الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

هارُونَ أَخِي ... قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢٠ : ٣٦)!.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(٥٤).

لم يذكر إسماعيل في (١٢) موضعا يذكر في القرآن ، بمشروح أحواله إلا هنا ، إلا شذرا أنه «من الصابرين» (٢١ : ٨٥) «الأخيار» (٣٨ : ٤٨) (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٦ : ٨٦).

فمن صبره وخيره (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٣٧ : ١٠٢) كما وهو من صدق وعده ربه ومن ثم مع الخلق (١) وحقيق له صدقه في صبره ، وصبره في صدقه (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(٢)

فإسماعيل هذا هو ابن ابراهيم (عليه السلام) جد الرسول محمد

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٤٢ ح ٩٩ ـ اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : انما سمي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره سنة فسماه الله عز وجل صادق الوعد ثم ان الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل : ما زلت منتظرا لك! ورواه مثله في العيون عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

أقول : هذا الحديث في ان إسماعيل هو ابن ابراهيم ظاهره كظاهر القرآن ، واما انتظاره سنة فبعيد عن كافة الموازين حيث الوعد لا يتجاوز ساعات او يوما بكامله ، وزائد الانتظار زائد في كل الموازين ، ولا سيما لرسول نبي يترك دعوة الرسالة فيثبت في مكان الوعد سنة دونما جدوى حتى لمن لا شغل له.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٢٧٣ ـ اخرج مسلم عن وائلة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الله اصطفى من ولد ابراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل كنانة ـ أقول : كنانة من أجداد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).

٣٤١

(صلّى الله عليه وآله وسلم) لا سواه وكما في سائر الاثني عشر موضعا ، فلو كان غيره لم يتفضل عليه بهذه الفضيلة ولقرنت به قرينة تميزه عن إسماعيل في سائر القرآن (١)! (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(٥٥).

في مواصفات إسماعيل رسالة النبوة هي في القمة ، وصدق الوعد والأمر باقام الصلاة وإيتاء الزكاة هي من أهم فروعها الرسالية ، (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) تكريس لحالاته كلها ، في نفسه وأهله ومن أرسل إليهم والناس أجمعين ، كان في هذه كلها عند ربه مرضيا ، وهي قمة المقامات عند الله مهما كانت لها درجات.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)(٥٧).

لم يذكر إدريس في سائر القرآن الا هنا وفي الأنبياء : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)(٨٥) فله مواصفات اربع : صديق نبي من الصابرين ومرفوع الى مكان علي.

تعرفنا من ذي قبل الى «صديق نبي» لإبراهيم ، وان كان بينه وبين إدريس بون حيث الصديق النبي درجات ، ولكنه قبل نوح يحتل المكانة العليا بين المرسلين (٢) فلم يذكر بالنبوة أحد بين آدم ونوح وحتى آدم نفسه ، إذا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٤٢ ح ١٠١ في كتاب علل الشرايع في باب العلة التي من أجلها سمى إسماعيل بن حزقيل صادق الوعد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان إسماعيل الذي قال الله عز وجل في كتابه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ ..) لم يكن إسماعيل بن ابراهيم بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز وجل الى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه ..» أقول وهو لا يناسب ظاهر القرآن ..

(٢) الدر المنثور ٤ : ٢٧٤ ـ اخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفع الحديث الى ـ

٣٤٢

فإدريس أفضل من آدم ومن بعده الى نوح.

ثم (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) دليل معراجه (عليه السلام) لمكان «مكانا» دون مكانة ، وقد عرفت مكانته ب (صِدِّيقاً نَبِيًّا) وقد يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه السماء الرابعة (١) رفع إليها كما رفع عيسى (عليه السلام) ويروى أنه كان خياطا (٢).

وإذ يرفع إدريس مكانا عليا فقد رفع محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) مكانا أعلى الى سدرة المنتهى ، ومكانة أغلى (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ

__________________

ـ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ان إدريس كان نبيا تقيا زكيا وكان يقسم دهره على نصفين : ثلاثة ايام يعلم الناس الخير واربعة ايام يسيح في الأرض ويعبد الله مجتهدا وكان يصعد من عمله وحده الى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع اعمال بني آدم ...» وتتمة الحديث طويلة وكما هنا أحاديث اخرى فيها ما لا يناسب ساحة النبوة الصديقة.

(١) المصدر اخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ورفعناه مكانا عليا قال : في السماء الرابعة وعن انس بن مالك عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) مثله وفي نور الثقلين ٣ : ٣٤٩ ح ١٠٨ عن علل الشرايع باسناده الى عبد الله بن يزيد بن سلام انه قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد سأله عن الأيام : فالخميس؟ قال : هو يوم خامس من الدنيا وهو يوم أنيس لعن فيه إبليس ورفع فيه إدريس ، وفيه عن تفسير القمي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في معراجه : ثم صعدنا الى السماء الرابعة وإذا فيها رجل فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فقال : إدريس رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي.

(٢) نور الثقلين ح ١١٠ عن الكافي عن عبد الله بن ابان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث طويل يذكر فيه مسجد السهلة : اما علمت انه موضع بيت إدريس النبي (عليه السلام) الذي كان يخيط فيه؟.

٣٤٣

قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وكما رفع ذكره في الملاء الأعلى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) وكما يذكر إدريس الصديق في كتابه بلغته السريانية هذه المكانة العليا لأهل بيت الرسالة المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلم) :

يقول بعد عرض عريض في حوار بين آدم وبنيه حول «من هو أفضل الخليقة» فإذا انا «آدم» بأشباح خمسة باهرة في العرش في غاية العظمة والجلال والحسن والضياء والبهاء والجمال والكمال حيث حيرتني أنوارهم فقلت رب! من هؤلاء؟ فأوحى الي أنهم أشرف خلقي والوسطاء بيني وبينهم :.

إني لهو يوه أنا لبرين وارخ لا الشماى ولا أل ارعا ولا الپردس ولا الكيهن ولا الشمس ولا السعر :

«لولاهم لما خلقتك» يا آدم «ولا السماء ولا الأرض ولا الجنة ولا النار ولا الشمس ولا القمر»

قلت «آدم» : ما هي اسماء هؤلاء الأكارم؟ قال : انظر الى العرش ترى : ـ

«پارقليطا» (محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) «إيليا» : علي (عليه السلام) «طيطه» : فاطمة (عليها السلام) «شپرّ» : حسن «شپير» : حسين.

هليلوه لت اله شوق منّي محمّد انّوي داله» ـ : «هلّلوني فانه لا إله إلا أنا ومحمد رسولي» (١)

__________________

(١) طبع كتاب إدريس (عليه السلام) باللغة السريانية في لندن ١٨٩٥ وهذه البشارة في ص ٥١٤ ـ ٥١٥ منه ينقله المغفور له ملا محمد صادق جديد الإسلام في كتابه أنيس الاعلام ـ وقد فصلناه في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية ص ١٣١ (عربية) وفي كتابنا «بشارات عهدين» باللغة الفارسية ص ٢٢٩.

٣٤٤

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

٣٤٥

وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٧٢)

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(٥٨).

كما النعمة الربانية درجات كذلك المنعم بها عليهم درجات أفضلهم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ

٣٤٦

فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).

وقد تلمح (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) دون «آدم ومن ذريته» إلى أنه ما كان من النبيين مهما كان من المرسلين أمن ذا؟ .. والذين أنعم الله عليهم ـ على درجاتهم ـ هم الذين نستهدي في صلواتنا صراطهم (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ونحن أيضا درجات كما هم درجات ، فلا تستهدي كل درجة إلّا صراط من فوقها دون من يساويها او أدنى ، وكما الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو على قمة الصراط لا يستهدي في صلاته إلّا أفضل من المنعم عليهم أجمع فانه إمامهم أجمع!

والنبيون المذكورون هنا هم : زكريا ويحيى وعيسى وابراهيم ، وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس ، عشرة من المذكورين في سائر القرآن وسواهم ، ومريم المذكورة معهم من الصديقين و (أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (٥ : ٧٥) وقد تشملها (مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا).(١)

وترى من (النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) اما كانت تشمل كافة صفحات النبوة في تاريخ البشرية؟ فما هي الحاجة الى «وممن ـ ومن ـ وممن ..»؟.

قد تعني هذه الثلاث الثلاثة الباقية من المنعم عليهم وسائر النبيين ف (مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) تعم الصديقين والنبيين غير المذكورين هنا ، وأئمتنا المعصومون (عليهم السلام) كما فاطمة صديقة ومريم صديقة. ف (مِنَ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٥١ ح ١١٤ في كتاب المناقب في مناقب زين العابدين (عليه السلام) قال (عليه السلام): في قوله تعالى : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) نحن عنينا بها.

٣٤٧

النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) و (مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) تعمان كل نبي وكل صديق في تاريخ الرسالات الإلهية ثم (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) تشمل كل شهيد وصالح.

إذ ليس (مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نبي أم ولا صديق إلا في ذريته وذريتهم ، والنص (مِمَّنْ حَمَلْنا) لا «من ذرية من حملنا» حتى تعني النبيين من هذه الذرية ، ثم ولا تختص النبوة بذرية إبراهيم وإسرائيل حتى تعني النبيين من هذه الذرية.

إذا ف «من» الأولى بيانية وسائر الأربع تبعيضية ، تحمل الخمس المنعم عليهم الاربعة (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ).

وفي تقسيم أبعاض الآية الى المذكورين تكلف ظاهر : أن (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) هو إدريس وحقه إذا «من نبي من ذرية آدم»! ثم (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) إنه إبراهيم إذ هو من ذرية من حمل مع نوح ، وحقه إذا «ومن ذرية نوح او من ذرية من حملنا مع نوح»! ثم (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) ان «من ابراهيم» : «إسماعيل وإسحاق» ومن إسرائيل «زكريا ويحيى وعيسى وموسى وهارون! وحقه إذا (مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) حيث تعم كافة النبيين من فرعيه : إسماعيل وإسرائيل دون اختصاص بالمذكورين.

وقد يكون في «من (حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) صديق كما فيهم صالح وشهيد ، ولكنما (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) يعم مع النبيين غير المذكورين هنا كل صديق وصالح وشهيد ، كما (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) تعم كافة النبيين في صفحات النبوات!.

ومواصفة لهم ثانية شاملة للأربع : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) فإنهم المنعم عليه بنعمة الهداية والعبادة القمة ، لا تخالجهم

٣٤٨

غواية في أية حلّة وترحالة ، سجّدا للرحمن وبكيا في كل حالة ومقالة وفعالة ، فعّل الخرور سجدا وبكيّا هو كمال الخضوع والخشوع أمام آيات الرحمن حين تتلى عليهم ، من وحي آيات الوحي المتلوة عليهم بشؤون الربوبية والعبودية والرسالة والنبوة ، سواء أكان التالي هو الرحمن ام وسيط في الوحي وحيا إمّا ذا من تلاوة حسب درجات المنعم عليهم ، من النبيين الى الصالحين ، حيث الآيات تأخذ بازمة قلوبهم فيخرون بكيا ومن ثم بقوالبهم فيخرون سجدا.

وإذا كانت السجدة والبكاء للرحمن فلما ذا هي (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) ولا يختص مقام الرحمن بما تتلى؟ إنه مزيد الايمان والانجذاب إلى الرحمن حين يكلم المنعم عليهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٨ : ٢) و (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩ : ٢١).

ثم للسجود والبكاء حين تتلى آيات الرحمن درجات أدناها الاستماع إليها والإنصات لها (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٧ : ٢٠٤) فإنهما من السجود الخضوع دون تمامه ، وهما لزام لأصل الايمان وأدناه : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٨٤ : ٢١) مهما كان كمال السجود والبكاء لزام كمال الايمان وأعلاه (إِذا تُتْلى ... خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)

فكما يجب ان يكون المؤمن بالله ساجدا لله خاضعا له في أحواله كلها ، كذلك السجود لآيات الله ولا سيما حين تتلى ، فترك الاستماع إليها والإصغاء لها نابع من عدم الايمان!

ولماذا (آياتُ الرَّحْمنِ) دون «الله» او «الرحيم» لان العناية المناسبة

٣٤٩

لمطلق السجود والبكاء تقتضي الرحمة العامة بما فيها بشارة الثواب ونذارة العقاب ، فالسجود نتيجة البشارة والبكاء نتيجة النذارة مهما عمهما السجود والبكاء في توسّع يليق بالمنعم عليهم.

وكما السجود في وجه عام يشمل أدناه إلى أعلاه كذلك البكاء تشمل التباكي وحالة البكاء كما تشمل أعلى البكاء ، درجات حسب الدرجات.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)(٥٩).

«فخلف» هؤلاء المنعم عليهم «خلف» (١) خالفوهم فيما هم وتخلفوا عما هم حيث (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) كما خلف من بعدهم خلف أقاموا الصلاة وتركوا الشهوات فسوف يلقون ريا.

لكل صاحب دعوة إلهية خلف وخلف ، وطبيعة الدعوة وصنيعتها تقتضي الخلف دون الخلف ، وخلف الدعوة الصارمة والتخلف عنها لزامه مضاعفة الغي والعذاب ، كما ان خلفها والاستمرار فيها لزامه مضاعفة الري والثواب!

فلان آيات الرحمن منها مبشرة لمن يعبد الرحمن وقمتها الصلاة ، وأخرى منذرة لمن يتركها اتباعا للشهوات ، فهؤلاء الخلف طول الرسالات والدعوات الإلهية أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، نقطة مضادة لأسلافهم المنعم عليهم (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)!

__________________

(١) الخلف بالسكون البدل السيء وبالفتح ضده وقد يعكس على ندرة والأصل هو الاول.

٣٥٠

واضاعة الصلاة لا تعني فقط فيما تعني ترك الصلاة (١) فان إضاعة شيء ليست إلّا بعد تكوّن هذا الشيء ، فالذي يعزل فلا يولد له ليس مضيعا للولد ، إنما هو الذي انعقدت نطفته فأضاعها منذ انعقادها الى الولادة إلى الموت عن المصالح المتوجهة إليه لولده.

فإضاعة الصلاة هي إتيانها دون إقامة لها على وجهها الواجب واللائق ، في أوقاتها وشروطها واجزائها ونياتها ، وعلى الجملة في قلبها وقالبها فهم ليسوا بمقيمي الصلاة ، وإنما يأتونها : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) (٩ : ٥٤) ، او يقومون إليها : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٣٢) ام هم سكارى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (٤ :) ٤٣) ام ساهون عنها متساهلين فيها فهم بين تاركيها وفاعليها : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (١٠٧ : ٥) غير معتنين بشأنها ، فلا يقيمونها كما يجب مهما أتوها وقاموا إليها!.

وقد تربوا إضاعة الصلاة ـ غيا ـ عن تركها ، كما يربوا الشرك بالله ـ أحيانا ـ على الإلحاد في الله ، فتارك الصلاة قد يتركها جهلا بالله ام جهالة في الله ، ولكن الذي يصلي اضاعة لها ، هو هازئ متهتك بالله رغم

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٥١ ح ١١٦ عن المجمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير ان تركوها أصلا.

أقول : يعني لم يتركوا أصلها وفيه ١١٥ عن الكافي عن داود بن فرقد قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال : كتابا ثابتا وليس ان عجلت قليلا او أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضيع تلك الاضاعة فان الله عز وجل يقول لقوم : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).

٣٥١

تصديقه ، لذلك (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ...) لا «التاركين لها»! وان كان تركها قد يربوا اضاعتها كفرا وعصيانا!.

وكما أن لاقامة الصلاة درجات أعلاها صلاة المقربين ، كذلك لتضييعها دركات أسفلها صلوة المبعدين الأسفلين وبينهما متوسطات ، فهناك صلاة هي في أحسن تقويم ، وأخرى في أسفل سافلين ، ثم متوسطات لحد الواجب ام دونه ام فوقه ، فما دون الواجب فيها تضييع لها وما فوقه اقامة للراجح فيها.

(وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ)

الشهوات قد تتبع إنسان العقل الوحي فتصبح رحمات وكما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) «شيطاني أسلم بيدي» وقد يتبعها الإنسان خلاف العقل والوحي فتصبح حيونات ونقمات ، ويقول الله : «ان القلوب المعلقة بالشهوات عين محجوبة» (١) وقد يشير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الى أخلاف من بعده وتلا هذه الآية (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) من بعد ستين سنة (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ويقرء القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٧٢ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن الأشعث قال : اوحى الله الى داود (عليه السلام) : ان القلوب ...

(٢) المصدر اخرج احمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتلا هذه الآية ..

أقول ولعله يعني ستين سنة من الهجرة حيث أعلن الفسق زمن يزيد بن معاوية وقتل الحسين (عليه السلام).

٣٥٢

وممن اتبع الشهوات «من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور» (١) ويجمعه «الدخول في الدنيا واتباع الهوى وشهوة البطن وشهوة الفرج» (٢) وفوق الكلّ شهوة الرئاسة والعلو : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) (٢٨ : ٨٣).

فالشهوات هنا تعمها كلها وامّها شهوة الرئاسة التي تضم سائر الشهوات وتجعل الديار بلاقع.

وذلك النفي والإثبات في اضاعة الصلوة واتباع الشهوات يلقي غيا وعيا» : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) : في الحياة الدنيا عما خلقت له وهيأت ، وفي البرزخ والقيامة عما قدره الله وقرره لعباده الصالحين ، غيّا في الحياة الدنيا يتمثل في نشآت ثلاث ولا سيما منذ الموت ، حيث العمل السيء هو الجزاء بملكوته يوم يكشف عن ساق وتبلى السرائر : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) و (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لقد عملتم غيا فسوف تلقون غيا ، جزاء في نفسه عذابا وفاقا! (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) (٢٥ : ٦٨) :

__________________

ـ وفيه اخرج احمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : سيهلك من امتي اهل الكتاب واهل الدين قلت يا رسول الله ما اهل الكتاب؟ قال : قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا فقلت ما اهل الدين؟ قال : قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات.

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٥١ ح ١١٧ في جوامع الجامع «وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ» رووا عن علي (عليه السلام) من بنى.

(٢) المصدر في كتاب الخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): من سلم من امتي من اربع خصال فله الجنة : الدخول ...

٣٥٣

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً)(٦٠).

(إِلَّا مَنْ تابَ) عن إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ـ الى الله «وآمن» بالله بعد ما كفر عمليا كالمؤمن المضيع ، ام وعقيديا كالمضيع الناكر (وَعَمِلَ صالِحاً) يجبر ما ضيع ، فلا تكفي التوبة دون ايمان ولا ايمان الّا بصالح العمل فيصبح مؤمنا صالحا (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) إذ توفى هناك أجورهم ، دون ان ينقص منها شيء لماضي تضييعهم ، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)(٦١).

«عدن» هو الاستقرار ف (جَنَّاتِ عَدْنٍ) هي جنات الآخرة حيث لا خروج عنها وانما خلود استقرار ، وتقابلها الجنات البرزخية غير المستقرة حيث تفنى بفناء الدنيا فيخرج الداخل فيها الى المحشر ثم الى جنات عدن ، فهذه تبتدء بفناء السموات والأرض ، وتلك تنتهي بفنائهما (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١١ : ١٠٨) والفترة بين الجنتين لا تعتبر جذّا لعطاء فانها قلة لا يحسب لها حساب ، فانتقاله الى عطاء اوفى!

(وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) وعدهم وهو بالغيب كما وهي بالغيب ، والوعد كذلك بغيب الوحي ، مثلث الغيب في وعد الرحمن (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) في الغيب ، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر! ... وترى ما هو مكانة «كان» وإتيان وعده سوف يكون؟ «إنه كان» في موضع تعليل ، فل «انه كان» منذ كان كائن ووعد من الله لايّ كان (كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) دون تخلف في أعماق الماضي فليكن مأتيا في

٣٥٤

المستقبل وهو أهون عليه.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(٦٢).

ليس فيها لغو حتى يسمعونه ، إلّا سلاما ، استثناء منقطع يجتث اي لغو فيها ويقطعه ويخص مسموعها ب «سلاما» (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٢٥ : ٧٥) (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٥٦ : ٢٦) ولأن (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (٣٣ : ٤٤) ف «تحية» هنا سلام وليكن سلاما» غير التحية من قول سلام ، ان المسموع فيها كله سلام إخبارا ودعاء أما ذا ، لا ألّا كلام فيها إلا سلام ، فهم إذا خرس عن أي كلام إلّا السلام! وانما كلامهم لا يعد وكلاما سلاما من تحية أم اي سلام!

(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وهل في جنات عدن بكرة وعشي؟ولزامهما شمس طالعة وغاربة! والشمس مكوّرة عند قيام الساعة!

هذه الشمس تكور ثم تخلق شمس اخرى يستظل اهل الجنة بظلالها عنها : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١٣ : ٣٥) ولا ظل إلّا عن ضوء و (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٧٦ : ١٣) فلتكن في الآخرة شمس وزمهرير لا يرونهما ، كميّزة لأهل الجنة عن أهل النار ، فلو لم تكن هناك شمس ولا زمهرير فأهل الجنة والنار على سواء في «لا يرون»!

وإذا كانت هناك شمس فلتكن طالعة وغاربة وأهل الجنة لا يرونها فان «ظلها دائم» (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) كأصول الأوقات الصالحة للأكل وان كان فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين و (أُكُلُها دائِمٌ) يأكلون متى شاءوا ولا سيما بكرة وعشيا ، او قد يعني : دوام الأكل كما يقال : أكل الجنة صباح مساء ، يعني انها مستمرة في الأوقات كلها.

٣٥٥

ودلالة آية الغدو والعشى وآية المقيل بقرينة قاطعة فيها على البرزخ (١) لا تقتضي دلالة آية البكرة والعشي على ما دلتا ، وهي محفوفة بقرينة من قبل «عدن» ومن بعد «نورث» تدل على القيامة.

جنة البرزخ مؤقتة ما دامت الدنيا فليست عدنا ولا سيما للداخلين فيها قبيل الساعة ، ووراثة جنة عدن تعني البقاء فيها من بعدين ، إذا فهي جنة الآخرة ، و (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً) دليل وجود الشمس فيها مستورة ، (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) دليل كونها طالعة غاربة ، اللهم إلّا أن يدل (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) على دوام النهار فليس فيها ـ إذا ـ بكرة وعشي ، ولكنهما نص على شمس طالعة وغاربة ، فليقيد دوام ظلها بأوقات النهار (٢) فالرواية المنسوبة الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) (٣) تؤوّل! أو يقال يكفي في كونها

__________________

(١) كقوله تعالى (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٠ : ٤٦) وقوله تعالى «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً. وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً» (٢٥ : ٢٨).

(٢) فكما ان دوام الأكل لا يعني دوام الآكل وانما تهيئ الأكل ، للأكل ، كذلك دوام الظل لا يعني الا الأشجار الملتفة التي تمنع من اصابة الشمس ، فقد يكون ظل غير دائم كالاظلال المؤقتة المتحركة كالشمسيات او السحاب او السقف الثابتة ولكنها ظل ما دمت تحتها ، ولكنما الأشجار الملتفة هي دائمة الظل.

(٣) الدر المنثور ٤ : ٢٧٨ ـ اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)!. هل في الجنة من ليل؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وما هيجك على هذا؟ قال : سمعت الله يذكر في الكتاب (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فقلت : الليل من البكرة والعشي! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ليس هناك ليل وانما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرماح على الغد وتأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت ـ

٣٥٦

عدنا مواصلة الجنتين لحد يعبر عنها بعطاء غير مجذوذ في الجنة البرزخ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١١ : ١٠٨) ثم الغدو والعشي علهما يختصان بالجنة البرزخية ، ثم لا غدو وعشيا في جنة الآخرة ، وانما شمس طالعة دون غروب «ظلها دائم» في دوام الطلوع!

ثم ورزق البكرة والعشي خير الرزق ف «تغد وتعش ولا تأكل بينهما شيئا فان فيه فساد البدن» (١).

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(٦٣)

هل هي ميراث من الله لأهل الله؟ (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)! ولا يموت أو ينعزل عن ملكه حتى يورث! أم هي ميراث ممن أدخل النار إضافة الى ما يملكه أهل الجنة؟ ولم يكن لأهل النار نصيب من الجنة!.

إنه «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزلة في النار والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة» (٢) (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ

__________________

ـ الصلوات التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة واخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات الا انه يزف الى ولي الله تعالى فيها زوجه من الحور العين أدناهن التي خلقت من زعفران.

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٥١ ح ١٢٠ في محاسن البرقي عن ابن اخي شهاب بن عبد ربه قال : شكوت الى أبي عبد الله (عليه السلام) ما القى من الأوجاع والتخم فقال : تغد .. اما سمعت قول الله عز وجل يقول : (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ورواه في كتاب طب الائمة عن محمد بن عبد الله العسقلاني عنه (عليه السلام).

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢٣ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة ان رسول ـ

٣٥٧

الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣ : ٧٢).

فقد كان منها منازل للذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ثم لم يتوبوا فأورثها الله من كان تقيا ، فليست الجنة ـ إذا ـ وراثة النسب إذ تنقطع هنالك الأنساب وتتقطع الأسباب ، اللهم إلّا سبب التقوى حيث يورث أهلها منازل اهل الطغوى الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات!

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(٦٥).

هاتان الآيتان تلمحان أنهما معترضتان بين آي السورة ، ترى انهما من كلام الله؟ وهو لا يتنزل! وليس له رب! ولا له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك! ام من كلام أهل الجنة وليس دخلوها تنزلا إليها فانه تصاعد وتعال ، ولا يخرجون تنزلا عنها ، ثم ولا يناسبهم بقية القول إذا فهما من كلام ملائكة الوحي ام أولاهما ، كأن هناك سؤالا ، لماذا ذلك التباطؤ في التنزل بالوحي ام قلّته (١) والجواب (وَما نَتَنَزَّلُ ..) والواو فيها

__________________

ـ الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : .. ـ ثم قال ـ : وذلك قوله : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ).

(١) وفيه اخرج ابن مردويه عن انس قال سئل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اي البقاع أحب الى الله وايها ابغض الى الله؟ قال : ما ادري حتى اسأل جبرئيل وكان قد ابطأ عليه فقال : لقد ابطأت عليّ حتى ظننت ان بربي علي موجدة فقال : وما نتنزل ..

واخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ابطأ جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أربعين يوما ثم نزل فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما نزلت حتى اشتقت إليك فقال له جبرئيل انا كنت إليك أشوق ولكني مأمور فأوحى الله الى جبرئيل ان قل له : وما نتنزل الا بأمر بك .. واخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : احتبس جبرئيل عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمكة حتى حزن ـ

٣٥٨

لمحة إلى معطوف عليه محذوف ك «ما تباطئنا من أنفسنا أم تقللنا ولا قليناك او نسيناك .. بل .. وما نتنزل إلا بأمر ربك ..» ليس تنزّلنا بالوحي إلّا لتربيتك ، فأنت الأصل الرسولي ونحن الفروع الرسالي ، وهو يعلم كيف ومتى وبماذا ينزّلنا ، ف «ربك» لا «ربنا» ولا (رَبِّ الْعالَمِينَ) يوصل ذلك الوحي إليه من الله حيث يربيه التربية القمة بذلك الوحي المجيد.

(وَما نَتَنَزَّلُ) بالوحي أماذا (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ليس لنا من الأمر شيء كما (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وكياننا نحن وأنت وجاه ربك : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو يشمل الكون أجمع أيا كان وأيان! ـ : ف (ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما نستقبله من زمان ومكان او كائن فيهما أيا كان (وَما خَلْفَنا) ما نستدبره كذلك ـ (وَما بَيْنَ ذلِكَ) من أنفسنا وإياك وما نحمله من وحي من أو إلى ـ كل ذلك له لا لنا ولا لك ولا لسوانا ، ومما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ما نتنزل به من وحي ، فليس استنزاله لك ولا التنزل به لنا (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) كما وان القول (وَما نَتَنَزَّلُ ..) ايضا ليس (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فلسنا نحن إذا مقصرين في تباطؤ الوحي عليك واحتباسه عنك.

__________________

ـ اشتد عليه فشكى ذلك الى خديجة فقالت خديجة لعل ربك ودعاك وقلاك فنزل جبرئيل بهذه الآية (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) قال يا جبرئيل احتبست عني حتى ساء ظني فقال جبرئيل : وما نتنزل الا بأمر ربك ..

واخرج ابن جرير عن مجاهد قال لبث جبرئيل عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اثنتي عشرة ليلة فلما جاءه قال : لقد رثت حتى ظن المشركون كل ظن فنزلت الآية ..

وفيه اخرج احمد والبخاري ومسلم وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردوية والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لجبرئيل (عليه السلام): ما يمنعك ان تزورنا اكثر مما تزورنا؟ فنزلت الآية.

٣٥٩

واما ربك فلا ينزّلنا بالوحي لا بحكمة الربوبية (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) يودّعك نسيا او يقلاك تناسيا : (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)!

ف (ما نَتَنَزَّلُ) نفى عنهم التقصير (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) نفاه عن الرب وعن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلا بد من حكمة خفية في البين ، فلا هو نسيّ ينسى مقصرا ، ولا أنه نسيّ يتناساك غضبا ، ويتمثل (ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) في (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) حيث التوديع نسيان ، والقلى تناس غضبا ، ولقد كان حقا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان يستوحش من إبطاء الوحي لاشتياق نفسه للاتصال الحبيب بوحي الحبيب.

ثم و (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) عبارة أخرى عن (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) وعلّه من كلام الله «فاعبده» تفريع لتوحيد العبودية على توحيد الربوبية (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أمر باستقامة العبادة ومنها تنزل الوحي عليه رسوليا ورساليا ، فعليه الاصطبار مهما احتبس عنه لفترة قصيرة أم طويلة (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) من الاسم ل «الرب» او «الله» (١) فهل تعلم له ربا سواه يشاركه في ربوبيته ، ومن السمّو ، هل تعلم له مشاركا في سمّوه ربا لكل شيء ، ليس له شريك في اسم الرب فضلا عن حقيقته وسمته ، والربوبية المطلقة الوحيدة لساحته المقدسة تقتضي عبادته وحده ، والاصطبار لعبادته وحده!

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٥٢ ح ١٢٥ في كتاب التوحيد عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه لرجل سأله عما اشتبه عليه من آيات الكتاب واما قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ـ فان ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم ... واما قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) فان تأويله : هل يعلم احد اسمه الله غير الله تبارك وتعالى ..».

٣٦٠