الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

وعد واحد ، رغم ان الإفسادين العالميين الإسرائيليين هما وعدان قبل الوعد الحق (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ... فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ..) فليكن الوعد اليأجوجي مع الوعد الثاني الإسرائيلي!

اللهم إلّا أن الوعدين هذين متجهان الى الاسرائيليين ، وذلك الوعد اليأجوجي متجهة الى غيرهم حيث هم بفتحهم وعد العذاب على العالم أجمع؟

وقد يكون الإفساد الثاني الإسرائيلي محط الوعدين ضد إسرائيل وعملائه ، وضد العالم اجمع! ومهما يكن من شيء فلا ريب أن الإفساد الثاني والأخير العالمي يشترك فيه كافة المفسدين ، يفتح فيه كل يأجوج ومأجوج والإسرائيليون وكافة العملاء ، وفيه العلو الكبير (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً).

ولأنه من أقرب أشراط الساعة لحد تلحقه القيامة (وَتَرَكْنا). (وَنُفِخَ ..) (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ... وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)!

وأن الإفساد العالمي يتطلب نسل المفسدين من كل حدب دون ايّ صدّ او سدّ (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) وأن كلا من إسرائيل ويأجوج ومأجوج أصل في هذه الفتنة العالمية ، فقد يقرب ما قربناه!

ولكنما الفتنة المغولية التي هي من يأجوج ومأجوج قد تجعل نسلهم من كل حدب لمرات ثالثتها أقواها وهي في الإفساد الاسرائيلي الثاني.

وقد يظهر من حديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» (١) أن افسادهم يمنع الحج

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه.

٢٢١

والعمرة ثم الله يفرج عن المستضعفين ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، وليس هذا إلّا في الإفساد الاسرائيلي الثاني حيث تملأ الأرض ظلما وجورا ثم تملأ قسطا وعدلا.

وكما يظهر من حديثه الاخر «فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبرئيل فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من ركن البيت ومقام ابراهيم وتابوت موسى بما فيه .. (١) يظهر أن الأرض يومئذ تملأ ظلما حتى فيما بين المسلمين لحد كأن القرآن رفع عنهم والعلم ، ولن يرفع عن كونه بينهم وإنما عن كيانه!

وقد يعني حديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن فتح الردم أن لفتحه مراحل أخيرتها المرة الأخيرة من الإفساد الإسرائيلي اليأجوجي : «لا إله إلّا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق ـ قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث (٢)

ف (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) مثال عن كل أمة شريرة ، ولفتحهم مراحل عدة اخيرتها التي هي أوسعها تواطئ الإفساد العالمي الأخير الإسرائيلي ، «إذا كثر الخبث» لحد ملئت الأرض ظلما وجورا!

فلقد أخذ ذلك الفتح يتسع منذ الرسول كلما كثر الخبث حتى القرن السابع من الهجرة ففتح شبه العالمي بالمغول والتتار ، ثم يتسع اكثر واكثر

__________________

(١) سفينة البحار للمحدث القمي ج ١ ص ١١ ويدلج ، النبوي.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٢٥١ ـ اخرج البخاري عن زينب بنت جحش قالت استيقظ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) واخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده تسعين.

٢٢٢

في هذين الإفسادين العالميين وأقواهما الأخير بعلو كبير ، تتساعد فيه كافة السواعد الطاغية من مشارق الأرض ومغاربها مهما كان الإسرائيليون هناك أصلاء أم أقوى الأصلين أم ماذا؟

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)(١٠٠).

ان النفخ في الصور هو الناقور مرتان ، أولاهما هي نفخة الإماتة وأخراهما نفخة الإحياء (١) : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) وعلّ هذه نفخة الإحياء (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) او ان «جمعا» يعني جمعي الإماتة والإحياء كما النفخ يجمع الجمعين ، نفخة أولى يجمعهم الى الموت ـ ونفخة اخرى يجمعهم بعد جمع الموت إلى الحياة ، فيوم القيامة ككل ـ قيامة الإماتة والإحياء ـ إنه يوم الجمع (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٦٤ : ٩) (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) (٤٢ : ٧) جمعا الى موت ثم جمعا الى حياة ومن ثم جمع الحساب فالثواب والعقاب :

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)(١٠٠)

في جمع الإحياء وبين جموع الأحياء تعرض جهنم للكافرين عرضا للعقاب بعد العرض على الرب للحساب : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) (١٨ : ٤٨) (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) (١١ : ١٨) ثم لا عرض

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ـ الفرقان ص ٣٤ حول الآية «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ»

٢٢٣

للمؤمنين على الرب!

ومن ثم الكافرون يعرضون على جهنم النار : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) (٤٢ : ٤٥) ثمة عرض الحساب وهنا عرض العقاب ولمّا.

فلما ذا العرض وليس الدخول؟ حيث الدخول الحسبان لزامه الحجة العيان ، فليعرض الكافر على ربه ليرى هل تربى بما رباه؟ ثم عرضا على جهنم هل عمل لها وهو من أهلها؟ فلما رأى اللّاتربية هناك في نفسه ، ورأى مجانسته مع النار هنا فليدخل ـ إذا ـ النار بحجة باهرة : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) (٤٦ : ٣٤) (... أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (٤٦ : ٣٠) فبعرضهم على الرب يعرف ويعرفون أنهم ما تربوا بتربيته ، وبعرضهم على النار أنهم من أهل النار إذ لم تبق لهم طيبات في الحياة!

(عَرَضْنا .. عَرْضاً) به يفضحون وينكبون ، وبه يدخلون النار ويخلدون ، إعراضا عن الرب هنا ، فعرضا على الرب وعلى ناره هناك!

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)(١٠١).

وترى الأعين المغطية عن ذكر الله فلا يستطيع ذكرا ، والسمع المغطية عن استماع كلام الله فلا يستطيعون سمعا كيف يعرض أصحابها على الجحيم ، والاستطاعة شرط التكليف؟

انها الأعين المغطية بما غطّوها تعاميا عن ذكر الله ، أعين الأبصار وأعين البصائر عشوا متعمدا متعاميا : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٤٣ : ٣٦) ف «لم يعتبهم بما صنع هو بهم ،

٢٢٤

ولكن عابهم بما صنعوا ولو لم يتكلفوا لم يكن عليهم شيء» (١) ثم و «غطاء العين لا يمنع عن الذكر والذكر لا يرى بالعين» (٢) وانما الغطاء على تبصّر العين فهي مفتوحة حيوانيا ومغطية إنسانيا.

فهي السمع المغطاة عن السمع بما غطّوها و : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢٦ : ٢١٢) فلما عشوا عن ذكر الرحمن وصمّوا عن سمعه ، أصبحوا صمّا عميا بما صموا وعموا ف (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (١١ : ٢٠) فقد كانوا ينظرون فلا يعتبرون ، او تعرض لهم العبر فلا ينظرون.

ليس ذلك عشو البصر عمى وصمم الاذن ، بل تعامي البصر وعشو البصيرة وصمم القلب : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) لذلك : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٧ : ١٠) (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣١٠ ح ٢٤٢ في تفسير العياشي عن محمد بن حكيم قال : كتبت رقعة الى أبي عبد الله (عليه السلام) فيها : أتستطيع النفس المعرفة؟ قال فقال : لا ـ فقلت يقول الله : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) قال : هو كقوله (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) قلت فعابهم؟ قال : ..

(٢) المصدر ج ٢٤٣ عيون الاخبار باسناده الى أبي الصلت الهروي قال : سأل المأمون أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ ...) فقال : ان غطاء العين .. ولكن الله شبه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب بالعميان لأنهم كانوا يستقلون قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيه (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) ..

٢٢٥

فتلك هي أعين في غطاء الغفلة والتعامي (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) وهي آذان لا يسمعون بها ، فلا يستطيعون بعد ذلك سمعا ولا إبصارا بما ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم كما ختموا (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢ : ٧).

ثم و (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ .. وَكانُوا) يضربان الى اعماق الماضي ، أنهم كانت أعينهم في غطاء منذ كانت لهم أعين ، وكانوا لا يستطيعون سمعا منذ كانت لهم سمع ، امتناعا بالاختيار ، ثم (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

ومن ثم (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) تجعل أعينهم غارقة في غطاء حيث غطتها من كل جانب ، فلا منفذ إذا لمعاينة الحق وذكره وهذه أعمى العمى!

(وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) تجعل على آذانهم وقرا وصمما محيطا لحدّ لا يستطيعون سمعا لو أرادوا سمعا وهذه أصم الصمم! حيث الأصم قد يسمع إذا صيح عليه وأصغى ، وذلك لا يستطيع سمعا!

وكما لمعاينة الآيات وذكر الله وسمعها درجات ، كذلك لغشاء الأعين وصمم السمع دركات وهذه أسفل الدركات.

و «عن ذكري» تلميحة كتصريحه أن غطاء الأعين لم تكن على الحقيقة في غطاء يسترها ، وحجاز يحجزها ، بل كانوا ينظرون فلا يعتبرون ، أو تعرض لهم العبر فلا يعبرون ، فقد كانت أعينهم تذهب سدى وصفحا عن مواقع العبر ، فلا يفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها فيذكرون الله سبحانه وتعالى عند إجالة افكارهم ، وتصريف خواطرهم.

٢٢٦

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ

٢٢٧

بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بي إلحادا ونكرانا لي ، ام بتوحيدي إشراكا (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) الذين هم «من دوني» او (يَتَّخِذُوا عِبادِي) دون إذني (مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) يتولونهم كآلهة ام شركاء لي او مخولين في ولاية شرعية أما ذا؟ (إِنَّا أَعْتَدْنا) تحضيرا (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) نزولا إليها كما نزّلوني عن وحدتي وربوبيتي في زعمهم.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤)

(بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) هم في الدرك الأسفل من ضلال السعي وخسار الأعمال ، لا يوازيهم أحد من الخاسرين حيث الأفعل هنا مطلق فلا يساوى أو يسامى ، كما لا يفوقهم أحد في الخسران! وأصل الضلال ذهاب القصد عن سنن طريقه ، فكأن سعيه لما كان في غير طريقه المؤدي الى مرضاة ربه ، فهو ضال في سعيه ، خابط في غيّه وحابط في عمله.

فقد يكون الإنسان بطّالا لا يسعى في الحياة الدنيا ، لا لها ولا للأخرى ، او يسعى للدنيا ، مهتديا الى منافعها دون الاخرى ، او يسعى دونها ضالا في سعيه للدنيا وهو عارف بضلاله ام يسعى لها ضالا في سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعا دركات بعضها سفل بعض والرابعة سفلاها ، حيث يحرم الآخرة إذ لم يسع لها ، ويحرم الدنيا لضلال سعيه لها ، ويحرم الاهتداء إلى ضلاله إذ يحسب أنه يحسن صنعا (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)!

٢٢٨

وترى (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)؟ ظرف لضلاله؟ أن سعيه ضل عن الحياة العليا في الحياة الدنيا ، فظل يسعى لها دون الأخرى ، وقد يكون ناجحا في هذه الأدنى مهما حرم الأخرى؟ وليس من الأخسرين أعمالا ، حيث الأخسر منه من زاد ضلالا على ضلال ، ١ ـ ضل سعيه عن الآخرة ـ ٢ ـ ثم ضل في سعيه للدنيا ، أن تكون (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ظرفا لسعيه ، فسعيه في الحياة الدنيا ضل ، ضلال في ضلال ، ومن ثم (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ضلال ثالث ، فهنالك يتم ثالوث الضلالة!

فطالما البطالون خاسرون ولكنهم قد يهتدون ، وكما الساعون للدنيا المهتدون الى منافعها ، فقد يفيقون عن غفوتهم ، ويستقيمون عن زلتهم ، بل والضالون في سعيهم لها ، العارفون بضلالهم ، مهما كانوا بعادا عن الهدى ، ولكن الذي ضل في سعيه عن الحياة العليا إلى الحياة الدنيا ، ثم ضل في سعيه للدنيا ، وهو يحسب انه يحسن صنعا ، غارقا في ثالوث الضلالة ، فانه دائب في سعيه الى خساره في الأولى والأخرى ، ولا ترجى إفاقته عن غفوته وضلاله إذ لم يبق له منفذ إلى صالحه ، فهو من الأخسرين أعمالا!

إنه بسعيه الهادف إلى فوائده في الدنيا يخسرها كما خسر الأخرى ، كادحا إلى خسران ، منفقا حياته في تعب هدرا دونما عائدة إلّا الخسران ، كمن يذبح نفسه بذات يده وهو يحسب انه ذابح خروفا يشويه لطعامه مكدا مجدا في ذبحه!

قد يصبح الساعي بضلاله فيما يعمل من الأخسرين أعمالا في الآخرة وهو في الدنيا رابح حياتها : (.. أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ : أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ

٢٢٩

الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (١١ : ٢٢) (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٧ : ٥)

هؤلاء وهؤلاء من الأخسرين في الآخرة ، ومنهم من لم يخسر دنياه ، فليس من الأخسرين اعمالا في النشأتين إلّا في الأخرى ، فاما الذي ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فقد خسر الاولى كما الاخرى وقد تكون خسراه في عقباه أقوى حيث هو في أولاه أغوى.

لا أخسر مطلقا في سائر القرآن إلّا هنا وفيمن كادوا بإبراهيم (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (٢١ : ٧) ولكنهم الأخسرون في الآخرة كالأوّلين ، وفي دنياهم في الكيد الذي كادوا به إبراهيم وهم في سائر دنياهم رابحين.

لآية الأخسرين مصاديق من ضلّال أهل الكتاب والمسلمين ـ الغارقين في ثالوث الضلالة في الدنيا والدين ك «الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري» (١) وكفرة أهل الكتاب المبتدعين (٢) «ولا أظن إلا أن الخوارج منهم» (٣) وكل من يتقشف فيما يظنه شرعة أهلية وهو خطر على الدين والدينين.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٥٣ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي خميصة عبد الله بن قيس قال سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول في هذه الآية انهم ..

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣١٢ ح ٢٥٠ في كتاب الاحتجاج عن الأصبغ بن نباتة قال ابن الكوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) اخبرني عن قول الله عز وجل : «الآية» قال : كفرة اهل الكتاب اليهود والنصارى وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.

(٣) الدر المنثور ٤ : ٢٥٣ ـ اخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم ـ

٢٣٠

وكما لها مصاديق من المكذبين بآيات الله الصادقين عن سبيل الله ، وقد يكون المتظاهر بالدين ، والمتقشف الجاهل أخطر منهم وأضل سبيلا!

فالأخسرون اعمالا دركات بعضها سفل بعض ، مهما كان الغارقون في ثالوث الضلالات كلهم من الأخسرين ، ولكنما الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه هم الأسفلون وكما جرت عليهم الآية وتتلوها :

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)(١٠٥) :

(كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) عشوا عنها وتعاميا ومدّا في كفرهم بقرن شيطانهم فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، كفر مطلق لا مخلص عنه (كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) يوم الدنيا بما يقربهم الى الله زلفى ويوم الآخرة بنكرانها فلقاء الرب هو لقاء ربوبيته ، في الأولى ربوبيته التكليف التكميل فزلفى المعرفة ، وفي الأخرى ربوبية الحساب ومن ثم الثواب والعقاب فإلى جنة او نار ، في دار ليس الأمر فيها إلّا لله ، يصيرون إليها ولا محيص لهم عنها ، وإذ لا أحد فيها يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر الله سبحانه بجمع الناس إليها وحشرهم نحوها سمي ذلك لقاء الرب.

(فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ومساعيهم فأصبحت (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) إذ لا أعمال لهم صالحة حتى توزن ولا وزن للطالحة فتوزن!

«أولئك ..» تعريف ثالث بالأخسرين اعمالا بعد (وَمَنْ يَعْشُ) و

__________________

ـ وابن مردويه من طريق عن علي (عليه السلام) انه سئل عن هذه الآية فقال : لا أظن.

٢٣١

و (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) ثالوث الضلالة في مثلث التعريف باهل الدرك الأسفل من النار.

فكفرهم مطلق لا مخلص عنه ولا مناص حيث يشمل آيات ربهم كلها ، آفاقيا وانفسيا ، تكوينيا وتشريعيا ، رساليا ورسوليا إمّا ذا ، حيث عشوهم عن ذكر الرحمن مطلق ، وآيات الرحمن تذكّر الرحمن لغير العاشين عنها.

ثم الكفر بآيات الرب كفر بلقائه ، والكافر بآيات ربه ولقائه لا أعمال له ثابتة إلّا زائلة خابطة حابطة ، واصل الحبط انتفاخ بطن الدابة بنوع سامّ من الكلإ فتلقى حتفها ، فالجاهل يراها سمينة شبعانة ، وهي في سبيل الموت! وهذا أنسب وصف لأعمال الكفار ، أنها تنتفخ ويظنها أصحابها رابية رابحة وهي بائرة رائحة.

أترى اعماله الحابطة هي الطالحة؟ وهي ثابتة كما الصالحة! (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)!

ام الحابطة هي الصالحة؟ وليست للأخسرين اعمالا اعمال صالحة! لكفرهم المطلق!

الحبط هنا يعني زوال الوزن ، فصالحة أعماله خاوية عن وزن للكفر المطلق ، مهما أنفق وسعى في إصلاح الحياة ، فتحبط أعمالها عن وزن ، وطالحة اعماله خفيفة حابطة بلا إحباط (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) حيث تبقى أعماله كلها طالحة خفيفة ليس لها وزن ، فكيف يقام له وزن؟

وذلك الحبط يشمل الدنيا والآخرة (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٢ : ٣١٧) في ميزان الله ، فلا وزن لهم في الدنيا كما الآخرة ، إذ لا تحسب صالحاتهم صالحات ، ولا فلاح لهم في طالحات ، فهم أخفّاء عند الله وعند أهل الله في الأولى كما الاخرى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ

٢٣٢

ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٧ : ٩).

فهنالك الوزن محصور في الحق (١) ، فلا وزن للباطل حتى يقام له وزن ، سواء أكان الباطل حابطا من أصله كسائر الباطل ، ام محبطا كان فيه شائبة الحق فأحبطه الله لخبطه في شاكلته ، كصالحات الكفار من خدمات بشرية تصلح الحياة : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦)

ليس الوزن عند الله إلّا ما يقرب إلى الله ف «ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله تبارك وتعالى جناح بعوضة» (٢)

ومن أخفهم وأخسهم «أئمة الكفر وقادة الضلالة فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يعبأ بهم ، لأنهم لم يعبأوا بأمره ونهيه ..» (٣).

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(١٠٩).

هذه تحيل مداد كلمات الرب ولو كان ضعف البحر ، وأخرى تحيل

__________________

(١). لم يقل «الوزن يومئذ حق» وانما «الحق» تدليلا على ان الوزن هو الحق فلا وزن للباطل حتى يوزن او يقاس بوزن الحق!

(٢) الدر المنثور ٤ : ٢٥٤ ـ اخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ... اقرؤا ان شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.)

(٣). نور الثقلين ٣ : ٣١٢ ح ٢٥٣ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يذكر فيه اهل الموقف وأحوالهم وفيه ومنهم أئمة الكفر ..

٢٣٣

مداد كلمات الله ولو كان ثمانية أضعاف البحر : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣١ : ٢٧).

فما هو البحر؟ ثم مداد مثله ، او من بعده سبعة أبحر؟ وما هي كلمات ربي؟ وكلمات الله؟ ثم ولها حد بعد ام لا حد لها؟

علّ «البحر» فيهما هو مجموعة بحار الأرض ، فانها هي المعروفة لدينا عينيا وقرآنيا (١) دون سواها من بحار ، و (ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) لا تجاوب إلّا ما في الأرض من بحار ، حيث البحر المحيط في الكون تناسبه الشجر المحيط في الكون! فلا هو مطلق البحر في الكون ، ولا بحر بعينه في الأرض ، حيث اختلاف بحار الأرض ينافي تعريف «البحر» الّا جنسه الشامل لكل بحر ، ف «البحر» إذا عوان بين البحرين لمطلق الكون أو خاص من الأرض.

والمداد ما يمدّ به من مادة للمدّ او قلم يمدّها ، فهناك البحر مداد وما في الأرض من شجرة أقلام المداد.

ثم (كَلِماتُ رَبِّي) هي الدالات لفظيا وعلميا وعينيا على الربوبية العليا كما «كلمات الله» هي الدالات على الألوهية وهي أشمل من كلمات الربوبية ، فالكلمة ما تدل على معنى في أيّة زاوية من الثلاثة أماهيه ، وإذا كانت نعمة الله لا تحصى وهي محدودة في الواقع لحدوثها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فأحرى بكلمات الرب وكلمات الله ألّا تحصى!

ثم «لو» في آيتي مداد الكلمات تحيل ان يكون البحر مدادا لكلمات

__________________

(١). لا نجد في ٤٠ موضعا فيها البحر بصيغة موضعا يدلنا على بحر في غير الأرض ، اللهم إلا ما يصلح التعميم وهذا ليس دلالة على بحر في غير الأرض يستدل بها! مهما دلت أحاديث عدة أن في السماء بحار.

٢٣٤

ربي وكلمات الله ، و «لو» الثانية في الأولى إحالة ثانية دون وقفة عليها ، (يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) في الثانية تعني استمرارية الاستحالة دون وقفة على السبعة الزائدة ، الرامزة الى الكثرة الكثيرة ، والقصد فيهما إلى استحالة مدّ الكلمات ككلّ باي مداد ، حيث إن مداد البحار والأشجار هي ايضا من الكلمات ، أيا كان الكاتب ، وباية سرعة كانت الكتابة وأيان (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي).

«كلمات ربي وكلمات الله» وهي كل دالة على الله ، ليست هي ذات الله ولا من ذات الله ، وإنما هي مخلوقات الله ولا بد وأنها حادثة محدودة ، كما توحيه (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) ولكنها ليست بالتي تعد أو تحصى ، فضلا عن ان تكتب ، إحالة في بعدين : ـ ١ ـ ان لا احد يمكنه إحصاءها فضلا عن كتابتها ـ ٢ ـ ولو أمكنه فالكاتب نفسه ، ومداد البحار والأشجار والورق المكتوب فيه ، هي كلها من كلمات الله ، ولو أنها كتبت فيما يكتب فنفس الكتابة بحذافيرها من كلمات الله فتسلسل مستحيل ، او (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي)!

إن كتابات الوحي وكافة التشريعات الإلهية ، التي تحملها الأصوات والكتابات والمفهومات ، هي من كلمات الرب ، وحملتها الرسل والأئمة وسائر العلماء بالله ، هم من كلمات الرب ، وكافة الرحمات الإلهية رحمانية ورحيمية هي من كلمات الرب ، ومجموعة الكائنات هي آيات الله وكلماته ، فأين مداد البحار والأشجار من مدّ كلمات الله!

فكلمات الرب هي الدالات على ربوبيته ، وكلمات الله هي الدالات على ألوهيته في ذاته ورحماته رحمانية ورحيمية ، ومن نعم او نقم إمّا ذا.

ففيما (إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فاستحالة الإحصاء والكتابة التي هي أصعب ، في كلمات النعم والنقم إمّا ذا هي أحرى! :

٢٣٥

واين أنت ايها الإنسان الهزيل الجاهل العاجز الذليل ، والغوص في خضم ذلك البحر الملتطم ، واليمّ المنجسم من كلمات الرب الله ، إلّا غرقا فيها عن سباحتك!

قد يدرك الإنسان الغرور بما يسجّله من مكامن الكون ، فتاخذه نشوة الظفر في ظهور علمي وفي القدرة فيحسب أنه على شيء!

ولكنما الآيات الربانية والإلهية تواجههم بآفاقها المترامية ، فإذا هم على خطوات من الشاطئ ولما يخوضوا البحر .. وحتى لو كان البحر مدادا بيده (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) مدادا! ف «قد أخبرك ان كلام الله عز وجل ليس له آخر ولا غاية لا ينقطع ابدا» (١) فيما نحصيه!

كلمات الله بعد كل مداد تنتظر مدادا يمدها ، ولن يمددها أي مداد ، فطالما هو أيضا من كلمات الله إذا (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي)!

فيا لنا من غباوة وعمى ، وحماقة كبرى ، نعيش كلمات الله ، غارقين في خضمّها ، ومارقين عن الذي تدل عليه وترشدنا إليه (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)!

كلمات تذكرنا الرحمن (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)!

__________________

(١). نور الثقلين ٣ : ٣١٣ ح ٢٥٦ حدثنا محمد بن احمد عن عبد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قلت : قوله عز وجل «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ،» قال : قد أخبرك ..

٢٣٦

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(١١٠)

آية يتيمة منقطعة النظير في ساير قرآن التوحيد ، تجمع من مجامع التوحيد ما لا توجد في غيرها ، لحد يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عنها : «لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم» (١) كفاية عن سائر التوحيد في القرآن وأصلي النبوة والمعاد! وكأنها تحتصر الوحي في خاتمة الرسالة على ما يتبنى كل الرسالة وتتبناه كل الرسالة : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ .. أَحَداً) إظهارا لها وتظاهرا بها في عقيدة القلب ، ولفظة اللسان وعمل الأركان وتوجيه العالمين أيا كانوا وأيان! وقد جمعت الأصول الثلاثة نبوة : (يُوحى إِلَيَّ) وتوحيدا في كافة الجنبات : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ومعادا : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ..) وقد تقدمت النبوة السامية المحمدية لأنها أكمل تعريف بنفسها وبأصلي التوحيد والمعاد!

هنا وفي «فصلت» يؤمر الرسول ان يقول (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) كلمة توحيدية أحكمت هنا وهناك وفي اضرابهما ثم فصلت في ساير القرآن.

في فصلت يؤمر بعد مع العالمين بالاستقامة الى الله (.. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)(٦) وهنا يكمل كلمة التوحيد (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ..)! واحتصار كيان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في نفسه بانه بشر ، كلمة يقولها المرسلون أجمع : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما

__________________

(١). الدر المنثور ٤ : ٢٥٧ ـ اخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي حكم قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

٢٣٧

كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٤ : ١٢) فهو بشر في كل ما للبشر.

ثم ولا يستثنى هو وهؤلاء إلّا في وحي الرسالة : (يُوحى إِلَيَّ) فيستثنى عن بشريته كل خطأ وشر ، دونما استقلال بجنب الإله ، ولا استغلال لشأن من الإله ، وإنما «بشر رسول» : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١٧ : ٩٣).

إنه بشر كسائر البشر في جسمه وروحه محمد ، اللهم إلّا في روحه كرسول حيث يمتاز بها عن سائر البشر! فهو في حاجيات ومتطلبات البشرية كسائر البشر يأكل ويمشي في الأسواق ويتزوج وينام ويفيق ... ولكنه معصوم بالوحي عن أخطاء البشر وكلما ينافي الرسالة الإلهية من مثلث العصمة : تلقيا للوحي وإلقاء وتطبيقا في نفسه وسواه!

إن الرسول البشر ـ أم أي كائن سوى الله ـ ليس ليشرك بالله أم يشارك الله ، او يخوّل عنه ما ليس إلّا لله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ (١) لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ..) (٣ : ٧٩) كما وأن البشر ليس ليمنع عن رسالة الوحي لأنه بشر رغم ما يهرفه الخارفون : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٦ : ٩١) (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) (٣٢ : ٢٤) (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (٢٣ : ٣٣) (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) (٦٤ : ٦) (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٧٤ : ٢٥)!

إن كيان محمد كرسول يحتصر فيما يوحى إليه من ربه دون استمداد بمن سواه شورا وسواه او اجتهادا من رأيه ، ف (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) فلا يتجّه في نفسه او يواجه العالمين ألّا بالوحي (قُلْ إِنَّما

٢٣٨

أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)!

ثم هذه الآية الوحيدة تحمل توحيدات عدة : ١ ـ توحيد محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في البشرية كونا وكيانا (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ٢ توحيد نبوته المحتصرة في وحي الله (يُوحى إِلَيَّ) ٣ ـ توحيد الله في كافة شؤون الالوهية : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ـ ٤ ـ توحيد اللقاء فلا يرجوا الموحد إلا لقاءه : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ـ ٥ ـ توحيد العمل في الصالح لذلك اللقاء : (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) : ـ ٦ ـ وتوحيد العبادة لله : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)!

١ ـ ف «قل إنما أنا في البشرية مثلكم» «يوحى الي». ولكن خصني بالنبوة دونكم» (١) لا أزيد ولا انقص عن نوع البشر كما يقتضيه «انما» بحصرها كيانه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في البشرية المماثلة.

٢ ـ (يُوحى إِلَيَ) وانا في النبوة كسائر من يوحى اليه مهما كانت بيننا درجات ، ليس نازلتها خارجة الوحي ، ولا عاليتها أعلى من الوحي ، وليس الوحي إلّا اتصالا علميا معرفيا وعمليا خارق العادة المستمرة بالله.

٣ ـ ومادة الوحي (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) : هي ترك الإشراك في كافة دركاته وهي هي الحجب كلها ، التي تحول دون لقاء الرب ، فاللقاء المعرفي الزلفى للرب ، ولقاء رحمات الرب ، لزامه خرق الحجب الإشراك في كافة دركات الإشراك! لترقى درجات اللقاء ، فاختراق كل دركة ارتقاء الى درجة ، كما اختلاق كل دركة تنزل عن درجة فهنالك كفر وبعد

__________________

(١) نور الثقلين في الاحتجاج للطبرسي عن أبي محمد الحسن العسكري قال قلت لابي علي بن محمد عليهما السلام ـ الى ان قال : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يعني آكل الطعام (مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) يعني : قل لهم : انا في البشرية مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم ...

٢٣٩

مطلق للمشرك والملحد المطلق ، وهنا لقاء مطلق للموحد المطلق ، وبينهما درجات بعضها فوق بعض ودركات بعضها تحت بعض.

أترى ان وحيه محتصر في (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ومن وراءه أصول أخرى وفروع؟ علّه لأنه الأصل الذي تتبناه كافة الرسالات الإلهية ، وسائر الأصول وكل الفروع تتبنى ذلك الأصل! ولأن أصل الرسالة هنا أصل موضوع «يوحى الي» ثم (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ومن ثم ثالث الأصول المعاد (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ثم الأعمال التي تنتجها الأصول (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)!

(٤) (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ)

وطالما الرب واحد ولكنما لقاء الرب درجات حسب مختلف المقامات والقابليات والفاعليات ، ف «ربه» تلمح الى مقام الملاقي الخاص به في لقائه ، و (كانَ يَرْجُوا) تضرب الى عمق الماضي المستمر ، ثم (فَلْيَعْمَلْ .. وَلا يُشْرِكْ) هما دعامتان للحصول على ما يرجوا من لقاء ربه ، والوصول إليه.

في سائر القرآن اللقاء المرجو للصالحين لقائان : لقاء الله ولقاء الرب ، سواء أكان في الدنيا والآخرة ام فيهما ، كما أن هناك لقاء في الآخرة لغير الصالحين لا يرجونه وهو الحشر إلى يوم الله وعالم الله ، ورجاء اللقاء يخص الصالحين بما قدموا من صالحات : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٩ : ٥) ولا مقابل ومضاد لرجاء اللقاء إلا الكفر به والمرية فيه وعدم رجاءه.

وآيتا رجاء اللقاء تعنيان فيما تعنيان لقاء الزلفى المعرفي في الحياتين مهما كان في الأخرى أهدى سبيلا ، كذلك ولقاء ثوابه ، دون اختصاص بالأولى وإن كانت الأخرى أنبل واجلى ، وقد تشملهما (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا

٢٤٠