الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

لإيلاد صالح ليصلح رضيا ، مهما كانت صالحة (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ..)!.

كما (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) لا تلمح لنبوة غير صالحة لمكان الوصف (١) ف «نبيا» يعني رفيعا ف (مِنَ الصَّالِحِينَ) تعني رفيعا من الصالحين ، لا رضيا كسائر الصالحين ، فهي استجابة فوق المستدعى! حيث النبي يصطفى بين الصالحين وهم المرسلون ف (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) وقد فضل يحيى في هذه الدعاء على جماعة من الصالحين بمن فيهم رسل غير أنبياء.

و (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) تنفي غلاما قبله اسمه يحيى ، وقد تنفي معه من كانت من قبل سمته كيحيى ، ف «سميّا» تشمل الاسم والسمة ، وهكذا كان يحيى ثم من بعده نجد له أسمياء في الاسم ، لا في السمة إلا الحسين بن علي (عليهما السلام).

(لَمْ نَجْعَلْ ..) دليل أن الله هو الذي سماه يحيى وقد سمى من قبل بعض عباده بأسمائهم ، «وسميّا» لا يخص الاسم إذ ليس بخصوصه كثير الاهمية ، وإنما هو مع السمة والميزة الخاصة وكما الله (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١٩ : ٦٥) حيث الاسم بمجرده ليس ليخص العبادة والاصطبار لها بالمسمى لأن التسمي باي الأسماء هين ، فالسمي هو المثل في الاسم والسمة وهي اولى وطالما المسيح كان سميه في سمات عدة فهو بعده وتنقصه

__________________

(١). فلا يقاس ب «وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» حيث يقابله غير الرضى ، فهو قبل ذلك الجعل ليس من الصالحين فضلا عن كونه من النبيين ، ولكن الصالحين منهم نبي ومنهم غير نبي وزكريا طلب فقط صلاحه في «وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» فزاده الله تعالى نبوة «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ»!.

٢٦١

سمة الشهادة الخاصة وهي للإمام الحسين (عليه السلام) خاصة ، وكما لم يجعل له (عليه السلام) من قبل سمي في الاسم ولا الشهادة ، اللهم إلا يحيى في سمة الشهادة! فهو أسمى الاسمياء ليحيى بعده (١) وبعده المسيح (عليهما السلام).

وترى ان الله بشره دون وسيط كما تلوح (يا زَكَرِيَّا .. لَمْ نَجْعَلْ لَهُ ..)؟ ام بوسيط الملائكة (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ)؟ وكيف الجمع بينهما! .. ان قول ملائكة الوحي المرسلين الى الرسل هو قول الله ، فلا فرق إذا بين (قالَ رَبُّكَ ..) و (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أو أنه نداءان ، بواسطة الملائكة أولا ، ثم دون وسيط ام بوسيط ملك الوحي الخاص جبريل ثانيا!

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)(٨).

وترى كيف يختار زكريا فيما يدعو ويختار ، فلو كان بعيدا عن رحمة الله أو مستحيلا في قدرة الله لما كان يختاره بكل ضراعة وإصرار؟ وقد عرض في معرض دعائه مانعا منه فيه وفي زوجه ، عقرا وكبرا عتيا ، رجاء من الله أن يزيله فيهب له غلاما رضيا زكيا!

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٢٤ عن مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية وكذلك الحسين (عليه السلام) لم يكن له من قبل سمي ولم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا ، قيل له : وما كان بكاءها؟ قال : كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء وكان قاتل يحيى ولد زنا وقاتل الحسين ولد زنا وفي ارشاد المفيد روى سفيان بن عينية عن علي بن يزيد عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : خرجنا مع الحسين بن علي (عليهما السلام) فما منزل نزلا ولا رحل منه الا ذكر يحيى بن زكريا وقتله وقال : ومن هو ان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا اهدي الى بغي من بغايا بني إسرائيل.

٢٦٢

إنه لا يتساءل (كَيْفَ يَكُونُ) استبعادا لأصل الولادة او كيفيتها ، وإنما (أَنَّى يَكُونُ) سؤالا عن زمانها ، أقريب أم بعيد ، رغم أن (امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) فليكن قريبا لكي تكون لي ولأمه حظوة ، ولا فرق عندك بين تعجيله وتأجيله حيث الكبر والعقر قائم ولا سيما في تأجيله.

وان كان الجواب يلوح باستبعاد لزكريا في الاستجابة (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ..) فانما هو من قصور فيه وفي زوجه ، ولا أنه كان يستبعد القدرة الإلهية ، أو أنه كان يستبعد الإجابة لأنها خارقة ، فأخذته الحيرة لما بشر بيحيى فانفلت من لسانه «أنى»! إذ لم يتمالكه في عجاب البشرى واستفسار خصوصياتها ، استغرابا من الأسباب ، لا من هبة مسبب الأسباب ، كما ولا يذكر إلّا عقرا لامرأته وعتيا لنفسه دون شيء من ربه إلا ما سبق في دعائه (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)!.

هنا يذكر من قصوراته في موانعه : لامرأته عقرا وشيخوخة ، فلو لم تكن عاقرا لم تلد الآن للشيخوخة وهي عاقر شيخة! ولنفسه اشتعال الرأس شيخوخة وانخماد الشهوة عتوة : يبسا وجفافا لنبعة النطفة ، ضعف على ضعف وعقر على عقر فاستعجاب من بشارة الولادة جانبيا ، يستوضح ب «أنّى» زمنها وكيفيتها ، لا أصلها المستجاب فيما تطلّبه بكل رغبة و :

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)(٩).

«قال» الله «كذلك» الذي بشرت هو واقع دون منعة مانع ولا دفعة دافع (ذلِكَ قالَ رَبُّكَ) : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كيف لا (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أفعيّا بعد عن خلق غلام من أبوين؟.

٢٦٣

وترى (خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) تعني خلق زكريا من أبويه الصالحين للإيلاد؟ فهو أهون من خلق يحيى من أبوين عاقرين ولا اولوية في هذا القياس! ام يعني خلق الإنسان الاول دون أبوين ، المنتهي خلق زكريا إليه؟ والصحيح الفصيح هو الإفصاح عنه ب «وقد خلقت آدم ولم يك شيئا»!.

وقد يلمح (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) الى خلق المادة الأولية ـ وهو منها ـ لا من شيء ، وهو اولوية قاطعة بالنسبة لكل خارقة ، حيث الخلق من شيء أهون من الخلق لا من شيء وينتهي خلق كل شيء الى «لا من شيء».

أو أنه ليس قياسا وإنما تسوية في الخلق الهيّن بين خلقه من صالحين وبين خلق يحيى منهما بموانعه ف (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كما (قَدْ خَلَقْتُكَ ..) وكان هينا ، دونما صعوبة عليّ في خارقة العادة ، وهذا هو الواقع في حساب الله ان ليس في خلقه على مختلف المراتب سهولة وأسهل وصعوبة وأصعب ، وانما ذلك في حسابنا وكما يحدثنا بهذا الحساب : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) فالصعب يعيي ولكن الله لا يعيى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٦ : ٣٣)! وقد يعنيهما (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) جمعا بين برهاني قياس المساوات والاولوية!

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا)(١٠).

(... أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٣ : ٤١).

ترى وكيف يطلب آية وهو مطمئن ببشارة الله وقد طمأنه ثانيا وعد الله؟ .. انه لم يطلب آية لتدله على صدق الوعد! وما هي الصلة بين آية خارقة وبين صدق الوعد؟ ونفس الوحي آية هي أقوى من كل آية! وسائر الآيات

٢٦٤

ليست إلا لتدل المرسل إليهم الى آية الوحي المدعى للرسول!.

إنه يطلب آية لتدله على زمن تحقق البشارة حيث تتوق اليه نفسه ولا يعلمه بأصل البشارة. والنص (اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ) آية مرتبطة به لإعلامه الوقت ، لا مرتبطة بالله لكي يصدّق في البشارة ، ام ليتأكد أن البشارة هي من الله وليس من سواه! فان (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) برهان لا مرد له على تأكده انها بشارة ربانية ، فرواية هذه القيلة مطروحة(١) والأنبياء معصومون في مثلث زاويته الأولى تلقي الوحي ، إذ لا يشتبه عليهم غير الوحي بالوحي!

وفي إنجيل «لوقا ١ : ٢١) وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم الى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته (١٩) وكان الشعب منتظرين زكريا ومعجبين من إبطائه في الهيكل (٢٠) فلما خرج لم

__________________

(١) في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان زكريا لما دعا ربه ان يهب له ذكرا فنادته الملائكة بما نادته أحب ان يعلم ان ذلك الصوت من الله اوحي اليه ان آية ذلك ان يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة ايام قال : لما امسك لسانه ولم يتكلم علم انه لا يقدر على ذلك الا الله.

وفي الدر المنثور ٤ : ٢٦١ اخرج إسحاق بن بشير وابن عساكر عن ابن عباس في الآية ـ الى قوله : فقال : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) خاف انها لا تلد قال : كذلك قال ربك يا زكريا هو علي هين وقد خلقتك من قبل ان أهب لك يحيى ولم تك شيئا وكذلك اقدر ان اخلق من الكبير والعاقر وذلك ان إبليس أتاه فقال : يا زكريا دعاؤك كان خفيا فأجبت بصوت رفيع وبشرت بصوت عال ذلك الصوت من الشيطان ليس من جبريل ولا من ربك قال : رب اجعل لي آية حتى اعرف ان هذه البشرى منك. قال : آتيك .. أقول ماذا يدل على ان الإجابة كانت بصوت جلي ، وهل هنالك آية معجزة أقوى من الوحي نفسه؟! فالحديثان مطروحان دون ريب لمخالفة القرآن.

٢٦٥

يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يؤمي إليهم وبقي صامتا» (٢١).

وقد اقحم في هذه الآيات ما يمس من كرامة الرسالة فتعرض عرض الحائط ويصدق ما يصدقه القرآن وسائر البرهان.

و «ألا تكلم الناس ـ ثلاث ليال او ثلاثة ايام سويا إلا رمزا» آية تامة الهية تدله على ما يروم ، فقد يكون ترك الكلام لعقدة في اللسان ام لأي مرض كان ، وهو يقول «سويا» : حال أنك سليم ولو كان لمرض يمنع لم يقتسم بين ناس وسواهم وهو يقول (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) فقد يكلم الله ويكلم ملائكة الله كما كان ، لكنه يعجز في وقته المحدّد أن يكلّم الناس «إلا رمزا» ويومر أن يذكر ربه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)!.

وترى كيف الجمع بين ثلاث ليال ، تجمع مع نهارين ، وثلاثة أنهار ، وثلاثة ايام أليست إلا ثلاثة انهار بلياليهن ام ليلتين؟ ولم يكن الحد الزمني لآيته إلا إحداهما!.

ثلاثة ايام نص في ثلاثة انهار ظاهر في ثلاث ليال. وثلاث ليال نص ـ في لياليها الثلاث وظاهر في ثلاثة انهار ، ونتيجة الجمع بين النصين والظاهرين هي ثلاثة ايام بمجموع أنهارها ولياليها ، واستعمال ثلاث ليال في المجموع سنة مستمرة ، وقد يعني الإتيان بالليالي إبرازا لأهميتها في هذا المجال ل (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ).

ثم «إلا رمزا» سماح له أو أمر لتوجيه الناس الى تسبيح الله :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(١١)

ذلك ـ وليعيشوا في جو النور الذي أمر أن يعيشه ، تحضيرا للبشارة

٢٦٦

وشكرا على العدّة ، و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) تعني في مجموعة ثلاثة ايام صباح مساء ، وقد يعني ذكرهما أنهما كانا أصلين لأوقات العبادة في شرعة التورات ، أم هما أفضل الأوقات ، لأنهما البداية والنهاية في اليقظة او الشغل ، فليبكروا بتسبيح الله وليعشوا به.

ثم (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) هو الرمز المسموح له في تكلم الناس أيا كان فهو «وحي الإشارة» كما يروى عن امير المؤمنين (عليه السلام) (١).

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(١٢).

هنا يطوى عن «متى ولد يحيى؟ وكيف ولد؟ وماذا حصل بهذه الولادة؟» طيا لصفحة زكريا في صمته بتسبيحه ، وسدلا لستار عليه وعلى الولادة ، فتحا لصفحة جديدة ومختصرة غير محتصرة عن يحيى (عليه السلام) حيث ليس كتاب القصة إلا ما يقص منها للنبهة والتذكرة ، إبرازا لاهم الحلقات وطيا لسائرها حيث لا تعني ما يعنيه القرآن من قصته.

يؤمر يحيى أن يأخذ الكتاب بقوة ، حاكما به وداعيا إليه «صبيا» وهو قبل بلوغ الحلم ، ويروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه «أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين» (٢) و «قال الغلمان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب فقال يحيى : ما للعب خلقنا اذهبوا نصلي فهو قول الله :

__________________

(١) في تفسير النعماني باسناده عن الصادق (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن معنى الوحي فقال : منه وحي النبوة ومنه وحي الإلهام ومنه وحي الاشارة فقوله (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) اي أشار إليهم كقوله تعالى : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً).

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣٦٠ ـ اخرج ابو نعيم وابن مردوية والديلمي عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : اعطي ...

٢٦٧

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(١).

أترى ان ذلك الحكم ـ فقط ـ هو الفهم والعبادة من دون وحي ونبوة؟ وله نظائر من الصبيان علما وعملا! وهكذا حكم ليس لزامه أخذ الكتاب بقوة ، حيث البالغ المؤمن العادل يأخذ كتاب الشرعة بقوة ودون قوة ويحيى كان نبيا دونما ريبة!

أم إنه النبوة وقد عطفت بالكتاب في آيات عدة (٢) تجمع بين الكتاب والحكم والنبوة ، مما يدل على أن الحكم ليس لزامه النبوة ، ١ فقد يؤتى الكتاب دون حكم ولا وحي ولا نبوة ، كالمرسل إليهم بكتاب الشرعة ، ٢ او يؤتى كتابا بوحي الرسالة بحكم الولاية الشرعية كسائر المرسلين ٣ ام وحكم الملك كداود وسليمان (عليهما السلام) ٤ او يضاف الى وحي الرسالة بحكميها أو أحدهما النبوة وهي الرفعة في الرسالة ، ٥ أو يؤتى حكم الولاية الشرعية دون وحي كسائر ولات الشرع ، ٦ او ولاية الملك فقط على غرار الشرعة دون وحي ولا ولاية شرعية كما لطالوت الملك!

فالحكم ـ أيا كان ـ كائن في الخمسة الاخيرة فليس لزامه خصوص وحي الرسالة فضلا عن النبوة!

__________________

(١) المصدر (٣٦١) اخرج الحاكم في تاريخه من طريق سهل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ .. (٣ : ٧٩) «أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» (٦ : ٨٩) «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» (٤٥ : ١٦) «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (٤ : ٥٤).

٢٦٨

فهل يعني حكم يحيى الذي أوتيه صبيا حكم الملك؟ ولم يكن ملكا وإنما ذبحه كما الحسين (عليه السلام) ملك ظالم! أم حكم ولاية الرسالة او النبوة؟ ولا دليل عليه حين كان صبيا مهما بلغ بعد صباه الى رسالة ام نبوة! ام حكم الولاية الشرعية ولما يبلغ أشده؟ او حكم العقل والفهم بصورة خارقة للعادة وهو مادة الولاية الشرعية؟ وهو القدر المتيقن من حكمه ، كخارقة إلهية لمن لم يبلغ أشده ، مهما أبلغه الله شدا واحدا وهو العقل الرزين والإدراك المتين (١) فلا نبي فيمن نعرف أوتي حكما قبل ان يبلغ أشده وكما موسى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٢٨ : ١٤) وفي يوسف (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (١٢ : ٢٢). ولم يك عيسى نبيا في المهد مهما تكلم بوحي النبوة ، ذودا عن أمه المعصومة ، وتبشيرا برسالته

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٢٥ ح ٣٤ في كتاب الاحتجاج للطبرسي وروي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال : ان يهوديا من يهود الشام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) فهذا يحيى بن زكريا يقال : انه اوتي الحكم صبيا والحلم والفهم وانه كان يبكي من غير ذنب وكان يواصل الصوم؟ قال علي (عليه السلام) : لقد كان كذلك ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) اعطي أفضل من هذا ان يحيى بن زكريا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهلية ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) اوتي الحكم والفهم صبيا بين عبدة الأوثان وحزب الشيطان فلم يرغب لهم في صنم قط ولم ينشط لأعيادهم ولم ير منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) كذب قط وكان أمينا صدوقا حليما وكان يواصل صوم الأسبوع والأقل والأكثر فيقال له في ذلك فيقول : اني لست كأحدكم اني أظل عند ربي يطعمني ويسقين وكان يبكي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم.

أقول : قياسه صبا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) بصبا يحيى دليل على ان الحكم فيهما ليس النبوة وانما الحالة المتحضرة للنبوة الآتية.

٢٦٩

كهلا (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٣ : ٤٦) فلم يكلم الناس كرسول بين مهده وكهله!

هذا ، ومن أئمتنا المعصومين من بلغ الامامة والولاية الكبرى الاسلامية قبل أشده إلا شدا في عقله كالإمام محمد بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه حيث تقلد إمامة الأمة في الخامسة من عمره الشريف ، ثم جواد الائمة (عليهم السلام) في الثامنة او التاسعة من عمره (١).

__________________

(١) المصدر ح ٣٢ ـ الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن علي بن أسباط قال : رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج عليّ فأجدت النظر اليه وجعلت انظر الى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا انا كذلك حتى قعد فقال يا علي : ان الله احتج في الامامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال : وآتيناه الحكم صبيا ولما بلغ اشده وبلغ أربعين سنة» فقد يجوز ان يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز ان يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين سنة» أقول : الآية الثانية غير مرتبطة بالنبوة فان بدايتها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً .. حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ..) الى قوله : (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فانها ليست فيها اشارة الى النبوة اللهم الا الايمان الإسلام وهو أعم ، ثم الآية الاولى ليس فيها الا الحكم وهو كما قسمناه لا يخص حكم النبوة ، إذا فهذه الرواية مؤولة او مطروحة مردودة الى من نسبها الى الامام (عليه السلام).

وفيه (٣٥) عن المناقب محمد بن إسحاق بالإسناد جاء ابو سفيان الى علي (عليه السلام) فقال : يا أبا الحسن جئتك في حاجة قال : وفيم جئتني؟ قال : تمشي معي الى ابن عمك محمد فنسأله ان يعقد لنا عقدا ويكتب لنا كتابا فقال : يا أبا سفيان لقد عقد لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عقدا لا يرجع عنه ابدا وكانت فاطمة (عليها السلام) من وراء الستر والحسن يدرج بين يديها وهو طفل من أبناء اربعة عشر شهرا فقال لها : يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلم لي جده فيسود بكلامه العرب والعجم فأقبل الحسن الى أبي سفيان وضرب احدى يديه على انفه والاخرى على لحيته ثم أنطقه الله عز وجل بأن قال : يا أبا سفيان قل : لا اله الا الله محمد رسول الله ـ

٢٧٠

ثم وما تعني (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ)؟ إنه أخذ التوراة بقوة العلم والعمل والحكم بهما بين الناس بالولاية الشرعية لمّا يبلغ أشده (١).

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥).

«و» آتيناه حنانا من لدنا وبرا بوالديه ..» إيتاءات وعطيات إلهية «وكان» قبلها وبعدها «تقيا» فلم تكن تلك الموهبات اللدنية دون شيء. فانما «زكاة» من لدنه (وَكانَ تَقِيًّا) في زكاته ، حيث الغايات اللدنية تنزل حسب القابليات والفاعليات فقابلية «زكاة» كانت من لدنه ، وفاعلية (وَكانَ تَقِيًّا) منه (عليه السلام) نسخة طبق الأصل!.

هنالك حنان وزكاة وبر ، وبينها تقى منذ ولد حتى الممات إذا فكله (سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)!.

والحنان هو الإشفاق المتضمن للصوت الدال على الشفقة. و «من لدنا» تجعله خارقا للعادة المألوفة وفي مربع من الحنّة ١ حنان من الله وعطف بما يحمله وحيه الحنون ورحمته الحنون «كان إذا قال يا رب قال الله عز وجل :

__________________

ـ (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى أكون شفيعا فقال : الحمد لله الذي جعل من ذرية محمد المصطفى نظير يحيى بن زكريا (آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أقول : ولم يكن الحسن (عليه السلام) حينذاك اماما وانما اوتي حكما : عقلا وفهما.

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٢٥ ح ٢١ في اصول الكافي باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه : مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير اما تسمع لقوله عز وجل : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) فلما بلغ عيسى (عليه السلام) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين اوحى الله اليه فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين.

٢٧١

لبيك يا يحيى (١) ، ٢ ـ وحنان له من لدنه جعله يحن اليه ليل نهار بحنين وأنينه وعبادته ، ٣ ـ وحنان منه الى عباد الله ، يد آب في دعوتهم إلى ربهم ٤ ـ وحنان من الناس إليه وكما في موسى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)! فهو إذا محبط الحنان ومصدره بين الله وخلقه ، ورأس الزاوية من حنانه انجذابه الخاص الى ربه لحدّ لا يؤلف في سواه اللهم إلا الاخصين من الصالحين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرين (عليهم السلام).

هنالك حنان يمازجه ضيق ببكاء دائب إشفاقا من ربه واشتياقا إليه ، صوت المشتاق المفتاق الى ربه مثلما كان لأستوانة الحنّانة حنين بفراق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولذلك سميت حنانة!

«وزكاة» : آتيناه زكاة ـ طهارة عما يدنس ساحة الإنسانية والإيمان الإسلام «و» الحال انه (كانَ تَقِيًّا) ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤٧ :) ١٧) فلما كان تقيا يتقي الموبقات ، آتيناه زكاة عما يتقى من جهل وسوء خلق وفسوق وعصيان فأصبح زكيا دون عيب في نماء وربوة روحية متعالية ، متزكيا في نفسه مزكيا لغيره ، زاكيا زكيا ذكيا في كل الحقول محلقا على كل العقول.

«و» آتيناه (بَرًّا بِوالِدَيْهِ) وترى إن بر الوالدين من ميزّات الرحمات اللدّنية الربانية؟ ولم يذكر في عدادها لسائر المرسلين! ولا من دونهم من أولياء الله المكرمين! فإنه من صفات المؤمنين قبل هذه الدرجات العليا! فكيف يذكر في سائر القرآن بين سائر المرسلين ـ فقط ـ ليحيى وعيسى عليهما السلام؟!.

__________________

(١) في الكافي باسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت : فما عنى بقوله في يحيى : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً)؟ قال : تحنن الله ـ قلت : فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال : كان إذا قال : يا رب ...

٢٧٢

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا)(١٤).

إن السيد المسيح كما يأتي قد افتري عليه بخلاف البرّ لوالدته وأنه كان جبارا عليها عصيا ، فدافع عنه القرآن هنا ، ولان يحيى الرسول كان مبشرا بالمسيح ، وكانت مهمته الرسالية ذلك التبشير : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣ : ٣٩).

لذلك يذود عنه ايضا تلك الوصمة كإعداد لأصله المبشّر به ، فإذا كان يحيى المبشر بالمسيح برا بوالديه فأحرى بالمسيح كونه برا بوالدته! (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) : مستعليا مستكبرا يحمل غيره على ما أراد ولا يتحمل عن غيره ما يراد «عصيا» : كثير العصيان.

هذه جوامع أحوال يحيى في نفسه وما آتاه ربه ، وأمام الخالق والمخلوق ، زوايا ثلاث من حياته منذ ميلاده حتى موته : حاكما حكيما حنونا زكيا تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ، فهو جملة وتفصيلا سلام في سلام الى سلام.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)

صحيح أن (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (٣٧ : ١٨١) جملة وسلام عليهم تفصيلا ، إلّا أنّ يحيى وأحرى منه عيسى قيل فيهما أقاويل تمس من كرامة الرسالة ولادة وموتا وبعثا لذلك نجد مثلث السلام لهما في سائر القرآن بين سائر المرسلين ، هذا ليحيى ومن ثم المسيح (عليه السلام) : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣).

ف «ان أوحش ما يكون في هذا الخلق في ثلاثة مواطن ، يوم يولد ويخرج من بطن امه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا وقد سلم الله عز وجل على يحيى في هذه

٢٧٣

الثلاثة مواطن وآمن روعته فقال (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) وقد سلّم عيسى بن مريم على نفسه فيها» (١) فسلام الولادة والموت سلام طول حياة التكليف ، وسلام البعث حيا هو سلام الخلود في عطاء غير مجذوذ ويعني مثلث السلام للمسيح (عليه السلام) اكثر مما يعنيه في يحيى ذودا عن ساحته فيها لا مزيدا لسلامه فيها (٢).

و «سلام» في إرساله يعم كلّ سلام من كل مسلّم : من الله في رحمتيه ، ومن الملائكة طلب الرحمة كما في سائر المرسلين والصالحين ، ومنه نفسه كلّما يقدمه لكل سلام منذ الحكم حتى الموت ، ومن سائر الناس ان يعتقدوا فيه كل سلام. إذا فهو في مربع السلام تكوينا وتشريعا لا يجوز لأحد ان يقول فيه غير «سلام»! وهل يوجد بين الأتقياء أتقى من يحيى؟ علّه نعم فانه لم يكن من أولي العزم مهما بلغ من تقاه ، ثم القرآن يصرح بان الرسول محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) اوّل العابدين! او علّه لا إلا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) مهما سبق سائر اولي العزم في سائر عزمهم على يحيى ، ولكنه اتقى منهم (٣) ام هم على سواء إلا خاتمهم (صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٢٧ ح ٣٨ عيون الاخبار باسناده الى ياسر الخادم قال : سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول : ان أوحش.

(٢) يأتي تفصيله في سلامات المسيح بعد قليل.

(٣) ويتبع محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) اهل بيته المعصومون (عليه السلام) وقد تظافرت الرواية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في فضل يحيى ففي الدر المنثور ٤ : ٢٦٢ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن خزيمة والدار قطني في الافراد وابو نصر السنجري في الابانة والطبراني عن ابن عباس قال كنا حلقة في مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) نتذاكر فضائل الأنبياء ، فذكرنا نوحا وطول عبادته وذكرنا ابراهيم وموسى وعيسى ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فخرج ـ

٢٧٤

وسلم) ، فسلام عليه من عيسى (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) من الله ليحيى قد يلمح لكونه اتقى من عيسى مهما كان المسيح أفضل منه في ولاية العزم اللهم إلا في تقاها (١).

__________________

ـ علينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : ما تذاكرون بينكم فذكرنا له فقال : اما انه لا ينبغي ان يكون احد خيرا من يحيى بن زكريا اما سمعتم الله كيف وصفه في القرآن (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) ـ الى قوله ـ (وَكانَ تَقِيًّا) ـ لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها أقول : لعله نعم الا محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) لقوله تعالى (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ولآية التطهير وأمثالهما من ادلة تفضيل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وآله على العالمين أجمعين وفيه اخرج ابن عساكر عن ابن شهاب ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) خرج على أصحابه يوما وهم يتذاكرون ـ وذكر مثله في معناه ـ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اين الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخالفة الذنب يحيى بن زكريا وفيه اخرج احمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ما من احد من ولد آدم الا وقد اخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة ولم يعملها أقول يستثنى من عمل الخطيئة كافة المرسلين وساير المعصومين ، ومن الهم بالخطيئة الرعيل الأعلى منهم وفي إنجيل متى» : «عن السيد المسيح «الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان ..» وهو اسم ثان ليحيى حسب الإنجيل.

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٦٢ ـ اخرج عبد الرزاق واحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال : ان عيسى ويحيى التقيا فقال عيسى ليحيى استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى بل أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت انا على نفسي وفيه اخرج احمد وابو يعلى وابن حيان والطبراني والحاكم والضياء عن أبي سعيد قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة الا ابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا أقول قد يعني بذلك من مات شابا فلا يشمل الامام المهدي (صلّى الله عليه وآله وسلم) واما الامام الجواد فقد يعني من ـ

٢٧٥

وترى لماذا (يَوْمَ يَمُوتُ) وهو ميت حال نزول آية السلام؟ لأنه ينقل «سلام» عن حال حياته ، لا أنه «سلام» بعد استشهاده حال نزول آية السلام!

ولماذا «حيا» بعد (يَوْمَ يُبْعَثُ) والبعث ليس إلا بعث الحياة؟ قد يعني أنه لا يموت عن حياة البرزخ الى حياة الآخرة ، وإنما يزداد حياتها الى حياته ، لأنه والمسيح ممن استثنى من الصعقة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) فهما ممن شاء الله ألا تأخذهم الصعقة بموت أم غشوة ، وإنما انتقالا من برزخ الحياة الى أخراها ببعث لبدن والروح حيّ يزداد حياتا بهذا البعث!

وقد تلمح «حيا» فيما تعني أنه حي في البرزخ بحياة الشهادة ، حياتا في حياة لا تسلبان عنه إذ (يُبْعَثُ حَيًّا) وما ألطفه جمعا بين الحياتين فيما تعنيه «حيا» (١) وهو ـ إذا ـ حال عن يحيى

__________________

ـ الشباب غير اهل بيت الرسالة المحمدية فإنهم في الدرجة العليا من العصمة لا يدانيهم احد كما تدل آية التطهير ورواياته!.

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٦٣ واخرج ابن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال : كان ملك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه اخوه فأراد ان يتزوج امرأة أخيه فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء فقال له : لا تتزوجها فانها بغي فبلغ المرأة ذلك فقالت ليقتلن يحيى او ليخرجن من ملكه فعمدت الى ابنتها فصيغتها ثم قالت : اذهبي الى عمك عند الملاء فانه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره ويقول : سليني ما شئت فانك لن تسأليني شيئا الا أعطيتك فإذا قال لك قولي : لا اسألك شيئا الا رأس يحيى وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رءوس الملاء ثم لم يمض له ـ

٢٧٦

المضمر في «يبعث» (١). ف (يَوْمَ يُبْعَثُ) للحياة الآخرة حالكونه «حيا» بالحياة البرزخية وحياة الشهادة ، ولا نجد البعث حيا إلّا في يحيى والمسيح (عليهما السلام) مهما يبعث أضرابهما من أولياء الله الكرام أحياء ، بحياة إن ماتوا أم حياتين ان استشهدوا ، فغيرهم لا يبعثون أحياء ، وإنما عن موت برزخي مهما كان الشهداء أحياء قبل البعث اكثر من سائر الاحياء!.

زكريا ويحيى في القرآن والعهدين :

يذكر زكريا سبعا ويحيى خمسا في سائر القرآن بكل تبجيل وتجليل ، ومن ميزات يحيى أنه ولد خارقة العادة وسماه الله يحيى وآتاه الحكم صبيا ، وقد تشير «يحيى» إلى انه يحيى حياة طيبة ، وأنه تستمر حياته البرزخية إلى بعثة : (يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) دون موت في البرزخ!

ومما يلمح في رسالة يحيى انها رسالة التبشير بالمسيح (عليه السلام) و (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣ :) ٣٩) فرسالة التبشير هذه هي رأس الزاوية من رسالته المباركة.

ولأن شعب إسرائيل حسب البشارة في العهد العتيق كانوا ينتظرون المسيح ، ظنوا يحيى وهو يوحنا المعمدان أنه المسيح (عليه السلام) فنفى لمرات عن نفسه أنه المسيح وكما في «لوقا الاصحاح الثالث» :

__________________

ـ نزع من ملكه ففعلت ذلك فجعل يأتيه الموت من قتل يحيى وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه فاختار ملكه فقتله ، فساخت بأمها الأرض ..».

(١) اجل حال لا مفعول فان البعث يتعدى لمفعول واحد وهو هنا نائب الفاعل في «يبعث» وحتى إذا عدي البعث الى مفعولين فلا يتعدى الى ثان هو «حيا» لأنه تحصيل لحياة حاصلة ، اللهم إلّا مزيد الحياة المعنى ب «حيا» وهي حال ليحيى!.

٢٧٧

«وإذا كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون فى قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح (عليه السلام) ١٥ أجاب يوحنا الجميع قائلا : أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحلّ سيور حذائه وهو سيعمدكم بالروح القدس ونار (١٦) الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع القمح الى مخزنه (١٧)

وفي يوحنا ١ : ١٩ ـ ٢٧ : «وهذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقرّ : إني لست أنا المسيح ، فسألوه إذا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال : لست انا! النبي أنت؟ فأجاب : لا! فقالوا : من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك قال : أنا صوت صارخ في البرية ـ قوّموا طريق الرب كما قال اشعيا النبي ـ وكان المرسلون من الفريسيين ، فسألوه وقالوا له ما بالك تعمّد؟ إن ان كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ أجابهم يوحنا قائلا : أنا أعمد بماء ولكن وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه».

هذه الآيات ترسم الجوّ الإسرائيلي بانتظار ثلاثة اشخاص بعد يحيى : «ـ المسيح ـ إيليا والنبي»! وقد صدقهم يحيى هكذا كما الفريسيون ، وليس «النبي» إلا الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي بشرت به كتابات العهدين العتيق والجديد ، وقد كان معروفا لديهم لحد الغنى عن ذكر اسمه وكأنه ـ فقط ـ نبي لا سواه ، و «إيليا» هو علي دون «إلياس النبي» لاختلاف الاسم وسبقه على يحيى بزمن ، وقد أتى إيليا لعلي في بشارات اخرى (١).

__________________

(١) راجع كتاب «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

٢٧٨

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي

٢٧٩

وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)

٢٨٠