الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) :

ورغم نفره من ولد وسواهم (لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) حيث أحاط الله وقد كان يعتز بمال ونفر (وَما كانَ مُنْتَصِراً) وبمن ينتصر؟ بمن لا ينصرونه او ينصرونه؟ أمن الله؟ ولا قوة إلّا بالله! او من حسبان السماء؟ وليس إلا امر الله! ف (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) لا لسواه إلّا باطلا.

وماذا تعني «هنالك» حيث تخص بها الولاية لله؟ وكيف بوصف الله بالحق ولا اله إلّا الله الحق؟ ثم ثوابه وعقبه خير من ايّ كان ولا خير إلّا منه؟

فهل «هنالك» تشير الى مكانة الحيطة الإلهية بعذاب ألا ناصر فيها إلّا الله حيث تعني الولاية النصرة ، فمهما كانت الإصابة من غير الله تدفع بغير الله ، فالإصابة الخاصة من الله لا دافع عنها إلّا الله الحق ، دون الآلهة الباطلة التي يتخذونها آلهة دونه ، فحين تتقطع الأسباب وتحار دون الحيطة الغيبية الألباب ، تصرخ الفطرة أن لا إله الا الله ، و (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) دون سواه!

ولكنه على صحته في نفسه لا يناسب (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) حيث الموقف هنالك هو العقاب وليس الثواب!

ام إن «هنالك» البعيد هي الحياة البعيدة الأخرى ، فالولاية النصرة والمالكية للتدبير هي (لِلَّهِ الْحَقِّ) دون الآلهة الباطلة (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) من سواه لو كان لهم ثواب ولا ثواب لسواه (وَخَيْرٌ عُقْباً) عاقبة من سواه لو كان لهم عقب ولا عقب لسواه ، أو ان «خير» مقابل الشر فليس هنا تفضيلا ، فليس الخير ثوابا وعقبا إلّا له ، ولمن سواه الشر ثوابا وعقبا!

١٠١

وهذا على حقه في نفسه ، وبالنسبة لثوابه وعقبه قد لا يناسب الحيطة المدمرة الإلهية ، اللهم إلّا وهو أشد تنكيلا وعقابا!

ام إن «هنالك» يجمع بين الموقف يوم الجمع ويوم الدنيا حين يحاط بالإنسان فيجمع بين المناسبتين ، فإذا كانت ولاية النصرة والتدبير لله الحق دون آلهة الباطل ، ففروا ـ إذا ـ الى الله الحق ، فهل تريدون من الآلهة إلّا ثوابا وعقبا فهو (خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)!

إن الولايات الهامشية الاختيارية لمن سوى الله ليست إلّا من قبل الله كما ولىّ استخلافا دون تخويل ، فلا تركنوا إليها اللهم إلّا الى حقها (١) دون باطلها ، تذرعا إلى تحقيق أمر الله ، والزلفى إلى ولاية الله ، ولتكونوا على نبهة دائبة ألّا ولي إلّا لله ، ولا ثواب ولا عقب إلّا من الله ، ففي ظل ولاية الله تتوارى الولايات كلها ، و (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)!

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥)

هنا مثل للحياة الدنيا يأتي في يونس اكثر تفصيلا : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ

__________________

(١) ومن حق الولايات الهامشية ولاية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وفي ظلها ولاية علي (عليه السلام) والائمة المعصومين من ولده ، وقد تبرز ولاية علي (عليه السلام) تأويلا ل «الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» كمصداق مختلف فيها في الولايات تحت ظل الولاية المحمدية كما رواه في الكافي باسناده عن علي بن حسان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قوله عز وجل (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) قال : ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) ورواه مثله عن عبد الله الرحمن بن كثير عنه (عليه السلام)

١٠٢

عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤).

ألا إن الدنيا «كروضة اعتمّ مرعاها وأعجبت من يراها ، عذب شربها ، تمج عروقها الثرى وينظف فروعها الندى ، حتى إذا بلغ العشب أبانه واستوى بنانه ، هاجب ريح تحت العروق ، وتفرق ما اتّسق ، فأصبحت كما قال الله (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)(١) فهي إذا «لا تعدوا إذ تناهت إلى أمنية اهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قال الله (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) .. (٢).

أترى (الْحَياةِ الدُّنْيا) هنا هي الرديئة الدنيئة؟ و (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)؟ قد لا يناسبها ، فانه رحمة من سماء الرحمة اختلط بها نبات الأرض!

أم هي أدنى الحياة العقلية إلينا وأقربها ، من وراءها الحياة البرزخية والاخرى وهما العليا؟ ويناسبها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) ولكنما العاقبة (فَأَصْبَحَ هَشِيماً ..) قد لا تناسبها! ـ

ام هي الدنيا بمعنييها حيث يناسبان موضعيها «ماء وهشيما»؟ وهذا أنسب وأحرى!

فكما الماء النازل من السماء طاهر في نفسه ، عال في مكانه ومكانته ، وحين ينزل يختلط به نبات الأرض لينبت ، فلو لا الماء فلا نبات ولا كلاء ، كما لو لا بذور النبات لم يفد الماء ، ومن ثم نبات الأرض الظاهر الزاهر

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٦٢ ح ٩٢ في روضة الكافي باسناده عن علي بن الحسين (عليه السلام) حديث طويل في الزهد في الدنيا وفيه يقول (عليه السلام) «فهي كروضة ..»

(٢) عن نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

١٠٣

بزخرفاته يصبح هشيما تذروه الرياح ، حيث تنتهي شريط الحياة للنبات.

كذلك الروح الإنساني الطاهر ينزل من سماء المشيئة الإلهية إلى أرض البدن (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (٣٢ : ٩) وأرض الأرض : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٧ : ٢٤) فاختلط به نبات الأرضين زينة وزخرفة ، ثم يصبح البدن ومن ثم أرض البدن بنباته هشيما تذروه الرياح! والهشيم : الكسير الرخو ، والذرو : التفريق ، فالرياح تفرّق كسير النبات ورخوها كأن لم تكن شيئا!

مشهد للحياة الدنيا ، خاطف قصير يلقى في النفس لها ظل الفناء في مثلث نزول ماء السماء وخلطه وهشيمه ، فلا بقاء إذا لدنياها ، والباقي هو ماء السماء ، روح الإنسان بعد تهشّم البدن بدنياه ، فليتزود نازل السماء من منزل الأرض زادا لأخراه.

ألهذه الخليطة الهشيمة ، الحطيمة اليتيمة الزهيدة ، القصيرة الوهيدة ، لهذه تتنافس ، فتتقاعس عن واجب الحياة ، عن أخراها الى أولاها ، لحد تظن ألّا تبيد هذه أبدا؟!

حتى متى الغفلة والغفوة عن حق الحياة وحاقها ، الى باطلها وزائلها (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧)(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(٤٦).

أترى أن زينة الحياة الدنيا محرّمة على أهلها؟ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ .. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ..) (٧ : ٣٣)!.

١٠٤

فمن هذه الزينة باقيات صالحات هي خير عند ربك ثوابا وخير أملا ، ومنها زائلات طالحات لا خير فيها ولا ثواب إلّا شر وتباب!

الأعمال كلها باقيات أقوالا وافعالا ونيات ، من صالحات وطالحات باغيات ، فالصالحات خير عند ربك ثوابا كما الطالحات شر لا تخلّف إلّا عقابا ، والصالحات خير أملا يأملها فاعلها في الدارين ، والطالحات شر املا في الدارين : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (١٩ : ٧٦) وإذا كان الإنسان يتعلق بالمال والأولاد ثوابا وأملا ومردا ، فالباقيات الصالحات منهما وسواهما خير ثوابا وخير أملا وخير مردا!

وزينة المال والأولاد قد تكون باقية صالحة لحد توخذ في كل مسجد (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٧ : ٣١) حيث تشمل المال إنفاقا له في كل مسجد والأولاد تعبّدا كأمثالكم في كل مسجد ، فيصبحان على زينتهما من الباقيات الصالحات ، فزينة المال والأولاد كسائر الزينة في الحياة الدنيا هي زينة الله حيث زينها الله وجعلها وسيلة للحياة الأخرى ، ولكنما الشيطان يزينها زينة اخرى أنها دائبة ترغب في نفسها فتزلّ فيها قدم بعد ثبوتها ، او تضل حين ورودها لمن أبصر إليها فأعمته ولم يبصر بها فبصرته : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ...) (٢ : ٢١٢) (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (٣ : ١٤).

فللزينة قيمة ما تزيد في قيمة الإنسان وهي الباقية الصالحة ، وليست لها قيمة ما تنقص من قيمة الإنسان وتجعله كحيوان ، وهي الباقية الطالحة ، وما أهونها واحونها زينة تسلب قيمة الإنسان بدل أن تجلب قيمة للإنسان!

١٠٥

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ

١٠٦

يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ

١٠٧

لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)(٥٩)

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٤٧) :

وترى أين وأنى يبرز خير الباقيات الصالحات ثوابا وأملا ومردا؟ :

(يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ..) وهنا يجمع ردفا بين يومي القيامة إماتة : (نُسَيِّرُ الْجِبالَ ..) واحياء : (وَحَشَرْناهُمْ ..) جمعا للموتى في الحياة فحسابا وجزاء وفاقا!

وبماذا يعطف «ويوم» في بروز الباقيات الصالحات والطالحات؟ علّه قبله يوم البرزخ فانه دار جزاء برزخ ، وقبله الدنيا حيث يرى فيها الباقيات الصالحات والطالحات بشيء من آثارها ، مثلث من الحياة في كلّ حسبها يرى آثار الصالحات والطالحات ، وكما آية السعي تسعى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) كضابطة عامة تبتدء من الدنيا (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) انتقالا إلى البرزخ (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) الى الحياة الاخرى ، فليست المساعي والصالحات موقوفة في ثوابها وأملها ومردّها في الحياة الاخرى ، بل تبرز بدرجات او دركات في مثلث الحياة.

و (نُسَيِّرُ الْجِبالَ) هي قيامة الأرض بما فيها وعليها ، باقتلاع الجبال عن أصولها وتسييرها سريعة لحد (تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ببروز قواعد الجبال والاتلال ، وسرابا : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٧٨ : ٢٠) حيث

١٠٨

«تذل الشم الشوامخ والصم الرواسخ فيصير صلدها سرابا رقراقا ومعهدها قاعا سملقا» «ويسألونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» (٢٠ : ١٠٧) أرضا مستوية ملساء دون انخفاض فيها ولا ارتفاع ـ

(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) في قيامة التعمير بعد قيامة التدمير ، ولكل رجفة تناسبه (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩ : ٧) (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٣٩ : ٦٩) ولعلّ من بروز الأرض إشراقها بنور ربها حيث تطوى ظلمتها وظلاماتها طيا ، كما وأنها تبرز أثقالها المخبوءة فيها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها).

وإنه الحشر العام والتام دون إبقاء : (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) من الأوّلين والآخرين: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (١٨ : ٩٩) (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) (٦ : ١٢٨).

حشر تبدى فيه الأرض بارزة عارية من أتلال وأشجار وجبال وعن بنايات إمّا ذا من حواجز وفواصل بروزها صافية مستوية ، فالقوة التي تسيّر الجبال وتصيّرها كالعهن المنفوش ، ماذا ترى تفعل بما دونها من أتلال أم ما ذا؟ : فللأرض بروز اوّل رفعا لحواجزها ، وبروز ثان إخراجا لأثقالها ، وبروز ثالث إشراقا بنور ربها ، ومن ثم جمع على ظاهرها الساهرة (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(١) والمغادرة هي المشاركة والإخلال

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٥ ج ١٠٦ في كتاب جعفر بن محمد الدرويستي باسناده الى ابن ـ

١٠٩

بالشيء ، فلا متاركة مع أحد ولا إخلال بأحد!

تتكشف الأرض وتتكشف خبايا من يحشر على الأرض فلا تخفى منها ولا منه خافية :

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)(٤٨).

أترى انهم لم يكونوا بمعرض «ربك» حتى «عرضوا» بعد حشرهم ، (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) في الدنيا والآخرة ، ثم ومن هذا المطلع عليهم قبل «ربك» حتى يعرضهم على ربك؟

ان الكون كله بمعرض الله أيا كان وأيان ، ولكنما العرض على «ربك» عرض على ربوبية ، فهنا عرض اوّل طول الحياة الدنيا على ربوبية التكليف وهو أمانة الرب على العواتق (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣٣ : ٧٢) وهناك عرض على ربوبيته الجزاء (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) ولا يعرضهم إلّا ربك او من يعرضهم من عمّاله باذنه الموقف التساءل والحساب فالجزاء ، دون ان تخفى منهم خافية : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٦٩ : ١٨) فليس العرض كما الأشهاد لأنه خاف عليه خافية (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ

__________________

ـ عباس قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) غشي عليه وحمل الى حجرة ام سلمة فانتظره أصحابه وقت الصلاة فلم يخرج فاجتمع المسلمون فقالوا : ما لنبي الله قالت ام سلمة : أن نبي الله عنكم مشغول ، ثم خرج بعد ذلك فرقى المنبر فقال : ايها الناس انكم تحشرون يوم القيامة كما خلقتم حفاة عراة ، ثم قرأ على أصحابه (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) ثم قرأ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) :

١١٠

هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١١ : ١٨).

ولان العرض فيه الهول المطّلع ، وآياته تخص عرض الظالمين ، فهو ـ إذا ـ خاص بغير المؤمنين ، وأما هم فوافدون إلى ربهم وفد الكرام الى الكريم ـ

(عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) فهم بصفهم في عرضهم يزدادون هولا ، فهنا صف هائل لأهله ، حيث لا حكمة فيه إلّا هوله ، وفي القتال صف هائل للعدو (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٦١ : ٤) وأين صف من صف! ثم الخطاب الهائل لذلك الصف والعرض الهائل : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) وي كأنه خطاب حاضر ، لا مستقبل ، تجسيما وتحضيرا لموقف الخطاب العتاب!

وترى كيف المجيء بمعرض الرب (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)؟ لقد خلقنا فرادى دون ما خوّلنا ولا شفعاء وكذلك نجيئه كما خلقنا : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦ : ٩٤) هذا مجيء (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ومجيء آخر معه (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧ : ٢٩) فكما خلقناكم فرادى جئتمونا فرادى ، وكما خلقناكم من تراب جئتمونا عائدين كبدئكم من تراب ، كما خلقناكم اوّل مرة جئتمونا ثاني مرة :

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (٢٣ : ١١٥) زعمتم إحالة موعد العرض والحساب ، وحسبتم عبث الخلق وعدم الرجوع والإياب ، ولذلك اثاقلتم إلى الأرض ورضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة! :

١١١

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٤٩).

ذلك الكتاب هو كتاب الأعمال الصوتية والصورية إمّا ذا كما استنسخه الله (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) استنساخا لنفس العمل كأعمال ف (وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) «كأنه فعله تلك الساعة» (١) فلو لم تكن نفس الأعمال وكانت حكاية اخرى غيرها لم يجدوا ما عملوا حاضرا! (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) أن يكتب ما لم يعمل من سوء ، او يكبت العامل أزيد من استحقاق جزاء غير وفاق ، أم لا يكتب سوء او ينقص من سوء ظلما على تاركي السوء إمّا ذا؟.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) بمعرض المحشر حيث يراه ويسمعه ويفهمه صاحبه وسواه ، ووا ويلاه من هذا العرض وذلك الوضع ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) وهم يتأملونه ويتملّونه فإذا هو جامع لما أجرموا دون إبقاء (مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) خائفين على حبه ، حبّا لأنه منهم ، وخوفا من عقباه الحاضرة ، فالإشفاق «من» يزيد خوفه على حبه ، والإشفاق «في» يزيد حبه على خوفه ، فلان إشفاقهم خال عن رجاء فخوفه زائد على حبه ، بل ولا حب بعد هنيئة يرون جزاء ما فيه ويتمنون فراقه : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٦ في تفسير العياشي عن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا كان يوم القيامة رفع الإنسان كتابه ثم قيل له : اقرءه ـ قلت : فيعرف ما فيه؟ فقال : انه يذكره ، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم إلّا يذكره كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) وفي نقل آخر وقال (عليه السلام): يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه كأنه فعله تلك الساعة ـ ثم استدل (عليه السلام) بالآية :

١١٢

وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠) «ويقولون» والهين حائرين آسفين (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ) ما له من قوة ضابطة حافظة ، لهذا الشريط والمسجلة «لا يغادر» معصية (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(١) إحصاء لنفس الصغيرة والكبيرة ورسمها لا اسمها ، وكل مسجلة ام شاشة تلفزيونية إنما تحضر ما تلقته إذا سلمت وبقيت على حالتها الاولى حين سجّلت ، وهذا الكتاب ، المسجلة الأرضية بفضائها ، والبدنية بأعضائها اما ذا ، نراها تودي أمانتها بعد ما تمزقت : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ .. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ..) (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) بما سجله الله وأحضره (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ..)! وليس حضور العمل حضورا لما يحكي عنه من قولة حاكيه ام كتابة ، اللهم إلّا حضوره نفسه وقد انقضى ام تجسّمه وهو تجشّم! إذ ليس انقلاب العمل ـ وهو صورة ـ الى جسم ـ على فرض امكانيته ليس هو هو او صورته ، ثم لا مبرر لهكذا قلب للعمل ولا يجدي نفعا!

إن العمل أيا كان يستبقى دون عامله بزمانه ومكانه ، ويستنسخ منه صور اخرى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : ف (وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) يعني أصل العمل المستمر وزيادة هي ما استنسخ منه في كتب صوتية وصورية اخرى من أرض بفضائها ، ولا حضور للعمل معقولا هو

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٢٩ ـ اخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال : لما فرغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اجمعوا من وجد عودا فليأت به ومن وجد عظما او شيئا فليأت به ، قال : فما كان الا ساعة حتى جعلناه ركاما فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أترون هذا فكذلك تجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله رجل لا يذنب صغيرة ولا كبيرة فانها محصاة عليه.

١١٣

حجة على العامل إلّا نفسه ، وتزيده ما معه من صور مستنسخة أخرى ، إذا فتجسّمه تجشّم وليس به ، واللفظ او الكتاب الحاكيان ليسا نفس العمل ، فلا معنى صحيحا ممكنا هو حجة على العامل إلّا حضور العمل ، ام حضور صورته التي استنسخها الله (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سواء أكان عمل القلب او القالب ، في مثلث من الصور المعنوية والصوتية والصورية ، كذلك الله يفعل ما يشاء ، حجة عينية حاضرة ، وصورة حاذرة ، وحصبا في سيرته ، ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مثلث من الأهداف العادلة الكافلة لما يرام من العمل يوم القيامة! (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)!

في ذلك الكتاب مربع من الشهادات ، عينية سجلتها الأرض ـ ١ ـ والأعضاء ـ ٢ ـ ، وقوليه ـ ٣ ـ يشهد بها الشهداء من الأنبياء ، إمّا ذا ـ ٤ ـ كتبها الكرام الكاتبون ، يعلمون ما تفعلون ، علّه قولة ام كتابة التعبير ، ام تسجيلة لصور الأعمال وأصوات الأقوال في سجلات الأرض والأعضاء إمّا ذا؟

وعلّ هنالك كتبا ودواوين منها ديوان السيآت كما الحسنات والنعمات على حدّ المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) (١) فالكتاب الموضوع جنسه الشامل لها ، يشمل كل كتاب يحصي الأعمال كما يشمل كتاب كلّ من العمّال!

وترى هذه الكبيرة تحصى في كتاب الأعمال فما بال الصغيرة تحصى وهي مكفّرة؟

ان الصغيرة مكفرة إذا تركت للذين آمنوا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) ولكنما الصغيرة التي تعمل

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٢٩ ـ اخرج البزاز عن انس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ، ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله عليه.

١١٤

مع الكبيرة ، او لغير المؤمنين لا تكفر! ويكفي الكفر كبيرة تحصى معه كل صغيرة وان لم يأت بكبيرة اخرى!

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(٥٠)

لقد كرمكم ربكم إذا امر الملائكة بالسجود لآدم ، وأهانكم إبليس إذ فسق عن أمر ربه ، ثم أنتم هؤلاء تتخذونه وذريته أولياء وهم لكم عدو ، وترفضون ولاية ربكم ، فاذكروا فيما تذكرون ...» وإذ قلنا ...».

وترى أن إبليس (كانَ مِنَ الْجِنِّ) فلم يكن من الملائكة ، كيف ـ إذا ـ يشمله ضمن الملائكة الأمر بالسجود لآدم؟

اجل انه لم يكن من الملائكة ـ قطعا ـ فإنهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(٢١ ـ ٢٧ ـ «ان الملائكة معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بالطاف الله تعالى» (١).

انه (كانَ مِنَ الْجِنِّ) وكان مع الملائكة وكانت الملائكة تراه أنه منها ، وكان الله يعلم أنه ليس منها فلما امر بالسجود كان منه ما كان» (٢) «فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٧ ج ١١٧ في عيون الاخبار في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت وماروت وفيه بعدان مدح (عليه السلام) الملائكة وقال : معاذ الله من ذلك ان الملائكة .. بالطاف الله تعالى ـ قالا قلنا له (عليه السلام) : فعلى هذا لم يكن إبليس ايضا ملكا : فقال : لا ـ كان من الجن اما تسمعان الله تعالى يقول : «... كانَ مِنَ الْجِنِّ» فأخبر عز وجل انه كان من الجن وهو الذي قال الله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

(٢) نور الثقلين ٣ : ٢٦٧ ج ١١٩ في تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن أبي عبد ـ

١١٥

نتلمح كتصريحه من عدم اعتراضه على الله : «لم يشملني الأمر إذ لم أكن من الملائكة» وان الله امره بخصوصه ام في الملائكة (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٧ : ١٢) انه شمله الأمر (كانَ مِنَ الْجِنِّ) فهو أعقل من ان يتحول الى قياس باطل بدل البرهان! فقد (كانَ مِنَ الْجِنِّ) كونا ، ومن الملائكة كيانا ومحتدا في ظاهره حتى تبين أمره حين تخلّف عن أمر ربه!

وقد فرع فسوقه عن أمر ربه بكونه من الجن ، ولو كان من الملائكة لم يفسق.

ام ويعني معنى ثانيا : كان ممن يجن ويستر عن الملائكة كونه من الجن وكونه كافرا (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فتبين لهم أنه كان من الجن وانه كافر ، وعلى المعنيين معنيّان وما أجملهما جمعا ومما يلمح لثانيهما «كان» حيث الاوّل كائن ما كان دون حاجة الى صيغة المضي ، ولكن إخفاؤه عنهم كونا او كينونة هو الذي «كان» ثم «ففسق» تفريع للأول ، وعطف ترتيب للثاني! فسق عن أمر ربه لأنه لم يكن من الملائكة وهم معصومون بل كان من الجن الوارد منهم الفسق ، وكان ممن يجن حالته الكافرة ، (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ففسق عن امر ربه بالسجود إذ لم يتمالك نفسه العاتية المستكبرة امام آدم! ثم و (إِلَّا إِبْلِيسَ) علّه استثناء منقطع إذ كان من الجن ، وأمره بالسجود يخصه كما أمرهم يخصهم ، أم متصل عني من الملائكة الكيان الملائكي في واجهة الأعمال الايمانية الملائكية ، إذ كان معهم يعبد الله

__________________

ـ الله (عليه السلام) : قال : سألته عن إبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من امر السماء شيئا؟ قال : لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من امر السماء شيئا كان من الجن ...

(١) المصدر ج ١١٨ في اصول الكافي عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الملائكة كانوا يتحسبون ان إبليس منهم وكان في علم الله انه ليس منهم فاستخرج :

١١٦

بضعة آلاف من السنين لحد اعتبروه منهم ولأقل تقدير كيانا ، ام أمر بأمرين يخصه (إِذْ أَمَرْتُكَ) ويعمه مع الملائكة (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) وعله أجمل حيث التمرد بحاجة الى تأكد من الأمر ، فليؤمر بأمرين!

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) حيث لم يسجد لآدم ، وعدو لله حيث عصاه ـ تتركوني وأنا ربكم وتتولونه وهو عدو لكم ولربكم (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير!

وماذا تعني ولاية الشيطان وذريته؟ قد تعني الولايات الإلهية كلها حسب مختلف دركات العقائد في اتخاذ الشيطان وذريته اولياء.

من ولاية العبادة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣٩ : ٣) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) (٦ : ١٠٠) (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) (٣٤ : ٤١) فمن الناس من يعبد الشيطان خوفا منه وتقية لكيلا يضره ، وعبادته أضر الأضرار ، فرارا أخبث من الحفرة بدخول البئرة.

ومن ولاية الطاعة (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ).

ومن ولاية التكوين والتدبير والتشريع والتقدير ، بمختلف العقائد الشاردة الماردة عن صراط الحق في ذلك البدل البعيد السحيق و (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)! (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (٤ : ١١٩) :

وترى كيف انتشاء الذرية وانتسال الانسال من إبليس؟ أمن زواج الزوجين؟ ولم يأت ذكر ولا إشارة في الذكر الحكيم عن شيطانة ، وقد ذكرت إنسانة : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)!

١١٧

ولكن التعبير ب (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) يلمح أن فيهم ايضا نساء حيث الرجولة والأنوثة من المضايفات ، كل تطلب الأخرى ، فلتكن الذرية منهم بين رجال ونساء ، دون أن تباض بيضات كما في بعض الروايات!

و (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) هنا هم من القدة غير الصالحة (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧٢ : ٧) فلا موقع للقول : لعل التناسل هو بين صالحي الجن دون من دون ذلك! مع أن الصلاحية هنا لا تعني صلوح التناسل ، وانما العقيدة والعمل ، ووحدة الجنس بين الصالحين ودون ذلك الشامل للشياطين ، إنها تحكم بوحدة الكيفية في انتسال الأنسال!

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(٥١) :

أترى من «هم» في (ما أَشْهَدْتُهُمْ) و «أنفسهم»؟ أهم فيهما إبليس وذريته كما هما محور البحث في آية السجود من عصيانه النكير وولايته بذريته! فسلب الاشهاد في الخلقين لزامه سلب ولايتهم الإلهية كيفما كانت؟ حيث الولاية التامة لزامها الإحاطة العلمية وفي القدرة ، أن يحيط فيهما بخلق السماوات والأرض ، أم ـ وعلى اقل تقدير ـ بخلق أنفسهم ، فيصبحوا إذا من أعضاد الربوبية ، بعدان بعيدان عمن سوى الله أيا كان!

فلو كان الإشهاد بإحضارهم على علم ، فليكونوا كائنين قبل كونهم ، وقد خلقوا بعد خلق السماوات والأرض فكيف يشهدون خلقهما ، وقد خلقوا ولم يكونوا شيئا مذكورا فكيف يشهدون خلق أنفسهم؟

وإن كان إشهادا دون إحضارهم ، بان عرّفهم حقيقة خلقهما وخلقهم أنفسهم بعد خلقهما وخلقهم ، كأنهم كانوا حضورا حين الخلقين ،

١١٨

فأحاطوا بهما علما وقدرة ، فلهم الولاية إذا بما اشهدوا؟ ولكن الله ما أشهدهم! ولو أشهدهم لكانوا يعلمون غيب السماوات والأرض كما الله ، ام وغيب أنفسهم كما الله ، فكانوا قادرين عليهما وعلى أنفسهم كما الله ، حيث العلم التام هو القدرة التامة! وهي الولاية الإلهية على سواء.

ثم لو أمكن اعتضاده تعالى بعضد مستحيل في بعدين كالأول ، ام في بعد واحد كالثاني ، لكان يعتضد بعدول هادين دون المضلين (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)!

ان الله تعالى يحيط بعض الشيء كإشهاد ثان بعض عباده شيئا من كونه او كله ، اراءة للملكوت ، وولاية جزئية دونما اعتضاد لنفسه ولا تخويل لهم ، ولكنهم هداة وفي قمة العبودية والعدالة ، وأما أن يتخذ المضلين عضدا (وَما كُنْتُ) منذ بدء التكوين (مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) ولماذا عضد لمن هو على كل شيء قدير (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)؟ ولماذا المضلين وشأنه الرحمة والهداية؟!

إذا فأيّة ولاية إلهية بعيدة عن الشيطان وذريته في أبعاد عدة ، بعد الاستحالة في نفسه كما الإشهاد الاوّل ام في ساحة الربوبية كما الثاني!.

ثم (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) كما هم أعداء الله ، فكيف يتخذهم عضدا ، اللهم إلّا لمزيد إضلال فيما الله يعجز عنه فيعتضد بالشيطان وذريته! فسبحانه سبحانه وتعالى عما يشركون!

فهل يتخذ الله من غير المضلين عضدا حتى يتخذهم وهم مضلون عضدا صيغة صائغة مجاراتا لأوهام المشركين لاستئصالها ببرهان مكين متين!

انه لا عضد لله يعتضد به ، وإنما له أولياء في شرعته بما أشهدهم إياها : ولاية شرعية ، دون ولاية تشريعية ، أن لم يشهدهم جذور مصالح

١١٩

التشريع حتى يشرعوا بل هو الذي (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) دون ان يخوّلهم تشريعا اللهم إلّا حكما بشرعته جماعيا وفرديا وفي كافة الحاجيات المختلف فيها بين الأهواء والعقول وفي مختلف الحقول!

واما ولاية التكوين ، فهي منحصرة في الله في أصلها : التكوين لا من شيء ، وقد يمنحها الله في فرعها : التكوين من شيء كآيات النبوات بقلة في إراءة الملكوت كإحياء الموتى فيما تطلّبه ابراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٣ : ٣٦٠) وبكثرة فيما هم فيها مظاهر لفعله كخلق الطير للمسيح فانه في جسمه باذنه ، وفي روحه باذنه ، دون تكوين للمسيح إلّا خلق الطين كهيئة الطير في صورة ، واما هيئته في حقيقته (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) فضلا عن روحه (فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) (٥ :) ١١٠) فانما هما من تكوينه تعالى لا تكوينه!

فلا ولاية إلهية هي من خلفيات العلم المحيط بالكون ، لأحد من خلقه ، اللهم إلا شرعية بما أوحى ، او تكوينية كاداة صورية لا حقيقية!

ثم ل «هم» في «أشهدتهم» و «أنفسهم» وجوه ثلاثة أخرى وما قدمناه أصح وأحرى.

١ ـ انهما راجعان الى من يتولون الشيطان وذريته في كل ما مضى من إشهاد وهو في نفسه صحيح ، لا لهم فحسب ، بل ولمن سوى الله ككل ، حيث ما أشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ـ ولكنه لا يناسب (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) حيث المتولون هؤلاء لم يدّعوا كونهم أنفسهم أعضاد الله ، وانما الشيطان وذريته حيث يتولونهم كأنهم أعضاد لله!

١٢٠