الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ)(١).

و «ارجعون» هنا حيث تعني الرجوع إلى الحياة الدنيا ، دليل قاطع لا مرد له على الحياة بعد الموت ، وهي المسماة بالحياة البرزخية كما هي تصريحة الآية (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

ولماذا «ارجعون» جمعا والرب واحد كما هو معترف به «رب» مهما مات مشركا ، حيث الموت يكشف كافة الحجب مهما لم ينفع المحجوب يوم الدنيا؟

علّه خطاب لملائكة الموت بعد نداءه الرب : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٨ : ٥٠).

(قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ..) وقد يخاطب الربّ نفسه : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٣٢ : ١٢) (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧).

«لعلي» ترجيا لإصلاح ما فات (أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) من حياة التكليف (صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فليس (فِيما تَرَكْتُ) فقط الصالحات المتروكة ، حيث الطالحات المفعولة لها دور اخطر ، وخطر اكثر ، ولا تشملها (فِيما تَرَكْتُ).

«صالحا» هو صالح الفعل وصالح الترك بديلا عن الطالح فيهما فيما تركت من حياة التكليف ، وكما تعنيه ـ ايضا ـ «نعمل صالحا غير الذي كنا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٥ ـ اخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٨١

نعمل» حيث تعم عمل الواجبات وترك المحرمات فكلّ عمل مهما اختلفا سلبا وإيجابا.

وقد يعني (فِيما تَرَكْتُ) الفرصة التي تركها ، والمال والبنين والمنال وكل حال من الأحوال ، ام (فِيما تَرَكْتُ) من التكاليف سلبية وايجابية اما هيه مما ترك.

والجواب كلمة واحدة «كلا» بكل تقريع (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) ليس وراءها واقع لا من قائلها لو أرجع ، ولا من الله حيث لن يرجعه ، وكل ما في الأمر (وَمِنْ وَرائِهِمْ) بعد الموت «برزخ» بين الحياة الاولى والاخرى فهو الحياة الوسطى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) بأرواحهم وأجسادهم عن أجداثهم.

وي كأن المشهد معروض بنفسه الآن كالعيان ، مشهد الاحتضار والانتصار للرجوع ، ثم الرد القارع كأنه يسمع الآن (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) لا مدلول وراءها ، كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب اي رصيد (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٦ : ٢٨) ولا من الله اية اجابة الا عذاب شديد!.

ولماذا «من وراءهم» والبرزخ أمامهم حيث يستقبل الموتى؟ علّ الوراء كناية عن الحيطة البرزخية بهم كما (كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (١٨ : ٧٩) اضافة إلى انهم لا يستقبلون ذلك البرزخ خيرة منهم ولذلك يقولون (رَبِّ ارْجِعُونِ) إذا فالبرزخ هو الذي يلحقهم كمن يطلب الفارّ من وراءه ، وهو لاحقه وهم عنه مدبرون.

وقد يعني البرزخ ـ فيما عناه من حياة وسطى ـ الحاجز المانع ، فهو في هذا البين محجوز عن الرجوع إلى الحياة الدنيا ، كما هو محجوز عن البعث إلا في يومه.

٢٨٢

وترى «كلّا» تعم كل الموتى؟ فأين الرجعة يومها؟ الراجعون المؤمنون يوم الرجعة لا تشملهم الآية حيث تخص الكافرين واضرابهم من المجرمين ، والراجعون الكافرون هم بعضهم ولا تنفعهم تلك الرجعة بل وتضرهم ، ولا تعني «كلّا» عدم الرجوع مطلقا ، وانما رجوعا فيه (أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) ثم «كلا» وان كانت عامة أو مطلقة فهي مخصصة أو مقيدة بمن يرجعون حسب آيات وروايات.

فالبرزخ البرزخ وما ادراك ما البرزخ؟ «هو امر بين أمرين وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة ، وهو قول الصادق (عليه السلام): والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ ، واما إذا صار الأمر إلينا فنحن اولى بكم» (١) و «ان القبر إما روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النار» (٢).

فيا لله انهم «سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون ، وضمارا لا يوجدون ، لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٥٣ في تفسير القمي قال قال : البرزخ ... وفيه عن الصادق (عليه السلام) البرزخ هو القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة والدليل على ذلك قول العالم (عليه السلام) والله ما نخاف عليكم الا البرزخ وفيه عن الكافي عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) اني سمعتك وأنت تقول : كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟ قال : صدقتك كلهم والله في الجنة ، قال قلت جعلت فداك ان الذنوب كثيرة كبار فقال : اما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع او وصي النبي ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ قلت : وما البرزخ؟ فقال : القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة.

(٢) المصدر عنه وقال علي بن الحسين عليهما السلام ...

٢٨٣

يحزنهم تنكر الأحوال ، ولا يحفلون بالرواجف ولا يأذنون للقواصف ، غيبا لا ينتظرون وشهودا لا يحضرون ، وانما كانوا جميعا فتشتتوا وألافا فافترقوا ، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم ، عميت اخبارهم وصمت ديارهم ، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا ، وبالسمع صمما ، وبالحركات سكونا ، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ، جيران لا يتأنسون وأحباء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التعارف ، وانقطعت منهم اسباب الإخاء ، فكلهم وحيد وهم جميع ، وبجانب الهجر وهم أخلاء ، لا يتعارفون لليل صباحا ولا لنهار مساء ، اي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا ، فكلا الغايتين؟؟؟ أدت لهم إلى مباءة ، فأتت مبالغ الخوف والرجاء ، فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا» (١).

وهذه صفتهم في أجسادهم دون أرواحهم بأبدانهم المثالية فإنهم فيها احياء ، «ولو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا مجتمعين يتحادثون» (٢) ف «ان الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تتعارف وتتساءل» (٣).

__________________

(١) المصدر عن نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام) ....

(٢) نور الثقلين ٣ : ٥٥٧ عن الكافي بسند متصل عن حبة العرني قال : خرجت مع امير المؤمنين (عليه السلام) الى الظهر فوقف بواد السلام كأنه مخاطب لأقوام فقمت لقيامه حتى أعييت ثم جلست حتى مللت ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولا ثم جلست حتى مللت ثم قمت وجمعت ردائي فقلت يا امير المؤمنين (عليه السلام) اني قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة ، ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي : يا حبة ان هو الا محادثة او مؤانسة قال قلت يا امير المؤمنين وانهم لكذلك؟ قال : نعم ولو كشف ... فقلت؟؟؟ سام ام أرواح فقال أرواح وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض الا قيل لروحه الحقي بوادي السلام وانها لبقعة من جنة عدن.

(٣) المصدر عن الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ان ـ

٢٨٤

انهم يعيشون في البرزخ «في أبدان كأبدانهم» (١) «في روضة كهيئة الأجساد في الجنة» (٢) «في قالب كقالبه في الدنيا (٣) والمؤمنون «في

__________________

ـ الأرواح ... فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فانها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان وما فعل فلان فان قالت لهم : تركته حيا ارتجوه وان قالت لهم : قد هلك قالوا قد هوى هوى.

وفي البحار ٦ : ٢٣٤ عن المحاسن ابن محبوب عن ابراهيم بن إسحاق الجازي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) اين أرواح المؤمنين؟ فقال : أرواح المؤمنين في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويتزاورون فيها ويقولون ربنا أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا قال قلت فأين أرواح الكفار؟ فقال : في حجرات النار يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويتزاورون فيها ويقولون ربنا لا تقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا.

(١) في البحار ٦ : ٢٦٨ الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) جوابا عما يروون ان أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش فقال : لا ـ المؤمن أكرم على الله من ان يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٥٥٩ ح ١٣٩ عن الصادق (عليه السلام) ردا على من قال أرواح المؤمنين في حواصل طيور وفي البحار ٦ : ٢٦٩ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف وتسأل ..

(٣) المصدر عن الكافي عن يونس بن ظبيان قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال :

ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ فقلت : يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال ابو عبد الله (عليه السلام) سبحان الله المؤمن أكرم على الله من ان يجعل روحه في حوصلة طير يا يونس إذا كان ذلك أتاه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والملائكة المقربون عليهم السلام فإذا قبضه الله عز وجل صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا أقول والاخبار الدالة على الأجساد المثالية كثيرة ومن مظانها في بحار الأنوار في باب احتجاج امير المؤمنين على أبي بكر وفي باب غصب الخلافة وفي أبواب المعجزات من أراد تفصيلا اكثر فليراجعها

٢٨٥

قوالب من نور» (١) فالكافرون في قوالب من ظلمة.

«والروح جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا» (٢) ثم يلبس بعد الموت قالبا خفيفا يتسمى البدن البرزخي ، او الروح المجسم ام الجسم المروّح وهو الجسم الذي يطير به الروح ويسير في الرؤيا

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ١٠١.

__________________

(١) البحار ٦ : ٢٣٧ البرسي في مشارق الأنوار عن الفضل بن شاذان من كتاب صحائف الأبرار ان امير المؤمنين (عليه السلام) اضطجع في نجف الكوفة على الحصى فقال قنبر يا مولاي الا افرش لك ثوبي تحتك؟ فقال : لا إن هي الا تربة مؤمن او مزاحمته في مجلسه ، فقال الأصبغ بن نباتة اما تربة مؤمن فقد علمنا انها كانت او ستكون فما معنى مزاحمته في مجلسه؟ فقال : يا بن نباتة ان في هذا الظهر أرواح كل مؤمن ومؤمنة في قوالب من نور على منابر من نور.

(٢) المصدر عن الكافي في حديث الزنديق الذي سأل الصادق (عليه السلام) عن مسائل إلى ان قال اخبرني عن السراج إذا انطفأ اين يذهب نوره قال : يذهب فلا يعود ، قال : فما أنكرت ان يكون الإنسان مثل ذلك إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع اليه ابدا كما لا يرجع ضوء السراج اليه إذا انطفأ؟ قال : لم تصب القياس ان النار في الأجسام كامنة والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد فإذا ضرب أحدهما بالآخر سطعت من بينهما نار تقتبس منها سراج له الضوء فالنار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب والروح جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا ليس بمنزلة السراج الذي ذكرت ، ان الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف وركب فيه ضروبا مختلفة من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك هو يحييه بعد موته ويعيده بعد فناءه ، قال : فأين الروح قال. في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث ، قال : فمن صلب اين روحه؟ قال : في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض ، قال : أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه ام هو باق؟ قال : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها وذلك اربعمائة سنة تسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين.

٢٨٦

وهذه هي نفخة الإحياء ـ وقبلها نفخة الاماتة. (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) إذ لا تنفع الأنساب ولا الأسباب ولا الأحباب الا نسب الايمان وسببه (وَلا يَتَساءَلُونَ) هم عن أنسابهم إذ لا تنفع اللهم الا نسب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهره وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ان الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري» (١) وطبعا على شريطة الايمان فيصبح نورا على نور ، «وان كان النسب مقطوعا الا ما وصله الله بالإسلام» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٥ ـ اخرج احمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... واخرج البزاز والطبراني والحاكم والبيهقي والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة الا سببي ونسبي واخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا نسبي وصهري وفي نور الثقلين ٣ : ٥٦٢ عن تفسير القمي حدثني أبي عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) ان صفية بنت عبد المطلب ، مات ابن لها فأقبلت فقال لها عمر : غطى قرطك فان قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تنفعك شيئا ، فقالت له : هل رأيت لي قرطا يا ابن اللخناء ، ثم دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبرته بذلك وبكت فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنادى الصلاة فاجتمع الناس فقال : ما بال أقوام يزعمون ان قرابتي لا تنفع لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم.

أقول عجبا لابن الخطاب كيف ينكر ذلك وهو من رواة حديث النسب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!

(٢) نور الثقلين ٣ : ٥٦٤ في اصول الكافي عن امير المؤمنين (عليه السلام) جواب لرسالة طلحة والزبير اليه وفيه : زعمتما أنكما أخواي في الدين وابنا عمي في النسب ، فاما السبب فلا أنكره ، وان كان النسب مقطوعا إلّا ما وصله الله بالإسلام.

٢٨٧

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٠٢ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) ١٠٣.

والموازين هناك هي موازين الايمان والعمل الصالح ، موازين العلم والمعرفة والنية الصالحة وعلى حد ما يروى عن صادق آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الموازين هي موازين الانسانية.

واما العوان بين أولاء وهؤلاء الذين ثقلت بعض موازينهم وخفت الاخرى ، فلا هم مفلحون تماما ، ولا هم خالدون في النار تماما ، وانما لهم عوان الجزاء ثوابا وعقابا كعوان الموازين ولا يظلمون فتيلا.

وكضابطة شاملة ما يروى ان «الحسنات ثقل الميزان والسيآت خفة الميزان» فلا وزن إذا للسيئات (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥) وانما هو للحسنات.

فيا «ايها الناس ان العربية ليست بأب والد وانما هو لسان ناطق فمن تكلم به فهو عربي ، ألا إنكم ولد آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم والدليل على ذلك قول الله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالأعمال الحسنة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) من تلك الأعمال الحسنة (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ)(١).

__________________

(١) المصدر عن تفسير القمي قال الصادق (عليه السلام) لا يتقدم يوم القيامة احد الا بالأعمال والدليل على ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

٢٨٨

ان نسب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يثقل الميزان شريطة الحسنات ، وإنها الأصل الأصيل «والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح (١) إلا ان الصالح من نسيب الرسول (صلى الله عليه

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٦٣ في كتاب المناقب في مناقب زين العابدين (عليه السلام) طاوس الفقيه : رأيته يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبد فلما لم ير أحدا رمق إلى السماء بطرفه وقال : الهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك وأبوابك مفتحات للسائلين جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عرصات القيامة ثم بكى وقال : وعزتك ، وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وانا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سوّلت لي نفسي واعانني على ذلك سترك المرخى به علي فانا الآن من عذابك من يستنقذني ، وبحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا ، وللمثقلين حطوا ، ام مع المخفين أجوز ، ام مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، اما آن لي ان استحي من ربي ثم بكى وإنشاء يقول :

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم اين محبتي

أتيت باعمال قباح رديئة

وما في الورى خلق جنى كجنايتي

ثم بكي وقال : سبحانك تعصى كأنك لا ترى وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن لك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم ، ثم خر إلى الأرض ساجدا قال : فدنوت منه وشلت رأسه فوضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده فاستوى جالسا وقال : من الذي اشغلني عن ذكر ربي؟ فقلت له : انا طاوس يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا ان نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون؟ أبوك الحسين بن علي (عليه السلام) وأمك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فالتفت الي وقال : هيهات هيهات يا طاوس دع عني حديث أبي وامي وجدي خلق الله الجنة لمن أطاع واحسن ولو كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا اما سمعت قول الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) والله ...

٢٨٩

واله وسلم) أصلح كما الطالح منه اطلح كما تدل على ذلك آيات من الأحزاب (١).

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ١٠٤ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ١٠٥.

هؤلاء هم أئمة الكفر وقادة الضلالة (٢) كما ان من ثقلت موازينه هم أئمة الايمان وقادة الهداية.

واللفح هو شديد النفخ السامّ ، والكلوح هو تقلّص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو ، فقد يصيب وجوههم لهب النار بنفتحها لحد تتقلّص شفاههم وتبدو أسنانهم كالرؤوس المقشرة المشوية ، «مفتوحي الفم ، متربدي الوجوه (٣) تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على اعصابهم» (٤)

__________________

(١) وهي : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ٥٦٥ في الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يذكر فيه احوال القيامة وفيه : ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلالة فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يعبأ بهم لأنهم لم يعبئوا بامره ونهيه فهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.

(٣) نور الثقلين ، ٣ : ٥٦٦ في تفسير القمي في الآية قال : تلهب عليهم فتحرقهم «وهم فيها طالحون» اي ..

(٤) الدر المنثور ٥ : ١٦ ـ اخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : تلفح وجوههم النار قال : .. وفيه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان جهنم لما سيق إليها أهلهما تلفتهم بعنق فلفحتهم لفحة فلم تدع لحما على عظم الا ألقته على العرقوب ، وفيه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته.

٢٩٠

فيقال لهم قولة قارعة ضارعة (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) تلاوة البيان من كتاب الشرعة التدوين ، وتلاوة العيان من كتاب الافاق التكوين «فكنتم» على طول خطوطها وبكل خيوطها (بِها تُكَذِّبُونَ) في قال وحال وفعال على أية حال.

وهنا الاعتراف الصارخ القارح ، اعتذارا بغلب الشقوة علّه يخفف عن وطأة العذاب ، وكما كان الاعتراف بالذنب من شروطات استجابة الدعوة يوم الدنيا :

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) ١٠٦.

ما كنا غالبين إذ كذبنا بآياتك بل كنا مغلوبين تحت وطأة الشقوة والضلالة ، ولكن من اين جاءت الشقوة وحلت الضلالة الا من أنفسكم تخيرا لها وتسيّرا فهم «بأعمالهم شقوا» (١) فقد كان غلبا مختارا لا يعذركم فيما كذبتم ، ولكنهم على زعمهم القاحل يتطلبون الرجعة إلى حياة التكليف :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) ١٠٧

وعل ذلك آخر المطاف في سؤالهم المستجدي لعله يجدي وكما يروى

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٦٦ في كتاب التوحيد باسناده إلى علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : بأعمالهم شقوا وفيه عن كتاب الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يذكر فيه احوال المحشر يقول فيه وقد ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ويشهد على منافقي قومه وأمته وكفارهم بالحادهم وعنادهم ونقضهم عهوده وتغييرهم سنته واعتدائهم على أهل بيته وانقلابهم على اعقابهم وارتدادهم على ادبارهم واحتذائهم في ذلك سنة من تقدمهم من الأمم الظالمة الخائنة لانبيائها فيقولون بأجمعهم (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا).

٢٩١

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ... فيقولون ادعوا ربكم فلا احد خير من ربكم فيقولون : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) فيجيبهم : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ..)(١) وقد تعني «عدنا» عودا إلى التكذيب وعودا إلى حياة الحساب بنفس الحالة ، وعودا إلى الجحيم بنفس التصميم.

وي كأنهم لم يكونوا من قبل ظالمين في غلب الشقوة والضلالة ، وان الله أدخلهم النار دون ظلم منهم! ولذلك الهراء القاحل ، والاعتذار الجاهل يستحقون خطاب الكلاب :

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ١٠٨.

(اخْسَؤُا فِيها) خسأ الكلاب ـ وهم أضل سبيلا من الكلاب ـ (وَلا تُكَلِّمُونِ) فذلك إذا آخر المجال لكلامهم المستغيث فيظلون خرسا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٦ ـ اخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقى على اهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيغاثوا بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون انهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلابيب الحديد فإذا دنا من وجوههم شوت وجوههم وإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم ان ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فيقولون : او لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قال فادعوا وما دعاء الكافرين الا في ضلال فيقولون ادعوا مالكا فيدعون مالكا فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك فيجيبهم انكم ماكثون فيقولون ادعوا ربكم ...

٢٩٢

لا يكلّمون ، اللهم إلا مع بعضهم البعض متلاومين.

ولان الخسأ هو زجر الكلب مستهينا به ، ولا يخسأ الا الكلب الهراش الضاري ، كذلك هم يخسئون بكذبهم فيها وما كانوا يكذبون (١).

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ١٠٩ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ١١٠ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) ١١١.

هم كانوا يستغفرونني بسناد الايمان يوما فيه مناص ، وأنتم تستغفرونني بسناد الشقوة والضلالة زعم العاذرة فيها ولات حين مناص إذ قد مضى يوم خلاص.

وأنتم اتخذتموهم سخريا ساخرين الله ورسوله واهل الايمان (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) وهنا ينسب الإنساء إلى المؤمنين إذ لولاهم لما كانت سخرية ولا نسيان ذكر ، فهم من اسباب نسيان الذكر دون تقصير ، وهم بشقوتهم وضلالهم سخروا منهم عامدين بكل تقصير ، فنسوا بذلك ذكر الله ، وأصبحت قلوبهم قاحلة عن ذكره إلى مليء من ذكر الشيطان ، وذلك كمثل قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) (٢ : ١٠).

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على ما كنتم منهم تسخرون وعليهم تضحكون ، دون تزعزع من ايمانهم ولا تلكع فيما يعملون ، (جَزَيْتُهُمُ أَنَّهُمْ

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧ ـ اخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الله إذا قال لأهل النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ») عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخير تردد النفس في أجوافهم.

٢٩٣

هُمُ الْفائِزُونَ) ففوزهم اليوم ككل هو جزاءهم بما صبروا.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ)(١١٢).

وترى كيف تتناسب «لا تكلمون» وذلك السؤال حيث يتطلب كلاما في الجواب؟ علّه يعني لا تكلمون دون اذن أو أمر : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١١ : ١٠٥).

هذا ، ولان الكلام الممنوع هو المرجو منه الفائدة ، واما الكلام العذاب فهو عذاب فوق العذاب.

وهذا السؤال تقريع لهم وتبكيت تثبيتا لإجرامهم القاصد على فسحة من زمن التكليف : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) ورغم ان السؤال يؤكد لبث سنين ، هم يحولونها إلى يوم او بعض يوم :

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) ١١٣.

وعلهم هكذا يجنّنون في الجواب لعظيم الهول المرهف الذي أنساهم عدد مكثهم ، فيحولون الجواب إلى العادين الذين هم في ذكر من عدد السنين إلى يوم الدين.

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ١١٤.

وطبعا «قليلا» بجنب الآخرة لا لأداء التكليف ، وهم طول هذا القليل في غفلة الشهوة وشهوة الغفلة دون ان يقدموا لأنفسهم.

و «في الأرض» هنا كما في البعض مما سواها تقصد الحياة الأرضية دنيوية وبرزخية ، وكما أجابهم الله في اخرى (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) (٣٠ : ٥٦) وحقا إن زمن اللبثين قليل بجنب الآخرة لأمور عدة ذكرناها في طه وسواها.

٢٩٤

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ١١٥.

فحيث لا بعث ولا رجوع إلى الله للحساب والجزاء فالخلق ـ إذا ـ عبث عبث الظلم ، فان خلق الخلق دون فصل القضاء ظلم ، وعبث اللاغاية الصالحة ـ حيث الحياة الدنيا بنفسها ـ بهذه الظلامات والحرمانات ـ ليست غاية صالحة ، والرجوع إلى الله يجعل الخلق صالحا ذا غاية صالحة ، فالخلق دون بعث عبث ، سبحانه وتعالى عما يصفون.

ويا لها من آية تقريع على الغافلين المتجاهلين وقد قال رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده لو ان رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» (١).

ويقول جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) في جواب من سأله : لم خلق الله الخلق؟ ان الله تبارك وتعالى لم يخلق الخلق عبثا ولم يتركهم سدى ، بل خلقهم لإظهار قدرته ، وليكلفهم طاعته ، فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة ، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم» (٢).

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ١١٦.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٧ ـ اخرج جماعة عن ابن مسعود انه قرء في أذن مصاب ، أفحسبتم انما خلقناكم عبثا حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا قرأت في اذنه فأخبره فقال ... وفيه اخرج ابن السني وابن منده وابو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سرية وأمرنا ان نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون فقرأناها فغنمنا وسلمنا.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٥٦٦ في علل الشرايع باسناده إلى جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فقلت له : ....

٢٩٥

(فَتَعالَى اللهُ ـ الْمَلِكُ ـ الْحَقُّ) عن العبث بالخلق ، وعن ان يكون له شريك في الملك او ولي من الذل ، او ان يترك خلقه سدى دون هدى بالوحي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ) عرش الربوبية والتدبير ، في التكوين والتشريع «الكريم» عرش لا تضيّق فيه ، بل هو كريم واسع الرحمة.

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) ١١٧.

(لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) قد تكون جزاء الشرط نكرانا لاي برهان على إله آخر ، ام وصفا ل (إِلهاً آخَرَ) مماشاة ، ان لو كان هنالك برهان له لكان مقبولا ، ام قيدا توضيحيا حيث الإله الآخر لا برهان له ، فهذه الدعوة والدعوى الباطلة دون اي برهان ولا إمكانه هو من أضل الضلال وأظلم الظلم (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) يوم القيامة الكبرى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لا برهانا ولا واقعا متخلفا عن برهان ، لا في الاولى ولا الاخرى ، مهما ارعدوا وابرقوا في هذه الأدنى ، إذا فكل دعوى دون اي برهان فيه حساب عند الله دون اي افلاح لصاحبها ، فذلك محرّم شرعيا كما هو محرم عقليا وفطريا ، حيث الإنسان العاقل والمتشرع هو ابن البرهان جملة وتفصيلا ، وفيما يجب عليه التقليد لعجز عن الاجتهاد ، فلا يجوز التقليد ـ كما الاجتهاد ـ دون اي برهان.

ويا لها من سورة بدايتها تبشير للمؤمنين (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ومن نهايتها إنذار الكافرين (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) ثم ختامها الاستغفار والاسترحام للمؤمنين :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ١١٨.

(رَبِّ اغْفِرْ) لي عما يهاجمني من دوائر السوء التي تعرقل دون رسالتي «وارحم» ني في هذه السبيل الشائكة المليئة بالأشلاء والدماء.

٢٩٦

ثم «اغفر» للمؤمنين عما تعرضهم من خطايا او تعترضهم «وارحم» المؤمنين (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) فالغفر من مصاديق الرحمة الرحيمية ، فخير الراحمين هو خير الغافرين.

٢٩٧
٢٩٨

الفهرس

«سورة الحج» أدب المجادلة في الله؟.......................................... ١٣ ـ ١٦

مراحل خلق الإنسان برهان معاده............................................ ١٦ ـ ٢٤

«من يعبد الله على حرف» : أعبدني يا رب حتى اعبدك!....................... ٢٦ ـ ٣٢

«.. فليده بسبب إلى السماء ثم ليقطع ..»؟................................. ٣٢ ـ ٣٦

هل الصابئون والمجوس من المشركين؟.......................................... ٣٧ ـ ٣٨

ما هي سجدة من في السموات ومن في الأرض؟............................... ٣٨ ـ ٤١

«.. سواء العاكف فيه والبلاد ، من هما وما هو السواء؟........................ ٤٨ ـ ٥٤

فرض الحج راجلاً على من يستطيعه وموقف المزاد والراحلة حكم في الحج.......... ٥٨ ـ ٧٣

الطواف الواجب وحدوده وشروطه........................................... ٧٩ ـ ٨٩

شعائرالله................................................................ ٩٥ ـ ١٠٠

الأضحية الواجبة وحدودها ، وحرمة الذبح المبذر أو الُمسرف................ ١٠٦ ـ ١٢١

بداية أمر القتال في العهد المدني.......................................... ١٢٦ ـ ١٣٣

ما هو تمنى الرسل الملقي فيه الشيطان؟.................................... ١٤٧ ـ ١٥٦

«هو اجتباكم» في بشارات.............................................. ١٨٥ ـ ١٩٤

«سورة المؤمنون» أوصاف المؤمنين السبعة.................................. ٢٠٠ ـ ٢١٤

مراحل الجنين ـ «ثم أنشأناه خلقا آخر ، من ادلة عدم تجرد الروح............. ٢١٩ ـ ٢٢٦

كل مياه الأرض من السماء............................................. ٢٢٩ ـ ٢٣٠

٢٩٩

وحدة الأمم والرسالات.................................................. ٢٥١ ـ ٢٥٣

«إذاً لذهب كل إله بما خلق» من براهين التوحيد........................... ٢٧٥ ـ ٢٧٧

«ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» ومن أدلة الحياة البرزخية.................. ٢٨٠ ـ ٢٨٦

«فلا أنساب بينهم ..» ثقل الموازين وخفتها؟.............................. ٢٨٦ ـ ٢٩٠

٣٠٠