الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

هنالك للمثول الدائب بين يدي المعبود بوحيه الحبيب وتلقي رسالته ، عبادة دائبة واصطبار لها ، فاعبده واحشد نفسك في سبيلها لتحّمل أعباء وعناء ، تجردا عن كل شاغل ، وتمردا عن كل حائل ، وتحفزا بكل جارحة وخالجة .. وليكن كلّك عبادة لربك ، بحالك ومقالك وافعالك ، بحلّك وترحالك ، والعبادة في حواجز الشيطنات وعوائق بوائق تحول دونك وعبادة ربك ، انها بحاجة الى اصطبار باستمرار ، ولتصل الى ساحة القرب فلا تحس بغربة وكربة حين انقطاع الوحي! ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) تسميّه او يتسمى باسمه أو تسمو إليه؟!.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)(٦٧).

«الإنسان» هنا نوعه بطبعه وعقله المكسوف بطوع الهوى ، كما الإنسان في (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) وقد يصح تسميته إنسانا لأن الله تعالى عهد اليه فنسي (١) ان أصله إنسيان : افعلان من النسيان (٢) ، وقد يؤيده هنا (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) وكما في سائر القرآن (٣) فالإنسان بنسيانه

__________________

(١) لسان العرب ج ١ ص ١١٢ ـ رواه عن ابن عباس.

(٢) المصدر قاله ابو منصور وهو مثل كيل اضحيان من ضحي يضحى وقد حذفت الياء فقيل انسان.

(٣) كقوله تعالى «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (١٠ : ١٢) فحين يمسه الضر يذكر ما تخبأ في فطرته فلما كشفت عنه ضره ينسى «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (١٧ : ٦٧) «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا» (٣٩ : ٤٩) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى» (٧٩ : ٣٥) «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى» (٨٩ : ٢٣) وهكذا نرى في الكثير من (٦٥) مرة يذكر الإنسان في ساير القرآن يقرن بنسيان الفطرة وسواها مما يجب عليه ان يتذكرها.

٣٦١

فطرته وفكرته ، أنه خلق من قبل ولم يك شيئا ، يبتلى بهذا السؤال الاستبعاد الاستنكار.

«ويقول» دون «وقال» لمحة الى استمرارية هذه المقالة للإنسان أيا كان وأيان إلّا من تذكر ..

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) النسيان مهما نسي سائر الأدلة الآفاقية والأنفسية على أنه سوف يخرج حيا (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)؟ والواو هنا عطف على ما لم يذكر مما يجب ان يتذكر من دليل ، وقد ذكر الأعم ذكرا والأقرب تذكرا ، الذي يصدقه كل عاقل ومجنون : أنه خلق من قبل ولم يك شيئا ، فهل إن بدء الخلق أهون أم إعادته (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) أهون عليه في حسابنا ، واما في حساب الله فكله هين لا صعوبة فيه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٥٠ : ٣٨).

أترى ماذا يعني (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)؟ هل إنه خلق الإنسان كسائر الخلق لا من شيء كان فخلقه للمادة الأولية في أصلابهم ، حمل لنا و (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (٦٩ : ١١) (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٦ : ٤١) فالذي خلق الأشياء ـ كمادة اوّلية ـ لا من شيء (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) : «في كتاب ولا علم» (١) هو قادر على أن يخلق الإنسان مرة ثانية وهو شيء بروحه الحي وجسمه التراب إمّا ذا؟.

__________________

(١) محاسن البرقي عن حمران قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية فقال (عليه السلام) : لم يكن شيئا في علم ولا كتاب».

٣٦٢

أم إنه خلق الإنسان الاوّل من تراب ولم يك شيئا إنسانيا «لا مقدرا ولا مكونا» (١)

وإنما هو تراب ، فخلقه وهو روح وتراب أهون عليه.

ام إنه خلق كل انسان ـ بعد الاوّل من نطفة ثم ... ولم يك شيئا مذكورا (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٧٦ : ٢)؟

كل ذلك خلق للإنسان من قبل ، ففي الاول ـ حيث المادة الاولية ـ لم يك شيئا في كتاب التكوين حيث الشيئية كانت للمادة الاوّلية ، ولا في العلم في علم غير الله ، إذ كان الله ولم يكن معه شيء وقد كان في اللوح المحفوظ حيث لا يعزب عنه شيء!

وفي الثاني كان في كتاب التكوين والعلم المفصول ولم يك مقدرا إنسانيا كسيرة الخلقة ، ولا مكوّنا إنسانيا وإن كان كنطفة.

وفي الثالث «النطفة» لم يك شيئا مذكورا يحق ذكره كإنسان ، أو يليق بالذكر لمكان قذارة النطفة ، مهما كان مقدرا في طريقه إلى التكامل ، ومكونا كخطوة أولى من كينونته فقد

«كان شيئا ولم يكن مذكورا» (٢) «كان مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق» (٣)(٤) او «كان شيئا مقدرا لمّا

__________________

(١) في اصول الكافي عن مالك الجهني قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية فقال : «مقدرا ولا مكونا».

(٢) تفسير العياشي عن زرارة سأل الباقر (عليه السلام) عن الآية فقال : .. وفيه عن عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادق (عليه السلام) مثله.

(٣) عن سعيد الحذاء عن الباقر (عليه السلام) : ...

(٤) الكافي باسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني باسناده عن الامام الصادق (عليه السلام) سئل عن قوله تعالى : «ا ولم ير (الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فقال لا مقدارا ولا مكونا» وسئل عن قوله تعالى (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ..) قال : كان مقدرا غير مذكور.

٣٦٣

قدّر من نطفة أمشاج ولمّا يكون إنسانا!

وقد تعني الآية كل هذه الثلاث ، على اختلاف دلالاتها ، على أن الخلق المعاد أهون عليه ، (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) إذ خلقنا اوّل خلق ـ وإذ خلقنا الإنسان الاول ـ وإذ خلقنا النطفة (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ـ ام شيئا مقدرا لخلق الإنسان كسيرة مستمرة مثل النطفة ـ ام شيئا مذكورا مهما كان نطفة! ، وان كان «شيئا» في سياق النفي تستأصل كلّ شيئية كما في الخلق الاوّل ، ولكنها تتحمل نفي الشيء الإنساني كالاخيرين ، ضمن أصل الشيء كالأول ، وقد تؤيده (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (١٩ : ٩) وبرهان المماثلة الاولوية يثبت إمكانية المعاد ، وبرهان العقل العدل والنقل يثبتان معه ضرورته!

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا)(٧٠)

«فو ربك» تحمل برهاني العدل والنقل ، فربوبيته تعالى ولا سيما الرسالية المحمدية تقتضي الحشر والجزاء ، فلو لا الحشر لبطلت الربوبية الحكيمة العادلة وبطلت الرسالة المحمدية وما دونها ، فليس القسم هنا إلّا بادلّ دليل على ضرورة المعاد ، وقد تمت البراهين الأربع : إمكانية بالاولوية ، وضرورة بأصل الربوبية العدالة ـ ضرورة اخرى بالربوبية الرسالية المحمدية فلو لا الحشر لبطلت ـ والرابع هو النقل الحامل لهذه الثلاث!

ترى ومن هم الشياطين المحشورون معهم؟ إنهم شياطين الإنس والجن» (٦ : ١١٢) وهم (أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٤٧) (وَمَنْ

٣٦٤

يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٤٣ : ٣٩)

هم دركات كما الشياطين دركات وقد تربو شيطناتهم على شياطينهم أو هم على سواء أم دون ذالك طرائق قددا ، والله يحشرهم وإياهم من أجداثهم : (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) : بروكا على ركبهم ذلا وانكسارا ، واجماعا حولها كالتراب والحجارة ترذلا وانحسارا (١) والثاني يعني الأوّل تضمنا ، فهم إذا حول جهنم ناظرين حكم أحكم الحاكمين ، فإذا ادّاركوا حولها جميعا ركاما بعضهم على بعض ننزع منهم صلاء الجحيم ووقودها ، التي يتّقد بها ويحرق سائر اهل الجحيم :

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) : : هنالك أئمة الضلالة وأشياعهم ، ولا يختص وقود النار بالأصلاء بل ومن الفروع (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) لننزعن للوقود (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) تمردا وعصيانا ، لنجعل وقودا على وقود فنركمه جميعا ، (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) والصلى مصدر صلى : الوقود ، فمن الوقود ما هو في أصول الجحيم ، وهو اولى بها صليا ، ومنه ما هو في سائر الجحيم وهو دون ذلك صليا : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (٣ : ١٠) ثم لا وقود إلّا من يتقد من فروع الضلالة:

صحيح انها (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٩٢ :) ١٥) ولكنما الوقود ان هما الأشقى بالنسبة لسائر الأشقياء مهما كان الأولون هم

__________________

(١) الاول أصله فعول جمع جاثي وهو البارك على ركبتيه ـ والثاني عن ابن عباس انه جمع جثوة وهو المجتمع من التراب والحجارة. وقد يناسبه ما

أخرجه عبد الدين احمد في زوائد الزهد والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين.

٣٦٥

اولى بها صليا ، فنزع الأشد على الرحمن عتيا ليس لأصل الدخول في الجحيم حيث هي مكان العاتين أجمعين ، فليس النزع إلّا لصلاء الجحيم ، ولكن ليسوا في صلائهم سواء (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا)! فهناك وليّ للصليّ وهنالك أولى لها!

وآيات الصلي كلّها شاهدة على أنها لا تعني مجرد الدخول في النار ولا سيما آية الأشقى فانها تحصر صليها بالأشقى ، فلو أنه الدخول فغير الأشقى إذا ـ لا يدخلها!

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٧٢) :

(وَإِنْ مِنْكُمْ) خطاب صارم لكافة المكلفين من الجنة والناس أجمعين ، فلا يختص بأصحاب الجحيم إذ ليس منهم المتقون الناجون من الواردين (١)(وَإِنْ مِنْكُمْ) احد (إِلَّا وارِدُها) دخولا فانه نص فيه ، لا مرورا ام قربا مهما عنيا من الورود بقرينة وكما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) «لا يبقى بر ولا فاجر إلّا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت لإبراهيم (عليه السلام) حتى أن للنار ضجيجا من بردهم(ثُمَّ نُنَجِّي

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٨٢ اخرج ابن سعد واحمد وهناد وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الانباري والطبراني وابن مردويه عن ام مبشر قالت : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يدخل النار احد شهد بدرا والحديبية قالت حفصة : أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : الم تسمعيه يقول : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)؟ وفيه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه الا تحلة القسم فأن الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

٣٦٦

الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(١) :

انهم يرونها على سواء «ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم في رحله كشد الرجل ثم كمشيه» (٢) وأحاديث المرور تطرح ام تأوّل لمخالفتها القرآن والسنة (٣) :

ف «واردها» و (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) و (نَذَرُ الظَّالِمِينَ) شهود صدق على الدخول مهما كان عذابا أو رحمة ، فلا عذاب في مرورها ، ولا يذر الظالمين مارين عليها ، وانما هو الورود للجنة والناس أجمعين : (: : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١ : ١٩) و (٣٢ : ١٣) مليء دون استثناء ، وإنما يستثنى ، المتقون عن عذابها دون ورودها وملئها! :

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٨٠ اخرج احمد وعبد بن حميد والحكيم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي في البعث عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضهم يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال : وأهوى بإصبعيه الى أذنيه ـ صمتا ان لم أكن سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : لا يبقى ...

(٢) المصدر اخرج احمد وابن أبي حاتم وابن الانباري والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث وابن مردوية عن ابن مسعود في الآية قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون ...

(٣) مثل ما في الدر المنثور ـ اخرج ابن مردوية عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) يقول : مجتاز فيها.

أقول لم يقل مجتاز بها ـ بل ـ فيها ، مما يدل على الورود ، فبعض يردها ورود الاجتياز كالمقربين وآخرون يصدرون عنها بأعمالهم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

٣٦٧

.. وقد تلمح «واردها» دون «يردها» إضافة الى حتمية الورود باسم الفاعل ، إلى انسلاخ ذلك الورود عن الزمان فقد يشمل مثلث الزمان يوم الدنيا والبرزخ والقيامة ، ف (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) مثلث الجحيم فالدنيا بشهواتها ولهواتها جحيم كما البرزخ والقيامة نتيجة لها ، ولكنما الذين اتقوا منّجون عنها ، عن بواعثها يوم الدنيا حيث يتقون موجبات النار ، وعن كوارثها في برزخها يوم البرزخ وعن نار الخلود يوم الخلود ، إذا فهنالك مثلث للورود ، مهما كان فيما سوى الأخير ورود الاجتياز لفترة قصرت كما الدنيا أم طالت كما البرزخ ، ومن ثم ورود في مختلف درجاته او دركاته بمختلف الاستحقاقات والتخلفات!

(كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ف «ربك» وهو في أعلى درجات الربوبية يورد كلا في الجحيم الأخرى كما أوردهم في الاولى ، ثم ينجى كلا هناك كما نجي «بالتقوى» هنا ، ولكي يرى المتقون سجن المتمردين فتكون لهم حظوة ، ويرى المتمردون المتقين فتكون عليهم حسرة ، وهذه قضية الربوبية القمة (كانَ عَلى رَبِّكَ) المحتومة بما حلف : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)! فقد كتب على نفسه عموم الورود في الجحيم بربوبيته كما (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ::) (١٦ : ١٢) ومن الجمع الرحمة قضية الربوبية الجمع في الجحيم!

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) والفترة المستفادة من «ثم» درجات حسب درجات التقوى كما سبق عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) «فأولهم» كلمح البرق ـ وهو منهم ـ وآخرهم كمشية ، وهم أخر من ينجّى مهما بقي ردحا فيها ، وإن كثيرا كالخالدين غير الآبدين فيها ، ف «ثم» تعم اللّمحة الى الخلود غير الدائب! ولكن :

(وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) قد تخرج المعذبين في النار عن المتقين وهذا هو الحق ، وبقاء الظالمين يشمل بعد المشية الى الخلود وإلى الأبد ، فلا تعني

٣٦٨

«ثم» إلّا اللمحة الى المشية ، ثم الباقون هم الظالمون على دركاتهم! ويا ويلنا ونحن كلنا واردوها وهذا يقين ، ومن هذا الذي يخرج منها وليس إلّا شكا بعد يقين ، اللهم الّا (الَّذِينَ اتَّقَوْا) ولا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين مثله ، وكما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم): «فقد علمت اني وارد النار ولا أدري كيف الصدور بعد الورود» (١).

ولقد أثرت هذه الآية في أصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أثرا بالغا يدهشهم ف «إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه هل أتاك انك وارد؟ فيقول : نعم! فيقول : هل أتاك انك خارج؟ فيقول : لا فيقول : ففيم الضحك؟ (٢) اجل وان يقين ورود النار لا يقطعه إلا يقين التقوى المنجية عن النار ، وقد بينها الله في كتابه المبين ، ونحن كلنا ـ إلا المعصومين ـ سوف نردها ، وهل ننجوا منها؟ الله اعلم! إذ لا ندري هل تختم عاقبة أمرنا بالتقوى فنموت أتقياء ، أم دون ذلك ، فعلينا إذا

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٨٢ ـ اخرج ابو نعيم في الحلية عن عروة بن الزبير قال : لما أراد ابن رواحة الخروج الى ارض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال : اما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة لكم ولكني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرء هذه الآية ... فقد علمت ...» وفيه اخرج ابن المبارك واحمد في الزاهد وابن عساكر عن بكر بن عبد الله المزني قال : لما نزلت هذه الآية ذهب عبد الله بن رواحة الى بيته فبكى فجاءت المرأة فبكت وجاءت الخادمة فبكت وجاء اهل البيت فجعلوا يبكون فلما انقطعت عبرتهم قال : يا أهلاه! ما الذي ابكاكم؟ قالوا : لا ندري ولكن رأيناك بكيت فبكينا قال : انه أنزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) آية ينبئني فيها ربي تبارك وتعالى اني وارد النار ولم ينبئني اني صادر عنها فذاك الذي ابكاني.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٢٨٢ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : كان اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا التقوا ...

٣٦٩

الجهاد الدائب في التقوى مستعيذين بالله من كلّ شيطان رجيم!

ولا تناحر آية الورود آية الإبعاد : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢١ : ١٠١) بل وتناظرها ، حيث الإبعاد ليس إلّا بعد الورود أو القرب ، وآية الورود تبعدهم عنها بعد الورود ، ف «ثم ننجي» تعني ما تعنيه (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) ـ (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١٠٣) :

تتلقاهم الملائكة الى الجنة حين ينجّون ويبعدون عن النار ، دون ان يسمعوا حسيسها ، ودون ان يحزنهم الجحيم ، بل وقد يفرحون بما رأوا سجن المتمردين رحمة على رحمة ، وكما هي على أهل النار عذاب فوق العذاب! فالنار إذا للمتقين خامدة (١) مهما كانت لأهلها محرقة اللهم إلّا حينا كلمحة ، وهنالك جثو حول جهنم للظالمين وجثو آخر فيها لهم واين جثّو من جثو :

إن الذين هم اوّل المقذوفين في الجحيم يردون تصلية للجحيم ، من أئمة الضلالة ومن كل شيعة هم أشد على الرحمن عتيا ، وطليعة الصادرين من كل الواردين هم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى وسائر النبيين من المقربين وطائفة من اصحاب اليمين ، وبينهما متوسطون من الصادرين والباقين :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ٢٤٤ عن جابر بن عبد الله انه سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : إذا دخل اهل الجنة الجنة فقال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بان نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة.

٣٧٠

وترى لماذا غير الظالمين يردونها حتى ينجّوا منها؟ إن ورودهم فيها لهم حظوة رحمة حيث يرون سجن الظالمين مبتهجين انهم لم يردوها معذبين فانها لهم برد وسلام وللظالمين حرق وإيلام! :

وقد يتحدث المسيح (عليه السلام) فيما ينقله برنابا الحواري عن هذا الورود العام :

أجاب يسوع : يتحتم على كل احد أيا كان أن يذهب الى الجحيم (٨) بيد أن ما لا مشاحة فيه أن الأطهار وأنبياء الله إنما يذهبون الى هناك ليشاهدوا لا ليكابدوا عقابا أما الأبرار فإنهم لا يكابدون إلّا الخوف (١٠) وماذا أقول لكم؟ أفيدكم أنه حتى رسول الله يذهب إلى هناك ليشاهد عدل الله (١١) فترتعد ثمة الجحيم لحضوره (١٢) وبما أنه ذو جسد بشري يرفع العقاب عن كل ذي جسد بشري من المقضي عليهم بالعقاب فيمكث بلا مكابدة عقاب مدة إقامة رسول الله لمشاهدة الجحيم (١٣) ولكنه لا يقيم هناك إلّا طرفة عين (١٤) وانما يفعل الله هذا ليعرف كل مخلوق انه نال نفعا من رسول الله (١٥) ومتى ذهب إلى هناك ولولت الشياطين وحاولت الاختباء تحت الجمر المتقيد قائلا بعضهم لبعض : اهربوا فأن عدوّنا محمّد قد أتى (إنجيل برنابا ١٢٦ : ٧ ـ ١٥) :

ثم في الآيات ١٧ ـ ٢١ ـ تصريحات أن ما من مات على دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فمصيره إلى الجنة وان كابد العقوبة للأعمال السيئة وترك الصالحات فانه بالمال ينتقل الى الجنة بدعاء محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإن عذب في نار البرزخ والقيامة كما يستحق :

٣٧١

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً)(٨٠)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)(٧٣)

٣٧٢

هرطقة نكراء وطنطنة خواء في قولة هراء من الذين كفروا للذين آمنوا في حوار دائبة بتراء تضللهم او تقلل من ايمانهم ، ولكنما المؤمن حق الايمان لا يتزعزع بهذه الزلازل ، فالمؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف!

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) لا يتفهمونها وهم يسمعون ، مبتهجين ومتبجحين بالقيم المادية الفانية قائلين : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) منا الكافرين ومنكم المؤمنين (خَيْرٌ مَقاماً) : قياما في هذه الحياة بوسائلها المتوفرة لدى الناشطين ، وقواما فيها ، ومكانا لكل قيام وقوام ، فمن هو خير في مثلث «قياما» «ثم» (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) : ناديا لتنادى الشورى (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) في مصالح الحياة! وناديا لكل أنس والإتيان بمختلف الشهوات (تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (٢٩ : ٢٦)؟

إنهم يرونهم في نوادي فخمة ومجامع مترفة بكل ترف وفي كل طرف ، والى جنبهم تلك النوادي المتواضعة والمنتديات الفقيرة ، دون أبّهة ولا زينة وكبرياء فيتقولون لهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) وإذا الايمان بالله يعجز عن إصلاح الحياة الحاضرة فهو عن إصلاح المستقبلة ـ لو كانت ـ أعجز!

ومن هؤلاء سادة من قريش ، قادة الكفر ـ كالنضر بن الحارث وعمرو ابن هشام والوليد بن المغيرة وأبي جهل وأبي لهب وإخوانهم المترفين وجاه سادة الايمان ، كبلال وعمار وخباب واضرابهم من المؤمنين المعدمين ف (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ ..)؟ ذلك! رغم انها حكمة الله في صراط الحق ان تظل العقيدة الصادقة مجردة من الجواذب المادية زينة وطلاء وإغرائا ، ليقبل عليها من يريدها خالصة لحقها دون زخارفها ، ويدبر عنها من يبتغي زينة الحياة الدنيا.

٣٧٣

هنا يأتي جوابا واقعيا غابرا عن (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) لمحة الى مصارع الغابرين :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً)(٧٤) :

إن القرون الهالكة المالكة هي اكثر مما يملكون و (أَحْسَنُ أَثاثاً) الظاهرة ، بأحسن منهم مظهرا «ورئيا» إنها ليست قلة منسية ، فعاد (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) هؤلاء واضرابهم هم أحسن منهم أثاثا ووسائل العيشة ورئيا : منظرا في أنفسهم وأثاثهم وبيوتهم وما يملكون ، فقد هلكوا بما ملكوا فأي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟!

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥) :

(مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) غارقا تائها ومضى على ضلالته ردح من الزمن فهو لا يهتدي ، أترى ماذا يفعل به الرحمن؟! أحملا على الهدى وهو مصر على الردى؟ ام لا يمده في هوى او ردى وكفى به ـ لو أمكن ـ استمرارا في الردى! او (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) جزاء وفاقا إملاء : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) الإملال الامهال عمرا وأسبابا ، من بنين واموال (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٣ : ٥٥) مدا لهم في أسباب العذاب ثم مدا في العذاب (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (١٩ : ٧٩)! :

(فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) قبل

٣٧٤

الساعة كتقدمه (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي هي بداية العذاب الأصيل وهنا او هناك «فسيعلمون» عين اليقين (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) وجاه ما كانوا يقولون للذين آمنوا (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) حيث يرون أنفسهم شرا مكانا رغم ما كانوا يزعمونهم (خَيْرٌ مَقاماً) وكانوا في زعمهم أحسن نديا : نادي الأعوان الجنود ونادي الشهوات ، فيرونهم «أضعف جندا! فلا تنفعهم جنود النوادي أيا كانوا بل يضرونهم كما كانوا يضلونهم:

فقد زادوا ضلالا على ضلال في الدنيا ثم هم يوم القيامة من المرذولين ، واما الذين اهتدوا :؟

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(٧٦) :

كما هناك مدّ للذين كفروا ، كذلك هنا مد للذين آمنوا واين مد من مدّ : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠) :

فمد الهدى يتبنى هدى قبلها كمدّ الردى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧) والخير في هذا البين ليس الذي يزعمه الذين كفروا من أثاث ورئي يفنى ، بل (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١٢ : ٤٦)(١) :

الأقوال والأعمال كلها باقية بما يستنسخها الله (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ولكنما الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا» يثوب

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الكهف فلا نعيده هنا الا ما أشرنا اليه.

٣٧٥

ويرجع الى الإنسان حالا واستقبالا ، حيث الثواب هو رجوع الشيء إلى حالته المقدرة المقصودة (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) مكان ردها وزمانه في الجنة يوم القيامة وما قبلها.

واما الطالحات الزائلات بشهواتها ولهواتها ، الباقيات بخطراتها التي هي لزام فاعليها ، إنها شر عند ربك عقابا وشر مردّا ، فمن هو إذا خير مقاما وأحسن نديا وأثاثا ورئيا وخير مكانا وأقوى جندا؟ أهم أصحاب الباقيات الصالحات ، ام الزائلات الباقيات الطالحات؟!

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً)(٨٠).

«أفرأيت» استفهام عجاب واستنكار في (الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) الدالة على توحيد الربوبية ومعادها والرسالة الإلهية بينهما ، كفرا بمثلث الآيات آفاقية وأنفسية.

فرغم أنه (كَفَرَ بِآياتِنا) كلها دون إبقاء ، يتميع بما يخيل اليه انه يتمتع (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) هنا ام في الحياة الأخرى ، وانا رابح في الاولى الواقعة ، وفي الأخرى لو انها واقعة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (١٨ : ٣٦).

طنطنة حمقاء ، وهمهمة جوفاء ، ويكأن وفرا من المال والولد هو جزاء الكفر بآيات ربنا! (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) فيما هنا ام هنا «ام اتخذ» هنا لما هنا وهناك (عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) فلا غيب له مطلع ، ولا عهد عند الرحمن فإنهما أو واحدهما لزامهما صلة عريقة مع الرحمن ، وقد (كَفَرَ بِآياتِنا) فما قولته الجوفاء إلّا طنطنة خواء وهرطقة هراء والله منها براء:

٣٧٦

وانها قولة تكرر من حماقى الطغيان ، كأنهم يملكون الكون بمكوّنه ، فهم يحاسبون بديل ان يحاسبوا ، فكما هم أولاء هنا غارقون فيما يشتهون ، كذلك هم في الأخرى ـ لو كانت ـ فيما اشتهت أنفسهم خالدون :

وهل ان (الَّذِي .. وَقالَ) شخص كافر غابر ليخصه التعجيب التأنيب؟ علّه نعم حيث العبارة العامة «الذين .. يقولون»! او علّه لا مهما كان موردا لنزول الآية حيث المورد لا يخصص ، ف «لا تكونن ممن يقول في شيء انه في شيء واحد».

ويظهر من «كفر» حادث الكفر بعد الايمان ، ام مزيده دون ايمان ، فيعم التعرق في الشرك كالذي خاطب خباب بن الأرثّ حين طالبه دينا كان له عليه فأجاب بما أجاب : «موعد ما بيني وبينك الجنة فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا» (١) كما يعم ضعيف الايمان الذي كفر حين خيّل اليه ان الكفر يجلب مالا وولدا!

«كلا»! ليس كما يهرف بما لا يعرف «سنكتب» عليه «ما يقول» قولة نكراء وهي وبالة عليه (وَنَمُدُّ لَهُ) هناك (مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) بدلا عن اي مال وولدا! (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) لو اوتي هنا او هناك مالا وولدا ف (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (١٩ : ٤٠)(وَيَأْتِينا فَرْداً) دون مال ولا ولد فمم يكون له ـ إذا ـ مال وولد؟! :

__________________

(١) رواه فيمن رواه القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) ومثله في معناه في الدر المنثور عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل الله الآية.

أقول تخصيص نزول الآية بموردها هذا بعيد ، إلا ان يكون من مصاديقها.

٣٧٧

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)

٣٧٨

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(٩٨)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)(٨٢) :

واذلّاه لمن يتخذ من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ، تحطيما لكرم الإنسانية ، وتعزيرا للذليل وتقديما له على من خلقه الله في أحسن تقويم ، كيف يردّ نفسه بتخيّل العز أسفل سافلين.

أترى العز في ألوهة الأصنام والأوثان والجبت؟ وهي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أنفسها شيئا فضلا عن عابديها!

ام في ألوهة الطواغيت؟ وقد استكبروا عليهم وحطّوا من كرامة إنسانيتهم حيث استخفوهم وسقّطوهم عن كرامتهم!

أم في ألوهة الأولياء من الملائكة والنبيين؟ وهم يرون عزّهم وإياهم في عباده الله ، وليسوا هم ليغنوا عنهم من الله شيئا إذ (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)! ام ليعتزوا بهم عند الله ، (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)؟ وفي ذلك

٣٧٩

مسّ من كرامة الله ان يتخذوا سلطانا من دون الله ما آتاهم به الله ، وأن يعبدوا من دون الله إزراء بساحة الربوبية ، وكيف يصلح المبعد مقربا ، ام كيف يطلع البغيض عزيزا! (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ : لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٣٦ : ٧٥).

فأين ذلك العز الأعز من الوهة الله وحده وعبوديته؟ وهكذا يكون دور من يستند الى غير القرآن ويستعين به تاركا لكتاب الله ، معتزا بسواه لتعزيز دين الله بألقاب براقة مطنطنة ، وكلمات عملاقة! هي عن كثير من الحق فاضية خاوية!

«كلا» لا عز هنا وهناك ام هنالك ، «وهم» الآلهة (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ::) (١٠ :) ٢٨) (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (٣٥ : ١٤). كما وهم أولاء (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٦ : ٢٣) :

وهذا من الطف الجمع بين ضميري الجمع ، سيكفرون بعبادتهم حيث يعم الكفرين واقعا لا نكير له! ثم «ويكونون» كل «عليهم» على كلّ «ضدا» حيث زيّل الله بينهم فظهر الحق عن الباطل وغلب هنالك المبطلون!

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)(٨٣) :

إنهم تهزهم تحريكا بشدة وإزعاج هزا ، وتحرضهم على الشر حرضا ، ولو لم يكن الكافر هزا في نفسه بزا لم يسطع الشياطين ان تهزهم هزا.

ولا يعني الإرسال هنا بعثا إليهم ليضلوهم أكثر مما هم ، بل عدم

٣٨٠