته ، عبرة يعبر بها الى خالقها الكبير المتعال ، سبحان الخلاق العظيم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)

٢٣٢

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)

٢٣٣

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً

٢٣٤

واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦)

هنا انتقالة بارعة من دلائل الايمان إلى واقع الايمان الذي جاء بها رسل الايمان ، وما واجههم الطغاة المستكبرون على مدار الزمان طول خط الرسالات منذ نوح إلى خاتم النبيين ، وهم يحملون رسالة واحدة إلى امم هم في الحق امة واحدة ، حيث الدعوات الرسالية صيغة واحدة في الجذور مهما اختلفت في بعض الصور والقشور ، قضية مختلف الظروف والابتلاءات في مختلف العصور.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) ٢٣.

«نوح» هو أول نبي من اولى العزم الذين دارت عليهم الرحى ولقد اختصت باسمه سورة تحدثنا عندها عن مدى رسالته ودعوته الصعبة الصارمة ، وتصدّيات وعرقلات قومه العارمة ، وهذه الدعوة التوحيدية هي إجمال عن كل تفاصيل دعوته المفصلة في آياتها.

هنا (اعْبُدُوا اللهَ) وفي هود (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)(٢) والاولى لا يستلزم الثانية ، فانها نص في توحيد العبودية وتلك مطلقة ، وليست مقالة نوح لقومه الا التوحيد ، فما هو التوفيق؟

٢٣٥

المشركون كانوا ولا يزالون يعبدون غير الله ولا يعبدون الله لا توحيدا ولا اشراكا ، واطلاق الإشراك على عبادتهم لا يعني الجمع بين العبوديتين ، وانما لأنهم يعبدون من لا يستحق ، كأنه الله الذي يعبد ، فهي إذا إشراك في اصل استحقاق العبادة لا من حيث واقع الشركة ، فالله ـ في زعمهم ـ شريك في الاستحقاق ، وليس له نصيب العبادة في الواقع حسب الزعم انه أعظم من ان يعبد بنفسه ، فليعبد شركاءه : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فلو كان يصح عبادته لم تصح عبادة غيره.

ثم (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قائم مقام ذلك الحصر (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وحتى بالنسبة لمن يجمعون بين العبادتين ، كما هو واقع في آخرين من المشركين ومن مقالهم (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨) والشرك الاول ليس ـ في زعمهم ـ تسوية ، ثم ومن مصاديق الإشراك الواقع في العبادة رئاء الناس ، حيث المعبود الأصل فيها هو الله ، اضافة إلى رعاية الناظر رئاء له «أفلا تتقون» الشرك بالله ، و «لا تتقون» عذاب الله؟.

وهنا (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) برهان لا مرد له لحصر العبودية في الله إذ لا يعبد الا الإله ولا اله الا الله ، فلا يعبد الا إياه.

ولكن الملأ المستكبرين من قومه الذين لم يناقشوا أمثال هذه الحجج الباهضة الناهضة للهدى ، انهم تغافلوا عنها بصورتها العامة واخلدوا إلى شخصياتهم الوهمية قياسا إلى شخص نوح كالسا فالسا في حقول البرهان :

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ٢٤.

«من» هنا تبعّض قومه الكافرين إلى الملأ المستكبرين الأشراف وسواهم ، وهذه الأقاويل ليست الا منهم الأصول دون الهوامش الأتباع

٢٣٦

اللهم الا تبعا لهم ولفظ قول ، ولم يؤمن احد من ذلك الملإ وكما يحكي عنهم القرآن دون تكذيب (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) (١١ : ٢٧).

نقول لهؤلاء الأنكاد وحماقي الطغيان إذا كان بشر ـ لأنه مثل سائر البشر ـ لا فضل له على أضرابه فكيف أنتم تفضلون أنفسكم ـ بزيادة المال والمنال والقوة والأولاد وسائر زخرفات الحياة ـ على من يفقدها ، وهذه كلها من حيونات الحياة ، ثم لا ترضون ان يتفضل ذووا الفضل في الروحية الانسانية ـ وهي أصلها وجمالها ـ على من يفقدها ، وليهديهم إلى صراط مستقيم.

فيا له من برهان قاحل جاهل هو عليهم أنفسهم قبل أن يكون على رسل الله لأنهم بشر.

ثم هم يهتكون ساحة البشرية حيث لا يستأهلونها لابتعاث نبي لهم من أنفسهم لحد الإحالة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) إحالة لإرسال اي رسول ، ثم على فرض إمكانيته فليكن من الملائكة.

ثم تلحيقا لذلك النكران النكير يستندون إلى (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) وطبعا المشركين ، وهم شرع سواء في استحالة او استبعاد ابتعاث بشر إلى بشر.

يستندون في نفي التوحيد إلى حقل الشرك القديم ، وهو جديده وقديمه على سواء في كونه خواء وعراء عن اي برهان ، الا دعايات زور وغوغائيات غرور ، يرأسهم في كل ذلك الغرور!.

ولا فحسب انهم نزّلوه إلى منزلة البشرية المماثلة لسواه ، غير المفضّلة على من سواه ، بل ونزلوه عنها ايضا إلى حقل المجانين اسقاطا لرأيه عن

٢٣٧

بكرته حتى لا يسمع كبشر مثل سائر البشر :

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) ٢٥.

به جنة لأنه يخالف آراءنا وآباءنا الأقدمين في أصالة الشرك ، وانه يدعي ضرورة المستحيل في بعدين : ان ينزل الله شيئا ، وان يرسل بشرا رسولا (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) نظرة علاجه عجالة ام أجالة «حتى حين» يعافى عن جنته ، فسوف ترون انه لا يقول قوله الآن ، ام «حتى حين» يموت على جنته فنستريح من دعايته الجنونية ، ام «حتى حين» يظهر تصلبه في دعوته فتقضوا عليه في ذلك الحين ، ام «حتى حين» تظهر جنّته ويظهر حقنا عليه ، حينات اربع قد تعنيها كلها «حتى حين» إذ لا برهان لواحدة منها دون أخرى حتى حين.

وهذه الدعاية النحسة هي بطبيعة الحال مؤثرة في المستضعفين العائشين تحت نير الذل ، المحتاجين إلى رحمة المستكبرين ، حيث العقل هو خير ما يرام ، فمن به جنّة لا يرجى منه أي خير حتى إذا كان ممكنا وهو منه متمكن فضلا عن الدعاوي الشاردة المستحيلة غير الواردة في (آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

إذا فاتّباعه خروج عن العقلية الانسانية ، وسنة الآباء القدامى! تحذير خطير يتحذر منه كل مسامح عن عقله ، متاجر بانسانيته الحرة البالغة.

هنا ـ ولما لا يجد نوح منفذا إلى هذه القلوب المتحجرة ـ يستنصر ربّه لكي يهديه سواء السبيل :

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ٢٦.

وهذه آخر المطاف من تصبّره على أذاهم ، وتحمّله لظاهم طول الف سنة الا خمسين عاما ، وقد تكون اجمالا عن تفاصيل دعواته لربه طول هذه المدة كما في آيات عدة :

٢٣٨

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١١٨) (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٧١ : ٢٧) وذلك بعد ما أخبره ربه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١١ : ٣٤).

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ٢٧.

(اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) : رقاباتنا ، كما تناسب صناعة فلك النجاة عن البحر اللجي «ووحينا» فقد كانت هندسة الفلك تماما وصناعته بوحي الله ، إذ لم يكن نوح صانع الفلك ، ولا ان مصنوع الإنسان دون وحي يتمكن من الإنجاء في هذه الهلكة الشاملة ، فليكن إذا صنع الفلك (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) (١١ : ٤٢) (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (٥٤ : ١٤).

أترى فلكا تصنع بأعين الله ووحيه ، وهي تجري بأعين الله ، أتراها تغرق او تتكسر في موج كالجبال والله ربّانه!

(فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بغرقهم ودلالة عليه بإمارة عجيبة خارقة العادة كنفس الغرق الجماعي ، (وَفارَ التَّنُّورُ) فوران ماء الغرق من تنور النار دون سائر التنور المؤوّل ، ثم وما ندري اين هو (١)؟

__________________

(١) قيل انه تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح واختلف في مكانه فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كنده وكان نوح (عليه السلام) عمل السفينة في وسط المسجد ، وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردة وقيل بالهند. ـ

٢٣٩

(فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ) اسلك (أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) : امرأته وابنه (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) رسالة الله وعباد الله ، سواء أكانوا من أهلك ام سواهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) كلمة واحدة لا رجعة فيها.

ولان السلوك هو النفاذ في الطريق ، وهذه الفلك كانت طريق النجاة ، إذا «فاسلك» لا تعني ـ فقط ـ الإدخال ، وانما التمكين والإنفاذ لكامل الإنقاذ.

ثم «من كلّ» تعني من كلّ الخليقة الا الناس ، ام كلهم لمكان الاستثناء : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) الا ان «أهلك» قبلهم يؤيد الأول ، إذ كان يكفي الاستثناء دون ذكر اهله ، ان كانوا معنيين في (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ).

وترى (أَهْلَكَ إِلَّا ..) هم فقط كانوا ناجين ، فلم يؤمن طيلة الف سنة إلا خمسين عاما الا اهله الثمانون ، الا امرأته وابنه كانا من الغابرين؟

عله نعم حيث (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٣٧ : ٧٦) (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢١ : ٧٧).

وقد يعني «اهله» اهله نسبيا وسببيا إلا من سبق ، واهله ايمانيا كما تدل عليه (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)

__________________

ـ ثم قيل ان التنور هو وجه الأرض عن ابن عباس ام هو تنور الشمس ونورها طلوعها عن علي (عليه السلام) ، ام هو الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء اليه عن الحسن ولكن هذه التنانير خارجة عن التنور المعروف لغويا ، ولو كان كل يراد لاتي بلفظه الخاص.

٢٤٠