الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

تأكيد ولم يتركها إلا هذه المرة طول حياته المنيرة ، فليحتبس عنه الوحي أربعين يوما لماذا ترك (إِنْ شاءَ اللهُ) ولكي يعرف السائلون من خلال ذلك الاحتباس انه حتما رسول الله (١).

انه لم يكن تاركا لواجب رسالي يستوجب باحتباس وحيه ودعا او قلى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ..) بل هو من الطاف ربه الخفية مهما كان في ظاهرة ودع او قلى ، اللهم إلّا ان يتركه متناسيا ومؤكدا في وعده ولم يؤكد ولن!

إذا فاحتباس وحيه كان رمية ربانية الى هدفين ، اهمهما تثبيت وحيه ورسالته ، أن لو كان من عنده لما احتبس عن الجواب ، ثم وعلى هامشه (وَلا تَقُولَنَّ ..) فقط للقولة المتروكة لا سواها من حول وقوة وايمان وعقيدة فانه (صلّى الله عليه وآله وسلم) كله (إِنْ شاءَ اللهُ) مهما يترك لمرة واحدة قولها الذي يخلف تثبيتا. لوحيه باحتباسه ردحا من الزمن!.

ذلك الاحتباس في ظاهره ليل إذا سجى وفي باطنه ضحى ، فكما الضحى رحمة كذلك الليل إذا سجى ، فليل احتباس الوحي كضحى الوحي فرقد ان متتابعان يتناصران في هامة الرسالة المحمدية السامية.

ثم (وَلا تَقُولَنَّ) تشمل ما مضى من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وما يقبل ، كما ويشمل غير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين سألوه عن أمر اصحاب الكهف

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٥٤ ح ٥٣ في من لا يحضره الفقيه روى حماد بن عيسى عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) .. ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أتاه أناس من اليهود فسألوه عن أشياء فقال لهم : تعالوا غدا أحدثكم ولم يستثن فاحتبس جبرئيل (عليه السلام) عنه أربعين يوما ثم أتاه فقال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ).

٦١

وذي القرنين والروح : تعالوا غدا أحدثكم ولم يستثن ، فنص النهي في الآية في مثلث التأكيد لا يشمله إذ لم يقل اني فاعل ، وانما «تعالوا غدا» تلميحا كأنه يجيبهم غدا دونما تصريح ولا تأكيد الا زمنا : «غدا» :

ثم قول إن شاء الله لا يردد القائل فيما يشاء ولا يفصم ارادته وانما تردد في مشيئة الله على حتمه في مشيئته.

فمن حلف وقال ان شاء الله ليس له الرجوع (١) إلّا ان يقول إن

__________________

(١) خلاف ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): من حلف فقال ان شاء الله فان شاء مضى وان شاء رجع غير حانث (الدر المنثور ٤ : ٢١٨) أقول : ليس غير حانث الا إذا تردد في مشيئة نفسه كان يقول : ان شئت ، فللمحلوف عليه حتمية نسبية له ولا يفصمه الا ارادة الله ان أراد خلافه! فالرواية مختلقة عليه (صلّى الله عليه وآله وسلم) والصحيح ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): قال سليمان بن داود (عليهما السلام) لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقال له الملك قل ان شاء الله فلم يقل فطاف فلم تلد منهن الا امرأة واحدة نصف انسان قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم) والذي نفسي بيده لو قال ان شاء الله لم يحنث وكان درج / لحاجته.

أقول وهو صحيح الا «فقال له الملك .. فل يقل» حيث ينافي الايمان فضلا عن العصمة ، ثم لم يحنث لأنه حلف على فعله وهو الطواف على تسعين امرأة لا على فعل الله «تلد كل امرأة» فلا حنث فيما ليس من فعله ولا حلف عليه!

ومثله ما في نور الثقلين ٣ : ٢٥٤ ح ٥٢ عن اصول الكافي احمد بن محمد عن علي بن الحسين عن علي بن أسباط عن الحسن بن زرارة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) فقال : إذا حلفت على يمين ونسيت ان تستثني فاستثن إذا ذكرت.

٦٢

شئت ، ولا فرق بين موصوله ومفصوله (١).

و (إِنْ شاءَ اللهُ) يعم باطن العقيدة والايمان والنية وظاهر القول والكتابة أماذا ، فالكتابة قول كتبي يكتب فيها ان شاء الله (٢) كما النية قول منوي ينوى معها (إِنْ شاءَ اللهُ)!

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء عن نفي القول لشيء (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) فتقول لشيء إني فاعل ذلك غدا أم اي وقت كان إن شاء الله والشيء المفعول يعم المقال والفعال وتبديل الحال ، ولتكن لائقا لمشيئة الله تشريعا حتى يربط بمشيئته تكوينا ، و (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يخص التكوين ، حيث المشيئة التشريعية واجبة الإحراز قبل الإرادة والفعل ، فلا تقبل اي تردد ، وإنما التردد في التكوينية.

فالقول لمحرم ام ومشتبه إني فاعل ذلك إن شاء الله مس من كرامة الله ، وان كانت المحرمات غير خارجة عن مشيئة الله كما تناسب ساحته دونما إجبار ، وانما تلحق مشيئته تعالى مشيئته المختار! فان (إِنْ شاءَ اللهُ)

__________________

(١) خلاف ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عمر قال : كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه وإذا كان غير موصول فهو حانث (الدر المنثور ٤ : ٢١٨).

(٢) نور الثقلين ٣ : ٢٥٣ ح ٤٧ في اصول الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن مرازم بن حكيم قال : أمره ابو عبد الله (عليه السلام) بكتاب في حاجة فكتب ثم عرض عليه ولم يكن فيه استثناء فقال (عليه السلام) : كيف رجوتم ان يتم هذا وليس فيه استثناء انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه.

وفي تهذيب الأحكام باسناده الى علي بن حديد عن مرازم قال دخل ابو عبد الله (عليه السلام) يوما الى منزل معتب وهو يريد العمرة فتناول لوحا فيه تسمية أرزاق العيال وما يخرج لهم فإذا فيه لفلان وفلان وفلان وليس فيه استثناء فقال : من كتب هذا الكتاب ولم يستثن فيه كيف ظن انه يتم؟ ثم دعى بالدواة فقال : الحق فيه إنشاء الله فالحق في كل اسم إنشاء الله.

٦٣

ترج لمشيئة التأييد من الله وليس إلا فيما يرضاه الله.

وإذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله فاذكره إذا ذكرت مهما طال الزمن ولما تفعل : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) وان كان بينك وبينه ايام او أشهر او سنون (١)!

وهل القول (إِنْ شاءَ اللهُ) يطم عامة الأقوال لاي فعل يعزمه فيتم فيها أيا كان؟ فان قيل لك أتأكل وأنت جوعان وعلى خوان الطعام : تقول إنشاء الله؟ ولا شيء غائبا عنك خارجا عن حولك وقوتك هنا تحوله الى حول الله وقوته؟ .. اجل فانك لا تضمن حياتك حتى الأكل ، ولا صحتك وفقدان اي رادع يردعك! ف (إِنْ شاءَ اللهُ) آت في كل ما لم يحصل بعد او لم يتم وأنت فاعله ، إن قولا فقولا وان فعلا فعقدا في الضمير (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ)!

ليس هنا حذف كما أطالوا طائلات ، وانما باء الملابسة على «إن ..» فتأويلا للمصدر : «إلا بمشيئة الله ، ف «لا تقولن لشيء أيا كان وأيان اني فاعل ذلك غدا الا مصاحبا بمشيئة الله ان افعله او لا افعله فالفعل والترك لمن يعزم على فعل او ترك بحاجة الى إذن تكويني وتوفيق من الله» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٥٥ ح ٥٥ في تفسير العياشي عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) ذكر ان آدم لما اسكنه الله الجنة فقال له يا آدم لا تقرب هذه الشجرة فقال : نعم ولم يستثن فامر الله بنبيه فقال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ولو بعد سنة.

(٢) المصدر ٢٥٤ ح ٤٩ عن الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قال : فقال : ان الله عز وجل لما قال لآدم : ادخل الجنة قال له : يا آدم لا تقرب هذه الشجرة. قال : واراه إياها فقال آدم لربه : كيف أقربها وقد نهيتني عنها انا وزوجتي؟ قال : فقال لهما : لا تقرباها يعني لا تأكلا ـ

٦٤

ثم وملابسة القول هذا ليست بواقع المشيئة فانها مجهولة للفاعل وإنما بقول «إن شاء الله» ف «لا تقولن .. إلا بقول مشيئة الله ترجيا : «إن شاء الله»!

وقد يعني (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) منقطع الاستثناء : أن القول (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) ممنوع على أية حال فإن فيه تأكيد الاستقلال ، ولا يجبره الاستثناء ، أترجيا وترددا بعد تحتم! إذا فقل ما شئت غير متحتم ، واقرنه ب (إِنْ شاءَ اللهُ) تأييدا انه غير محتوم وترجيا لمشيئة الله.

وقد يحتمل اتصال الاستثناء بوجه آخر أن القول (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) ممنوع كمنع الدخول في ملة الشرك إلا ان يشاء الله (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٧ : ٨٩) حيث العودة هذه ولا سيما لنبي مستحيلة الإذن من الله!.

وقد يعني الاستثناء كل ذلك حيث يلائمها اللفظ والمعنى وهو أجمل وأكمل!

وترى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) يخص فقط تركه نسيانا ، فان كان ذاكرا ربه وترك الاستثناء فلا جيران بعدئذ؟ بلى حيث الأمر السماح كتوبة خاص ف (إِذا نَسِيتَ)! وكلا حيث النسيان يعم النسيان المعمّد وسواه ، تناسيا ونسيان ، بل ولا عصيان إلا تعمّد (عن) نسيان وإذ لا عمد فلا عصيان : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢٠ : ١١٥) (وَعَصى آدَمُ

__________________

ـ منها فقال آدم وزوجته : نعم يا ربنا لم نقربها ولم نأكل منها ولم يستثنيا في قولهما نعم فوكلهما الله في ذلك الى أنفسهما والى ذكرهما ، قال وقد قال الله عز وجل لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الكتاب (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ان لا افعله فتسبق مشيئة الله في ان لا افعله ، فلا اقدر على ان افعله ، فلذلك قال الله عز وجل (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) اي استثنى مشيئة الله في فعلك.

٦٥

رَبَّهُ فَغَوى) (١٢٠ : ١٢١)! ثم وباب التوبة مفتوحة بمصراعيها في كل عصيان فضلا عن ترك الاستثناء فانه أيا كان ليس محرما فيه عصيان!

(وَاذْكُرْ .. وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

وكما أن (إِنْ شاءَ اللهُ) ترج للرحمة من الله ، ف (عَسى .. لِأَقْرَبَ) ترج ثان التماسا للارتفاع على هذا المرتقى ، وضرورة المحاولة للاستواء عليه في كافة الأحوال.

انه ليس يهمني ـ فقط ـ رجاء الاجابة عن اسئلتكم هذه وان كان فيها رشد ، بل و (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) اجل (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢٠ : ١١٤) فليس حاضر علم الوحي واقفا على حده ليوقفني على حدّه ، فانني التماسا من ربي وترجيا لزائد رحمته غائص في خضم عنايته ، رحمات بعضها فوق بعض!.

ومها لمحت (لا تَقُولَنَ .. وَاذْكُرْ .. وَقُلْ عَسى) ان المخاطب فيها هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولكن (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) لم يكن من قوله بل هو «آتوني غدا» فان تشمله «لا تقولن» فهو على البدل ، وبالنسبة للمستقبل.

ثم و (إِذا نَسِيتَ) نسيان لذكر الرب وليس إلا بسلطان الشيطان و (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢) وهو اوّل العابدين والمخلصين (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ : ٨٣) اللهم إلّا ان يكون نسيانا لاستثناء غير لازم كما في قوله «آتوني غدا» فراجح هنا قول (إِنْ شاءَ اللهُ) والله يعلمه لكي يتأدب به فإنه ربه ومؤدبه ، فلم يك ناسيا لربه إن تركه ، ام إن نسيه فنسيانه من الله لكي يعرّفه موقفه أنه في معرض النسيان لو لا تثبيت من الله.

٦٦

ثم ترى انها نص على عدد لبثهم هو ثلاثمائة وتسع سنين؟ وصيغته الصحيحة هي هذه دون المذكورة في الآية!

او تعني لهم مجموعا من اللثين فالأصل ثلاثمائة والتسع الزائد عليها يلحقها حيث ازدادوها تطلبا من الله بعد بعثهم عن نومتهم الأولى؟ ولا طائل تحت هذه الزيادة المزعومة حيث القصد من بعثهم الأولى عن نومتهم الأول حاصل (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ .. وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا ..) وقد حصلت هذه الثلاث فما ذا بعد! ولماذا بعد «تسعا»؟!.

أو أن التسع المزداد انما تعني توفيق حساب الاعداد ، أن الثلاثمائة هي الشمسية فتتحول إلى اضافة التسع حسب القمرية (١)؟ وهذا لا يصح في اي حساب! فان كانت الثلاثمائة شمسية فاضافة التسع القمرية لا تحولها الى (٣٠٩) قمرية ، وان كانت قمرية فاضافة التسع قمرية وشمسية لا تحولها الى (٣٠٩) شمسية ولا قمرية (٢) وان كانت مجملة فاضافة أحدهما لا تزيدها إلا اجماعا! ثم من ذا الذي ازداد الثلاثمائة تسعا إلا الله في هذا الحساب

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٥٦ ح ٦٢ عن مجمع البيان وروي ان يهوديا سئل علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن مدة لبثهم فأخبر بما في القرآن فقال : انا نجد في كتابنا ثلاثمائة فقال (عليه السلام) ذاك بسني الشمس وهذا بسني القمر.

أقول وهذا حديث مختلق كما بيناه في المتن وفي احتجاج الطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقد رجع الى الدنيا ممن مات خلق كثير منهم اصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة وبعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليقطع حجتهم ويريه قدرته وليعلموا ان البعث حق أقول : بين الروايتين تناقض في تسعا ثم هنا الموت وفي القرآن النوم فهما مختلقان مطروحان!.

(٢) وهي حسب الشمسية ٢٩١ سنة إلا (١٥) يوما وبزيادة التسع (٣٠٠) سنة إلّا (٩٥) يوما!.

٦٧

التحويل ، ومن ثم فليس القرآن كتاب حساب يحول عددا الى آخر ، ولو كان لكان التعبير هنا ، «ثلاثمائة سنين هي بالقمرية (٣٠٩) دون (ازْدَادُوا تِسْعاً) ثم القرآن لا يذكر السنين إلا قمرية كما هي الأصل في احكامه الشرعية ، فأيا كانت تلك السنين تتحول في مستعمل القرآن الى القمرية! ثم هذه الثلاث قد تنافي (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ...) أفبعد التصريح هكذا بعددهم تجهّل غير الله وتخص علمه بالله؟!.

او ان الثلاثمائة وتسعا هما من مقالات المتنازعين أمرهم بينهم؟! ولا شيء منهما مما يقوله الله (١)؟ وذلك عطف بعيد أن تعطف (وَلَبِثُوا ..) ب (سَيَقُولُونَ ...) وبينهما الفصل بجملات في الآية وآيتين بعدها وهو خلاف الفصيح! ولكنه ليس فصلا بينهما بأجنبي حتى يخالف الفصيح ، و (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ ..) تكفي قرينة على ذلك العطف مهما كان بعيدا بفصله عن أصله!

أو أن الثلاثمائة هي قول الله (وَازْدَادُوا تِسْعاً) نقل الزيادة عليه تأنيبا يؤيده (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ..) فكما أن عدتهم ذكرت في تلميحة ،

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢١٨ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : ان الرجل ليفسر الآية يرى انها كذلك فيهوى ابعد ما بين السماء والأرض ثم تلا (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) الآية ثم قال : كم لبث لقوم؟ قالوا : ثلاثمائة وتسع سنين ، قال : لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله : قال الله اعلم بما لبثوا ولكنه حكى مقالة القوم فقال سيقولون ثلاثة الى قوله رجما بالغيب واخبر انهم لا يعلمون قال سيقولون ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا.

واخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود : (وقالوا لبثوا في كهفهم) الآية يعني انما قاله الناس ألا ترى انه قال : قل الله اعلم بما لبثوا ـ أقول «وقالوا» تفسير بيان العطف وليست من الآية واخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هذا قول اهل الكتاب فرد الله عليهم : قل ار اعلم بما لبثوا.

٦٨

كذلك سنيّهم العدة؟ وهذا أوفق أدبيا ومعنويا! ثم إنهما من أقوال المتنازعين بلمحة أن الأول مصدّق دون الثاني ، ولو لا صدقه دونه لكان التعبير «ويقولون ثلاثمائة ويقولون بزيادة تسع ..»!

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ممن ازدادوا تسعا ، ام وقالوا ثلاثمائة فان (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعدة لبثهم من الغيب لا يعلمها إلا هو ، «أبصر به» في عجاب «وأسمع» فلا يبصر أحد ما يبصره ولا يسمع ما يسمعه (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ) يلي أمرهم تعليما لغيب ، تكوينا او تشريعا فله الولاية المطلقة لا سواه ، وله الحكم مطلقا لا سواه (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) اللهم إلا حكما شرعيا وليس باشراك وإنما برسالة وسواها من تبليغ رسالة اماهية.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها

٦٩

وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١)

صرف للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن القيل والقال والإصغاء الى أصحاب المقال في آرائهم واقتراحاتهم الناكبة عن الصراط ، والالتحاد إلى الرب وكلماته ، وأن يصبر نفسه مع الذين يدعونه ، ماشيا على صراط الحق ، متمسكا بصراح الحق فتعم الثواب ونعم المرتفق!

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(٢٧).

اصل التلاوة هي المتابعة (وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) فلا شأن لك ولا واجب عليك إلا متابعة كتاب ربك قراءة وتفهما وتفهيما

٧٠

وإبلاغا وتطبيقا ، (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ..) لا ما أوحاه عقلك امّن سواك ، وانما (مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) القرآن العظيم ، دون ان تبخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، أو أن تستعجل وحي ربك فتعدهم الجواب ناسيا (إِنْ شاءَ اللهُ) ودون الالتحاد الى اي وحي او استفتاء او استيحاء ، وإنما (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) فحسبك ربك وكتاب ربك إذ (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : ربك ولا كتابه (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ) : ربك ولا كتابة «ملتحدا»

فهما وصفان متلاحمان «لربك» و (كِتابِ رَبِّكَ) : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) والقرآن أفضل كلماته ، (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) وملتحده الموحى إليك هو قرآنه كما هو تعالى ملتحدك في كلما تحتاجه ، ملتحد تكوينا وملتحد تشريعا لا مبدل لهما!

فكلماته التشريعية التدوينية ككل لا مبدل لها من غيره تعالى نسخا إلا تحريفا في غير القرآن : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وكلماته الأخيرة القرآن ، لا مبدل لها إطلاقا إذ تمت (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦ : ١١٥) لا مبدلا من غير الله تحريفا وتجديفا ، مهما كان لغير القرآن تحريف وتجديف ، ولا مبدلا إلهيا نسخا وتبديلا كشرعة تنسخ وتتبدل ، فالقرآن كما كان وكما هو الآن قائم مر الدهور والأعوام الى يوم القيام لا نسخ فيه ولا تحريف يعتريه دون سواه من كلمات الله وكتاباته.

و «ملتحدا» : متمايلا يجير إليه ، أولا هو الله لاي ملتحد وعلى أية حال إجارة وجوارا : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ ..) (٧٢ : ٢٢) ومن ثم لن أجد ملتحدا

٧١

من وحيه إلا كلماته الأخيرة القرآن المبين ، فهنالك الله وهنا كتاب الله ثم لا سواه ولا سواه.

هنا (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) في استغراق نفي التبديل يجعل من القرآن كتابا لا نسخ له ولا تحريف ، إذا فهو كتاب الزمن وخاتمة الوحي لا كتاب بعده ما طلعت شمس وغربت!

ومن ثم (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تحيل ملتحدا من دون القرآن كما تحيله من دون الله ، ضربا الى أعماق الزمن ما بقي الدهر ، فمهما غاب شخص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا تغب رسالته القرآنية وإذا الرسول وهو اوّل العابدين «لن تجد ..» فغيره أحرى ان «لن يجد» ف «لن تجد» وإن كان خطابا لشخص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولكنه بإحالة «لن» واوّل العابدين في «تجد» يطوي كل زمان ومكان وكل إنس وجان حتى القيامة الكبرى. فتحيل أي ملتحد طول الزمان وعرض المكان سوى القرآن كما آله القرآن!.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(٣٥).

ولماذا «ثلاثمائة» دون اضافة وبتمييز جمع «سنين» خلاف القاعدة المطردة من اضافتهما الى مفرد؟

الآن «سنين» نزلت بعد «ثلاثمائة» حين سئل الرسول : أياما او شهورا او سنين؟ (١) ونزولها دون سنين إهمالها في إجمال تبعد عنه ساحة القرآن البيان!

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢١٨ اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : نزلت هذه الآية (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ ..) قيل يا رسول الله (صلّى ـ

٧٢

ام إنها بدل عنها فلا إضافة الى مفرد خلاف التميز ، فثلاثمائة هي سنين مضمّنة معنى التمييز؟ وهذا خلاف المألوف مما يلحق العدد فانه ـ دوما ـ التمييز!

أم إنها قاعدة راجحة او مخيرة فيما إذا كان مضاف العدد المركب جمعا ، فالتمييز أيضا لجمعه ، أو مفرد للمضاف اليه «مائة» والقرآن أفضل أصل لاقتباس القواعد فلا يقاس بسائر القياس المستفاد من سائر الأدب العربي شعرا او نثرا؟ فليؤخذ أدب القرآن لفظيا كما هو معنويا نبراسا لكل قاعدة وفائدة.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٣٨).

نفس مطمئنة يروضها ربها بالتقوى إيناسا بربها ووحيه ، وصبرا مع الذين يدعونه يريدون وجهه ، ويرفضها عن الطغوى بطاعة من أغفل قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا.

هنا أمر بصبر نفسه المقدسة معهم ونهي ان يعدو عيناه عنهم ونهي ثان ان يطيع غفلان القلوب ، يتبنى صرح هذه الرسالة السامية على بساط الفقراء الى الله ، دون الاثرياء الأغبياء الأغنياء في حسبانهم عن الله ، مهما طالت وعودهم وأبرق وقودهم : «لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم حادثناك وأخذنا عنك» (١) وكما كان يقول اضرابهم للأنبياء قبله من نوح مفتتح الرسالات : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قالَ وَما

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم) أياما أم شهورا ام سنين؟ فانزل الله : سنين وازدادوا تسعا.

(١) الدر المنثور ٤ : ٢١٩ ـ اخرج ابن مردويه وابو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب

٧٣

عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١١٤) وإلى غيره من رسل الله!

يطلب من الرسول هكذا فيرفض كما أمر الله قائلا : «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم المحيا والممات» (١) ولقد كان يجامل فقراء المؤمنين ويكرمهم طول حياته المنيرة على ميزانية تقواهم.

وهل ان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) حدثته نفسه فيما طلبوا إليه رغبة في ايمانهم كما يدعون؟ هذا بعيد عن ساحته وغريب عن أخلاقه

__________________

ـ الايمان عن سلمان الفارسي قال : جاءت المؤلفة قلوبهم الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، وعنده عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وجلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم ـ يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف ـ جالسناك او حادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله : ورتل ما اوحي .. الى قوله : اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها.

(١) المصدر اخرج ابو الشيخ عن سلمان قال قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله فقال : .. واخرج عبد بن حميد عن سلمان قال : نزلت هذه الآية في رجل دخل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومعي شن خوص فوضع مرفقه في صدري فقال : تنح حتى القاني على البساط ثم قال : يا محمد! انّا ليمنعنا كثير من أمرك هذا واضرباءه ان ترى لي قدما وسوادا فلو نحيتهم إذا دخلنا عليك فإذا خرجنا أذنت لهم إذا شئت ، فلما خرج أنزل الله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الى ـ (فُرُطاً) واخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عمر بن ذر عن أبيه ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) انتهى الى نفر من أصحابه منهم عبد الله بن رواحة يذكرهم بالله فلما رآه عبد الله سكت فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ذكر أصحابك ، فقال : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! أنت أحق! فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : اما انكم الملأ الذين امرني الله ان اصبر نفسي معهم ثم تلا (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ..).

٧٤

وسماحته (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٦٨ : ٤) وكيف يطرد المؤمنين رغبة في ايمان المستكبرين ، ثم وأين ايمان من ايمان لو صدقوا وآمنوا! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم!.

إنما يأمره ربه بما يأمر وينهاه عما ينهى تثبيتا للمؤمنين وتنديدا بالمستكبرين ، وتبعيدا لهم عن اقتراحهم عليه من طرد المؤمنين ، لا أنه طرد ثم نهي! ف (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٨ : ٦٤) (.. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٥ : ٨٨) .. (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١٥) وهو (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ..) (٩ : ٦١)! (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٢٨)!.

فانه لا تقوم الدعوات الرسالية إلا على من يعتنقونها إيقانا وايمانا مهما كانوا فقراء دون من يعتورونها متاجرين بها يمشون معها ما تمشيهم في شهواتهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون!.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) وكيف «نفسك» مفعولا والصبر لازم حيث يتعدي بواسطة؟ ان الصبر وهو الحبس متعد الى مفعول محبوس به ، مهما يتعود تعديته بمحبوس فيه او عليه او معه أم ماذا؟ فاصبر نفسك في الحياة الدنيا على مشاقها وحرماناتها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) صبرا في الله ولله والى الله!.

كل إمساك واحتباس في ضيق صبر ، منه ممدوح ومنه غير ممدوح ، والصبر مع المؤمنين احتباس للنفس عن الشهوات وتحرير لكافة الطاقات النفسية في التقدم معهم إلى قمة الايمان بمواصلة المجاهدات وتحمل الحرمانات!.

وما هي النفس المحمدية المأمورة بالصبر معهم؟ إنها كله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من روحه وجسمه ، بعقله وصدره وقلبه ، في حله

٧٥

وترحاله ، وعلى كل حاله ، فكما يصبر في الله في أوامره ونواهيه وفي قوله الثقيل كذلك مع الذين يدعونه بالغداوة والعشي يريدون وجهه ، يحملهم ويتحملهم يهديهم ويذود عنهم ، يجاريهم ويداريهم ولا يفضّل عليهم ولا يسوي بهم!

اجل (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦ : ٥٢).

ولماذا تطردهم وهم مؤمنون؟ أرغبة في ايمان من يتأنفون عنهم ، والإنذار لا يفيدهم (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦ : ٥١)!.

ترى وماذا تعني (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) حيث يدعون بهما ربهما؟ لأنهما وقت الصلاة بداية الفرض في العهد المكي طرفي النهار كما في مكيات اخرى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤٠ : ٥٥) (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ..)(٦ : ٥٢)؟ ولا بد في سمة الايمان دوامتها والفرض في المدينة خمس وعلى طول الخط ، فليقل : مع المصلين لتشمل الفرض مكيا ومدنيا! وآية العشي والإبكار لا تخص المكي ، بل والمدني أيضا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٣ : ٤١) وكما الكهف علّها مدنية او البعض من آيها وعلها منها!

ام لأن الغداة هي الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من نومه الى يقظته ، والعشي تنقلا من يقظته الى نومه ، وهما يذكّران الحياة بعد الموت ثم الموت بعد الحياة ، وهما ركنا اوقات الليل والنهار. فذكرهما أهم الذكر!

إذا فهما يعنيان أهم الأوقات من الليل والنهار ، فالغداة صباح والعشي عصر الى ليل ، وكما هما في الجنة والنار ركنان في رحمة وعذاب : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ

٧٦

فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ٦٢) (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٤٠ : ٤٦) فهما أهم اوقات الذكر وسواه وفيما مضى كما هنا : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ١١) لا فحسب الإنسان فالجبال ايضا : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (٣٨ : ١٨).

ثم وفي ردف العشي بالإشراق والغدو بالعشي ـ على كونهما ركني الأوقات ـ عطف الى ما بينهما من أوقات الليل والنهار ، إلا فيما يخصهما بقرينة كرزق البرزخ وعذابه ، فالغداة والعشي في ذكر الرب ودعوته تعني الغداة الى العشي والعشي الى الغداة كما يقال «انا دارس صباح مساء» او «ضارب اعداء الله ظهر بطن».

فدعوة الرب هي حالهم ومقالهم ، حلهم وترحالهم ، غداتهم وعشيهم بما فيها الفرائض الخمس (١) كأركان الدعوات وتلحقها سائرها ، كما الغداة والعشي من أركان الأوقات وتلحقها سائرها.

(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..) وماذا يعني «وجهه»؟ هنا وجه الرب كما في عديد سواه (٢) وهناك وجه الله كما في عديد سواه (٣) وبينهما فرق

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٢٠ ـ اخرج البيهقي في شعب الايمان عن ابراهيم ومجاهد في الآية قالا : الصلوات الخمس

وفي نور الثقلين ٣ : ٢٥٨ عن تفسير العياشي عن زرارة وحمران وعن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في قوله (وَاصْبِرْ .. بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) قال : انما عنى بها الصلاة».

(٢) كما في ١٣ : ٢٢ : والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقامهم الصلاة ـ و ٥٥ : ٢٧ : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ـ و ٩٢ : ٢٠ : الا ابتغاء وجه ربه الأعلى ـ و ٦ : ٥٢ : يريدون وجهه ـ فالمجموع خمسة موارد.

(٣) كما في ٢ : ١١٥ : فأينما تولوا فثم وجه الله ـ و ٢ : ٢٧٢ : وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله ـ و ٣٠ : ٣٨ : ذلك خير للذين يريدون وجه الله و ٢٨ : ٨٨ :) الله لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه.

٧٧

كما بين وجه الله وسواه.

والوجه من كل شيء ما يواجه شيئا او يواجه بشيء ، فيختلف حسب اختلاف الأشياء والمواجهات ، فلا يقاس وجه الرب الإله بسائر الوجه ، كما لا تقاس اقامة الوجه إليه وتسليمة لديه بسائر الوجه.

فوجه الرب هو الوجهة التربوية التي يواجه الله بها خليقته يوم الدنيا والآخرة ، ويواجهونه بها في الدنيا والآخرة ، فبوجه الله من الوجهة التشريعية يدعون ربهم بالغداة والعشي ، وبهذه الدعوة يريدون الوجهة التربوية ليوم الدنيا تقربا إليه وتكرما لديه ، وحظوة مما عنده من حياة ايمانية ، فالمؤمن دنياه آخرة! وليوم الآخرة الوجهة التربوية ثوابا عند الرب وزلفى ، واجهات خمس هي كلها وجه الرب (١) حيث يريدونه بدعوتهم ربهم بالغداة والعشي! كما (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٨٩ : ٢٢) يعني الوجهة التربوية الاخروية التي تخصها دون الدنيا ، والدنيوية تخصها دون الاخرى! فليس وجه الرب وجها عضويا لذاته المقدسة ، فلا أحد يقول به ، ولا من المشبهة المجسمة ، الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضا مؤلفة وأعضاء مصرّفة ، ومن ثم لوجه الله معنى غير ما يعنيه وجه الرب على اشتراكهما في وجه.

فلانك كأول العابين وكرسول لا تعني من الحياة جاها ولا متاعا ولا عرضا من الحياة الدنيا ، وانما وجه ربك ، فاصبر نفسك مع الذين يريدون وجهه ، تناسبا فتناسقا وتناصرا في هذه السبيل.

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا)

العينان لهما عدو ومد ، وعينا أهل الله لا تمدان الى غير الله واهله ، وما

__________________

(١) فللرب وجه يوم الدنيا : شرعته ـ التقرب اليه بها ـ الحظوة بهما يوم الدنيا ـ ووجه يوم الآخرة ـ قرباه الحظوة الثواب.

٧٨

سوى الله كله الحياة الدنيا : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٥ : ٨٨) (... مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٢٠ : ١٣١).

وانما هما ناضرتان ناظرتان الى الرب والذين يدعونه يريدون وجهه ، منحصرتان بهم منحسرتان عمن سواهم.

وهل «عيناك» هما الظاهرتان الباصرتان؟ ومدهما إليهم دون رعاية ورقابة ومرحمة ليس مد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)! ام هما عينا عقله وقلبه ، فبعقل الوحي يعقلهم عما لا يحمد ، وبعين القلب يحبهم ام ماذا؟ ولا يكفيان مدا ، والباصرتان الظاهرتان تعدوانهم الى سواهم! ام هما عينا القلب بما معه ، والقالب بما معه ، ان يكرس نفسه بطاقاتها وامكانياتها نظرة ناضرة إليهم ، مراقبة عليهم؟ وهو جمع جميل والله على ما نقول وكيل!.

(... وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٢٨).

وهل ان اغفاله سبحانه قلبا يعني وجدانه غافلا فهو في الحق غافل عاطل ، كما يقال «لله دركم يا بني سليم! والله لقد قاتلناكم فما أجبناكم وهاجيناكم فما افحمناكم وسألناكم فما ابخلناكم» اي : لم نجدكم جبانين عند النزال ولا اعياء عند المقال ولا ابخال عند السؤال(١).

وذلك احتشاما عن ان يغفل الله قلبا وهو مذكر لا مغفل؟ ولكنما الصحيح والفصيح للتدليل على هذا المعنى لفظه الخاص ك (وجدنا قلبه غافلا)

__________________

(١) مجازات القرآن وتلخيص البيان للسيد الشريف الرضي ينقله عن عمرو بن معد يكرب لبني سليم ص ٢١٢.

٧٩

ك (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٨ : ٤٨) دون أصبرناه.

ثم الإغفال لا يختص المسيّر ، ان يغفل الله قلبا دونما اختيار منه وتقصير ، بل انه غفلة معمّدة ثم إقفال ومن ثم إغفال فامتناعا للذكر بتعمد واختيار : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (... وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٦ : ١٠٨).

فالمتغافلون الغافلون الدائبون في غفلتهم وغفوتهم (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (٢١ : ١) أولئك هم الغافلون الذين غفلوا عامدين فأغفل الله قلوبهم عن ذكره طبعا عليها وختما.

ثم ترى إن اغفاله لقلوبهم هو تركه لهداها أن (يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧ : ١٨٦) وفي غيهم ووعيهم يترددون ، ف (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) : تركناه غفلا من السمات والكتابات الايمانية ، (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) وهم خلو القلوب منها ، وكما يقال : اغفل البعير : تركه بلا سمة يعرف بها على عادة العرب في إقامة السمات مقام العلامات ، اللهم إلا الطبع والختم (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ)؟ ومجرد الترك وإن كان ينتج بقاء الغفلة ولكنه ليس إغفالا ، فانه إيجاد للغفلة بعد الذكر ، ام غفلة على غفلة! ـ

ام إنه مزيد في غفلة معمدة معاندة أن تستمر فتزيد جزاء وفاقا في الدنيا وفي الآخرة عذاب اليم : ان الله اقفل قلوبهم عن الذكرى فأغفلها استمرارا فيها فمزيدا عليها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) بعد الإغفال كما قبله وأكثر دونما تفكير في هداه (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) قبل الإقفال والإغفال ، حيث الغفلة المعمّدة دركات بعضها فوق بعض ، فإغفالها على حسبها دركات بعضها فوق بعض ، آخذة من ترك التوفيق ، فختم وطبع فدفع الى مزيد من الغفلة وهو الدرك الأسفل

٨٠