الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

في الخطوة الاولى والثانية اعتذرت فأعذرتك وللثالثة أعذرت دون اعتذار ف «هذا» السؤال دون إعذار (فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) كما اتفقنا «سأنبئك» كما وعدتك : (حَتَّى أُحْدِثَ ..) بتأويل مأخذ ومرجع (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)!

فراق حنون بعد وفاق حنون وكلّ خطى خطواته كما علّم ، وقد حصل ما قصد كأن يعلم موسى أن في أمته من هو أعلم منه في علم الباطن ، مهما كان هو أعلم منه في علم الظاهر ، ف (فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) اللهم إلّا علّام الغيوب ، فلا يزعمنّ أحد أنه أعلم الخلق أجمعين وإن كان كموسى الرسول ، فضلا عمن سواه ، حيث العطيات موزّعات بعلم العليم الحكيم حسب القابليات!

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٧٩).

أراد الله أن تبقى السفينة لمساكينها ، ولو شاء لحقق ما يشاء بصرف إمّا ذا من خارقة. ولكنه شاءه بفعل من غيره غير خارق : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أردته تحقيقا لمشيئة تشريعية ، واخرى تأييدة تكوينية إلهية كما في كافة الواجبات.

لم يقل أردنا حيث لم يشاركه موسى ، ولا أراد الله حيث لم يرد الله الإعابة بفعله خارقة ، وإنما أراد تعالى إصلاحها بما أعابها الخضر ، فالإعابة فعله بسماح شرعي ، والإصلاح فعل الله بسماح تكويني.

(وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) : ملك وراء المساكين يلاحقهم أيا كانوا (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فليست الوراء هنا وراء الخلف ، (١) وانما وراء التخلّف

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٣٧ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم ـ

١٦١

والملاحقة من أية جهة كانت و (كُلَّ سَفِينَةٍ) تعني من مساكين وسواهم حيث هي صالحة للاستثمار ، فلتكن صالحة غير معيبة ، (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) في الظاهر لأصلح أصلها لكيلا تغتصب.

على الملوك أن يكونوا وراء الشعوب ولا سيما المساكين خدمة لهم وإصلاحا ، وهذا الملك كان وراءهم خيانة وإفسادا (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فلأنني أحطت بذلك خبرا أعبتها للحفاظ على أصلها ، ثم الحفاظ على أهلها عن غرقها حاصل بما سددنا ثغرتها.

بهذا العيب الصغير نجت السفينة عن الضرر الكبير الذي يكنه الغيب إن لم يكن لها عيب ، ولتكن هذه سنة للحفاظ على الأصلح وكما عاب الإمام الصادق (عليه السلام) زرارة في ظهر الغيب حفاظا على نفسه ، وبهذا المعنى الغاية تبرر الوسيلة ، فإعابة السفينة محرمة لو لا هذه الغاية ، دون أن تتبرر كل وسيلة بكل غاية ، وإنما الغاية الأهم بوسيلة دون الأهم ، فغاية توطيد اركان الخلافة بواسطة تثبيت معاوية ردحا من الزمن لا تتبرر ، حيث الخلافة العادلة لا ترتضي ظلما يتبناها او يوطّدها ، وإبقاء معاوية إبقاء للظلم ريثما يثبت العدل ثم يزيل معاوية الظلم ، ومن ذا الذي يضمن بقاء الإمام في هذه الفترة حتى يعزل معاوية ، ومن ذا يضمن إمكانية عزله إن

__________________

ـ وصححه وابن مردويه عن ابن عباس ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ «وكان امامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا».

أقول : اما «صالحة» فهي تفسير بيان للسفينة ، واما «امامهم» فقد يعني «بين أيديهم» دون ان يكون «امامهم» بدل «وراءهم» و «صالحة» محذوفة عن القرآن ، حيث تطارده أحاديث العرض ولا نصدق الا كتب القرآن المتواتر والمجمع عليه طوال القرون الاسلامية!

ويشهد لذلك ما رواه العياشي عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه كان يقرء (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) يعني امامهم «يأخذ كل سفينة صالحة غصبا».

١٦٢

بقي الإمام وهو يقوى كما الإمام يقوى ، حيث هما في سبيلهما إلى الاستبقاء!

فهنا نرى ان في امهال معاوية الطاغية رعاية لاستحكام حكم علوي مجهول ، وإبقاء لاستمرار واستحكام ظلم الطاغية وهو معلوم ، بيد ان غاية العدل لا يبررها اي ظلم!

فليست «الغاية تبرر الوسيلة» ضابطة صالحة لا تستثنى ، ولا حابطة طالحة لا تصلح ، وانما الضوابط الشرعية الاخرى هي التي قد تبرر وقد لا تبرر ، كما بررت في خرق السفينة ، دون إمهال معاوية!.

إذا فكل ما دون قتل النفس من المحرمات تتبرر كمقدمات للحفاظ على النفس ، كأن تغتاب أخاك او تفتري عليه او تهتكه وتضربه أمّاذا حفاظا على نفسه ، وكلما هو فوق القتل كضياع الشرع أماذا لا تتبرر للحفاظ على النفس ، وهذه الفوقية والتحتية مستفادة من الشرع ، فإذا كانا على سواء فعلى سواء ، ضابطة عامة في تقديم الأهم على المهم!

هنالك شروط عدة في تبرير الغاية الوسيلة ، من كونها أهم من الوسيلة كما في زرارة والسفينة ، وكون الغاية الأهم قطعية كالوسيلة ، فان كانت هي محتملة والوسيلة قطعية فلا تبرر ، إلّا فيما المحتملة ايضا أهم من تلك الوسيلة ، كمظنة حفظ النفس او احتماله حيث تبرر وسيلة خفيفة كضرب او شتم او اغتياب إمّا ذا؟

وان تتوارد الغاية والوسيلة على فرد او جماعة ، كأن تظلم فردا او جماعة بظلم لئلا يظلم بأكثر منه كما في السفينة ، فأما ان تظلم فلانا ليسلم غيره من ظلم وان اكثر منه فلا كما في إبقاء معاوية تظلم الجماعة المؤمنة في فترة بقاء معاوية لسدّ ظلم اكثر منه ـ ولا اكثر منه! ـ في مستقبل مجهول وعن جماعة غير معلومة ، علّ فيها من هؤلاء ـ لا كلهم ـ وعلّهم ليسوا فيها!.

١٦٣

لا نسطع في هذا المجال الخاصر الحاصر ان نستعرض كل المعارضات بين الوسائل والغايات من الفقه كله ، فنحشر الفقه لنحشركم على حافة من المسرح العام ، فليتبع وفي كلّ ضابطته علما بان الغاية ليست لتبرر الوسيلة كضابطة عامة ، فقد تبرر بضابطة وقد لا تبرر بضابطة ، فليست هي إذا ضابطة وانما السلب والإيجاب لتبريريها حسب الضوابط المقررة في مجالاتها.

ومن أهم السياسات الحفاظية على الصالحين كسرهم عند من يريد كسحهم حتى لا يبيدهم وكما فعل الامام الصادق (عليه السلام) بزرارة معتذرا إليه في تعييبه إياه موضحا له موقفه قائلا له «يرحمك الله فانك والله أحب الناس إلي وأحب أصحاب أبي إلي حيا وميتا فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام وإن من ورائك لملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليغصبها وأهلها فرحمة الله عليك حيا وميتا ورحمته ورضوانه عليك ميتا (١).

وفي دوران الأمر بين المهم والأهم لا بد من تشخيص ذلك من اجتهاد او تقليد كما يصح : دون الهوسات والتصورات السطحية الخاطئة ، حيث

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٨٥ ح ١٦٣ في كتاب تلخيص الأقوال في تحقيق احوال الرجال في ترجمة زرارة ابن أعين روى في الصحيح ان أبا عبد الله (عليه السلام) أرسل اليه انما أعيبك دفاعا مني عنك! فان الناس والعدو يسارعون الى كل من قربناه وحمدنا مكانه لادخال الأذى فيمن نحبه ونقربه ويذمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه فانما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا ويميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس فيكون ذلك دافع شرهم عنك لقول الله عز وجل (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) هذا الرسل من عند الله صالحة ، والله ما عابها الا لكي تسلم من الملك ، فإنهم المثل يرحمك الله فانك والله أحب الناس اليّ واصحاب أبي الي حيا وميتا فانك أفضل سفن ذلك البحر القمقام وان من ورائك لملكا ظلوما غضوبا يرقب عبور كل سفينة.

١٦٤

تورّط الى طامة كبرى لا علاج لها ام يصعب.

ف «الغاية تبرر الوسيلة» ليست ضابطة فقهية عامة ، حتى تلعب بها العامة كما تستعملها الخاصة ، وحتى إذا كانت ضابطة فلا تنضبط في التحقيق والتطبيق إلّا عند أهلها الخاصة ، ولكنها كما نبهنا ليست آية من كتاب أم رواية من سنة ، بل هي حسب المظاهر المواتية للواقع ، ضابطة سياسية يبرر بها الساسة دسائسهم الجهنمية ، وكما نجدها في الأصل عند الصهيونية العالمية ، حيث أوصلوها الى حدّ إقحام آيات في التورات وتحريف آيات أخرى إمّا ذا من اقتحامات ضالة مضلة.

ثم على ضوء الفقه الاسلامي السامي نصلح هذه الضابطة غير الضابطة بحيث تصلح في العناوين الثانوية حسب الضوابط الاسلامية القاطعة.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)(٨١).

هنا يبرر الخضر قتل الغلام بفساده كفرا وإفساده أن يرهق أبويه المؤمنين طغيانا وكفرا ، (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) والإفساد في الأرض من مبررات القتل (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٥ : ٣٢).

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ ..) (٥ : ٣٣) وإرهاق الأبوين المؤمنين طغيانا وكفرا ـ وهما يستحقان رحمة اكثر ممن سواهما ـ انه من أبرز الإفساد والسعي فيه.

فكون الغلام حينذاك كافرا دليل كونه مكلفا! (١) وكون أبويه مؤمنين

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٣٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز في قوله : ـ

١٦٥

يجعله مرتدا فطريا يستحق القتل ولا يستتاب وإن تاب لم تقبل! فخشية ارهاقه إياهما طغيانا وكفرا يهدّر دمه ثانيا بعد تهدره بارتداده! وارادة ابدالهما ربهما خيرا منه زكاة واقرب رحما ، زاوية ثالثة تفرض قتله! فحتى لو كان غير بالغ لكان يحق القتل دفعا للإفساد المحتوم.

فهذا الغلام الذي لا يبدو في ظاهره وحاضره انه مستحق القتل ، إذا هو في متن الغيب كافر طاغ يخشى ان يرهق أبويه طغيانا وكفرا.

وترى لماذا هنا (فَخَشِينا .. فَأَرَدْنا) وهنالك (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) لان إرادة الاعابة لم تكن إلّا منه دون موسى حيث ندّد بها! وحتى إذا عرف موسى جوازها فلا حاجة في الإعابة إلا ارادة واعابة واحدة ، واما الخشية من الإرهاق ، فهي كائنة للخضر ومقدرة لموسى وعلى كل مؤمن بالله أن يخشى الارهاق ، مهما كان دفع الخشية بالقتل يكفيه واحد ، وبعد العلم والخشية

__________________

ـ لقيا غلاما قال كان غلاما ابن عشرين سنة فيه ـ اخرج مسلم وابو داود والترمذي وعبد الله بن احمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبي بن كعب عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وروى مثله عن ابن عباس عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلّا ذيله ، أقول : قد يعني «طبع كافرا» انه منذ ان بلغ طبع نفسه كافرا فان الله لا يطبع أحدا على الكفر فكل مولود يولد على الفطرة ، ثم «ولو أدرك» يؤول الى إدراكه أبويه على كفره ارهاقا لهما كفرا.

وفي نور الثقلين ٣ : ٢٨٥ ح ١٦٤ في مجمع البيان روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) «اما الغلام فكان كافرا وأبواه مؤمنين ـ أقول : وهذا تفسير وليس نقلا لاصل الآية.

وفيه (١٦٧) عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : بينما العالم يمشي مع موسى إذ هم بغلام يلعب قال : فوكزه العالم فقتله قال له موسى «اقتلت ...» قال : فادخل العالم يده فاقتلع كتفه فإذا عليه مكتوب «كافر مطبوع».

١٦٦

تأتي الارادة (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً ..).

يا موسى لست أنا الوحيد في هذا الميدان ، فأنت معي وكل مؤمن بالله أن نخشى ما أخشاه ونريد ما أريده بعد العلم بموقف الغلام وأبويه المؤمنين ، وأما إرادة الإعابة فيكفيها واحد ثم لا يريد سائر من يعرف الواقع إلّا الحفاظ على سفينة المساكين باية طريقة ممكنة ، دون ضرورة ايمانية في ارادة جماهيرية للإعابة!

وترى إن خشية الإرهاق طغيانا وكفرا وهي دون العلم كيف تبرر القتل ولا علم ولا إرهاق حينذاك؟

هنالك المبرر لقتل الغلام يكفي كونه مرتدا فطريا وفي حالة الإفساد ولمّا يرهق أبويه ، ثم الخشية لا تنافي العلم الحاضر الظاهر ، حيث الواقع قد يتخلف عما تعلم ، فالصيغة الأدبية عن العلم الظاهر فيما لا يجوز هي الخشية ، خوفا ان يستقبل خلاف ما يعلمه حاضرا ، فلم يكن ـ إذا ـ قتل الغلام قصاصا قبل الجناية ، حيث الارتداد الفطري هو جنايته الحاضرة ، اضافة الى خشية الإرهاق حيث تلمح الى حاضر السعي في الإفساد ، ولكي يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة واقرب رحما.

أترى ان الغلام كان خيرا وقريب الرحم حتى يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما؟ كلّا فلا خير في هذا الكافر ولا رحم لأبويه ، وإنما الافضلية في «خيرا واقرب» مجاراة ظاهرة في خير الغلام ورحمه.

وهل إن (طُغْياناً وَكُفْراً) مفعولان ل «يرهقهما» ان يغشيهما بقهر طغيانا وكفرا ، ليطغيا ويكفرا؟ ام حالان ل «يرهقها» ارهاقا لهما حالة الكفر والطغيان؟

قد يعنيهما المنصوبان حالين حال كونهما مفعولين حيث يتحملهما أدب اللفظ وجمال المعنى ، فالمرهق حالة الطغيان والكفر يرهق الى حالة الطغيان

١٦٧

والكفر دون زكاة منه ولأرحم اكثر مما في غير حالته.

ولقد سلبت «خشينا» بقتله وتحققت «أردنا» حيث أبدلهما ربهما خيرا منه زكاة : طهارة وايمانا في نفسه ، واقرب رحما : رحمة لأبويه (١).

مثلث من موجبات القتل يسبب قتل هذا الغلام الكافر وزاوية منه كافية ومثلث آخر هي من موجبات الرحمة يفرض إقامة الجدار دون اجر :

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٨٢).

.. جدار هو ليتيمين في المدينة يريد أن ينقض ، تجب إقامته مجانا على ولي اليتيم والخضر من أفضل الأولياء (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) يجب الحفاظ عليه باقامة الجدار مجانا ، (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) ويكرم الرجل في ولده ، فتجب اقامة الجدار إكراما لوالديه المؤمنين مجانا ، زوايا ثلاث من فرض إقامة الجدار لا أجر فيها ماديا وكما قال الله (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (٤ : ٦) ولم يكن موسى والخضر فقيرين رغم حاجتهما الحاضرة المفقرة ، ولو كانا فقيرين فكيف يأكلان هنا بالمعروف ولا مال لليتيمين إلّا الكنز (٢) الواجب حفظه حتى (يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا

__________________

(١) في تفسير القمي عن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية إنه ولدت له جارية فولدت غلاما فكان نبيا وفي اكثر الروآيات انها ولد منه سبعون نبيا.

(٢) في بعض الروآيات ان الكنز كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه مواعظ ، وفي الأب الصالح انه أبوهما الأقرب او السابع او العاشر او بينهما سبعون أبا او سبعمائة سنة.

وفي الدر المنثور ٤ : ٢٣٥ ـ اخرج ابن مردويه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : وكان تحته كنز لهما ـ قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : شهدت ان لا اله الا الله شهدت ان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح عجبت لمن تفكر في تقلب الليل ـ

١٦٨

كَنزَهُما) وحتى إذا كان لهما مال سوى كنزهما فالفقر المجوز لأكل الولي هو الناتج عن ولايته عمليا ، ولولاها لما افتقر ثم ولو لا اقامة الجدار لم يكن هنا شغل له أجر! والرحمة الربانية تقتضي الّا يؤخذ من مال اليتيم ، وليس (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) للولي الفقير إلّا سماحا حالة الضرورة لا فرضا ، فترك الأكل (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) كما إقامة الجدار حفاظا عليه وعلى الكنز رحمة من ربك ، والاطلاع على واقع الأمر رحمة من ربك «وما فعلته من أمري» فكل ذلك كان بأمر من ربك ، يرى موسى في الخطوة الاولى إمرا وفي الثانية نكرا ، هما في الظاهر من أشد القساوة ، ثم يرى في الثالثة رحمة زائدة لحد لا يبررها موسى الرسول وهو رسول الرحمة ، كتضاد في خلق الخضر يشبه طرفي النقيض ، فكان لموسى موقفا حرجا لن يستطيع معه صبرا!

ولماذا «فأراد ربك ورحمة من ربك» ولم يقم الجدار إلّا الخضر ، لا موسى ولا ربه؟ اما الارادة فلم تكن إلّا من ربك فان بلوغهما الأشد من إرادة ربك ، وكذلك الرحمة هنا في كل زواياها ليست إلّا من ربك.

__________________

ـ والنهار ويأمن فجأتهما حالا فحالا!

وفي تفسير العياشي عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله ثم ذكر الغلامين فقال (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) الم تر ان الله شكر صلاح أبويهما لهما.

وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهما السلام) ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في اهله وماله وان كان اهله اهل سوء ثم قرء هذه الآية (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً).

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ان الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده واهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

١٦٩

اعلاما له أن تحته كنز لهما ، وامرا بإقامته حفظا لكنزهما ، وترك الأجر وجوبا في شرعة الله كأجر ، وأكلا دون اجر رحمة وفضلا!

ثم و «ربك» تعني التربية التشريعية وليس رسولها المبلغ لها إلّا موسى ، والتربية التكوينية وموسى هو امام الخضر فيما أخذ منها ، فهذه حرمة وحسن ادب من الخضر الى موسى ان قال (فَأَرادَ رَبُّكَ .. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فانما انا الخضر ماش على ضوء التربية الإلهية المتمثلة فيك كإمام ، المتحققة عمليا بيدي كمأموم ، وان كنت لم تدره حيث الشرعة ظاهرة وتلك من الغيب ، كما لم أكن ادريه لو لا رسالتك بالشرعة الظاهرة (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)!

وقد نرى الأفعال المنسوبة الى فاعليها كلها في محالها ، فإرادة الاعابة بفعلها هي من الخضر ، لا وموسى ولا ان الله أرادها تكوينا إلا كما يريد فعل كل مختار ، وخشية الإرهاق هي شريطة الايمان لكل مطلع على ضمير الغيب ولكنما الله لا يخشى ، وارادة إبدالهما خيرا تتبع قتله وخشيتهما ، وما أراد الله الأبدال الا في ظرف هذه الإرادة ، والإبدال فعل من الله دون سواه ، كما وارادة بلوغهما أشدهما ليست إلّا من الله ..

(وَما فَعَلْتُهُ) كل ذلك (عَنْ أَمْرِي) وإنما عن أمر ربك ، فمهما غاب عنك الموضوع فالحكم نازل عليك رسولا إلي واماما علي فانا على ضوء شرعتك ، فبأمر من ربك فعلت ما فعلت : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)!

في هذه المسارح الثلاثة كانت معارضة بين الحكم الظاهر والباطن باختلاف ظاهر الموضوع وباطنه ، وقد طبق كل من موسى وخضر واجبه ، وترجى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيما يروى عنه «يرحم الله

١٧٠

موسى وددنا انه لو صبر حتى يقص علينا من حديثهما» يضرب الى عمق الغيب دون تنديد بموسى (عليه السلام) كما وهو (صلّى الله عليه وآله وسلم) يحيله ب «لو» وكما ان «علينا» قد تعني غيره (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث جمع ، وقد اوتي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما اوتي كل من يعلم ظاهرا او باطنا في الطول التاريخي والعرض الجغرافي وكل خليقة أيا كان وأيان!

وقد أعذر الإمام الحسن نفسه في صلحه مع معاوية في قوله (عليه السلام): «إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب ان يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة او محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى إلى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام واقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل» (١).

وأنتم أدنى من موسى وكان يحق له السؤال لولايته على خضر ، وانا أعلى من خضر وموسى ، ولي الولاية عليكم فما كان يحق لكم سؤالي سخطا وتنديدا! ..

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٩ ج ١٩٢ في كتاب علل الشرايع باسناده الى أبي سعيد عقيصا قال قلت للحسن ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! لم هادنت معاوية وصالحته وقد علمت ان الحق لك دونه وان معاوية ضال باغ؟ فقال : يا أبا سعيد! الست حجة الله تعالى ذكره على خلقه واماما عليهم بعد أبي (عليه السلام) قلت : بلى ـ قال : الست الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لي ولاخي الحسين : امامان قاما او قعدا؟ قلت : بلى ـ قال : انا فإذا امام لو قمت وانا امام إذا قعدت ، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لبني ضمرة ، وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ، يا أبا سعيد إذا كانت اماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب ان يسفه رأيي فيما أتيته ..».

١٧١

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ

١٧٢

السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ

١٧٣

كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً)(١٠٢)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً)(٨٣).

(ذِي الْقَرْنَيْنِ) لم يذكر في سائر القرآن إلّا هنا جوابا عن سؤال ، فهل كان نبيا؟ لخصوص (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) خطابا يلمح أنه وحي ، وعموم (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) ومنه سبب الوحي؟ ولكنما القول من الله لا يخص وحي النبوة وحتى قول الوحي كما (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) فضلا عن «قلنا» وفي هذه اليتيمة فقط! ويشاركه فيه غيره (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ولم يكونوا أنبياء! (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وما كان نبيا حينذاك او (قالَ يا إِبْلِيسُ) ولن يكون نبيا! فقد يعنى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) إلهاما دون وسيط كما في هؤلاء ، ام وحيا بوسيط كما في سائر الوحي إلى الناس أجمعين! وظاهر القول الخطاب هو الإلهام كما في أم موسى ، وليس في قوله تعالى هنا ما يحمل مادة الوحي النبوة!

١٧٤

والسبب هو ما يتوصل به الى المقصود لا يشمل سبب الوحي والنبوة ، فلا يؤتى النبي سبب النبوة بل نفسها ، فانما سببها عند الله وبيد الله ، ومن ثم لو كان نبيا لكان من أبرز التعريف به تصريحة النبوة ، دون اختصاصه بالقدرات الأرضية ، فلم يك نبيا وكما في أحاديثنا (١).

وهل كان ملكا؟ قد يعنيه (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)! ولا يؤتى ملك من كل شيء سببا! فقد يكون دون النبي وفوق الملك عبدا صالحا (٢) قويا بما آتاه الله ، مؤيدا من عند الله! كمثل طالوت الملك على ضوء نبوة منفصلة!

ونعرف من الإجابات التالية حول ذي القرنين أن السؤال كان حول أفعاله الخارقة ، دون نبوته او ملكه او نسبه وبلده ، أم وإذا كان يعم ذلك كله او يخص الثاني كما هو دأب القصيصين فلم يأت الجواب حسب الحكمة إلّا المفيد المفيد الذي فيه دعوة إلهية وذكرى إيمانية!

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٤ : ٢٤١ اخرج ابن مردوية عن سالم بن أبي الجعد قال سئل علي (عليه السلام) عن ذي القرنين أنبي هو؟ فقال : سمعت نبيكم (عليه السلام) يقول : هو عبد ناصح الله فنصحه.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٢٤١ ـ اخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ في العظمة عن خالد بن معد ان الكلاعى ان رسول الله لا (صلّى الله عليه وآله وسلم) سئل عن ذي القرنين فقال ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب وفيه أخرجه مثله الشيرازي في الألقاب عن جبير بن نفير ان أحبارا من اليهود قالوا للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حدثنا عن ذي القرنين ان كنت نبيا فقال : ...

وقد تضارب الحديث عن علي (عليه السلام) انه كان نبيا ام لا وقد نفى كونه ملكا وعله بفتح اللام ردا على من زعمه ملكا ، وهناك روايات متضاربة اخرى في نفي نبوته وإثباتها.

١٧٥

ثم «ويسألونك» يشمل زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإلى اعماق المستقبل ، فلا جواب صالحا عن ذي القرنين إلّا ما أجاب ، ومهما كان السؤال عنه في العهد الرسولي من اليهود (١) ولكنما العهد الرسالي وهو منذ الرسول الى يوم الدين تشمله «ويسألونك»!

و «ذكرا» هنا يدلنا أنه لا يقص قصص ذي القرنين إلّا طرفا منها هاما يذكرنا موقفه في تمكنه في الأرض ، حيث لم يستخدمه إلّا خدمة للناس وطردا للنسناس الخناس .. و «ذكرا» يعني قرآنا يذكر قدر الواجب الصالح تذكرة.

ولا يستثني هنا بمشيئة الله حيث القائل هو الله ، وإنما الناقل هو رسول الله والله لا يستثني ما يريده بمشيئته اللهم إلّا تعليما (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ)!

__________________

(١) المصدر ٢٤٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال قالت اليهود للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : يا محمد! انما تذكر ابراهيم وموسى وعيسى والنبيين ، انك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة الا في مكان واحد ، قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ومن هو؟ قالوا : ذو القرنين ، قال : ما بلغني عنه شيء فخرجوا فرحين وقد غلبوا في أنفسهم فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبرئيل (عليه السلام) بهؤلاء الآيات (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ. :).

وفيه واخرج ابن أبي حاتم عن عمر مولى غفر قال : دخل بعض اهل الكتاب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسألوه فقالوا : يا أبا القاسم كيف تقول في رجل كان يسيح في الأرض؟ قال : لا علم الي به! فبينما هم على ذلك إذ سمعوا نقيضا في السقف ووجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) غمة الوحي ثم سرى عنه فتلا («وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) الآية فلما ذكر السد قالوا : أتاك خبره يا أبا القاسم حسبك.

١٧٦

ولقد تضاربت الآراء والروايات حول «من هو ذو القرنين هذا»؟ ولا يهمنا شخصه كما سكت عنه القرآن وإنما شخصيته بذكراه أيا كان وأيان!

قصارى ما يستفاد من اسمه أنه عربي ، وليس من دأب القرآن مسخ الأسماء الأعجمية ، وإنما تغيير مّا قدر ما يجعله وفق الأدب العربي كإبراهيم معرب آبراهام وموسى معرب موشه ، و «ذي القرنين» لا يلمح بسمة غير عربية ، و «ذي» تلمح كأنه من الأذواء اليمنيين وأنه اسمه الخاص أم أشهر أسمائه قضية للغة الفصحى في (بَيانٌ لِلنَّاسِ)!

فاسمه يدلنا على أنه أحد التبابعة الأذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن وقد تردد ذكره في عديد من أشعار الحميريين وبعض شعراء الجاهلية (١).

__________________

ـ وفي نور الثقلين : ٢٩٣ ج ١٩٩ في قرب الاسناد للحميري باسناده الى موسى بن جعفر (عليه السلام) حديث طويل يذكر فيه آيات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وفيه : ومن ذلك ان نفرا من اليهود أتوه فقالوا لابي الحسن جدي استأذن لنا على ابن عمك نسأله قال : فدخل عليّ فاعلمه فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وما يريدون مني؟ فاني عبد الله لا اعلم الا ما علمني ربي ثم قال : اذن لهم فدخلوا فقال : اسألوني عما جئتم له ام أنبئكم؟ قالوا : نبئنا ـ قال : جئتم تسألوني عن ذي القرنين؟ قالوا : نعم ـ قال : كان غلاما من اهل الروم ثم ملك وأتى مطلع الشمس ومغربها ثم بنى السد فيها قالوا : نشهد ان هذا كذا وكذا :

(١) ذكر جمع من المؤرخين ان ذا القرنين احد التبابعة الأذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن كالاصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام وابن هشام في السيرة والتيجان وأبي ريحان البيروني في الآثار الباقية ونشوان بن سعيد الحميري في شمس العلوم ـ واختلفوا في اسمه انه مصعب بن عبد الله او صعب بن ذي المرائد وهو اوّل التبابعة وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع او تبع الأقرن واسمه حسان او اسعد الكامل الرابع من ـ

١٧٧

__________________

ـ التبابعة بن حسان الأقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الاول او اسمه «شمر يرعش» :

وقد ورد ذكر ذي القرنين والافتخار به في عدة من اشعار الحميريين وبعض شعراء الجاهلية ففي البداية والنهاية انشد ابن هشام للأعشى :

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا

بالجنو في جدث أشم مقيما

وانشد عثمان بن أبي الحاضر لابن عباس قول بعض الحميريين.

قد كان ذو القرنين جدي مسلما

ملكا تدين له الملوك وتحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

اسباب امر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثأط حرمد

وفيه يقول النعمان بن بشير :

فمن ذا يعاودنا من الناس معشرا

كراما فذو القرنين منا وحاتم

ويقول فيه الحارثي :

سموا لنا واحدا منكم فنعرفه

في الجاهلية لاسم الملك محتملا

كالتبعين وذي القرنين يقبله

اهل الحجى فأحق القول ما قبلا

ويقول ابن أبي ذئب الخزاعي :

ومنا الذي بالخافقين تغربا

واصعد في كل البلاد وصوبا

فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا

وفي ردم يأجوج بني ثم نصبا

وذلك ذو القرنين تفخر حمير

بعسكر فيل ليس يحصى فيحسب

ولقد حفظت اسماء الأذواء كالملوك المثامنة وهم ثمانية أذواء حيث ناهضوا حمير ايام دولتهم كما يقول شاعرهم :

اين المثامنة الملوك وملكهم

ذلوا لصرف الدهر بعد جماح

ذو ثعلبان وذو خليل ثم ذو

شجر وذو جدن وذو صرواح

او ذو مغار بعد او ذو جوفز

ولقد محا ذا عثكلان ما حي

ثم سائر الأذواء أكبرهم مرثد وهو جد الناظم قال فيه :

او ذو مراثد جدنا القيل بن ذي

شجر ابو الأذواء رحب الساح

ثم يذكر في اشعاره التسعة عشر ٥٣ آخرين من الأذواء ك : ذونين ـ ذو سفر ـ ذو ـ

١٧٨

ولأن هذا الاسم وصفي وليس الاسم الخاص فقد يجوز كونه ترجمة عربية عن حالته الخاصة التي تميزه عن غيره بميزة وحيدة ، إضافة الى سائر أفعاله المذكورة في هذه الآيات ، فقد يجوز عدم كونه عربيا كاسكندر الثاني المقدوني المعروف لدى الخاص والعام بذي القرنين ، المنسوب إليه السد لحد صار مثلا يقال : كسدّ الإسكندر؟ وكما ورد في بعض الروايات (١) وقد سيطر على الشرق والغرب بما لا مزيد عليه (٢).

ولأن هذه السيطرة لا تخصه ، وأنه كان وثنيا من الصابئين وقد ذبح ذبيحته للمشتري ، والقرآن يصف ذا القرنين بالعدل وصلاح العبودية لله ،

__________________

ـ عمران ـ ذو بيان ـ ذو ـ الرمحين ـ ذو يرحم ـ ذو بهر ـ ذو يزن ـ ذو نوش ذو نوح ـ ذو الانواح ـ ذو تيقان ـ ذو أصبح ـ ذو الشعبين ـ ذو حوال ـ ذو مناح ـ ذو غمدان ـ ذو فائش ـ ذو رعين و ...

(١) كرواية عقبة بن عامر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ورواية قرب الاسناد عن موسى بن جعفر (عليه السلام) وذهب اليه جماعة من قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين كمعاذ بن جبل وقتادة ومن المتأخرين الامام الرازي في تفسيره.

(٢) يؤكد عليه الرازي في تفسيره قائلا : ان إسكندر المقدوني جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى الى البحر الأخضر ثم الى مصر وبنى الاسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف الى ارمينيا وباب الأبواب ودان له العراقيون والقبط والبربر واستولى على ايران وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع الى خراسان وبنى المدن الكثيرة ثم رجع الى العراق ومات في شهرزر او رومية المدائن وحمل الى اسكندرية ودفن بها وعاش ثلاثا وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة ، فلما ثبت بالقرآن ان ذا القرنين ملك اكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أنه الإسكندر فليكن ذو القرنين هو الإسكندر.

١٧٩

إذا فليس هو المقدوني ، وقد يجوز أنه الإسكندر الاوّل ، وبينهما أزيد من الفي سنة (٢٣٠٠) ق م فقد كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا (١) وكان وزيره الخضر؟

ولان التأريخ لا يسجل لنا ملكا قبل المسيح بأكثر من ألفين وثلاثمائة ملك الأرض من أقصاها إلى أقصاها وبنى السد و .. فقد لا ينطبق ذو القرنين على واحد منهما!

وان كان المحتمل هو الاول قويا ، مهما لا يوجد «ذو» في الاغريقيين اليونان حيث الوصفية في التسمية تحل هذه المشكلة!.

وعلّه هو «كورش» أحد ملوك الفرس الهخامنشيين (٥٣٩ ـ ٥٦٠ ق م) فقد جمع بين مملكتي الفارس وما دو سخر بابل وأذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم وساعد في بناء الهيكل وسخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم وبلغ المغرب ثم سار إلى اقاصي المعمورة شرقا (٢) وتشهد كتب

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٤١ ـ اخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن أبي حاتم وابو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني قال كنت اخدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ وساق حديث سؤال جماعة من اهل الكتاب عنه في ذي القرنين الى ان قال : ان أول امره انه كان غلاما من الروم اعطي ملكا فسار حتى أتى ساحل ارض مصر فابتنى مدينة يقال لها اسكندرية فلما فرغ من شأنها بعث الله عز وجل اليه ملكا فعرج به فاستعصى بين السماء ثم قال له : انظر ما تحتك فقال ارى مدينتي وارى مدائن معها ثم عرج به فقال انظر فقال قد اختلطت مع المدائن فلا اعرفها ثم زاد فقال انظر قال ارى مدينتي وحدها ولا ارى غيرها قال له الملك انها تلك الأرض كلها والذي ترى يحيط بها هو البحر وانما أراد ربك ان يريك الأرض وقد جعل لك سلطان فيها فسر فيها فعلم الجاهل وتثبت العالم فسار حتى بلغ مغرب الشمس ...

(٢) سار نحو المغرب لدفع طاغية «ليديا» الطاغي عليه ظلما دون عذر فحاربه وعاصره في عاصمته ففتحها واسره ثم عفى عنه واحسن اليه «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ..» ـ

١٨٠