الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)(٢٦)

٢١

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)(٩) :

ثماني عشرة آية تنزل تعريفا بقصة اصحاب الكهف ، تتقدمها اية الاستعجاب من عجب قصتهم في حسبان ، فآيات الله كلها عجب وليست فقط قصة اصحاب الكهف وفيها اعجب منها ، ومنها حسب الروايات رأس الحسين (عليه السلام) المجذوذ حيث تكلم وقرأ آيات من الكهف الى (أَمْ حَسِبْتَ) فقيل : «أمرك اعجب»! (١).

ولأن «عجبا» مصدر تلمح الى ان القصة كانت في حسبان من أعجب العجب ، وعلّ من عجبها ترك الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الاستثناء بمشيئة الله لما سئل عنها

فقال : (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) اطمئنانا بربه انه يوحي اليه بها ، واستعجالا لجوابهم ، لذلك تتقدم القصة بعد احتباس الوحي ردحا من الزمن آية التأنيب بهذا العجب (أَمْ حَسِبْتَ) ف «ام» عطف على محذوف يناسب المقام ك «أحسبت انك تملك وحي ربك فقلت : (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) دونما استثناء بمشيئته؟ (أَمْ حَسِبْتَ).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٤٢ ح ١٥ في الخرايج والجرايح عن المنهال بن عمرو قال : والله أنا رأيت رأس الحسين (عليه السلام) حين حمل وانا بدمشق وبين يدي رجل يقرأ الكهف حتى بلغ قوله (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) فانطق الله تعالى الرأس بلسان ذرب طلق قال : اعجب من اصحاب الكهف حملي وقتلي وفي ١٦ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب وروى ابو مخنف عن الشعبي انه صلب رأس الحسين (عليه السلام) بالصياف في الكوفة فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف الى قوله : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) ، وسمع ايضا يقرأ (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)

٢٢

عجبا»؟ فأسرعت في وعد الجواب ام ماذا؟ (١).

لا هذا ولا ذاك (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) ...

وإن في احتباس الوحي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لطف خفي ، وآية هي أعظم وأدل على نبوته من إخباره بقصة اصحاب الكهف ام ماذا؟ فلو لم يكن رسولا ما اخرهم في طائل من الزمن (٢) فوحي القرآن وآياته اعجب من هذه القصص!

__________________

(١) المصدر ح ٢٩ في تفسير علي بن ابراهيم القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان سبب نزول سورة الكهف ان قريشا بعثوا ثلاثة أنفار الى نجران : النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن المعيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فخرجوا الى نجران الى علماء اليهود فسألوهم فقالوا : اسألوه من ثلاث مسائل فان أجابكم فيها علي ما عندنا فهو صادق ثم سلوه عن مسألة واحدة ، فان ادعى علمها فهو كاذب ـ وهي مسألة وقت الساعة ـ الى ان قال : فرجعوا الى مكة واجتمعوا الى أبي طالب فقالوا يا أبا طالب ان ابن أخيك يزعم ان خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فان أجابنا عنها علمنا انه صادق وان لم يخبرنا علمنا انه كاذب فقال ابو طالب : سلوه عما بدا لكم فسألوه عن الثلاث (اصحاب الكهف ـ موسى وخضر ـ ذي القرنين) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) غدا أخبركم ولم يستثن فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتى اغتم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به وخرجت قريش واستهزءوا وآذوا وحزن ابو طالب فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : يا جبريل لقد ابطأت! فقال : انا لا نقدر ان ننزل إلّا بإذن الله تعالى فانزل الله عز وجل : (أَمْ حَسِبْتَ) «يا محمد» (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ثم قص قصتهم فقال (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ..).

(٢) اختلفت الروايات في انه احتبس يومين او ٣ ـ ٤ ـ ١٢ ـ ١٥ ـ ٢٥ ـ او ٤٠ والأخير هو الأقرب كما يأتي عن تفسير القمي عن الامام الصادق (عليه السلام).

٢٣

وتسلية لخاطره الأقدس تنزل عليه سورة الضحى (.. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ..) وإنما احتباس الوحي كنفس الوحي وجهة من التربية الربانية.

فلقد كان الرسول زمن الاحتباس في حالة مزرية مضرعة مريبة ، إذ بدر الوحي الحبيب من الحبيب مسليا خاطر الحبيب ومربيّا له (أَمْ حَسِبْتَ ... وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) وهذا في أخريات القصة لكيلا يفاجأ في بدايتها بنص التنديد ، اللهم إلّا تلميحا مليحا مريحا : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)؟

لا تحسب انها عجب وفي آياتنا ما هي اعجب ، فأنت بقرآنك ورسالتك في قمة العجب (١) ولذلك تفتتح السورة بما افتتحت تقييما للكتاب ونزوله ومنزله «قيما» من منزّله القيّوم فحمدا له كل الحمد (٢)!.

ترى ومن هم اصحاب الكهف والرقيم ، هل هم أصحاب الكهف وآخرون اصحاب الرقيم ، وقد أهمل عن ذكر الآخرين؟ وهذا خلاف البلاغة في أدناها فضلا عن أعلاها! فهم جماعة واحدة تعرف بالكهف والرقيم.

ثم الكهف معروف فما هو الرقيم؟ إنه المرقوم وعلّه على باب

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١٢ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في آية العجب : يقول الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن اصحاب الكهف والرقيم وبنفس روا من مجاهد كانوا بقولهم ١ عجب آياتنا ليسوا بأعجب آياتنا.

(٢) لم يكن ذلك الحسبان من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بل ممن سألوه فهو من باب إياك أعني واسمعي يا جاره ، فقد كان الرسول يعيش أعجب آيات ربه ومنها نفسه المقدسة بقرآنه وسنته!.

٢٤

الكهف (١) تعريفا بحالهم ، ويؤيده قرن الكهف بالرقيم ، رقيما للكهف بأصحابه فهما واحد كأصحابهما جماعة واحدة ، لا اسم القرية التي خرجوا منها (٢) فإنهم تركوا صحبتها الى الكهف فليسوا من أصحابها! اللهم إلّا اشارة الى الحالتين المختلفتين ، ولكن لا تعرف لحد الآن بلدة الرقيم! او قد تجمعهما الرقيم! رقيما على باب الكهف رقم فيه مبدأهم ومأواهم!

وأما ان الرقيم هو كلبهم ، فذلك هتك لساحتهم انهم اصحاب كلب ، او الكلب صاحبهم ، ثم لا يعرف كلب رقيم ، أبعد ما أهمل عن اسمائهم هنا يبرز كلبهم باسمه وهم صحبوه؟!

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ١٠ فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ١١ ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً). ١٢

هذه الثلاث بين الثمانية عشرة في قصتهم إجمال عن تفصيل ، يضم ما فعلوه وقالوه : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ..) وما فعله الله أوّلا «فضربنا ..»

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٤٤ ح ٢١ العياش عن محمد عن احمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هم قوم فروا وكتب ملك ذلك الزمان بأسمائهم واسماء آبائهم وعشائرهم في صحف من رصاص وفي الدر المنثور ٤ : ٢١١ عن ابن عباس قال : الرقيم الكتاب وعن أبي صالح قال : الرقيم لوح مكتوب وعن سعيد بن جبير قال : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصة اصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف وعن السدي قال : الرقيم حين رقمت أسماؤهم في الصخرة كتب الملك فيها أسماءهم وكتب انهم هلكوا في زمان كذا وكذا في ملك ريبوس في سور المدينة على الباب قول هذا قول جميع اهل المعاني والعربية ثم كما يأتي احتمال آخر للرقيم انهم ثلاثة من اصحاب الكهف رقموا خالصات اعمالهم!.

(٢) الدر المنثور عن ابن عباس قال : الرقيم واد دون فلسطين قريب من أيلة.

٢٥

وأخيرا (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ ..) طيا لهما باختصار دون احتصار : (أَمْ حَسِبْتَ .. إِذْ أَوَى ..)(١) استعراضا لخطوطها الرئيسية كبراعة استهلال ومن ثم التفصيل.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً)(٢).

__________________

(١) «إِلَى الْكَهْفِ» دون ومن الرقيم من الشاهد انه ليس البلدة التي خرجوا منها ثم ولم يأت ذكرها في تفصيل القصة وعلى اية حال فالروايات مختلفة في انهم جماعة واحدة ام جماعتان وظاهر القرآن الوحدة.

ثم مختلف الروايات في «الرقيم» اهو اسم البلد الذي خرجوا منه او الوادي الذي فيه الكهف او جبله او اسم كلبهم ، او هو لوح من حجر او رصاص او نحاس او ذهب رقم فيه أسماؤهم واسماء آبائهم وقصتهم ووضع على باب الكهف او داخله او معلقا على باب المدينة او في بعض خزائن الملوك ، او انه لوحان ، اثنى عشر وجها في الرقيم وما في المتن هو الأنسب والله اعلم.

(٢) في قصة اصحاب الكهف روايات متضاربة بعضها خلاف نص القرآن او ظاهره ، وبعضها لا توافق القرآن ولا تخالفه وثالثة توافق نص القرآن أو ظاهره ومن الثالث الا في البعض من مواضيعها ومن أسلمها ما رواه القمي في تفسيره حدثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان سبب نزول سورة الكهف ـ الى قوله في القصة ـ : سألوا رسول الله عن الثلاث المسائل فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : غدا أخبركم ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتى اغتم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به وفرحت قريش واستهزءوا وآذوا وحزن ابو طالب فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : يا جبرئيل لقد ابطأت؟ فقال : انا لا نقدر ان ننزل الا بإذن الله فانزل الله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ثم قص قصتهم فقال : إذ آوى الفتية الى الكهف ..

قال : فقال الصادق (عليه السلام) : ان اصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك ـ

٢٦

__________________

ـ جبار عات وكان يدعو اهل مملكته الى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله وكان هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عز وجل ووكل الملك بباب المدينة ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام فخرجوا هؤلاء بعلة الصيد وذلك انهم مروا براع في طريقهم فدعوه الى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم.

قال (عليه السلام) : فخرج اصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هربا من دين الملك فلما امسوا دخلوا الى ذلك الكهف والكلب معهم ، فالقى الله عليهم النعاس كما قال الله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك واهل المدينة وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون ، ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض : كم نمنا هاهنا؟ فنظروا الى الشمس قد ارتفعت فقالوا : نمنا يوما او بعض يوم ثم قالوا لواحد منهم خذ هذه الورق وادخل المدينة تنكرا لا يعرفونك فاشتر لنا طعاما فإنهم ان علموا بنا وعرفونا قتلونا او ردونا في دينهم ، فجاء ذلك الرجل فرأى مدينته بخلاف التي عهدها ورأى قوما بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم فقالوا له : من أنت؟ ومن اين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف واقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم وقال بعضهم خمسة سادسهم كلبهم وقال بعضهم سبعة وثامنهم كلبهم ، وحجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فانه لما دخل عليهم وجدهم خائفين ان يكونوا اصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم صاحبهم انهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل وانهم آية للناس فبكوا وسألوا الله ان يعيدهم الى مضاجعهم نائمين كما كانوا.

ثم قال الملك : ينبغي ان نبني هاهنا مسجدا نزوره فان هؤلاء قوم مؤمنون فلهم في كل سنة تقلبان ينامون ستة أشهر على جنوبهم اليمنى وستة أشهر على جنوبهم اليسرى والكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف وذلك قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) الى آخر الآيات.

وهذه الرواية وهي اسلم روايات القصة قد تخالف آياتها في مواضيع.

منها ان المختلفين في عدتهم هم الذين اعثرهم الله عليهم! وهم برؤيتهم على اية حال عارفون عدتهم ، و (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ ..) تحول الاختلاف في عدتهم عنهم الى الآتي!.

٢٧

تطلبوا من الله رحمة لدنية في البداية ورشدا في النهاية ، وكأن «رحمة» او منها (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ..) : تخلصا من جبّارهم وهم أحياء دونما حاجة الى شراب وغذاء! وكأن «رشدا» او منه (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ ..) رشدا لهم ولمن عثروا عليهم!

(أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) كما أمرهم الله «وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمرهم مرفقا» وطبعا بإلهام دون وحي ، والأوي تلمح بفرارهم في اعتزالهم عما سوى الله وإيمانهم بالله (فَقالُوا رَبَّنا ...) التماسا مما وعدهم وقد حقق لهم ، ولم تكن تلك الرحمة وذلك الرشد بالإمكان وهم بين الطغاة المستكبرين.

هنا «من لدنك» تدل على مدى هيمانهم لرحمة بعد ما لاقوا من ضغط بغيض ونقمة ، رحمة لدنية عن نقمة شيطانية ، ثم تهيئة فيها من أمرهم الإمر رشدا : لهم ولمن سواهم ، ومن رحمته (زِدْناهُمْ هُدىً ١٢. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ١٤) ومن الرشد من أمرهم هدى من اهتدى بذكراهم واقتدى بهداهم!

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ١١ هنالك مثلث من زوايا الحياة وراء اليقظة التامة ١ ، نعسة يسمع فيها الأذن ضربا على البصر وهو نوم نسبي ٢ ونومة لا يسمع فيها الأذن ، والقلب حيّ ضربا على الأذن ، حيث ينام بعد البصر ، وهو نوم مطلق.

و ٣ موتة عن الحياة الدنيا الى حياة برزخية ضربا على القلب ، والحياة في مثلثها هذه باقية على درجاتها ، وهنالك موتة مطلقة (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ

__________________

ـ ومنها نومتهم الثانية ، وهم لم يموتوا ولا تحمل نومتهم حكمة والقرآن يحيل اطلاع الرسول عليهم وهم نائمون (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ..)!! ومنها تقلبهم في كل سنة مرتين ، وماذا يفيدهم ذلك التقلب البعيد ، وان كان لا تضاد آية التقلب ، الا انها لا تلائمها ، ثم هي بعيدة في الواقع!.

٢٨

(فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ومن ورائها حياة مطلقة (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)!.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) هي النومة المطلقة ولكن لا كالعادة المستمرة وإنما (سِنِينَ عَدَداً)!

وترى ماذا تعني «عددا» و «سنين» وهو جمع ، لا محالة عدد؟ قد تعني استقلالا لما استكثر من سنيّهم (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) فهنالك رقدات وموتات ام ماذا من خوارق العادات اكثر من هذا العدد.

فالسنين العدد هنا كدراهم معدودة في يوسف (٢٠) ونفيا عن عجب القصة ، (أَمْ حَسِبْتَ ..) ام وزيادة هنا هي ان سنيّهم معدودة معلومة كعددهم!.

إن الضرب التام على الأذن يسبقه نوم البصر ويقارنه نوم القلب دون موته ، وقد يعبر عنه بتغشية النعاس التي هي حدث صغير من الأحداث : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ..) (٨ : ١١) واليقظات الثلاث في الإنسان : بصرا وأذنا فقلبا لمّا تغشّى بالنعاس فهنالك يتم النوم ويطّم ، وقد يستمر باستمرار سببه عاديا كما في سائر النوم ، أم خارقا للعادة كما في ذلك النوم ، حيث ضرب فيه على آذانهم سنين عددا حين يضرب على آذان الآخرين ساعات ، فلم يكن موتا ولا كنوم الآخرين وانما نومة خارقة العادة (١).

__________________

(١) وقد يعنيه «أماتهم» فيما يرويه الطبرسي في الاحتجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : وقد رجع الى الدنيا ممن مات خلق كثير منهم اصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليقطع حجتهم وليريهم قدرته وليعلموا ان البعث حق (نور الثقلين ٣ : ٢٥٢ ح ٢٩).

٢٩

فالضرب على آذانهم سنين إبطال لمفعولياتها في سنين دون صمم ، ولكنما الضرب على القلب يبطل حياته فهنالك الموت وان كان الى أمد كما في عزير والمختارين من قوم موسى أمن ذا ، فهذا احسن تعبير وأشمله لرقدتهم في سنين ، في حين (تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) كأن لم يضرب على ابصارهم وهم مضربون عن الإبصار!

فانما «ضربنا (عَلَى آذانِهِمْ) فأصبحوا كمن ضرب سماخه فهو موقوذ مأموم ومشدوده مغمور (١).

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) ١٢.

«بعثناهم» عن نومهم فالبعث ضروب شتى وهو منها : (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) (٦ : ٦٠)

«لنعلم» أبعد جهل؟ (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)! ام تحققا لمعلومه؟ وغير فصيح ولا صحيح ان يعبر عنه ب «نعلم»! وهما إذا كان من العلم ، ام هو من العلم لنجعل مبعثهم علامة : (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ..) كما في أمثالها العشرة الأخرى في سائر القرآن (٢)؟.

وهذا هو الصحيح الفصيح.

__________________

(١) هذه الخمسة تعني على التريب خرق الاذن ـ ضرب يشرف الى الموت ـ مشجوج ـ المشدوخ الرأس ، المغمى عليه ، ننقل هذه الجملة الجميلة عن السيد الشريف الرضى من كتابه مجازات القرآن ص ٢٠٨.

(٢) وهو من علم يعلم علما يعني جعل علامة (لسان العرب) ، ومن الشاهد عليه اضافة الى الآيات المحكمات في الحيطة العلمية الإلهية ان «نعلم يعلم» في مواردها الإحدى عشر تدخل اما على مفرد «لنعلم الصابرين منكم» او جملة كمفرد كما هنا ، وهو بكسر العين يدخل على مفعولين.

٣٠

وترى من هما الحزبان؟ أهما حزب الايمان اصحاب الكهف وحزب الكفر المختلفان في أمد لبثهم إحصاء؟ ولم يسبق ذكر عن حزب الكفر ، ولا انهم بقوا الى بعثهم ، ولا انهم عرفوا كهفهم حتى يحصوا لبثهم! ام هما من اصحاب الكهف أنفسهم حيث افترقوا فيما احصوا من لبثهم : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ..).

و «أحصى» فعلا من الإحصاء ، فأيهما احصى وأي ما احصى ، فالمحصي (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ) عالمين انهم لبثوا ردحا بعيدا من الزمن يعلمه الله ، وغير المحصي (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ثم الأولون كملوا إحصاءهم حيث بعثوا أحدهم بورقهم فتبين لهم كم لبثوا؟

ثم و «احصى» افعل تفضيل فهما أحصيا والأولون احصى من الآخرين ، ولكن الآخرين لم يحصوا اللهم إلّا ظاهرا من نومتهم بآية الشمس غاربة فيوم ام زائلة فبعض يوم!(١).

وجهان أولهما أوجه ولثانيهما وجه بعيد او علّهما معنيان ان الآخرين احصوا وان كان إحصائهم لا يحسب بشيء ، والإحصاء الصحيح العلم انهم لبثوا أمدا بعيدا لا نعلمه ، ثم الأصح الأعلم (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) إحصاء أو لا إحصاء غلط ، ثم إحصاء صحيح ، ومن ثم إحصاء أصح هو من الله.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ١٣ وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) ١٤.

__________________

(١) قال ابو علي الفارسي «احصى» ليس من باب افعل التفضيل لان هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس.

٣١

الى مشهد التفصيل من قصتهم شرحا لما أجمل ، أترى هنا تفصيلا عن كلما حصل من غث وسمين؟ وهذه حكاية تاريخية وليست قصة! وإنما «نقص» قصا «نبأهم» فالنبأ خبر ذو فائدة عظيمة ، والله يقص أنباء ما قد مضى من غيرها ، اصطفاء للمفيد منها نبراسا ينير الدرب على العالمين.

هنالك في التأريخ مزيج مما يفيد : «أنباء» وما لا يفيد أو يقل ، ومن المفيد ما هو حق وما هو باطل (١) والقرآن يقص منها انباء الحق (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) قصا بالحق عما هو حق مصاحبا لذكرى الحق (٢) حق صراح لا يشوبه باطل في أي حقل!

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ..) : مربع من التعريف برجال القصة : «فتية ـ آمنوا ـ زدناهم ـ وربطنا» كل ذلك يربطها برباط القيام في كلمة التوحيد : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ .. لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) ثم تزييف الشرك في ربوبيته (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)!

١ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) : الفتى هو الطري من الشباب وقد يطلق على كل طريّ شابا ام غير شاب ، وكما يروى ان اصحاب الكهف كانوا كهولا (٣) ولفتوتهم في طراوة حريتهم ورجولتهم سموا فتية ، وإلّا لماذا «فتية» لا أناس

__________________

(١) فقد يختلق امر فيه تقوية لجانب الحق ولكن الغاية لا تبرر الوسيلة.

(٢) بالحق هنا حال من القص ومن النباء وظرف للقص بباء المصاحبة.

(٣) نور الثقلين (٣ : ٣٤٥ ح ٢٥) في روضة الكافي علي بن ابراهيم (رض) قال : قال : ابو عبد الله (عليه السلام) لرجل : ما الفتى عندكم؟ فقال : الشاب ، فقال : لا الفتى المؤمن ، ان اصحاب الكهف كانوا شيوخا فسماهم الله عز وجل فتية بايمانهم. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اصحاب الكهف أعوان المهدي (عليه السلام) وفي البرهان عن ابن الفارس قال الصادق (عليه السلام) وسبعة من الكهف يعدهم من اصحاب المهدي (عليه السلام).

٣٢

ام رجال؟ ثم ولا اثر هنا عن مشاغلهم ومناصبهم (١). إلا أنهم فتية الايمان والقيام.

(آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) في قلوبهم بصرامة وصراحة.

٣ (وَزِدْناهُمْ هُدىً) كما هي سنة الله : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) ٤

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) رباطا يحجزهم عن الشتات ، تثبيتا لأقدامهم في هذا القيام والإقدام (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (٨ : ١١) مزيدا للإيمان : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٨ : ١٠).

فالربط هو الشد بالرباط كربط الأسير : شده بالحبل والقدّ ، ف «ربطنا» هنا يعني شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية فتنضم على مكنونها ، ويؤمن التبدّد على ما استودع فيها ، شددنا عليها لكيلا تنحل معاقد اصطبارها وتهفو عزائم جلدها ، ولماذا (رَبَطْنا عَلى) وهي متعدية بنفسها؟ لأن ربط القلوب وهو رفع التمزق والتقلب في معترك الأحوال ، لا يكفي استقامة ناصعة ، فليربط على قلوبهم سكينة من ربهم بعد ربطها ، ولكي يقوموا في معركتهم الصاخبة ضد الطاغوت ومتطلباته ، لا فحسب ان يظلوا على عقيدة التوحيد قاعدين فيها دون قائمين ..

فكما سألوا الله (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) تعني رحمة خاصة بعد رحمتي الهدى وزيادتها ، فالله ربط على قلوبهم بهذه الرحمة اللدنيّة ولكي يقوموا :

__________________

(١) في بعض الروايات ان الفتية كانوا من أولاد الملوك ، وفي اخرى من أولاد الاشراف وفي ثالثة : من أولاد العلماء وفي رابعة انهم كانوا حماميين يعملون في بعض حمامات المدينة وفي خامسة انهم كانوا من وزراء الملك يستشيرهم في أموره وفي سادسة انهم سبعة سابعهم كان راعي غنم لحق بهم هو وكلبه في الطريق.

٣٣

(إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤).

أقياما في قولة جوفاء؟ ولا تحتاج هكذا قولة الى ربط على قلوبهم والى قيام والله منها براء! بل قياما في العمق في قولة صادقة عن قلب مربوط بالايمان في توحيد الله لحد يحيل الإشراك بالله : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) ولا في لفظة قول (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) : مفرطا في البعد عن الحق (١) أفبعد الايمان ومزيده وبعد ان ربط الله على قلوبنا نفرط في ذلك البعد السحيق من اللاإيمان؟ كلّا ولن ...

ولأن قول (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ ...) ومعه قمة الايمان لا يحتاج الى قيام ، فليكن قولا جاهرا بين جماهير الناكرين ، في ظرف تذوب فيه القلوب وتتفتت فيه الأكباد وترتاع له النفوس وتقشعر الجلود إذا فهو قيام في بعدي الايمان إعلانا بعد إسرار بكل صمود وإصرار ، يحيل الارتجاع الى الشرك : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ ..) قاطعين آمال المشركين ، منقطعين عن كل عمل إلّا لله وعن كل أمل إلّا في الله! وقد تلمح «لن» ان هناك كانت عليهم ضغوط تحملهم على الإشراك بربهم!.

ولكن ذلك توحيد قائم متجاهر باهر لا يقصمه اي جابر ولا يفصمه اي مكابر ، وما يروى في إسرار إيمانهم بتقية في ظاهر الشرك مؤول (٢) او

__________________

(١) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى : (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) يعني جورا على الله ان قلنا له شريك.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٢٤٢ ح ١٧ في اصول الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان مثل أبي طالب مثل اصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهروا الشرك فأتاهم الله أجرهم مرتين.

أقول علّه ينظر الى الحالة قبل قيامهم واظهارهم ، وقوله تعالى : (إِذْ قامُوا ..) يلمح الى ـ

٣٤

مطروح إذ لا توافق الكتاب ، ام وتخالفه.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ١٥

«هؤلاء» المناكيد الأوغاد «قومنا» الذين نعاشرهم (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) دون رب السماوات والأرض «آلهة» : طواغيت وسواهم من ملائكة او جن او انسان (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ)؟ قضية القاعدة العقلية ان كل دعوى بحاجة ضرورية الى برهان عليها وسلطان يقنع العقول غير المدخولة أيا كان ، وكلما ازداد المدعي محتدا ومكانة يزداد السلطان عليه بيانا وبرهانا ، فدعوى الألوهية بحاجة الى «سلطان بين» وليس عندهم اي سلطان على آلهتهم فضلا عن «بين» وكفاهم كذبا وظلما على الحق (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)؟

إن قيامهم في مقالة التثبيت للتوحيد والتنديد الشديد بكل جبار عنيد ، كل ذلك كان جهارا وبين الجماهير قبل انعزالهم عنهم ، فقرروا بينهم قرارهم لما بعد انعزالهم :

__________________

ـ حالتهم قبل قيامهم وبعده وهم فيها كانوا موحدين ، وقد يدل عليه ما رواه العياشي عن عبيد الله بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه ذكر اصحاب الكهف فقال : لو كلفكم قومكم ما كلّفهم قومهم؟ فقيل له : وما كلفهم قومهم؟ فقال : كلفوهم الشرك بالله العظيم فأظهروا لهم الشرك وأسروا الايمان حتى جاءهم الفرج ـ وقد يعني من فرجهم قيامهم بتوحيدهم جهادا.

وفي بعض الروايات انهم أظهروا المخالفة وعلم بها الملك قبل الخروج ، رغم البعض الآخر انه لم يعلم الا بعد خروجهم ، وفي ثالث انهم تواطئوا على الخروج فخرجوا وفي رابع انهم خرجوا على غير تعارف وعلى غير ميعاد ثم تعارفوا وأنفقوا خارج البلد ، وفي خامس ان راعي غنم لحق بهم وهو سابعهم وفي بعضها انه لم يتبعهم وتبعهم كلبه وسار معهم.

٣٥

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ١٦.

هنالك اعتزال عنهم وما يعبدون حيث لا تنفع دعوتهم إلّا ملاحقتهم والضغط عليهم ، فاعتزال الاختفاء احتفاظا على أنفسهم ثم أويا الى الكهف (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) رحمته الّلدنّية التي التمسوها منه ، وهل رحمة مطوية تنشر ومكنونة تظهر ، والرب لا يكنّ ويطوي رحمته عمن يأهل ، وإنما إسباغها ظاهرة منشورة لا مستورة ، إذا فنشرها هو ايتاءها كما تطلّبوها (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ثم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) : ما يرتفق به ويعتمد عليه فيكون لظهوركم عمادا ولأعضادكم سنادا.

أجل وان الكهف الضيق الخشن المظلم لهؤلاء الفتية هو منتشر الرحمة ومرتفق النعمة ، إذ يأوون اليه ويلجأون بايمانهم ، ولكنما البلد وهم بين أهليهم في بحبوحة من عيشة الحياة الدنيا ، هو لهم نقمة ومصيبة إذ ليس لهم فيه راحة الرّوح والرضوان وفسحة الايمان! فإذا الكهف الضيق البعيد عن الحياة لهم فيه فسحة وحيوية تتسع خيوطها وتمتد ظلالها ويشملهم بالرفق واللين والرخاء ، حيث الحدود الضيقة تنزاح والجدران الصلدة ترق والوحشة الموغلة تشف.

ذلك الكهف الحصين أملهم كما يوسف الصديق يفر من البلاط الى السجن : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).

هنا في قصة الآوين الى الكهف روايات ، تقول طائفة منها انهم كانوا ثلاثة هم اصحاب الرقيم ، وهي لا تلائم القرآن إلّا ان يكونوا هم من اصحاب الكهف وقد رقموا خالصات أعمالهم نجاتا من الحجر المؤصد عليهم من كهفهم ، ثم لحقهم الآخرون بعد ما نجوا ، فكلهم أصحاب

٣٦

الكهف والأوّلون يزيدهم انهم اصحاب الرقيم ، وقد يعمهم الرقيم بعد اختصاصه في وجوه مضت إمّا ذا؟ (١).

وفعلا نشر لهم ربهم في فجوة الكهف من رحمته اللدنيّة وهيّأ لهم من أمرهم مرفقا ، حيث آمنهم في كهفهم وضرب على آذانهم بكل تلطّف وتعطّف ، ثم بعثهم ليعرفوا رحمته ويلمسوا مرفقه ، وليعلم آخرون (أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) رحمة ومرفق يتخطاهم الى اعماق الزمان والمكان ، طيّا لبعديهما ، وهديا بقصتهم في إذاعات كتابات السماء والقرآن العظيم.

لا يهمنا اين كهفهم وأيان؟ وقد نتلمح ما لمحنا إياه القرآن :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) ١٧.

تعريفان اثنان بكهفهم ثانيهما (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : فسحة من كهفهم ، وفسحة من طلوع الشمس وغروبها ، دون ان تؤذيهم بنورها ونارها ، فانما تفيدهم بضوئها ، فجوة وفسحة دون تضايق لا بكهفهم ولا شمسهم ، رحمة ومرفقا من أمرهم!

واوّلهما (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ .. وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) : وهنا نتلمح

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٤٦ ح ٢٨ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى محمد بن إسماعيل القرشي عمن حدثه عن إسماعيل بن اعبل عن أبيه عن أبي رافع عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل قال فيه بعد ان ذكر عيسى ثم يحيى بن زكريا ثم العزيز ثم دانيال ثم مكيخا ابن دانيال ـ وملوك زمانهم فعند ذلك ملك سابور بن هرمز اثنين وسبعين سنة وهو اوّل من عقد التاج ولبسه وولى امر الله عز وجل يومئذ وهو الشواء بن مكيخا وملك بعد أردشير أخو شابور سنتين وفي زمانه بعث الله الفتية اصحاب الكهف والرقيم وولي امر الله في الأرض يومئذ دستجا بن لشوا بن مكيخا.

٣٧

موقعهم من الكهف وموقع الكهف نفسه.

والتزاور أصله الميل من الزور : الصدر ـ لا الزيارة ، فترى الشمس تميل عن كهفهم كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه؟ يبين بذلك عن موضع الكهف المشار اليه من جهات المشرق والمغرب ان الشمس لا يلحقه ثوبها عند شروقها ، ولا ينفض عليه عند غروبها حيث تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم ، او انها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرّها بهم ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم ، تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطي ليسترده ، ويقدمه ليرتجعه.

فلم يكن الكهف ـ إذا ـ شرقيا ذات اليمين فتشرق في العمق ، ولا غربيا ذات الشمال فتغرب عن العمق ، وانما طلوع تزاور ذات اليمين ميلا عنه ، وغروب قرض لهم ذات الشمال ، إذا فليكن له باب نصف شرقية واخرى نصف غربية ، الشرقي الشمالي ، والغربي الجنوبي ، ولكي ينطبق على الجغرافية المستفادة من الآية. فلا تحرمهم الشمس ولا تحرقهم ، وانما تشرقهم ، دون حدة المقابلة لا شرقية ولا غربية. وهذا ينطبق على الكهف الواقع قرب عمان الأردن (١).

__________________

(١) هو على ما في الميزان ١٥ : ٢٩٧ كهف رحب على مسافة ثمانية كيلو مترات من عمان الأردن قرب قرية رجيب ، في جبل محفورا على الصخرة في السفح الجنوبي منه وأطرافه من الجانبين الشرقي والغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها وباب الكهف يقابل جهة الجنوب وفي داخله صفة صغيرة قرابة ثلاثة امتار في مترين ونصف متر على جانب من سطحه المعادل لثلاثة في ثلاثة تقريبا وفي الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية كأنها ثمانية او سبعة ، وعلى جدرانه نقوش وخطوط باليوناني القديم والشمردي منمحية لا تقرء وصورة كلب مصبوغة بالحمرة وزخارف وتزويقات اخرى.

وفوق الغار آثار صومعة بيزنطية تدل النقود والآثار الاخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الاول ٤١٨ ـ ٤٢٧ وآثار اخرى تدل على ان الصومعة بدلت ـ

٣٨

ام كان شرقيا وغربيا حسب البابين ، ولكنه لطوله وهم في فجوة منه تشرق فيه الشمس ذات اليمين ولا تصلهم ، وتغرب عنهم الشمس قرضا وقد مستهم بخفيف ضوءها ولطيفه ، فينطبق على كهف آخر (١).

__________________

ـ ثانيا مسجدا بعد استيلاء المسلمين على الأرض ، مشتملا على المحراب والمأذنة والميضاة ، وفي الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه المسلمون في صدر الإسلام ثم عمروه وشيدوه مرة بعد اخرى ، وهو مبني على انقاض كنيسة بيزنطية كما ان المسجد الذي فوق الكهف كذلك.

وكان هذا الكهف بالرغم من الاهتمام بشأنه كما تدل آثاره متروكا منسيا متهدما حت اهتمت دائرة الآثار الاردنية أخيرا (سنة ١٩٦٣ م المطابقة (١٣٤٢) والف في ذلك متصدية الاثرى الفاضل «رفيق وفا الدجاني» كتابا سماه اكتشاف كهف اهل الكهف نشره سنة ١٩٦٤ ـ ١٣٤٣.) بحفره وتنقيبه فاكتشفته فظهر بعد خفائه قرونا عدة ، وهنالك أمارات وشواهد اثرية على كونه هو كهف اصحاب الكهف :

يقول في اكتشاف الكهف انه الكهف الذي ورد ذكره في الكتاب العزيز ويذكر انطباق الأمارات المذكورة فيه وسائر العلائم التي وجدت هناك على هذا الكهف دون كهف افوس والذي في دمشق او البتراء او اسكاندنا فيه واستقرب فيه ان الطاغية الذي هرب منه اصحاب الكهف فدخلوا الكهف هو «طراجان الملك ٩٨ ـ ١١٧ م لا دقيانوس الملك ٢٤٩ ـ ٢٥١ الذي ذكره المسيحيون وبعض المسلمين ولا دقيانوس الملك ٢٨٥ ـ ٣٠٥ الذي ذكره بعض آخر من المسلمين في رواياتهم واستدل عليه بان الملك الصالح الذي بعث الله اصحاب الكهف في زمانه هو «ثئودوسيوس» الملك ٤٠٨ ـ ٤٥٠ بإجماع مؤرخي المسيحيين والمسلمين وإذا طرحنا زمان الفترة الذي ذكره القرآن لنوم اصحاب الكهف وهي ٣٠٩ سنين من متوسط كلم هذا الملك الصالح وهو ٤٢١ بقي ١١٢ سنة وصادف زمان حكم طراجان الملك وقد اصدر طراجان في هذه السنة مرسوما يقتضي ان كل عيسوي يرفض عبادة الإلهية يحاكم كخائن للدولة ويعرض للموت.

(١) وهنالك كهوف اخرى مثل كهف بحبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب الى اصحاب الكهف وانا زرته وعله في الدرجة الثانية من محتملات الكهف ، وثالث ـ

٣٩

وأيا كان كهفهم فموضوع البحث هم أنفسهم إذ كانوا من آيات الله في قيامهم ولبثهم في كهفهم وتزاور الشمس عن كهفهم إذا طلعت وقرضهم إذا غربت وتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).

وترى من ذا تعني «ترى»؟ أهو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يطلع عليهم عيانا كما تلمح «لو» : في (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ)! ام غيره؟ فأحرى ألّا يطلع فيرى! ام هو بيان الحال إن كان هناك من يرى لرأى الشمس .. او «ترى» خطاب لمن يرى ، تلميحا ان هناك من سوف يكشف الكهف فيرى ، او ان الرسول رآه ولم يطلع عليهم ولعله أحرى ، اضافة الى من يرى ، مهما لن يروا (أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) بعد ما اعثر عليهم فيما مضى ، فان رؤية الشمس تزاور تكفيها رؤية الكهف ، وهي بسيطة

__________________

ـ بالبتراء من بلاد فلسطين ينسب الى اصحاب الكهف ورابع هو كهف أفسوس مدينة خربة اثرية واقعة في تركيا على مسافة ٧٢ كيلومترا من بلدة ازمير والكهف على مسافة كيلومتر واحد من إفوس قرب قرية «اياصولوك» بسفح جبل «ينايرداغ» وهو كهف وسيع فيه ـ على ما يقال ـ مئات من القبور مبنية من الطوب وهو في سفح الجبل وبابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية وليس عنده اثر من مسجد او صومعة او كنيسة ، وهو الأعرف عند النصارى وورد ذكره في عدة روايات إسلامية ، وخامس اكتشف ـ على ما قيل ـ في شبه جزيرة اسكاندنا فيه من الاوروبة الشمالية عثروا على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن انهم اصحاب الكهف.

وربما يذكر كهوف اخرى منسوبة الى اصحاب الكهف كما يذكر ان بالقرب من بلده نخجوان من بلاد قفقاز كهفا يعتقد اهل تلك النواحي انه كهف اصحاب الكهف وكان الناس يقصدونه ويزورونه ، والكهوف غير الرومانية من هذه الست نقطع انها ليست لأصحاب الكهف لان القصة رومانية ولم تبلغ سلطتهم في ايام مجدهم نواحي اوروبة شمالية وقفقاز.

٤٠