الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

(١١ : ٤٠) فالقلة الثمانون طول هذه المدة بين الملايين ، هم اهله الا من سبق ومن آمن من غير اهله ، إذا (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) هم ليسوا كل قومه ، بل هم ـ فقط ـ (الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

وذلك آخر المطاف لقوم صلد صلب هم حجر عثرة في حياة الإنسان وعقبة كئودة كائدة في طريق الايمان ، ولأنهم كانوا في فجر البشرية في بدايات الطريق ، فشاءت ارادة الله الإطاحة بهم من الطريق المرسوم للانسانية جمعاء ، تحطما لهذه المتحجرات المتفجرات في وجهها ، فتحتّما من سلوك سبيلها إلى النجاة ، ولتسري ركب الانسانية قدما إلى الحياة المرماة.

فقد غسل الطوفان هذه التربة لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ).

ذلك! وقد كان بالإمكان ان ينزل الله عليه فلكا من السماء ، او يصنعه هو دونه ، ولكنه شاء ان يصنع نوح فلك النجاة بيده ، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب ، وبذل ما في طوقه ، ثم يمده الله في الخارج عن طوقه ، والنجاة القاطعة بالفلك كانت بان يصنعها (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) وكما هي (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)!

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٢٨ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ٢٩.

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ) يا نوح (وَمَنْ مَعَكَ) المؤمنين والحيوان ، والاستواء هو الاستقرار : ان يأخذ كلّ مستقرّه وقراره كقرار البيت (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) كواجب الحمد لله (الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من بأسهم البائس ومن الغرق معهم ، وهذه مرحلة اولى من النجاة حالة الطوفان ، ثم (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) نفس النزول ومكانه وزمانه ، مباركا في زواياها الثلاث (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ـ «اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت

٢٤١

خير المنزلين» (١).

هنا (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) فلما ذا «فقل ـ وقل» وهم عدة؟ عله لأنه إمامهم ، فقوله قولهم وكلما يقوله بأمر الله فهم قائلوه وقائلون به قضية الإمامة المحلّقة على كل قال وحال وفعال ، ولا سيما في هذه الحالة الخطرة والرحمة العطرة المستوجبة لقالة الحمد والدعاء والاستدعاء.

فقطع دابر الظالمين يتطلب الحمد له من المظلومين ، بل والله يقولها تعليما لهم وتأديبا (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦ : ٤٥).

وترى كيف أصبح الإستواء على الفلك نجاة لمّا تنزل منزلا مباركا؟ لأنها صنعت بعين الله ووحي الله ، وهم ركبوها باسم الله : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١١ : ٤١) وهي (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (٥٤ : ١٤) أفيبقى بعد هذا من شك في النجاة؟!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) ٣٠

«إن» مخففة عن مثقلة تعني تأكيد مدخولها وكذلك اللام ، تأكيدان اثنان انه تعالى يبتلي عباده بألوان البلاء ، ابتلاء لنوح ومن آمن معه بالصبر والشكر ، تمحيصا للشكر والتوجه والتأديب والأجر والتقويم ، وابتلاء للذين كفروا بازدياد الكفر والكفران والنكران وإلى مصير النيران.

ف (إِنَّ فِي ذلِكَ) العظيم العظيم في تاريخ الرسالات ولفجرها وبزوغها «لآيات» تدل المستدلين على علمه وحلمه وحكمته وقدرته ،

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٤٤ في الفقيه قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) يا علي إذا نزلت منزلا فقل : ....

٢٤٢

وواقع وعده للمؤمنين وعلى الكافرين «يا ايها الناس ان الله قد أعاذكم من ان يجور عليكم ولم يعذكم من ان يبتليكم وقد قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(١). و «كنا» هنا تضرب إلى اعماق الماضي الضارب إلى مثلث الزمن كسنة إلهية يوم الدنيا.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) ٣١.

وهم ذرية نوح حيث (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وتراهم ذرية النسب؟ فما شأن المؤمنين الآخرين! علهم اهله الناجون حيث تعم ذرية النسب وذرية الإيمان بغير النسب ، بل هم ذرية الايمان ككل في نسب او سبب ام غير سبب ولا نسب ، وقد تلمح له سابقتها : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) مع العلم ان اهله أعم من اهله الخصوص كما دلت عليه آية هود (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) (٤٠).

واما ان نوحا هو الأب الثاني للبشر ، فهو ان كان ثابتا فليس يستغرق كل البشر ، وانما ـ على اكثر تقدير ـ الاكثرية الساحقة اللاحقة من البشر حيث انتسلوا من ذريته في النسب وهم ثلة ثم الآخرون هم قلة

وترى (قَرْناً آخَرِينَ) هم كل المنتسلين من الناجين في الفلك؟ وما كان كلهم كافرين! ام انهم خصوص الكافرين منهم المكذبين؟ ولا يختصهم ذلك الإنشاء الجديد!

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) هي عبارة أخرى عن (قَرْناً آخَرِينَ) ولكنه يقصد منهم في حقل الدعوة الرسالية من هم أضراب قوم نوح.

ومهما اختلفت الآراء في : من هم هؤلاء المكذبون؟ الا ان في

__________________

(١). نور الثقلين ٣ : ٥٤٤ وفي نهج البلاغة عن الامام علي (عليه السلام) : ...

٢٤٣

انشاءهم بعد قوم نوح ، وإرسال رسول فيهم بعد نوح ، برهان قاطع لا مرد له انهم عاد قوم هود فإنهم كانوا بعد قوم نوح وكما خوطبوا (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (٧ : ٦٩) كما وجاءت قصة عاد تلو قصة نوح في سورة الأعراف وهود والشعراء وهم يذكرون قبل ثمود فيما تجمعهما من آيات ، إذا فهم (قَرْناً آخَرِينَ) مهما كان منهم مؤمنون :

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) ٣٢.

وصيغة الدعوة نفس الصيغة السابقة السابغة ، حيث الرسالة واحدة وامم الرسل هم امة واحدة في هذه الدعوة التوحيدية ، وكما المعارضة ضد الدعوة نفس المعارضة ، سلسلة موصولة طول تاريخ الرسالات رسلا ومرسلا إليهم :

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ٣٣.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) وهم في ثالوثهم المنحوس (الَّذِينَ كَفَرُوا ـ وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ـ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قالوا قيلتهم في نكران الأصل الثالث : الوحي والرسالة : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فانه (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) آخذين المماثلة في حيونة البشرية وحاجياتها المادية دليل المماثلة المطلقة بين بشر وبشر ، متغافلين متجاهلين عن رحمات روحية وان الله يمن على من يشاء من عباده ، فمقياسهم الاول والأخير هو المادة والمادة فقط (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٤٧ : ١٢)

والإتراف ـ وهو التوسيع في النعم فوق الحاجة ـ انه يحجب الفطرة ،

٢٤٤

ويغلّظ المشاعر ، ويغلّط الشعور ، ويسد المنافذ وتفقد القلوب حساسيتها المرهفة ، فالمترفون كالعفن يفسدون الجو الذي فيه يعيشون ، ولا سيما إذا كانوا كافرين بالله ويوم لقاء الله.

ثم هم يمحورون المماثلة في البشرية لإبطال الطاعة وهم يطيع بعضهم بعضا والمماثلة نفس المماثلة ، لأنهم يمحورون فضل المادة والترف أصلا أصيلا وحيدا في التفضيل :

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ٣٤.

حيث المماثل يجعل من طاعته لمماثله ترجيحا بلا مرجح ، لأن الرجحان عندهم هو فقط في ميزات الحيوان ، متغافلين عن انسانية الإنسان.

وترى إذا كانت طاعة المماثل في البشرية خسارا ، فلما ذا هم أنفسهم يحمّلون طاعتهم على من دونهم؟ ألأنهم ـ فقط ـ بشر وسواهم حيوان؟ أم هم مناقضون في قيلاتهم الويلات ، وذلك هو الملاحظ فيها عند كل حماقى الطغيان ، ثم وهم بأتباعهم يعبدون أحجارا واخشابا واين الجماد من الإنسان؟

ومنهم من هم يحتجون على نكران رسالة البشر انهم وإياهم في اصل البشرية سواء وفي فضلها المادي لا سواء (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٤٣ : ٣١) وهؤلاء اقل من أولاء خطأ مهما هم كلهم مخطئون.

ذلك! ومن ثم يحاولون إحالة رسالة هذا الرسول البشر لدعواه البعيدة عندهم كحجة اخرى على دحضه بمحضه :

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ٣٥ هَيْهاتَ

٢٤٥

هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) ٣٦.

(إِذا مِتُّمْ) زوالا للحياة (وَكُنْتُمْ تُراباً ...) زوالا للأجساد (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من اجداثكم بأرواحكم وأجسادكم ، فيا له مراما ما أبعده (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) بعيدا بعيدا لحد الاستحالة (لِما تُوعَدُونَ) : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) وهم بهذه الحجب الثلاث عن واقع المرام وعن الحق المرام ، هم مرتكسون ركسة الحيونة الرذيلة ، منتكسون إليها عن كل فضيلة ، وقد هدرت ميزات الانسانية فيهم ف (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)!

ثم هم بعد هذه الدعاية والدعوى يحصرون الحياة في حياتهم الدنيا ليست الا :

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ٣٧.

ذلك وكما قال نظرائهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٦ : ٢٩) (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٤٥ : ٢٤)

وعلّ الآخرين ـ فقط ـ هم دهريون كما قد تشهد ما قبلها : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ..).

وتراهم حين يحصرون حياتهم في الحياة الدنيا ، كيف يقدّمون «نموت» على «نحيى» والحياة بعد الموت هي الحياة الأخرى ، تناقضا صارحا صارخا ينقض دعواهم الاولى؟.

قد تعني «نموت» جماعة مثلنا نحن الأحياء ثم لا نبعث «ونحيا» جماعة اخرى لمّا يحيوا ، وهم ـ كما نحن ـ يموتون ثم لا يبعثون ، ويجمع عدم بعثهم احياء وأمواتا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) سواء الأحياء الحاضرون الذين

٢٤٦

يموتون ، او الذين سوف يحيون ثم يموتون.

ام ان «نموت» تعني ما تعنيه «نحيى» مقالة التناسخية ، فكل من يموت عن جسده يحيى في آخر حتى تنتهي الحياة الدنيا ثم لا حياة بعدها.

ام انه بيان واقع حياتهم بعد موتهم خلاف زعمهم ، اضافة إلى الأوّلين ، فأصبحت الآية تجمع بين هذه الثلاث ، والمجموعة صالحة دلاليا ومعنويا لتعنيها ، وما أجملها عبارة وألطفها جمعا بين الواجهات المعنية حقا وزعما.

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ٣٨.

وهنا أصبحوا وكلاء عن الله يذودون عن ساحته فرية الرسالة التي هي قضية ربوبيته العادلة الرحيمية.

فهم ـ إذا ـ لا يؤمنون بمدعي الرسالة قضية إيمانهم بالله ، معاكسة هارعة رأسا على عقب ، وكأنهم هم الصادقون في ايمانهم إذ لا يؤمنون بمن يفتري على الله كذبا ، فليشكرهم الله على ذلك ويشكرهم الشاكرون!

ولما وصلت حالتهم البئيسة التعيسة الآية هذه الهارفة النحيسة ، حيث صمت آذان قلوبهم وعميت ابصارها.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ٣٩.

نصرة كما نصر نوح على قومه الظالمين مهما اختلفت صورتها ، فطمأنه ربه بالاجابة:

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ٤٠.

وماذا تفيدهم الندامة والإيمان ـ لو آمنوا ـ عند رؤية بأسهم؟!

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ٤١.

٢٤٧

«بالحق» هنا قد تعني بسبب الوعد الحق ، او مصاحبة الحق الذي رفضوه ، او الحق الذي وعدوه ، والصيحة هي التي جعلتهم كالرميم ، حيث خلّفت الريح العقيم (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٥١ : ٤٢).

والغثاء هي هشيم الأوراق : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٥٤ : ٣١) فقد عاجلهم الله بهلاك الاستئصال فطاحوا كما يطيح الغثاء إذا سال به السيل الجارف ، حيث الغثاء ما حملت السيول في ممرها من أضغاث النبات وهشيمها ، فكأنهم هلكوا ولم يحس لهم اثر كما لا يحس اثر ما طاح به السيل من غثاء ، فجعلناهم كالغثاء الطافح في سرعة انجفاله وهوان فقدانه واضمحلاله (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) ٤٢.

كثمود قوم صالح وسائر الفراعنة والنماردة المعرقلة لمسير الرسالات.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ٤٣.

فان اجل العذاب المهدّد محدّد بما يراه الله ، ف (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) المقدر لها ان يعجلها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) تأجيلا لها ، فانها من الآجال المحتومة الأممية حين تستحق العذاب ولات حين مآب.

وهذه سنة الله الجارية في تاريخ الدعوات الرسالية ، كل قرن يستوفي اجله ويمضي غثاء:

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ٤٤.

«ثم» بعد نوح إلى موسى (أَرْسَلْنا رُسُلَنا) من ولي عزم كإبراهيم ام سواه كسواه (تَتْرا) تلو بعض البعض ولصق بعض ، متواترين في

٢٤٨

سلسلة الرسالة والدعوة دونما انقطاع (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) دونما انقطاع ، وكأنهم تواصوا بينهم (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في عذاب الاستئصال مهما اختلفت ألوانه وأطواره (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) إذ لم نبق منهم على اثر فلم تكن منهم من باقية الا «أحاديث» عنهم في صفحات التاريخ وألسنة الناس وبقيت العبرة ماثلة امام الناس في مصارعهم ، حيث محيت العيون وعفيت الآثار فلم تبق منهم الا الآثار (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) ـ (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)!

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ٤٥ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ)٤٦.

وهنا إرسال كسائر الرسالات بآيات كسائر الآيات وسلطة البرهان كسائر السلطات الرسالية ، مهما اختلفت في بنودها وقيودها ومظاهرها ، وانما يذكر هنا موسى بعد رسل تترى لأنه كان يحمل ولاية العزم في أعظم رسالة إلهية وأبعدها غورا ، وأعمقها طورا ، وأكثرها عراقيل ، وأشدها في مواجهة الأباطيل ، فكانت ـ إذا ـ قمة رسالية مرموقة ، كما ان آياتها بعد القرآن قمة منقطعة النظير.

«الى فرعون» رأس الزاوية الطاغية «وملائه» هوامش الضلالة «فاستكبروا» عن هذه الرسالة بصيغة مطردة بين المستكبرين المكذبين (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) في كافة القدرات الزمنية والمقدرات المادية ، وبطبيعة الحال كانوا مستعلين.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ٤٧ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) ٤٨.

فصيغة التكذيب نفس الصيغة وهم كانوا مؤمنين لبشر مثلهم وهم له

٢٤٩

عابدون! كما وهلاك التكذيب نفس الهلاك مهما اختلفا امهالا واملالا ، وصورة ومثالا.

وقد يعنون ب (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) ان لنا الفضل عليهما كما عليهم فليعبدانا كما هم إيانا يعبدون ، وقد تعني العبادة الخضوع الطليق. وهذه معاكسة مرتكسة امام الدعوة الموسوية.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ٤٩.

«لعلهم» فرعون وملؤه وبني إسرائيل وسواهم من المكلفين «يهتدون» على هديه وهو اوّل كتاب رسالي يحمل شرعة مفصلة رئيسية ومن ثم القرآن العظيم إلى يوم الدين.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) (٥٠).

ولماذا (ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) وهما اثنان ، وكل ـ إذا ـ آية؟ حيث القصد من «آية» هنا هي الآية الخارقة الرسالية ، وهما معا يشكّلان آية الولادة دون أب.

«وآويناهما» إسكانا مطمئنا في مأوى مريح «الى ربوة» مكان مرتفع راب من الأرض ، هي (ذاتِ قَرارٍ) لعيشة راضية دون اضطراب «ومعين» ماء جار.

وقد عبر عن هذه الربوة في «مريم» ب «سريا» : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ .. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ..)(٣٦)

وقد تعني ربوة القدس الشريف ، وهو ربوة بعد ربوة ، قد تعنيهما معا

٢٥٠

(رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ) حين الولادة ، وذات قرار بعدها ، ويروى انها دمشق الشام (١) وعلها توسعة للقدس حيث الشام كان يشمل تلك الدويلات الحاضرة من فلسطين ككل ولبنان وسوريا والأردن.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ٥١ وَإِنَّ (٢) هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ٥٢ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ٥٣.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٢١ : ٩٣) : نداء عام للرسل أولا في بعد البشرية (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) فليست محرمة عليهم مهما حرمها عليهم حارمون حراميون ، فلا اصل الاكل ينافي الرسالة ولا أكل الطيبات : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧ : ٣٢) «فان الله طيب لا يقبل الا طيبا وانه امر المؤمنين بما امر به المرسلين» (٢).

ثم في بعد الايمان (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فلا تضمن لكم رسالتكم صالحا دون ان تعملوا صالحا ، وليست الرسالة سياجا عن عقوبات التخلفات ،

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٠ ـ اخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أبي امامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه تلا هذه الآية قال : أتدرون اين هي؟ قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : هي بالشام بأرض يقال لها الغوطة مدينة يقال لها دمشق هي خير مدن الشام.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٥٤٥ في المجمع. روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله .. فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ. كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ..) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

٢٥١

بل والمسؤولية الرسالية تملي صالحا اكثر.

ثم البعد الثالث «ان هذه» الأمم بأسرها (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) في مسيرها ومصيرها لوحدة الرسالة فوحدة الائتمام (وَأَنَا رَبُّكُمْ) لا سواي «فاعبدون» لا سواي.

فالحكم الحاكم عليهم في كل دور رسالي هو شريعة من الأمر تصدر عنه وتتجه اليه دون تقطّع ، وليس عديد الشرائع من ذلك الأمر الدين تقطيعا لأصل الأمر فانه مصدرها بأمر الله (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) ، ولكنهم :

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) حيث جعلوا عديد الزبر للشرائع وسيلة للتقطع تحريفا لها وتهريفا بها ، وتحزبوا أحزابا كتابية متناحرين بحربة شرعة ضد شرعة وكتاب ضد كتاب «كل حزب» من هؤلاء المتقطعين (بِما لَدَيْهِمْ) كأنه الحق وسواه باطل «فرحون» والله لا يرضى من عباده تقطعا في أمره (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٦ : ١٥٩) (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٨) خلقهم لرحمة الوحدة ووحدة الرحمة على ضوء توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في كل زمن كما يريد الله ، فلا اممية في امر الله ودينه ولا رايات مختلف الكتابات السماوية ، كلّ ضد الأخرى ، محاربة شرعة إلهية لأخرى!.

ففي كل دور من الأدوار الخمسة الرسالية الاصيلة يجب على العالمين ككل اتباع رسولها ، ثم إذا جاء دور التالي ، فعلى الكل النقلة إلى التالي وللتالي إلى الشرعة القرآنية التي تحلّق منذ بزوغها على الطول التاريخي

٢٥٢

والعرض الجغرافي وإلى يوم الدين (١).

ومن مصائب التحجر في ذلك التقطع ان كل قطاعة متحزبة ضد الاخرى ترى الحق معها كله والباطل مع من سواها كله ، فتمضي فرحا مرحا لا تفكر في شيء ولا يلتفت إلى شيء إلا إلى شيئه المتقطع ، مغلقة على أنفسها جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة ، او يدخل إليها منها اي شعاع مضيء ، تعيش كلّ في تلك الغمرة الهامرة «فذرهم ..» :

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) ٥٤.

لقد غمرتهم واغرقتهم حيونة الجهالة وجهالة الحيونة ، والغمرة هي إزالة اثر الشيء ، وهي معظم الماء الساتر لمقرها ، وهم أزالوا آثار الانسانية كلها ، واختصوا أنفسهم بآثار الحيوانية كلها بل هم أضل سبيلا (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) يغمرهم العذاب في لجة او يأتيهم الموت قبلا ، او حتى حين يؤذن لك في حربهم حيث تغمرهم ، او حين ينجو منهم من ينحوا منحى النجاة.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)٥٦.

ذلك الحسبان هو ظن الذين كفروا حيث يستمدون بمدّ الله لهم من اموال وبنين لتثبيت قاعدتهم وانهم ـ فقط ـ على خير ، رغم ان ذلك المدّ مزلة ومضلة لكثير من المؤمنين فضلا عن الكافرين (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) شعورا في الأمور ، ودقة تميزّ لهم المحبور عن المحظور.

__________________

(١) راجع كتابنا «المقارنات العلمية والكتابية بين الكتب السماوية» وراجع تفسير الآية الثانية في سورة الأنبياء تجد فيها تفصيلا اكثر مما هنا.

٢٥٣

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله تعالى يقول : يحزن عبدي المؤمن إذا قترت عليه شيئا من الدنيا وذلك اقرب له مني ، ويفرح إذا بسطت له الدنيا وذلك أبعد له مني ... ان ذلك فتنة لهم» (١).

وقال علي (عليه السلام): «فلو رخص الله في الكبر لأحد لرخص لأنبيائه ورسله ولكنه سبحانه كره التكابر ورضي لهم التواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفروا في التراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين ، فكونوا قوما مستضعفين قد اختبرهم الله بالمخمصة ، وابتلاهم بالمجهدة وامتحنهم بالمخاوف ومحصهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة والاختبار في موضع الغنا والإقتار فقد قال سبحانه: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم» (٢).

اجلّ هؤلاء الحماقى لا يشعرون أن مدّ الأموال والبنين ليس مسارعة في الخيرات ، فهم يسارعون في ذلك البلاء المبين تلوما يمد الله لهم فيه زعما انه مسارعة في الخيرات ، وانما المسارع في الخيرات هم :

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٤٥ عن المجمع وروى السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... ثم تلى هذه الآية إلى قوله : بل لا يشعرون ثم قال : ان ذلك فتنة لهم.

(٢) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

٢٥٤

هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ

٢٥٥

وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)

٢٥٦

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٩٠)

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ٥٧.

الخشية هي للقلب ، والإشفاق عناية مختلطة بخوف زائد عليها حين يعدّى بمن كما هنا ، فالمؤمنون لأنهم يخشون ربهم ، فهم مشفقون على أية حال ، ولا سيما حال النعمة الموفّرة عليهم ، فخشيتهم من ربهم تجعلهم خائفين في الرخاء والبلاء ، ولا سيما الرخاء ان قصروا وغمروا فيها غافلين ، فتبدّل نعمة الله نقمة ونعمة ، محاسبين أنفسهم في صرفها دون

٢٥٧

تهدّر ، بكل حائطة ومراقبة وتحذر ، فالمؤمن الخاشي إذا يجمع يجمع إحسانا وإشفاقا ، وغيره يجمع دائبا إساءة وغمرة وإغراقا ، يقول : انما أوتيته على علم عندي ولا يحسب لله حسابه ، ولا يرجو ثوابه ولا يخاف عقابه.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) ٥٨.

سواء فيها الآيات الآفاقية والانفسية ، بل هم يعيشون كل الآيات ايمانا بها ، والكون كله آيات الرب دون إبقاء ولا استثناء فيعتبرون بضمنها كلا من الرخاء والبلاء من آيات البلاء فيشفقون خشية من ربهم.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) ٥٩.

وكيف يأتي نفي الإشراك بربهم بعد الايمان والإشفاق من خشية ربهم ، وهذا السلب يتقدم كل إيجابات الايمان؟

علّه لأنه يعني الإشراك في شؤون الربوبية ، لا ـ فقط ـ الالوهية ، ومن الإشراك بالرب رئاء الناس ، والانعطاف إلى غير الرب في أية زاوية من زوايا الحياة طويلة وقصيرة.

فذلك ـ إذا ـ سلب يجرف عن ايجابيات الايمان كدرتها ، وتبلور الإيمان عما يشوبه من شرك خفي قد لا يحسب بشيء.

فمثله مثل الإسلام بعد الإيمان الذي هو بعد إسلام ، فهنا سلب بعد إيجاب كان بعد سلب ، واين سلب من سلب واين إيجاب من إيجاب ك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ..).

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) ٦٠.

(يُؤْتُونَ ما آتَوْا) عن طاعة لله ، من مال وعلم ومعرفة ، ومن نفس

٢٥٨

واي نفيس يمكن ايتاءه في سبيل الله و «ما آتوا» ماضيا بعد «يؤتون» دليل استمرارهم في ذلك الإيتاء ، فهم يعيشون حياة الإعطاء والإيتاء في سبيل الله «و» الحال في إيتاءهم ان (قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) علهم مقصرون ام هم قاصرون ل (أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

والوجل هو استشعار الخوف ، فهم تستشعر قلوبهم خوفا من الهول المطّلع حين يرجعون إلى ربهم ، استعظاما لقدر الله حق قدره ، واستصغارا لأقدارهم أنفسهم بما آتوا من صالحات.

أتراهم وجلة قلوبهم لمعاصيهم ومآسيهم؟ كلا! حيث (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) هو إتيان ما فرض عليهم وندب فيه إليهم : «يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله ان لا يتقبل منه» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١١ اخرج جماعة عن عائشة قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) اهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال : لا ولكن الرجل يصوم ... وأخرجه مثله جماعة عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) الا «وهو مع ذلك» وفي نور الثقلين ٣ : ٥٤٥ عن الكافي بسند متصل عن حفص بن غياث قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان قدرت ان لا تعرف فافعل وما عليك ان لا يثني عليك الناس وما عليك ان تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله ثم قال قال علي بن أبي طالب لا خير في العيش الا لرجلين رجل يزداد كل يوم خيرا ورجل يتدارك منيّته بالتوبة وأنى له بالتوبة والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله تبارك وتعالى منه الا بولايتنا اهل البيت ألا ومن عرف حقنا ورجا الثواب فينا ورضي بقوته نصف مد في كل يوم وما ستر عورته وما أكن رأسه وهم في الله في ذلك خائفون وجلون ودوا انه حظهم من الدنيا وكذلك وصفهم الله عز وجل فقال : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انهم إلى ربهم راجعون ثم قال : ما الذي آتوا والله مع الطاعة والمحبة والولاية وهم في ذلك خائفون ليس خوفهم خوف شك ولكنهم خافوا ان يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا.

٢٥٩

وهكذا يكون المؤمن الصالح ، وجل القلب انه راجع إلى ربه ، وافدا اليه من غير زاد مهما زاد فيما أتى من طاعة ربه ، وليس يعني وجلهم انهم في شك من الثواب على ما آتوا ، بل هم بين خوف من تقصيرهم ورجاء لرحمة ربهم دون ان يروا استقلالا لاعمالهم في الثواب ، بل يستقلونها لاستحقاق الثواب.

و «لو ان العباد وصفوا الحق وعملوا به ولم تعقد قلوبهم على انه الحق ما انتفعوا به» (١) ولا ينافيه وجل قلوبهم استصغارا لاعمالهم وعدم بلوغ تقواهم حق التقاة ، ف «ان المؤمن يعمل بين مخافتين بين اجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين اجل قد بقي لا يدري ما الله عز وجل قاض فيه» (٢).

اجل وان قلبا يستشعر يد الله عليه وعين الله ترعاه ، ويحس آلاءه التي لا تحصى في كل نبضة فيستصغر ويستقل كل ما آتاه تعبدا لربه وأعطاه لخلقه في سبيله ، شاعرا بالهيبة المحلّقة على كيانه ككل ، مشفقا ان يلقى الله وهو مقصر ـ وقطعا هو قاصر ـ في حقه :

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) ٦١.

يصارعون الشرور والأشرار ويسارعون في الخيرات مع الأخيار ، قضية تلك اليقظة والتطلّع الدائب ، وعجلة سيرهم إلى ذلك المصير هي عدم اشراكهم بالله وايمانهم بآيات الله ، وخشيتهم وإشفاقهم من الله وإيتائهم ما آتوا وجلة قلوبهم في سبيل الله ، فبطبيعة الحال (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٤٦ في محاسن البرقي عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ...

(٢) المصدر في الكافي عن حمزة بن حمران قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان مما حفظ من خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ...

٢٦٠