الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

أمرت ان تقول : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً ..).

وعجب من هؤلاء الاغفال كيف جمعوا بين صوم الصمت والطعام ، و (فَلَنْ أُكَلِّمَ ..) دليل انه صوم الصمت! ثم «قولي» لا يختص بقول الكلام ، حيث الإشارة المفهمة قول كما الكلام : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولم يقل «قالت» وحتى لو قالت ف (إِنِّي نَذَرْتُ ...) لا يحدد بداية الصوم ولعلها بعد هذه القولة إن كانت لفظة ولم تكن.!.

ويا لها من كرامة للعذراء تعتذر بعذر شرعي شرعه لها ربها حتى لا تواجه بشرا بشرط كلمة قبل ان يذاد عنها بخارقة الهية (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) ، وعلّه فقط صوم الصمت (١) ام صوم يعم الصمت ولم يكن أكلها وشربها إلا قبل ان تواجه بشرا فلم يشمله صومها ان عمّ الطعام كما الكلام ، ولكنه الصمت فقط حيث النفاس من حالات منعة سائر الصيام ، وتفريعها على صومها : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)!

وصوم الصمت شرعة توراتية انقطعت بالشرعة القرآنية ، فآيات الصوم تمنع فيما تمنع عن ما سوى الصمت ، اللهم إلّا صمتا عن الكذب على الله ورسوله حيث يبطل الصوم ، ام مطلق الكذب حيث ينتقصه ، وكما ثبت بالسنة الثابتة (٢) واما الصمت المطلق فلا صوم فيه إسلاميا!

__________________

(١) المصدر ح ٦٠ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب في مناقب أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وسأل طاووس اليماني أبا جعفر (عليه السلام) عن صوم لا يحجز عن أكل وشرب؟ فقال : الصوم من قوله تعالى : اني نذرت للرحمن صوما.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٣٢ ح ٥٨ في الكافي باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ثم قال : قالت مريم : اني نذرت ـ

٣٠١

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(٢٩).

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها) ـ ان مكانها القصي لم يكن بذلك البعيد كالكوفة (فَأَتَتْ .. تَحْمِلُهُ) دون ان تتركه مخافة العار حيث اطمأنت أنه عطية ربانية فهو ذائد عنها ما يمس كرامتها (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) : موضعا لفرية بالغة المدى ام عظيما بديعا ف «لقد» تأكيد ان و «فريا» كمبالغة الفرية تشكل عليها ثالوث الفرية ومن ثم التأنيب كأنها ثابتة لا حول عنها : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ...)!

وهنالك مندوحة للعذراء الوالدة ـ مع الغض عن احتمال معجزة الهية ـ : علها اجتذبت نطفة الرجولة دون لقاح ان جلست مكانا فيه النطفة ، وحالة المؤمن وفعله محمولة على الصحة ، أفلم يلمس قومها ايمانها وهي عائشة المحراب ، صالحة الذهاب والإياب ، فالحة في حراب الشهوات؟!.

ثم ولماذا (يا أُخْتَ هارُونَ) وهو أخو موسى وبينهما قرون خلت؟ كما اعترضته الجمعية الرسولية الامريكان (٣ : ٣١) : «خلط هارون أخا موسى باخي مريم!» وكأنهم يخصون اسم هارون باخي موسى ثم لا يحق لمن بعده ان يتسمى بهارون! «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (١)؟!.

__________________

ـ للرحمن صوما ـ أي صوما صمتا ـ صمتا ـ فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا ابصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا.

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٧٠ ـ اخرج ابن أبي شيبة واحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الى اهل ـ

٣٠٢

ولماذا يتقدم هارون أخوها على أبيها ومن ثم أمها؟ علّه لأن هارون كان اقدس أنسبائها وأشهر في قدسيته من أبيها لحد يتعالى حتى عن أن ينفى عنه السوء ، ثم أبوها ما كان امرء سوء ، ثم أمها ما كانت بغيا!

ومثلث النسبة هذه والرعاية العالية الطاهرة في ظله يجعل من البنت طاهرة بعيدة عن هذه الفعلة العاهرة ، فيا للمفارقة بين هذه النسبة المباركة وتلك المقارفة النكدة الدنيئة التي لا تأتيها إلا بنات بغايا والآباء السوء!.

والقول إن هارون هذا لم يكن أخاها وإنما مثيلها في التقوى مشهورا بها ، غير فصيح ولا صحيح ، حيث الحقيقة لا تصرف الى مجاز إلا بقرينة ، وأنهم كانوا في تقريعها وتأنيبها سابق الجملة : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) ولا حقها : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ..) والاخوة المثيلة بهارون ، لها مدحة بالغة! (١).

أشارت إليه إشارة قائلة (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) واسألوه فانه المجيب عما تسألون! أم قالت لهم نذرها قبل بدايته وقبل أن يكلموها ، ثم أشارت إليه إجابة عما افتروا عليها ، هنا يبهرهم العجاب على الغيظ الذي ساورهم ، كيف تتبجح فتسخر من متسائليها ، صامتة مشيرة الى (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) قالوا جوابا عن إشارتها الهازئة الفالتة في حسبانهم (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)؟!.

وترى ما هي مكانة «كان» هنا وكل أحد كان في المهد صبيا مهما كان

__________________

ـ نجران فقالوا أرأيت ما تقرؤون (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : ألا أخبرتهم ..

(١) مجمع البيان : يا اخت هارون فيه اقوال : أحدها ان هارون هذا كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب اليه كل من عرف بالصلاح عن ابن عباس وقتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أقول وهذا المرفوع اليه مرفوع عنه في المعنى لما قلنا ومضى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم). والراوي عنه في هذين المتعارضين واحد وفصاحة القرآن تنافي الثانية.

٣٠٣

الآن ايضا صبيا ام شابا او شائبا هرما؟

علّ «كان» هنا تامة وصبيا حال ، كيف نكلم طفل المهد حال صباه وليس يأهل لكلام او حوار ما كان في المهد ، إذا ف «كان» تركز صباه انه بعد طفل المهد ولما يخرج منه حتى يؤهل لكلام ، و «كان» هذا كاضرابها في سائر القرآن تدليلا على تمكّن مدلولها في حال ام ماذا (١).

والقول ان «كان» هنا زائد زائد من القول إذ لا يليق بفصيح الكلام كسائر القول هنا إلا ما نبهنا عليه والله اعلم بما «كان»!.

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)(٣٤).

تنزيهات سبع تخصه ، تغلق عليه السبع أبواب جحيم الافترائات الموجهة اليه ، المفتحة عليه ، وثامنة هي تقديسة تامة هامة تكرس حياته الطاهرة وحياة امه الزاهرة العذراء: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ)!

والحق أقول إنه بيان صارم على اختصاره يجرف عنها كل هرطقة عارمة تهرف او كلمة تحرف في كتابات مزورة!.

__________________

(١) مثل قوله تعالى : «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً» (١٧ : ٩٣) ان البشرية والرسالة تمكنتا في فلا املك ما يملكه ربي ـ وقوله تعالى : «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» (١٧ : ٣٦) حيث النصرة لزام الولي المقتول .. وكذلك «مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» حيث الصبا بعد لزامه ولما يخرج من صباه!.

٣٠٤

١ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ ..)؟

إن كلامه وهو في المهد صبي رضيع ، وبهذه البداية المباركة يذود عنه تفريط المفرطين : انه ولد زنا. وإفراط المفرطين انه الله او ابن الله ، فكيف ينطق ولد زنا بخارقة الهية اللهم إلّا من اصطفاه الله ، وكيف يعترف الله او ابن الله ام اقنوم الالوهية انه عبد الله؟!.

ففي حين أنه لم يصرح هنا بالطهارة عن الزنا استلزم كلامه في بعدية أنه الطاهر المصطفى آية لله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (٢٣ : ٥٠) وهنا يتهدم صرح كل مفرط ومفرّط بحق المسيح وأمه (عليهما السلام) ، حيث الأقاويل فيهما ولا سيما فيه متشابكة متشاكسة لا يكاد تخمد نيرانها إلا بصراح القول من المسيح نفسه وهو في المهد صبي!

نجد قرابة ثمانين موضعا في الأناجيل أن المسيح يعترف بعبوديته لله وأنه ابن الإنسان (١) ورغم تحرّفها لا نجد فيها ولا تصريحة واحدة من وحي الإنجيل أنه الله إلا «الآب والابن وروح القدس» والآب باللغة اليونانية تعني الخالق ، فالابن ليس إلا مخلوقا للخالق وهو ابن الإنسان ، وروح القدس هو الوسيط بين الخالق والابن. ولكنهم رغم الحفاظ على الصيغة اليونانية يفسرونها بالأب كأنها عربية مع الغض عن مدّها ، تحريفا خارفا مجازفا جارفا لم يتنبه له إلّا القليل ممن وفي لرعاية الحق من العارفين.

__________________

(١). كما في إنجيل يوحنا ١ : ٥١ و ٤ : ٦ و ٣ : ٢٦ و ٢٤ و ٤ : ٣٤ و ١٩ و ٤٤ و ٥ : ١٩ و ٢٤ ، و ٣٠ و ٤٤ و ٦ : ١٤ و ٢٨ و ٢٩ و ٤٤ و ٧ : ١٦ و ١٨ و ٢٨ و ٣٣ و ٤٠ و ٨ و ٢٦ و ٢٨ و ١١ : ٤١ و ١٢ : ٢٧ هو عبد الله.

وفي متى ٨ : ٢٠ و ٩ : ٦ و ١٦ : ١٣ و ٢٧ و ١٧ : ٩ و ١٢ و ٢٢ و ١٨ : ١١ و ١٩ : ٢٨ و ٢٠ : ١٨ و ٢٠ ـ انه ابن الإنسان.

٣٠٥

(إِنِّي عَبْدُ اللهِ) حاله ومقاله وسمة أفعاله طول حياته ، مهما اختلق عليه مقالات اخرى (١) فهو لا يعرف لنفسه صلاحا بجنب ربه فكيف يجعل نفسه عدلا لربه؟ : «وإذا واحد تقدم وقال له : أيها المعلم الصالح .. فقال له : لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله» (متى ١٩ : ١٦ ـ ١٩) ـ (مرقس ١٠ : ١٨) (لوقا ١٨ : ١٩) ويندد ببطرس المتطرف ، المتطرق له لقب الرب : «حاشاك يا رب! فالتفت وقال لبطرس : اذهب عني يا شيطان! أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (متى ١٦ : ٢٢ ـ ٢٣).

ويندد بمن اختاله معادلا لربه : آبي يعمل وأنا أعمل فمن أجل هذا قالوا : إنه كسر السبت وجعل نفسه معادلا لله» (يوحنا ف ١٧) (٢).

٢ (آتانِيَ الْكِتابَ ..)

فرية أخرى على المسيح (عليه السلام) ان ليس له كتاب شرعة ، وإنما الحواريون ومن اتباعهم هم الكاتبون سيرته وسموها الإنجيل ، لذلك لا نرى عندهم إنجيلا ينسب الى المسيح إلا ما تطرق له التاريخ وأصبح منسيا مع الزمن.

__________________

(١). كالقائلة انه ابن الله : (متى ٣ : ١٧) وأول مواليده (عب ١ : ٩) وابن الله المبارك (مرقس ١٤ : ٦١) والقائلة انه هو الله والكلمة : (يوحنا ١ : ١) الازلي (عب ٩ : ١٤) والرب وقد كرر في الأناجيل وانه عمانوئيل : الله معنا (متى ١ : ٢٣) ويعارضها التصريحات الثمانون في الرقم (١) ومثل : يهوه ـ الله : يرسل أنبياء وحكماء وكتبة (متى ٢٣ : ٣٤) و (لوقا ١١ : ٤٩) ويهوه هو رب الشريعة فبقدرته الشخصية يتم ناموس موسى ويعدله (متى ٥ : ٢١) ويهوه يعقد عهدا مع البشر (متى ٢٦ : ٢٨ ومرقس ١٤ : ٢٤ ولوقا ٢٢ : ٢٠.

(٢). راجع كتابنا : عقائدنا ص ٦٥ ـ ١٤٥ ـ تجد فيه تفصيلا واسعا عن خرافة الالوهية والنبوة للمسيح وتزييفها.

٣٠٦

إن القرآن يثبت له إنجيلا : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) (٥ :) ٤٦)! وجماعة من المسيحيين ينكرون هذه الحقيقة الناصعة ، ك : القس و. ت. جردنر الإنجليزي (١) و : او ميم ميلر (٢) رغم اعتراف جماعة آخرين منهم بإنجيل المسيح وكما في الإنجيل الحالي نفسه : «بعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ـ يبشر ـ بإنجيل ملكوت الله ويقول : قد كمل الزمان

__________________

(١). في كتابه : محاورة الوحي باعتبار التوراة والإنجيل والقرآن ، صدر من الجمعية الاسقفية ببولاق مصر ـ طبع بمطبعة النيل المسيحية بشارع المناخ نمرة ٣٧ ـ يقول فيه : «في القرون التي مضت بين المسيح ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعترف المسيحيون بإنجيل غير الإنجيل الحالي اي : العهد الجديد ـ وليس هناك اقل بينة تدل على انه كان لدى المسيحيين كتاب آخر غير الكتاب الحالي او الإنجيل الحقيقي او ان الحقيقي فقد بعد زمن الهجرة .. ان الإنجيل الحالي هو إذا الإنجيل الحقيقي ، وان زعم وجود كتاب آخر انزل على عيسى هو وهم وخطأ ، فيكفي ان نقول فقط : ان كاتبي اسفار الإنجيل ألهموا ان يدونوها بطرق مختلفة ووسائل متنوعة ولذلك يعتبر جوهر ما دونوه موحى به».

(٢). هو العالم الشهير الانجيلي في كتابه : التمدن القديم في باب تعاليم المسيح ، يقول فيه : «ان ربنا عيسى المسيح لم تكن له شريعة كموسى ، انما قرر شريعة التوراة ، انه كلمة الله الطاهرة وكان عنده خزائن علم الله وحكمته فلم يكن من اللازم ان ينزل عليه كتاب ، والمؤمنون الأولون انما كانوا يستفيضون من كلماته النيرة ، فأين لزوم كتاب ينزل عليه؟ فان اعماله وكلماته كانت مكتوبة على صحائف قلوب الحواريين ، فلم يكونوا إذا بحاجة الى كتاب شريعة إذ كانت تكفيهم شريعة التوراة ، ولا كتاب سنة عملية أخلاقية لأن المسيح كان ذلك الكتاب بأعماله وأقواله ـ ولكن المسيحيين لما لم يروا المسيح في الجسم على الأكثر ، فهم بحاجة الى كتابات تذكرهم بمعجزات المسيح وحياته لكي يغنيهم البيان عن العيان ، لذلك رأى مؤلفوا الأناجيل الذين كانوا يعرفون حياة المسيح بعيان وبصيرة ـ رأوا من المفروض عليهم تأليف هذه الأناجيل ويشرحوا فيها أحواله وأقواله ومعجزاته وهذه الكتب هي المراجع الدينية الثانوية بعد المسيح وتلاميذه».

٣٠٧

واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس ١ : ١٥) (١) «وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز بإنجيل الملكوت» (متى ٤ : ٢٣ و ٩ : ٣٥) ويعرف به بولس قائلا : «أولا أشكر الهي يسوع المسيح من جهة جميعكم أن ايمانكم ينادي به في كل العالم فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه شاهد لي كيف بلا انقطاع اذكرهم» (روم : ١) وفي : برنابا : «ولقد قال لي صدق يا برنابا اني اعرف كل نبي وكل نبوة وكل ما أقوله إنما جاء من ذلك الكتاب» (٢) «وأنتم شهداء على هذا كيف أنكر على هؤلاء الأشرار الذين بعد انصرافي عن العالم سيبطلون حق إنجيلي بعمل الشيطان ، ولكنني سأعود قبل النهاية» (برنابا ٥٢ : ١٤ ـ ١٥) «... مع أنني الآن أبكي شفقة على الجنس البشري لأطيلن في ذلك اليوم عدلا بدون رحمة لهؤلاء الذين يحتقرون كلامي ولا سيما أولئك الذين ينجسون إنجيلي» (برنابا ٥٨ : ٢١ ـ ٢٢) وكما يشهد بولس بهذه الخيانة الفاضحة إذ يندد بهم : «إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا من الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر. ليس هو آخر. غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون ان يحولوا إنجيل المسيح» (اغلا : ٦ ـ ٧)!

__________________

(١). هذه الآية تلمح كأنهم ما كانوا ليصدقوا إنجيله إذ كان عبئا وحملا عليهم ، حتى يفسح لهم مجال اختلاق اناجيل اخرى.

(٢). حينئذ قال التلاميذ : حقا ان الله تكلم على لسانك لأنه لم يتكلم انسان قط كما تتكلم؟ أجاب يسوع : صدقوني : انه لما اختارني الله ليرسلني الى بيت إسرائيل أعطاني كتابا يشبه مرآة نقية نزلت الى قلبي حتى ان كل ما أقول يصدر عن هذا الكتاب ومتى انتهى صدور ذلك الكتاب من فمي اصعد عن العالم ، أجاب بطرس : يا معلم! هل ما تتكلم الآن به مكتوب في ذلك الكتاب؟ أجاب يسوع : ان كل ما أقوله لمعرفة الله ولخدمة الله ولمعرفة الإنسان ولخلاص الجنس البشري انما هو جميعه صادر من ذلك الكتاب الذي هو انجيلي (برنابا ١٦٨ : ١ ـ ٥.

٣٠٨

وهنالك في الأناجيل اللاحقة لهذه الأصول الانجيلية عندهم تصريحات تتجاوب معها ، ك «إنجيل السلام للمسيح» (١ ف ٦ : ١٥) وإنجيل الخلاص» (١ ف ١ : ١٣) وإنجيل الرب (أول تسلو ٢ : ٩).

وكذلك تصريحات اخرى من علماء المسيحية ومؤلفيهم ، ك «نارتن» حيث ينقل عن «اكهارن» وتذكر دائرة المعارف الإنجليزية إنجيل المسيح (عليه السلام) في عداد خمسة وعشرين إنجيلا (١) ويؤيده كتاب اكسهوموا (٢) و «اكهارن» وكثير من متأخري علماء النمسا ، ومال إليه المحققون ـ «ليكلرك ـ كوب ـ ميكايلس ـ ليسنك ـ نيمير ومارش»(٣).

٣ ـ (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ..)

ترى كيف تأخرت النبوة عن إتيان الكتاب الذي يضم النبوءة والرسالة كلتيهما؟ لأن النبوّة للرسول هي الرفعة في رسالته. فهناك نبوءة ثم رسالة ثم نبوّة ، فمن نبيء ليس برسول ومن رسول ليس بنبيّ ، وكما تتأخر النبوة الجامعة مع الرسالة عنها في سائر القرآن ، تدليلا على أنها أخص من الرسالة : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١٩ :) ٥١) (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١٩ : ٥٤) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٧ : ١٥٧) (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ..) (٧ : ١٥٨) (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ..) (٢٢ : ٥٢) فهذه

__________________

(١). في المطبوعة ١٣ ص ١٧٩ ـ ١٨٠ تحت عنوان : ابو كريفل لتريچر : خرافات الادبيات.

(٢). ألفه حكيم بروتستاني يذكره في الباب ٥ من كتابه المطبوع ١٨١٣ م في لندن.

(٣). راجع كتابنا «المقارنات العلمية والكتابية بين الكتب السماوية» ص ٩ ـ ٦٠ تجد فيه تفاصيل الأناجيل.

٣٠٩

النبوة السامية كسائر النبوات متدرجة من العبودية (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) الى نبوءة وحي ثم رسالة : (آتانِيَ الْكِتابَ) ثم نبوّة (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فبين النبوة والنبوة متوسط الرسالة ، وكل من هذه الرحلات درجات حسب درجات النبوات.

ثم (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) تحصر كيانه ككل في النبوة رفضا لما سواها من الوهية او بنوة حقيقية او تشريفية اماهيه مما يهرفه الخارفون حول السيد المسيح (عليه السلام) من وراثة الالوهية او النبوة!

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) بركة شاملة تكرس كيانه ككل ، تسلب عن ساحته كل المثالب والمآلب التي اختلقته أيدي الدس والتجديف ، ف (أَيْنَ ما كُنْتُ) تضرب إلى أعماق الماضي في أصلاب شامخة وأرحام مطهرة حيث تنقل من كل الى اخرى والى امه الطاهرة العذراء ، ما يطهر ساحته في ماضيه وبأحرى حاله ومستقبله كما يشملها مثلث السلام ، فلم تكن في هذا البين مقاربة محرمة على أية حال ، ولا مقارفة لها في كل حلّ وترحال ومن مستقبله المجيد.

إنه لم يخلد بخلد مريم الطاهرة إلا رجاء الذود عن ساحة هذه الولادة ، فإذا هي تجد وليدها : «جعلني نفاعا للناس أين اتجهت» (١) ومعلما ومؤدبا (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٧٠ ـ اخرج الاسماعيلي في معجمه وابو نعيم في الحلية وابن لال في مكارم الأخلاق وابن مردويه وابن النجار في تاريخه عن أبي هريرة قال قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قول عيسى (عليه السلام) وجعلني مباركا أينما كنت قال : جعلني .. وروى مثله في معاني الاخبار باسناده الى عبد الله بن جبلة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : نفاعا ، وهذا تفسير بالمصداق الجلي.

(٢). المصدر اخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الآية ...

٣١٠

في بركة كاملة كافلة لكافة الأصلاب والأرحام التي تنقلا بينها.

وذلك تعريض عريض على كل التقولات الكتابية في عهدي القديم والجديد ، مما تدنّس هذه الساحة المباركة بمن قبلها من ساحات النبوات وسواها من أصلاب وأرحام!

صحة الأناجيل خطر على قدسية المسيح عليه السلام.

العهدان يتناصران في تبعيد المسيح (عليه السلام) عن حزب الله ولا يسمحان له الدخول في جمعية الرب إذ يفتريان عليه أنه من جدود أربعة هم من أولاد زنا ـ وعوذا بالله! موآب ـ فارص ـ بن عمي ـ سليمان :

هؤلاء الأربعة من أجداد المسيح حسب الإنجيل ، تجد كلهم من أولاد الزنا حسب الكتابات المقدسة! :

«موآب» : عوبيد جد داود النبي أمه روث» (متى ١ : ٥ ـ ٦) وهي من نسل موآب ، والمسيح من نسل داود من سليمان (متى ١ : ١) فموآب أحد أجداد المسيح وداود وسليمان.

«بن عمي» : رحبعام بن سليمان من أجداد المسيح (متى ١ : ٧) امه من نسل بن عمي (املوك ١٤ : ٢١).

«فارص» : وهو ايضا في سلسلة أجداد المسيح (متى ١ : ١ ـ ٤) ونحن نجد هؤلاء الثلاثة وسليمان في التوراة من ولد الزنا! فموآب وبن عمي هما ابنا لوط حيث زنى ببنتيه سكرانا فولد من الكبرى موآب ، ومن الصغرى بن عمي ، وهما يرأسان سلسلتي موآب وبن عمي (تكوين ١٩ : ٣٠ : ٣٨) ـ.

٣١١

وفارص او برص ولد من زنا من «تامار» حليلة ابن يهودا حيث زنى بها فولدت فارص وزارح توامين (تكوين ٣٨ : ٦ ـ ٣٠) وسليمان من ولد «بت شبع» امرأة او ريّا حيث زنى بها داود النبي (متى ١ : ٦) وحاشاه.

فداود وسليمان والمسيح هم أولاد زنا ـ وعوذا بالله ـ من المحارم ، نتيجة تجاوب العهدين في عرض نسبهم ، ثم التورات تأتي بتصريحات تخرج المسيح وهؤلاء من حزب الله ولا تأذن لهم الدخول في جمعية الرب!.

... «لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب ، حتى الجليل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب. لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر. لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب الى الأبد ... لا تلتمس سلامهم ولا خيرهم كل أيامك إلى الأبد» (تثنية ٢٣ : ٢ ـ ٣ و ٦)!

إذا فلا خير في مسيح الإنجيل ولا يدخل في جماعة الرب فضلا عن ابن يرأسهم ـ لا يدخل : نهيا او إخبارا ـ هو وكل ولد زنى ولا سيما الموآبين وبن عمين وهو منهما! فكيف يعتبر نبيا عظيما من اولي العزم أو ابنا لله ام إلها متجسدا في الناسوت ، هذا الافك والبهت الزور في العهدين تجتثه مقالة مسيح القرآن. (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) ـ.

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣١).

تلك هي وصية خاصة رابية على أمته ، بالصلاة : أداء لها بنفسه وإقامة في أمته وكما في موسى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢٠ : ١٤) وابراهيم : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (١٤ : ٤٠) وإسماعيل (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) (١٩ : ٥٥) وهذا النبي والذين معه : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (٢٠ : ١٣٢) (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) (٢٩ : ٤٥) ما وأوحي الى

٣١٢

المرسلين أجمع : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ..) (٢١ : ٧٣).

وقد تدل «واوصاني» في المسيح (عليه السلام) إضافة إلى ما يعم المرسلين انه ما كان إلا عبد الله ، لا إلها او ابنه وإلّا فلمن كان يصلي؟! ٦

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي ..)

جعلني برا بوالدتي ويا للعجاب أن يصبح البر بالوالدة من الميزات الرسالية وهو من النواميس العامة ، والرسالة تتخطى برا بوالدتي أما ذا من قبيله ، وتختص بالميزة القمة التي لا تشارك فيها الأمة أم أدنى من القمة كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، دون البر بالوالدة ، ولا نجد في سائر القرآن ، يعتبره ميزة رسالية اللهم إلا بر الرحمة الالهية : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٥٢ : ٢٨) وفي يحيى (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) (١٩ : ١٤) ثم وآيات الإحسان بالوالدين تعم الأمم!

ولكن (بَرًّا بِوالِدَتِي) في المسيح تعني ايجابية البر بها التي لا اثر عنها في الكتابات الإنجيلية ، وكما أن :

٧ (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا)(٣٢).

تعني الذود عن ساحته ما مست منه هذه الكتابات إنه كان بها جبارا شقيا!.

المسيح وأمه حسب الإنجيل :

نبدأ هنا بقصة قانا الجليل ما أسوءها لمريم وعيساها إذ تنسب الى المسيح معجزة صناعة الخمر كاولى معجزاته التي دعت تلاميذه إلى الايمان به ، وذلك باستدعاء مريم وهو يهتكها في استدعائها رغم أنه يطبّقها : «ولما فرغت الخمر قالت ام يسوع : ليس لهم خمر. قال لها يسوع مالي ولك يا امرءة لم تأت

٣١٣

ساعتي بعد ـ ومن فوره يأتي ساعته قائلا : املأ والاجران ماء .. فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ...».

هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه»! (يوحنا : ٢ ـ ١ : ١١) .. فمسيح القصة يهتك أمه في كلمة لاذعة «ما لي ولك يا امرأة» رغم إجابتها من فورها لمأمورها كمعجزة أولى!.

هذا ـ وفتك ثان بها في قصة ثانية يتهمها فيها بعدم الإيمان : «إذ كان يكلم تلاميذه فجاءت حينئذ إخوته وأمه ووقفوا خارجا وأرسلوا إليه يدعونه وكان الجمع جالسا حوله فقالوا : هوذا أمك وإخوتك خارجا يطلبونك. فأجابهم قائلا : من امي وإخوتي؟ ثم نظر حوله الى الجالسين وقال : ها أمي وإخوتي لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي (مرقس ٣ : ٣١) «امي واخوتي هم الذين يسمعون كلام الله ويعملون بها» (لوقا ٨ : ١٩ ـ ٢١) (متى ١٢ : ٤٦ ـ ٥٠).

فيا لها من نسبة فاسقة كافرة الى مريم واخوته تمنعا عن مكالمتها فرية عليها أنها تاركة للصالحات ، وفي حين أنه يؤكد بالغ التوكيد باحترام الأمهات وانه من النواميس العشرة التوراتية دون شرط الإيمان وهي الطاهرة المعصومة (متى ١٩ : ١٩) (مرقس ١٠ : ١٩) (لوقا ١٨ : ١٠) أفنقضا للنواميس وتناقضا بين القول والعمل بهذه المثابة. وتذليل الأبوين يخلّف لعنة إلهية بتأمين شعب الله : «ملعون من يستخف بأبيه أو أمه ويقول جميع الشعب آمين» (تثنية ٢٧ : ١٦).

ثم هو في قصة ثالثة وهي عند صلبه! ينعزل عن بنوّته لها ويهبها لمن يحبه من تلاميذه : (يوحنا) لتكون له اما : وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه واخت مريم زوجه «كلوبا» و «مريم المجدلية». فلما رأى يسوع أمه

٣١٤

والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه : يا امرأة! هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ : هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته» (يوحنا ١٩ : ٢٥ ـ ٢٧)!.

هذا ـ ثم المختصر في علم اللاهوت العقائدي يحاول انجبار حالة مسيح الإنجيل الجبار العصبي (١)!.

هذه مريم (عليها السلام) ومسيح الجبار العصي تجاهها حسب الإنجيل ، ثم نجده وامه حسب القرآن في ارفع مقامات العصمة والطهارة.

__________________

(١). تأليف لوديغ اوث ج ٢ ص ١١٢ ـ ١١٨ ـ يقول فيه» .. ومريم قد اكتسبت استحقاقات وافرة لا بكفاحها ضد الرغبات الحسية بل بمحبتها لله وبفضائلها الاخرى : الايمان ـ التواضع ـ الطاعة : (انظر القديس توما ٣ / ٢٧ : ٣ على الثاني) .. فعند تقديس مريم في أحشاء أمها قيدت الشهوات بحيث انتفت كل حركة حسية منحرفة ، أما لدن الحمل بالمسيح فقد أخمدت الشهوات إخمادا بحيث ان القوى الحسية صارت خاضعة كل الخضوع لقيادة العقل : (انظر القديس توماس ٣ / ٢٧ : ٣) ... أعلن المجلس التريدنيتني : «ما من بار يستطيع مدة حياته كلها ان يتحاشى كل الخطايا حتى العرضية الا بامتياز خاص من الله كما تعتقد الكنيسة انه الحال في الطوباوية العذراء. D ٨٣٣) وقد قال البابابيوس الثاني عشر في رسالته Mysticicorporis عن العذراء ام الله : «بأنها كانت في عصمة من كل خطيئة شخصية او وراثية (D٢٢٩١) هذه العصمة هي متضمنة في نص لوقا (١ : ٢٨) «السلام عليك يا ممتلئة نعمة ...» ـ

كان الآباء اللاتين يجزمون بعصمة مريم من الخطيئة فيعلّم القديس او غسطينوس : ان كل خطيئة شخصية يجب ان تنتفي من العذراء مريم ـ والقديس افرام يضع مريم البريئة من الدنس في مقام المسيح (انظر : ٣).

٣١٥

مريم في القرآن. :

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣ : ٣٥ ـ ٣٧).

ـ (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٣ : ٤٣) (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (٦٦ : ١٢) وهكذا الى : ٣٥ مرة تذكر في سائر القرآن!.

المسيح في القرآن :

إنه عبد الله ونبيه ـ جعله مباركا أينما كان عبر الأصلاب والأرحام وعبر حياته النيرة (١٩ : ٣٠ ـ ٣٢) و (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) (٤ : ١٧٢) وانما مقالته وحالته طول حياته (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣ : ٥١) و (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩) (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٤٣ : ٥٩) (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ

٣١٦

ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم) (٥ : ١١٦ ـ ١١٧).

وهو واحد من ا)ولي العزم الخمس : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..) (٤٢ : ١٢) وكتابه الإنجيل : (٣ : ٣ و ٤٨ و ٥ : ٤٦) وقد سماه الله بالمسيح (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (٤ : ١٧١) وهو من شهداء الأعمال يوم القيامة» (٤ : ١٥٩) و (٥ : ١٨٧) (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٣ : ٤٥) ومن المصطفين المجتبين الصالحين» (٣ : ٣٣ و ٦ : ٨٦ ـ ٨٧) وقد علمه الله الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل» (٣ : ٤٨) وكان مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) (٣ : ٤٨) (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ..) (٤ : ١٥٧ ـ ١٥٨) وسيؤمن به أهل الكتاب قاطبة قبل موته : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ..) (٤ : ١٥٩) والى (١١) مرة عيسى و (٢٥) مرة المسيح المذكورة في سائر القرآن ، وتربوا مرة واحدة على امه الطاهرة مريم (عليها السلام)!.

٨ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣).

هنا في مثلث الولادة والموت وبعثه حيا بعد الموت دلالة شاملة على كيانه الإنساني فالرب لا يولد ولا يموت حتى يبعث حيا ، وفي (يَوْمَ أَمُوتُ) دلالة على نكران صلبه فإنه قتل وليس موتا ، ودلالة ثانية أنه يموت ولا يبقى حيا كما الله خلاف ما يهرفونه!.

ثم ومثلث الزمان هذا هي أهم دورات الحياة : سلام في الولادة عن رحم يولده من زنا ، وعن أصلاب وأرحام الآباء القدامى والأمهات حتى آدم

٣١٧

وزوجته ، وسلام يوم يموت عن أية وصمة او لعنة ، خلاف ما اختلقه عليه جماعات من المسيحيين : أنه صلب وبصلبه لعن تحملا عن لعنة سريعة الناموس ، ما يتقولونه عليه أنه أبطل شريعة العمل وحصر الشريعة في عدة عقائد خرافية ، وما لعنة الصليب عندهم إلا فداء عما اقترفه المذنبون من أمته هتكا لشريعة الناموس! .. وسلام (يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) عن كل وصمة إلا سمة العصمة والطهارة القمة!

(أُبْعَثُ حَيًّا) في عيسى (عليه السلام) ك (يُبْعَثُ حَيًّا) في يحيى يدل على أنه ممن شاء الله ألا تأخذه الصعقة الموت حين البعث كما قدمناه في يحيى (عليه السلام).

ومن قبل كان مثلث السلام على يحيى المبشر بالمسيح (عليه السلام) كما «وبرا بوالدي» كتقدمه للمسيح أن ليس هو المسيح فقط برا بوالدته بل والمبشر به بر بوالديه!.

وترى إن «سلام» في ذلك المثلث من المسيح على نفسه ، فيتفضل يحيى عليه إذ الله هو المسلم عليه؟ كلا! حيث المسيح وهو في المهد صبي ليس كلامه الخارق إلا وحيا من ربه ف «سلام علي» يعني سلام الله علي وكما اوحى الله الي ، ان الله سلمني ويسلمني في مثلث الزمان من كل ما لا يناسب ساحة رسالة سامية. ف «سلام» من «السلام» على المسيح «السلام» (عليه السلام) دونما قيد او شرط إلّا : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا)!.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)(٣٤).

«ذلك» البعيد المحتد عما مسوا من كرامته في هذه الثمانية (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لا الذي تتحدث عنه هذه الكتابات المحرفة الزور والغرور ـ «ذلك»

٣١٨

اعني (قَوْلَ الْحَقِّ) فيه لا نفسه (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) لا ذاك ، فرغم أن المسيح واحد كونا ، هو متناقض كيانا حسب القرآن والعهدين واين مسيح من مسيح!.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٣٦).

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ..) و (ما كانَ لِلَّهِ ..) جملتان معترضتان تبعد كيان المسيح عما تقولوا عليه ثم (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي ..) هو البند التاسع من كلام المسيح (عليه السلام) في المهد صبيا.

نجده (فَما كانَ لَهُ) في سائر القرآن نفي يضرب إلى اعماق الماضي تكوينا او تشريعا كإحالة لمدخولها ، ولماذا الله يتخذ من ولد لنفسه حتى ولو أمكن وهو محال؟ «سبحانه» في ذاته وصفاته وأفعاله (أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) ولادة ذاتية ام تشريفية اماهيه ، ف «من» جنس و «ما كان» ينفي ذلك الجنس أيا كان ولماذا؟ حيث (إِذا قَضى أَمْراً) عاديا ام خارقا العادة (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله هنا فعله بإرادته ، والمخاطب تكوينا قد يكون شيئا يتحول الى شيء أخر عاديا كسائر الولادات ، ام خارق العادة كما في آدم والمسيح ، ام لا يكون شيئا فعليا كالمادة الأولية وأول ما خلق الله فهنا المخاطب غيره هناك ، حيث التكوين هنا إيجاد لا من شيء ، لا من لا شيء ، كما أنه هناك ايحاد من شيء ، والأشياء بجنب الإرادة التكوينية ثلاثة :

١ ـ لا شيء بالفعل ، وبالإمكان أن يوجد شيئا ، فبعلاقة الأول يسمى قبل شيئه شيئا.

٢ ـ لا شيء ولا يمكن في المصلحة الإلهية ان يوجد شيئا ، فبعلاقة الإمكان يسمى شيئا.

٣١٩

٣ ـ شيء يجوز تحويله الى غير شيئه عاديا ام خارق العادة وهو الشيء حقيقة ، وأما المستحيل ذاتيا فليس يسمى شيئا حتى تتعلق به القدرة و (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من تلكم الثلاث «قدير» لا على اللاشيء الذي لا يستحق الشيئية ولا تمكن فيه ذاتيا! (١).

فكلما أن الله تعالى قضى خلق آدم من تراب دون أب وأم ، كذلك قضى خلق المسيح دون أب مع ام وهو أهون عليه و (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩).

إن الحاجة الى الولد تنسيلا من الوالد مستحيلة على الله إذ لا أجزاء له ، وإلى اتخاذ الولد خروجا عن الوحدة ، وسندا في الوحشة مستحيلة لعدم الحاجة ، فلما ذا يتخذ ولدا سبحانه وهو مستحيل على ساحته ذاتيا وفي صفاته وفعاله؟ (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)!.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ..) تشبه الآية الإنجيلية «اني ذاهب الى آبي وأبيكم ..» : خالقي وخالقكم ، ولكنهم تغامضوا عن مد الآب حيث يعني الخالق في لغته اليونانية وفسروه بالأب ، وقد جيئت بنصها في آل عمران والزخرف!. إذا فهي معطوفة على (إِنِّي عَبْدُ اللهِ ..) والايتان قبلها معترضتان ، وأصبحت البنود التسعة من كلامه اعترافا بعبوديته بداية (إِنِّي عَبْدُ اللهِ ..) ونهاية (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) خير بداية وخير ختام

«متى أرسل بالإنجيل وصار نبيا؟»

أترى بعد ذلك كله ان المسيح (عليه السلام) آتاه الله الإنجيل وجعله نبيا وهو في المهد صبيا؟ ولم تنقل عنه ولا شطر كلمة رسالية حين صباه الى

__________________

(١). راجع ج ٢٩ من الفرقان ـ كلام في القدرة من اوّل سورة الملك.

٣٢٠