الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

الْخَيْراتِ) دنيا وعقبى ، دون مسارعة في اموال وبنين إلا ما يقدمونه في سبيل الله ، (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) دون «إليها» فقط ، بل «لها» حيث ان ذلك السباق لزام حياتهم فهم غامرون فيها ليل نهار ما عاشوا ، لا يهمهم إلا ان يسبقوا الرفاق في ذلك السباق.

ام هم لأجل الخيرات سابقون في كل ميادين السباق ، دون ما يسارع لها غيرهم وهم فيها متصارعون غامرون.

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ٦٢.

لا نكلفهم في سباقهم هذه الا وسعهم دون عسر ولا حرج ، فكلّ يعتقد حسب وسعه دون عسر ولا حرج ، وكلّ يعمل حسب وسعه دون عسر ولا حرج.

وكما «لا نكلف» يعم اصل التكليف الخارج عن الوسع ، كذلك الحالات الاستثنائية للاحكام الميسورة حيث تنقلب فيها التكاليف معسرة او محرجة ، كما وان «نفسا» تؤيد ذلك الشمول.

«ولدينا» علما لدنّيا نعلم عسرهم ويسرهم ، وسائر الشهود الرسالية والملائكية والعضوية والأرضية «كتاب» استنسخناه : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩)(كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) بسبب الحق الثابت الذي حصل ، وبسبب الحق عند الله ، وبمصاحبة الحق الذي يحمله الكتاب (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في ذلك النطق الشهادة ، نطق القالة ونطق الصورة ونطق السيرة المستنسخة المسجّلة في سجلّات الأعمال والأحوال والأقوال.

ولقد كان يحمل علي بن الحسين (عليه السلام) غلمانه قائلا «ارفعوا

٢٦١

أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين (عليه السلام) ربك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها فاذكر ذل مقامك بين يدي ربك الذي لا يظلم مثقال ذرة وكفى بالله شهيدا ، فاعف واصفح يعف عنك المليك ..» (١).

فليس نكرانهم لأنهم كلّفوا فوق السعة معرفيا .. وعمليا فهم معذرون :

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) ٦٣.

هذه صفات المؤمنين وحالاتهم ، وأما المسارعون في خلافها فهم معاكسون لهم تماما (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) الذي ذكرناه لهؤلاء ، وفي «هذا» القرآن الذي يذكرهم عن غفلتهم فهم غامرون في لجج الجهالة ، خامرون عقولهم بخمر الغفلة «و» الحال ان (لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الذي يعمله المؤمنون ، ومن دون ذلك الذي وصفناه لهم ، غمرة هامرة خامرة ليس لهم من دونها شاعرة الا شاغرة ، أولئك هم في غمرة المسارعة في الخيرات ، وأولاء في غمرة الشهوات ، في حيرة تغمرها وغمة تسترها ، حيث الغمرة هي ما وقع الإنسان فيه من امر مذهل ، وخطب موغل ، مشبه بغمرات المياه التي تغمر الواقع فيها وتأخذ بكظم المغمور بها.

هذا ، وقد تعني ضمائر الجمع الثلاث المؤمنين أنفسهم و «بل» إضراب عما ذكرت لهم من صفات تحدد مواقفهم الايمانية (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٤٧ في المناقب لابن شهر آشوب في مناقب زين العابدين (عليه السلام) وكان إذا دخل شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم حتى إذا كان آخر ليلة دعاهم ثم اظهر الكتاب وقال : يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤدبك؟ فيقرون اجمع فيقوم وسطهم ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم ...

٢٦٢

غَمْرَةٍ مِنْ هذا) المذكور لهم فلا تحدّ خيراتهم حدود (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الذي ذكرناه (هُمْ لَها عامِلُونَ) دون «هم عاملوها» فاللام تجعل اعمالهم الصالحة لزاما لغمرتهم.

ام تعني الآية كلتا الضفتين كلا بغمرته ، واين غمرة من غمرة واين مسارعة من مسارعة.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) ٦٤.

ولأن الضفّة الشريرة المسارعة في الشهوات موصوفة من قبل ب (أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ف «مترفيهم» هنا يقتسم الغامرين إلى مترفين وسواهم ، و «حتى إذا» تنهي الغمرتين إلى حين العذاب موتا وسواه ، فالغامرة المترفة تجئر ، والغامرة المؤمنة لا تجئر ، والجؤار هو صوت الوحش عند الفزع ، فهم الوحش مستوحشين من عذاب الله المفاجأ رجاء النصر ولكن :

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) ٦٥.

ولأنه (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فسلب النصر من عنده سلب لمطلق النصر ، وهكذا يخاطبون بعد غياب من ذكراهم ليكون أوقع في استيحاشهم تقريعا لهم وقطعا لآمالهم فانه :

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) ٦٦.

«قد كانت» مؤكّدة متواترة بينة «آياتي» المذكرة لكم عن غمرتكم (تُتْلى عَلَيْكُمْ) ليل نهار «فكنتم» على طول خطها «على أعقابكم» آباءكم الأولين ، وأعقابكم أنفسكم مدبرين «تنكصون» ، رجوع القهقري ، مرتجفين إلى جهّال وجهالات ، مسامحين عما عندهم من عقول وذكريات :

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) ٦٧.

«مستكبرين» عن سماع الآيات ، ام إذا سمعتهم فعن تدبرها

٢٦٣

والاعتبار بها «سامرا» : متحدثا بالليل ، ليلة الجهالة والشهوة ، ليلة الحيونة والاستكبار ، ليلة التقاليد العمياء ، دون ضوء من الاضواء آفاقية وانفسية ، حال انكم «تهجرون» هذيانا هاجرا للحق ، حاجزا عما يحق ان يسمع ويطبق ، مطلقون ألسنتكم بهجر القول وفحشه وأنتم محلّقون ـ حول أصنامكم في سامركم ـ بالكعبة

فلقد كان هؤلاء يرمون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظلام ، ويطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في نواديهم ، وهنا القرآن لما يجأرون يذكرهم بسمرهم الفاحش وهجرهم الطائش في الليل الأليل الدجى ، بهراء هم الهجى.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) ٦٨.

«أ» سمعوا (فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) حتى يعرفوا حقه الرسالي «ام» اعرضوا عنه لأنه أتى (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)؟ وقد أتاهم نفس ما أتاهم وزيادة ، فما هو بدعا من الرسل ولا قوله الرسالي بدع من القول!

وهم محجوجون ان لم يدّبّروا حيث أنكروا رمية في ظلام ، ومحجوجون ان تدبروا وأنكروا بحجة انه أتى ما لم يأت آباءهم الأولين وقد أتى!

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ٦٩.

«لم يعرفوه» منذ دعوته إذ لم يدّبّروا قوله ام هو بدع من القول ، «ام لم يعرفوه» رغم كافة الحجج الرسالية المحلقة عليه (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) رغم هذه الحجج الدامغة البارقة ، ام لم يعرفوه قبل رسالته فقد لبث فيهم عمرا من قبله أفلا يعقلون ، فقد عرفوه قبل بالامانة والصدق ، فهل الأمين الصادق مع الناس يتحول إلى خائن كاذب مع الله (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) فقد عرفوه سابقا وفي الحال بأحواله المصدّقة لكل حاله وقاله دون

٢٦٤

اي كذب وإدغال ، ثم لما جاءهم بما ينجيهم من غمرة الجهالة أنكروه.

ذلك وكما عرفه اهل الكتاب بما بشر به بمواصفاته في كتاباتهم ، ولمّا جاءهم كذبوه وجنّنوه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢ : ١٤٦) و ٦ : ٢٠).

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ٧٠.

وهذه طنطنة وغوغائية دعائية هي آخر المطاف لهم في تزييف موقف الرسالة ، ان «به جنة» إذ يقول ما لا نقول به ، ويعد ما لا نعرفه ، فبيننا وبينه حجاب المعرفة ، «بل» كل ذلك دعوى بلا حقيقة ولا برهان (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) بكلّ آياته وبيناته (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وأقلهم لا يعرفونه قصورا أو تقصيرا فهم له منكرون ، قصورا كالمستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فهم بله لا يميزون ، وتقصيرا كمن لا يفتشون عن الحق ، بغية أريحية الحياة ، أم عرفوه ولكنهم تركوه دون كراهية له نفسه ، وانما كراهية التوبيخ من قومهم وان يقولوا ترك دين آباءه.

هؤلاء هم منجرفون مع الهوى ، منحرفون إلى كل ردى ، يهوون ان يتّبع الحق أهوائهم ، كأنهم آلهة بأهوائهم الطائشة وعلى الحق ان يتبعهم حيث جعلوا آلهتهم أهواءهم فألهتهم عما يعنيهم :

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) ٧١.

«لو» تحيل ذلك الاتباع المفروض المرفوض في كل الحقول عند ارباب العقول ، فلو كان الحق ـ المطلق ، المعصوم عن كل زلل وخطل ـ موافقا لاهوائهم القاحلة الجاهلة ، لعاد كلّ إلى ضلاله وأوقع كلّ في بطله

٢٦٥

وكلاله ، حيث الحق يدعو إلى المحاسن والمصالح ، والأهواء تدعو إلى المساوئ والمقابح ، فلو اتبع الحق قائد الهوى لشمل الفساد وعم الاختلاط وخفضت أعلام الهدى ، ورفعت أعلام الردى.

ولا تعني «أهوائهم» فقط الشريرة منها التائهة ، بل والخيرة ايضا والعاقلة ، حيث المتّبع الصالح لادارة شؤون التكوين والتشريع هو الحق المطلق ، لا الحق الخاطئ كالعقول غير المعصومة ، فضلا عن الباطل المطلق ، ف «الحق» هنا هو الله ، والأهواء هي من غير الله عقولا ام أهواء سواها ، ف (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

اجل وفي اتباع الحق لسواه ـ ايّا كان ـ اختلال كافة الموازين والمقاييس في السماوات والأرض ومن فيهن ، وكما في تعدد الآلهة المدّبرة والمشرّعة.

فالحق المطلق واحد ثابت لا يتقلب في تغلّبه ، والأهواء عاقلة وسواها كثيرة متقلبة ، وبالحق الواحد يدبّر الكون كله تكوينا وتشريعا فلا ينحرف ناموسه لهوى تعترض ، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) الذي يذكّرهم عن قصورهم وتقصيرهم ، عن غفلتهم وغفوتهم ، ويذكرهم لما يتوجب عليهم في صالح حياتهم «فهم» أولاء الحماقى (عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)!

فالقرآن ذكر جملة وتفصيلا ، ذكر للفطر والعقول والقلوب ، ذكر عما نسيه أصحابها ام تناسوه ، وذكر لما ستر عنهم من فصائل المعارف وفضائلها وهم يطلبون ان يتّبع الذكر الحق وحقّ الذكر أهوائهم الخاملة غير الكاملة ، فحتى لو اتفقت أهوائهم العاقلة على شيء لم تكن لتأتي بالحق المطلق ، فضلا عن أهوائهم الجاهلة ، ام المختلقة في هذه او تلك كما هي الواقع فيها على أية حال ، فالفساد ـ إذا ـ آت من بعدين اثنين : قصور الأهواء ، وتضادها ، فليكن الحاكم المطلق هو الحق المطلق لا سواه.

٢٦٦

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ٧٢.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) رزقا على أتعاب الدعوة ، وليس يسأل ، وذلك تذكار لهم أنه يدعوهم إلى الله دون ان يسأل خرجا (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فكل الموانع في تقبّل الدعوة ـ مادية ومعنوية أما هيه ـ زائلة ، وكلّ الدوافع لتقبلها حاصلة ماثلة:

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ٧٣.

«ان واللام» تأكيدان اثنان لانحصار هذه الدعوة إلى صراط مستقيم ، وانحسارها عما يبعده او يميل عنه ، وقد ذكر لنا ان نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقي رجلا فقال له اسلم فتصعّب له ذلك وكبر عليه فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث فلقيت رجلا تعرف وجهه وتعرف نسبه فدعاك إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه؟ قال : نعم ـ قال : فوالذي نفس محمد بيده انك لفي أوعر من ذلك الطريق لو كنت فيه واني لادعوك إلى أسهل من ذلك الطريق لو دعيت اليه ..» (١).

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) ٧٤.

فالصراط المستقيم هو صراط المبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد ،

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٣ ـ اخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : ما فيه عوج ذكر لنا ... وذكر لنا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقى رجلا فقال له اسلم فصعده ذلك فقال له نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرأيت فتييك أحدهما ان حدث صدقك وان أمنته ادى إليك والآخر ان حدث كذبك وان ائتمنته خانك قال : بلى فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا أمنته ادى الي قال نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذاكم أنتم عند ربكم.

٢٦٧

فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم ناكبون عن ذلك الصراط حيث المعاد هو مصير المبدء والرسالة ، وهما مسير المعاد ، وكما المعاد مصيرهما.

ولان الصراط صراطان : في الدنيا والأخرى ، فهم ناكبون مائلون عنهما ، فساقطون فيهما إلى شفا جرف هار (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ٧٥.

«لو» هنا تحيل رحمة الله لهم إذ صدوا على أنفسهم كل منافذها ، ثم لا يرجى منهم الهدى بكشف الضر عنهم ، بل لجوا في طغيانهم المتعرق في حياتهم يعمهون ، فلما ذا نرحمهم وهي عذاب على عباد الله الذين يظلون ويضلون تحت رحمة طغيانهم العمه.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) ٧٦.

هؤلاء الصلتون الصلبون الصامدون في كفرهم لا يزحزحهم عن ضلالهم لا رحمة بكشف الضر عنهم ولا عذاب (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) تخضعا (١) له عن كبرهم (وَما يَتَضَرَّعُونَ) استغفارا

__________________

(١) في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية فقال : الاستكانة هي الخضوع والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما وفي المجمع وروي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نابتة عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع الايدي في الاستكانة قلت وما الاستكانة؟ قال : اما تقرء هذه الآية (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما وفيه قال ابو عبد الله (عليه السلام) الاستكانة الدعاء وفي الدر المنثور ٥ : ١٤ اخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب في الآية اي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا ولو خضعوا لله لاستجاب لهم.

٢٦٨

عما كانوا يعملون ، والإنسان أيا كان يتحول حال الرحمة والعذاب إلى غير حاله ، ففريق يشكرون حال الرحمة ، وآخرون يستغفرون حال العذاب والزحمة ، واما هؤلاء المناكيد فكأنهم ليسوا من الناس ، بل هم نسناس وسواس خناس دائبون في كفرهم بآله الناس :!

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) ٧٧.

ان أبواب العذاب اربع ، اثنان في الاولى وآخران في الاخرى ، فعذاب الاستئصال وما دونه يوم الدنيا ، وأشد منه يوم الرجعة ثم أشد منهما يوم البرزخ ، ثم الأشد في الاخرى ، و (باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قد لا يعني الاولى في الاولى ، لمكان (أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) من ذي قبل ومواصفته ب «شديد» والاولى أيا كان هي بجنب سائر العذاب غير شديد ، و (حَتَّى إِذا فَتَحْنا) تضرب إلى المستقبل ، ولان ضمير الجمع في «عليهم» يعم كافة الطغاة في تاريخ الرسالات فليكن العذاب الشديد يوم الرجعة (١)(إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) حزنا معترضا من شديد البأس.

واما يوم القيامة فكل أبواب العذاب مفتوحة عليهم وعلى سواهم من اهل الجحيم ، ويوم البرزخ لكلّ باب تناسبه ، وليس هناك باب جماهيرية تفتح على ذلك الجمع الطاغي.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ٧٨.

«الافئدة» هي القلوب المتفئدة ، ذاتية بأنوار الفطرة ، وعارضية بما

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٥٠ عن المجمع قال ابو جعفر (عليه السلام): هو في الرجعة.

٢٦٩

تستوردها بالسمع والأبصار ظاهرية وباطنية من الآيات الآفاقية ، والشكر على هذه النعم الثلاث هو استعمالها فيما انشأت له من مزيد المعرفة ولكن (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) عدّة بين الجموع (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) وعدة في هذه القلة حيث لا يشكرونه كلهم كما يحق ويستطيعون ، فالشاكرون تماما هم أقل قليل ، والشاكرون بعضا هم القليل ، والكافرون هم الكثير.

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ٧٩.

الذرء هو الإظهار ف (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أظهركم أحياء (فِي الْأَرْضِ) ثم يخفيكم إذ يميتكم ثم (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ٨٠.

فكما له اختلاف الليل والنهار أن يأتي كلّ خلف الآخر وخلفته وفي كل حكمة بالغة ، كذلك له اختلاف الإحياء والإماتة كلّ يأتي خلف الآخر حسب الحكمة البالغة وهي أحرى واعقل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وما هو الفارق بين الاختلافين الا موادهما؟ فحين نعيش اختلاف الليل والنهار لحكمة معيشية دنيوية فانية ، فهلا نعيش اختلاف الموت والحياة لحكمة معيشية اخروية باقية (أَفَلا تَعْقِلُونَ)

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ٨١ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ٨٢ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ٨٣.

انهم لم يؤمنوا بعد هذه الدلائل الباهرة والحجج الظاهرة ولم يقولوا آمنا «بل» قالوا كلمة الكفر ، ولم تكن قولتهم من عند أنفسهم (بَلْ قالُوا مِثْلَ

٢٧٠

ما قالَ الْأَوَّلُونَ) ـ (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) قالوا قيلة الاستبعاد لبعثهم بعد إذ كانوا ترابا وعظاما ، وهو الذي خلقهم أول مرة ، ثم هو يخلقهم وهو أهون عليه (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) الوعد «من قبل» طول تاريخ الرسالات (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وخرافات ملفقة من «الأولين»

لقد كان مشركو العرب مضطربي العقيدة ومتناقضيها ، فهم حين لا ينكرون الله خالق الكون يشركون خلقه به ، وحين لا ينكرون انه خالق الحياة ينكرونها بعد الموت ، ولذلك هنا يستجوبهم فيما هم معترفون ، ثم يتبناه لثتبيت ما هم منكرون :

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ٨٤.

لمن هي ومن فيها ، ملكا وملكا وتدبيرا أصيلا.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ٨٥.

أفبعد ذلك الاعتراف الجاهر لا تذكّرون؟.

ان مالك الكون هو ـ فقط ـ مدبّره حسب الحكمة البالغة ، دون شريك ولا معين ولا مشير ، وقضية الملكية والمالكية الصالحة إصلاح المماليك وفصل القضاء بينهم فلا بد إذا من يوم لفصل القضاء.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) ٨٧

و (الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) هو هنا عرش العلم والقدرة والتدبير والتقدير ، وبصيغة اخرى هو عرش الربوبية المحلّقة على كافة شؤون السماوات السبع ومن فيهن ومن بينهن ، وأرضنا منها.

٢٧١

«سيقولون» ان هذه الربوبية «لله» مهما اعتقدوا في ربوبيات هامشية لأربابهم فانها ايضا لله حيث هي أنفسها مخلوقة لله (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله حيث تشركون به وتنكرون وحيه ويوم حسابه.

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ٨٩.

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ) علما وقدرة وأية سلطة «ملكوت» حقيقة الملك والملك ل «كل شيء» فهو املك لكل شيء منها لأنفسها ، فناصية كل شيء ـ وما به الشيء شيء بأسره ـ ليس إلا بيده لا سواه ، (وَهُوَ يُجِيرُ) وينقذ كل شيء مستجيرا وسواه ، حيث الفقر هو ذات كل شيء ، والأخطار محلّقة على كل شيء فهي بحاجة ذاتية إلى إجارة من الأخطار والأضرار (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) حيث لا مجير عليه كما لا مجير له إذ لا أخطار عليه ولا يد فوق يديه.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ٩٠.

فليس هنا لك قصور منا ولا تقصير في بيان الحق (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ) المطلق دون غبار عليه (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في دعاويهم ، وحتى في اعترافاتهم بهذه الحقائق فانها تضاد واتخاذهم آلهة سواه ، وعبادتهم لما سواه ، بل وتركهم إياه كأن لا إله الا ما تهواه أنفسهم مما اتخذوه آلهة سواه :

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى

٢٧٢

عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً

٢٧٣

ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

٢٧٤

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٩١ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ٩٢.

كون إله من دون الله لا يخلو من اتخاذه إلها من قبل الله ولدا وسواه ، ام انه إله كما الله على سواء ، ولكن (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) اتخاذا بالولادة إذ لم يلد ، ولا اتخاذا تشريفيا إذ لا شرف لعباد الله المقربين اشرف من العبودية ، والمجاز مجاز إذا أمكنت الحقيقة ، فلأن حقيقة الولادة الذاتية مستحيلة في الله فكذلك مجازها تبنيا لبعض خلقه.

فالولد الحقيقي جزء من حقيقة الوالد ، فألوهية الوالد تقتضي الوهية لولده ، ثم للولد التشريفي ألوهية مخوّلة مهما لم تكن له ذاتية ولادية ، وهما منفيان لأي احد تجاه الله.

وهنا تبقى الوهية ثالثة هي ذاتية غير ولادية وكما لله ، تنفيها عن غير الله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) وبرهان النقض (إِذاً لَذَهَبَ ...) يتمحور الالوهية الذاتية ، وعلى هامشها الولادية ام والتشريفية.

إذا لو (كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) واستقل هو بنفسه بما خلق ، وانفصل النظام وانفصم ، فإن لكلّ شأنا غير شأن الآخر ، ولكلّ خلق يريده سوى ما يريده الآخر ، فان انقسم الخلق بينهما ولكلّ نصيب ، انقسم النظام ، وان تعارضا في كل خلق لتناقض الخلق واستحال النظام ، ف «إذا شاء واحد ان يخلق إنسانا شاء الآخر ان يخالفه فيخلق بهيمة ، فيكون الخلق منهما على مشيتهما واختلاف ارادتهما إنسانا وبهيمة في حالة واحدة ، فهذا من أعظم المحال غير موجود ، وإذا أبطل هذا ولم يكن بينهما اختلاف بطل الاثنان وكان واحدا ، فهذا التدبير واتصاله قوام بعضه ببعض

٢٧٥

يدل على صانع واحد ..» (١).

فهذه الآية تضم حججا ثلاثا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) ـ (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) ـ (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).

فالثاني لزوم ذهاب كل آله بما خلق مستقلا بما خلقه ، يعرفه حسب ناموس خاص ، فيصبح لكلّ جزء من هذا الكون ، او لكلّ فريق من الخلق ، ناموس خاص لا يلتقي فيه بناموس عام يصرف الجميع ، وبذلك تنفصم عرى الوحدة في التدبير ويختل النظام رغم وحدة التدبير واتصاله.

والثالث لزوم علو كلّ على زميله استقلالا بعرش الألوهية وقضاء على نقص الشركة ، علوا على ألوهيته ذاتا ام صفات او افعالا ، استقلالا بما هو قادر عليه.

والقول اننا نفرض وحدتهما في الارادة فلا يتنازعان ، يرده ان الوحدة المطلقة قضيتها الوحدة من جميع الجهات فأين الاثنان ، فحتى لو صحت وحدة الارادة لوحدة العلم والقدرة والحكمة ، نتساءل أليس بينهما اي فارق ذاتي ام صفاتي؟ ففي فرض وجود الفارق ـ وهو لزام التعدد ـ نقول ان كان الفارق لكلّ نقصا فهما ناقصان ، وان كان لكلّ كمالا فكلّ يفقد كمالا يجده الآخر ، فهما ـ إذا ـ ناقصان من وجه ثان ، فليسا إلهين اثنين.

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١١٨ عن تفسير القمي في الآية ثم رد الله عز وجل على الثنوية الذين قالوا بالهين فقال : ما اتخذ الله ... قال قال : لو كان الهين كما زعمتم فكانا يختلفان فيخلق هذا ولا يخلق هذا يريد هذا ولا يريد هذا وليطلب كل واحد منهما الغلبة لنفسه ولا يستبدل كل واحد بخلقه وإذا أراد ... لطلب كل واحد فيهما العلو وإذا شاء .. وهو قول الله عز وجل (مَا اتَّخَذَ اللهُ ...) وقوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

٢٧٦

وفي فرض عدم الفارق أيا كان فلا تعدد أيا كان (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الآلهة الا الله كما «لفسدتا» السماوات والأرض (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من اي شريك بثالوثه المنحوس.

(عالِمِ الْغَيْبِ) وهو كل ما يغيب عن سواه حاضرا ام سوف يخلق «والشهادة» وهي خلافه ، ام «الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان» (١) وهما له شهادة على سواء ، فلو كان معه إله لعلمه قبل خلقه ، ولو كان اتخذ ولدا ام آلها سواه لكان يعلمه فيعلمه خلقه حتى يتخذوه معه آلها (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ٩٣ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ٩٤.

دعاء يعلمها الله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين يريه ما يوعدون ألّا يجعله في القوم الظالمين ، لا ظالما كما هم ولا معينا لهم كما الأعوان ، ولا مشمولا لما يوعدون كفتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، فهي دعاء لمفاصلة تامة بينه وبينهم في دافع الظلم وواقعه وواقعته الموعودة للظالمين.

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) ٩٥.

تعجيلا لما نعدهم حتى ترى ، ام تأجيلا لأجلك حتى تبقى فترى آجل وعدهم ، وقد يكفيك وعدنا عن رؤيته وانما عليك دفع السيئة بالتي هي

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١١٨ في معاني الاخبار ابن بابويه بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : عالم الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان ، أقول : ما قد كان هو شهادة له ككل لمكان حضوره وما لم يكن هو غيب عن الحضور كونيا ولكنه شهادة لحضوره علميا.

٢٧٧

احسن حتى ترى ما ترى ام يقع ما لا ترى :

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) ٩٦.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٤١ : ٣٤).

فواجب الدفاع عن النفس او النفيس ام راجحه ، يفرض الطريقة التي هي احسن ، فقد تكون عفوا وسماحا فينقلب السيء حسنا ، ام تأجيلا وأنت ـ بينك وبين الأجل الصالح ـ تعامل بالتي هي احسن عله يرجع عن غيه وضلاله ، ام تستجيش كافة المحاولات الممكنة المعقولة لدفع السيئة عنك وعمن يسيء إليك ام من يسيء إلى سواك ام إلى نفسه او إلى شرعة الله ككل (١).

وفي آخر المطاف حيث لم تبق لك باقية من الطرق الحسنى فقضاء على عامل السوء اجتثاثا لمادة الفساد ان استطعت ، والا ف «التي هي احسن التقية» (٢).

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) من أوصافه خارفة جارفة.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٥١ في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : بعث امير المؤمنين (عليه السلام) الى بشر بن عطارد التيمي في كلام بلغه فمر به رسول امير المؤمنين (عليه السلام) في بني اسد واخذه فقام اليه نعيم بن دجاجة الاسدي فأفلته فبعث اليه امير المؤمنين (عليه السلام) فأتوه به وامر به ان يضرب فقال نعيم اما والله ان المقام معك لذل وان فراقك لكفر ، قال : فلما سمع ذلك منه قال له : قد عفونا عنك ان الله عز وجل يقول (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) اما قولك : ان المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها واما قولك : وان فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها فهذه بهذه فأمران يخلى عنه.

(٢) المصدر في محاسن البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : التي ...

٢٧٨

«ادفع» كما تستطيع بمن معك من المؤمنين همزات الشياطين ، مستعيذا في ذلك برب العالمين :

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ٩٧ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ٩٨.

صحيح ان «ادفع ـ وقل» خطابان للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنهما لا يخصانه إذ ليسا من اختصاصاته كحامل الرسالة.

فهما كسائر الخطابات القرآنية يعمان كافة المكلفين مهما توجه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كبداية ، ولكنه منطلق الخطابات كرسول ، الا فيما قرنت بقرينة قاطعة تخصها به كفرض صلاة الليل وسماح الزواج اكثر من الأربع واضرابهما من اختصاصاته.

و «همزات» جمع همزة ، وهي شدة الدفع والهزّ والأزّ كما هي الاغتياب : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) وقد تعنيهما الهمزات هنا لمكان الإطلاق ، وقرنها ب «يحضرون» فالاستعاذة إذا تحلّق على الحالتين للشياطين «غيابا» (١) وحضورا ، وهم ـ ايضا ـ أعم من الشياطين الغيّب والحضور ، فان لهم دفعا إلى الشرور ومنعا عن الخيرات غيبّا وحضورا.

ولقد «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع : «بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وان يحضرون» (٢) «فانه لا

__________________

(١) في تفسير القمي في الآية قال : ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين ، أقول : فحضورهم غير ذلك الهمز مهما اشتركا في الدفع.

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٥ ـ اخرج جماعة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن حده قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

٢٧٩

يضرك وبالحري ان لا يضرك» (١).

و «كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول بعد استفتاح الصلاة : لا اله الا الله ثلاثا ـ الله اكبر ثلاثا ـ اللهم اني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه ، فقيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما همزه؟ قال : الموتة التي تأخذ ابن آدم اي الجنون الذي يأخذ ابن آدم ، قيل فما نفثه؟ قال : الشعر ، قيل فما نفخه قال : الكبر(٢).

وهكذا تكون همزات الشياطين حيث تجنّن والجنون فنون تختصرها معصية الله حيث يهز الإنسان هزا ويأزه أزا ودفعا إليها.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ١٠٠.

ترى وبما ذا تتعلق «حتى» هذه الغائية؟ انها متعلقة ب «أعوذ ـ أعوذ» فالاستعاذة من الشيطان هي ما دام هو حي يشيطن ويهمز ، ومتعلقة بما قبلهما ما يصلح تعلقها به ، ويجمعه كفر الشياطين ونكرانهم وأقاويلهم ، وان تلك الحالة النكدة دائبة لهم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ..).

ثم ومجيء الموت هو واقعه ، فهو يقول بعد انقباض روحه وانتقاله عن الحياة الدنيا (رَبِّ ارْجِعُونِ) حيث «إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيحول بين عينيه فعند ذلك يقول : (رَبِّ

__________________

(١) المصدر اخرج احمد عن خالد بن الوليد انه قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اني أجد وحشة قال : إذا أخذت مضجعك فقل أعوذ ... فانه لا يضرك ..

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ١١٩ قال الحسن كان عليه السلام يقول ...

٢٨٠