الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

من الإغفال.

وقد يعني «أغفلنا» هنا كل هذه مترتبة : ان وجدنا قلبه غافلا عن عمده فلما استمر في غفلته تركناه على غفلته وحتى شرح بالكفر صدرا فطبعنا على قلبه حتى لا يسطع الرجوع عن غفلته ، إذ كان له قبل طبعه الرجوع الى ربه ثم يمدهم في طغيانهم يعمهون (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) قبل أن أغفلنا قلبه واتبع هواه من قبل ومن بعد في تزايد دركاته ، وما أجمله جمعا بين معان مترتبة يقتضيها أدب اللفظ وواقع المعنى!.

اتباع الهوى على غفلة معمّدة وامر فرط مضيع يتبعه جزاء له إقفال القلب فإغفاله فاتباع مفرط للهوى وامر فرط في اتباع الهوى! (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) (٥٨ : ١٩) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (٥٩ : ١٩)!

لا تطع ـ وان كانت رجاء لاهتدائهم ـ من غفلوا عن أنهم عبيد وهو ربهم فأغفلنا قلبه عن ذكرنا فلم يطامنوا من نخوتهم ولا خففوا من غلوائهم ، ولم يستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله العباد إلا من التقى أو هو اتقى!.

ذلك القلب المقلوب ، المليء من الشهوات والطنطنات ، في أمر إمر من فرطات ، انه ليس قلب إنسان ، بل هو مربض الحيوان ومزبل الشيطان! «لا تطع ...»

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩).

آية محكمة تحكم عرى الاختيار وتجثث جذور الإجبار «فمن شاء ..»

٨١

ومن شاء» فمشية الايمان والهدى تجلب زيادة الهدى من الله واستمراريتها : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) كما مشية اللاإيمان والردى تجلب غفلة دائبة او زيادتها باغفال من الله.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) حيث يربيكم دلالة فتوفيقا للهدى فمن شاء وتقبل الحق يثبته عليه ويزيد ، ومن لم يشاء وأعرض عن الحق يختم على قلبه ويغفله ، فانه ظالم في نكران الحق ، يظلم نفسه ويظلم الحق وأهله

ليس الحق ملكا لأحد ولا مخولا فيه لأحد حتى يجامل فيه فيماري ويداري (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)! فالحق ـ إذا ـ لا يعتز ولا ينتصر بمن لا يبغونه إلا عوجا ، وانما يعزّ وينصر من يبغونه خالصا بلا تجويز ولا تحوير ، والذي يترفع عن الذين يبغونه ناصحا ناصعا لا يرجى منه اي خير ولا لنفسه فضلا عن قبيل الايمان!.

انه لا حقّ لائقا غير زائغ ولا خليطا بغير حق إلا من ربكم ، والخطأ جائر كائن لغيره أيا كان إلا من عصمه ربه بوحيه ، فلا تطلبوا مني دخلا في حقه ولا بخلا وانحصارا في مواجهة حقه ـ وهذا ختام الكلام ومن ثم.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ..).

السرادق هو الفسطاط وسرادق النار هو زبانيتها المحيطة والمشتملة على أهلها. فلا ينجو منها ناج ولا يطلق منها عان حيث (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (١٧ : ٨) حبسا يحصرهم وطولا يقصرهم ف (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (١٠٤ : ٩) فسطاط من نار هي حصير مؤصدة : مغلقة مطبقة.

هذا وكما أحاطت بهم سرادقات نيران الشهوات وحصرتهم في دنيا الحياة فهي هي تتمثل سرادق في الحياة الاخرى.

٨٢

(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) على إياسهم من مغيث ، ولكنما الحالة تلك المزرية المضطربة قد تدعوهم أن يستغيثوا (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) : دردي الزيت المغلي (يَشْوِي الْوُجُوهَ) بمواجهته قبل شربه ، وهل يشربونه. وهو كالمهل؟ اجل (١)! لأن الإغاثة ليست فقط عرضا للماء وان لم يشربوا بل هي إشراب لهم ، ولان سرادق النار يضطرهم لشرب أيا كان (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٤ : ٤٦) (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٤٧ : ١٥) (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١٤ : ١٦)!.

(بِئْسَ الشَّرابُ) ماءه كالمهل (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) متكئا يعتمد عليه بالمرفق ، كما المرفقة هي المخدة ، وكما (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) هذا مرتفق النار ثم أهل الجنة (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وأين مرتفق من مرتفق؟!

شراب كالمهل «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٠ ح ٧٩ في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : تبدل خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب فقال له قائل : انهم يومئذ في شغل عن الاكل والشرب؟ فقال (عليه السلام) له : ان ابن آدم خلق أجوف لا بد له من الطعام والشراب ، أهم أشد شغلا ام هم في النار فقد استغاثوا (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ).

وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام ان اهل النار لما غلى الزقوم والضريع في بطونهم كغلي الحميم سألوا الشراب فأتوا بشراب غساق وصديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ وحميم يغلى به جهنم منذ خلقت كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا.

٨٣

وجهه (١) مشويّا ، حرقا من حرارته وحرقا من ثخونته ، او فضة مذابة وهي أحر وأحرى ان تشوي الوجوه (٢)!.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١).

(أَحْسَنَ عَمَلاً) لا فقط ايمانا ، وإنما عمل الايمان ، حيث ينبثق العمل من الإيمان ، لا ايمانا دون عمل ، ولا عملا دون إيمان ، وإحسان العمل هو أن يعمل الصالحات : التي تصلح انبثاقا من الايمان ، وتصلح لساحة الربوبية قولا بعمل ، وقولا وعملا بنية ، وقولا وعملا ونيته بإصابة السنة!

لا ضياع هناك في حساب الله لا ايمانا : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٣ : ١٤٣) ولا عملا (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ولا إحسانا أيا كان في عمل ام ايمان (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢ : ٩٠).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٢٠ ـ اخرج احمد وعبد بن حميد والترمذي وابو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في قوله (بِماءٍ كَالْمُهْلِ) قال : كعكر الزيت وفي تفسير القمي قال ابو عبد الله (عليه السلام) المهل الذي يبقى في اصل الزيت المغلي.

(٢) فلعل التشبيه بعكر الزيت لأنه المشهود لهم دون الفضة المذابة ، ووجه التشبيه هو الثخونة بحرارة وان كانت اكثر من الدردي بكثير ، بل ومن الفضة المذابة ايضا.

وفي الدر المنثور ٤ : ٢٢١ اخرج جماعة عن ابن مسعود انه سئل عن المهل فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب اهل النار.

٨٤

لا تجد في سائر القرآن ايمانا صالحا إلّا قرنا بعمل صالح ، كلما ازداد الايمان زاد عملا صالحا ، وكلما ازداد صالح العمل ازداد ايمانا ، جناحان متناصران في تحليق الإنسان أجواء صافية ضافية تصلح لطائره كدحا الى ربه فملاقيه!

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ) بساتين تجنّ أشجارها ارضها ، تجري من تحتهم الأنهار» تحت الأرضية ام سطح الأرضية ، فهما تحت الأشجار التي جنتهما بأرضها (يُحَلَّوْنَ فِيها) حلية الرجولة للرجال ، وحلية الأنوثة للنساء «من أساور» (١) جمع سوار : حلية المعصم ، ام : دستواره الفارسية «من ذهب» فمهما كانت هي محرّمة يوم الدنيا للرجال ولكنها حلية محلّلة يوم الأخرى ، إلّا المحرمات الذاتية التي تخرج العبد عن طور العبودية وتمس من كرامة الربوبية (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ) : مارق من ديباج و «إستبرق» : ما غلظ منه وقد حلت لهم بعد ما حرمت (٢)(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) : السرائر الاريكة (٣)(نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) خلاف ما

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١) ـ اخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : لو ان رجلا من اهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما يطمس ضوء النجوم أقول يعني شمس الآخرة ونجومها فلا يرد عليه انها مكورة او مطموسة وفيه اخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : لو ان ادنى اهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية اهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله به في الآخرة أفضل من حلية اهل الدنيا جميعا.

(٢) المصدر اخرج النسائي والحاكم عن عقبة بن عامر ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يمنع اهل الحلية والحرير ويقول : ان كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا وفيه اخرج الطيالسي والبخاري في تاريخه والنسائي والبزار وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عمر وقال قال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب اهل الجنة اخلقا تخلق ام نسجا تنسج؟ قال : بل يشقق عنها ثمر الجنة.

(٣) المصدر اخرج البيهقي في البعث عن ابن عباس قال : لا تكون اريكة حتى يكون ـ

٨٥

للظالمين في النار (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) واين مرتفق من مرتفق!

في مرتفق الجنة تنعّم حلو قرير ، وفي مرتفق النار تهكّم مرير : لأولاء نار معتدة مؤصدة في عمد ممددة ، ولهؤلاء حلية من أساور وثياب خضر من سندس وإستبرق ، أولاء يستغيثون من ظمأ النار وحريقه فيغاثون بما يزيدهم ظمأ وحريقا (بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) فكيف بالحلوق والبطون ، وهؤلاء لهم بهجة المنظر واعتدال النسيم ولهم فيها ما يشتهون نزلا من غفور رحيم!

__________________

ـ السرير في الحجلة فان كان سرير بغير حجلة لم يكن اريكة وان كانت حجلة بغير سرير لم تكن اريكة فإذا اجتمعا كانت اريكة وفيه عن الحسن قال : لم نكن ندري ما الأرائك حتى لقينا رجلا من اهل اليمن ، فأخبر ان الاريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير وأخرجه مثله عن قتادة وعكرمة.

٨٦

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ

٨٧

مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(٤٦)

٨٨

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً)(٣٣):

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) لقبيل الايمان والكفر ، أهل الجنة والنار «مثلا» يمثل حالتهم وحوارهم وجوارهم ، مبدأهم ومنتهاهم ، كنموذجين في مسرح الحياة لطغوى النفس وتقواها ، نفس فقيرة مفتقرة الى الله ، ونفس ثرية مستغنية عن الله ، هذه تذهله الثروة وتبطره النعمة فينسى نفسه وينسى الله ، وتلك مؤمنة معتزة بإيمانه ذاكرة لربه راضية بقضائه ، ماضية في قضاءه ، حيث يذكر الله ويذكر نفسه انه عبد مفتقر الى الله!

والقرآن يقص القصص الحق من حاق التأريخ وحقه قصّا صالحا عما سبق ، وتذكيرا بها صالحا فيما يلحق ، دونما اختلاف لقصص لا أثر عنها في التأريخ ، ام تاريخية لا تأثير لها تربويا في إبناء التأريخ.

وها هي قصة الجنتين ، لهما ميزات اربع تجعل لهما جمالا راقيا وثمرا رابيا :

(جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) كأنها جمع يلمح بمختلف الأعناب ، فلو لا هذه اللمحة لكانت «من عنب» جنسا ، لا جمعا : «أعناب»

(وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) حفاظا على الأعناب ، وتجميلا للجنتين ، وردفا لما يثمر كثمرها ، غذاء وإداما وشرابا ، وعلّ النخل كأعناب تعني مختلف النخل حيث تأتي مفردة : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) وجمعا : (وَالنَّخْلَ

٨٩

باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) إذا ففيهما ألوان النخل والأعناب ، حافة ومحفوفا بها ـ

٣ ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) يزيدها ثمرا وجمالا فوق جمال وثمر ، وعلّه مختلف الثمر كمختلف النخل والأعناب ، فان يكن واحدا جيء بصيغته ، حنظة او شعير أماذا؟.

٤ ـ (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) خلالا بينهما يفصلهما عن بعض ، وخلالا في كل منهما سواقي تجري من تحتهما ، كما تجري من تحت الجنة أنهار!

جنتان مثمرتان من مختلف الكروم ، محفوفتان بسياج من مختلف النخيل ، بينهما زروع ، ونهر متفجر ، ويا له من منظر بهيج وحيوية دافقة وجمال رائع ومال جامع!

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) من أعناب ونخل وزرع عدلا.

(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) لم تنقص من أكله شيئا ، حيث الظلم هو الانتقاص أيا كان ومن أيّ كان ، جمادا او نباتا أو حيوانا او إنسانا ، مهما اختلفت إرادة وشعورا ام دونهما ، اختيارا او اضطرارا ، ام بينهما كما النحل حيث تنحل بيتا وعسلا غريزيا دون اختيار تام او اضطرار!

ولكنما الجنة دون النحل اثمارا وتركا ، والظلم في الأصل من الأفعال الاختيارية القبيحة ، ولا تقبح الجنة في انتقاص الثمر أم تركه ، وانما حسن التعبير عن هذا المعنى اللااختياري ولا القبيح بالظلم حيث كان ثمر الجنة البستان كالمستحق لمالكها ، الساعي لها ، المتعب فيها ، فإذا أخذ حقه منها على كماله وتمامه حسن القول : أنها (لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) حيث لم تمنع منه مستحقه ، فتكون كالظالم إذا انتقصت من ثمرها ، ولأن الظلم أصله الانتقاص اختياريا ام دونه قبيحا ام سواه حسب اختلاف الفواعل شعورا وسواه في درجاته ، تكليفا وسواه في درجاته ، فهو إذا حقيقة ام استعارة لطيفة جميلة!

٩٠

(وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) ما يزدادها بهاء وثمرا وارتياعا!.

ومما يزيده جمالا مقابلة اللّاظلم من الجنة بالظلم من صاحب الجنة حيث ازدهى ولم يشكر وبطر فاستكبر ، وقد امتلى نفسه بالجنتين وازدهى النظر إليهما ، إحساسا بالزّهو ، وتنفشا كالديك ، واختيالا كالطاووس ، تعاليا على صاحبه وهو يجاوره ويحاوره : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أمّاذا من كلام فاض أجوف أخوف.

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)(٣٤).

(وَكانَ لَهُ) : لما جعلناه له من جنتين ـ لصاحب الجنتين ـ لا كل الجنتين ـ او للنهر «ثمر» وكلها معنية ـ وعلّ تنوين التنكير هنا تلويح لكثرة الثمر عدة وعدة ومدّة أماذا من ثمر ـ وقد تلمح «كان» بسابق الثمر زمنا متداوما ، ام وعلى أقل تقدير بوجود الثمر حينه كما (آتَتْ أُكُلَها ..).

(فَقالَ لِصاحِبِهِ) الذي يصاحبه ملكا او شغلا أما ذا من صحبة وتعارف (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) حول شؤون الحياة (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) حيث «له ثمر» (وَأَعَزُّ نَفَراً) من ولد وخدم وأعوان مناصرين لان لي مالا وثمرا! وفي الحق لقد ألهاه التكاثر في حواره هذه ، وتفخيما لجانبه وتذليلا لصاحبه ، وتغافلا عن ربه ، ظلما مثلثا يرجع الى نفسه فنكرانا للنشأة الاخرى! :

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً)(٣٦).

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) وكيف دخل؟ وكيف هي جنته وهي جنة الله حيث أعطاها إياه : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ)؟

٩١

انه دخل على رعونة وكبرياء ، وطنطنة وخيلاء ، متحسّبا أنها منه وله دون الله ، وكما قاله أخوه قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٢٨ : ٧٨) وتلك الجنة أم أي مال ومنال لأيّ كان وأيان هي من الله ابتلاء ، امتحانا او امتهانا ، فكم من كادح كثيرا لا يفيده إلّا قليلا ، وكم من كادح قليلا او مرتاح يستفيد كثيرا!.

فهي ـ إذا ـ جنته إذ جعله الله مستخلفا له فيها ردحا باختيار ، وهي جنة الله لأنها من الله فلا قوة إلّا بالله.

(دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) انتقاصا لها تناسيا عن فطرته وفكرته وعقليته تجاه ربه وهو معترف به : (لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) تأبيدا لجنته وهي بائدة فانية بعد ردح قل أو كثر (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) وماذا يعني هذا الأحمق النكد البطر من أبد جنته؟ هل البقاء دون فناء! بقوته ام قوة الله؟ والدنيا بحذافيرها دار فناء! ام البقاء ما هو باق ، وماذا الذي يضمن له ذلك البقاء ، وكم من ثراء أثرى أصبحت فناء! ام ماذا ، مما يشهد على أية حال أنه (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في قولته الخواء البتراء!.

ومن خلفيات هذا الأبد نكران الساعة : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ترى وما هي الرباط بين الأبد لهذه الجنة ونكران دار الأبد ، ان هي إلّا جنة الثراء من ثمره وجنته ، ف (هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في جنونه المعمّد المختار ، تسامحا عن عقله.

وجنّة ثالثة من جنته (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) كاحتمال أخير على بعده فما يضرني إذا حيث (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) تخيلا بخيلائه وكبريائه أنه يملك جنة الساعة باحرى من جنة هذه الساعة! وما هي الرباط بين الجنتين حيث يجعلهما في ظنه لزام بعض؟

هذه ظنة الجاهلين من أثرياء وفقراء ان من اوتي الحياة الدنيا فهو في

٩٢

الآخرة أحرى ممن لم يؤتها ، ويكأن الله يجازي ذوي الأنفة والكبرياء والثراء بما طغوا وبغوا ، يجازيهم في الأخرى ثوابا بدل العقاب ، فما أظلمه إذا من إله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)!.

يظنها الأثرياء بجنة الغرور والكبرياء ، والفقراء لظنهم أن الثراء ثواب من الله وعطاء ، إذا فلتكن الطغوى بديل التقوى يستحق بها ثواب الآخرة بعد الاولى!.

(لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وكيف وبماذا؟ ألا إنكم تملكون الأخرى كما ملكتم الاولى (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٢٨ : ٦٠)

أم لأن الله يخافكم فيفضلكم فيها كما فضّلكم ـ بحسبانكم ـ في الدنيا ـ وهو يخاف منه ولا يخاف!

ام لأنه يخلف وعده جهلا ام ظلما او عجزا أم ماذا؟ وما ذلك إلّا جهالة وجنة ممن أترفته الحياة الدنيا ، تنفّخا منها وتنفّجا فيها!.

هذه مقالة وحالة صاحب الجنة هنا ، وأما صاحبه الفقير الذي لا مال له ولا نفر ولا جنة عنده ولا ثمر ، ولكنه غني بالله ، فقير المال غني الحال ، إنه يواجه صاحبه الفقير الحال ، غني المال ، كواعظ منبّه ، تنديدا به في حواره ، وتهديدا له في بداره :

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ)(١)(وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ

__________________

(١). قوله تعالى «قالَ لَهُ صاحِبُهُ ـ ومن قبل ـ فقال لصاحبه ، حيث يعبر عن كل من الموحد والمشرك انه صاحب للآخر يدلنا على ان لفظة الصحبة والصحابة ليست لتدل على الصحبة الايمانية او الشركية ، والا لأصبح هنا المؤمن مشركا والمشرك مؤمنا ، فاستدلال إخواننا بآية الغار «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ» ان أبا بكر لكونه صاحب الرسول في الغار وليس غيره في نص القرآن فهو الصحابي المؤمن الوحيد لرسول الله ـ

٩٣

مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨).

هل أنت كافر بمثلث : (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)؟ وأنت مقرّ انه ربك (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي)!.

الصاحب المؤمن الفقير لا يهاب في حواره صاحبه الكافر النكير ، فلا يبالي مالا ولا نفرا ، ولا يداري ثراء ولا بطرا ، ولا يماري إلّا مراء ظاهرا وجدالا بالتي هي أحسن بصامد الايمان وخالص اليقين والاطمئنان ، بتنديد شديد وتبديد حديد هدم صرح كفره ، تزييفا لموقفه الكافر وتثبيتا لموقفه المؤمن : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) لا سواه من آلهة مختلفة مختلقة ، هو ربي في حلي وترحالي ، في كافة احوالي ، تتمثل ربوبيته الوحيدة فيّ على أية حال ، دون أن اوحّده في لفظة القول (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) ثم أشرك ، به في الفعل : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً) كأنه رب لربه يملكه ، دون ان يملكه ربه .. لكنا ..

(لكِنَّا ... لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) في اي مقال او حال ، في ماض او مستقبل او حال!

أترى «لكنّا» هي لكننا مخففة يعني بها قبيلة الايمان؟ وقد يصح لفظيا ومعنويا ثم يبعده «ربي»! ام هي مدغمة «لكن انا» وهو أقرب ، إعراضا عن الإنية والأنانية المشركة لمحاوره الكافر وتعريفا بكيانه كمؤمن ، ف (هُوَ

__________________

ـ إنه مخدوش بآيتي الكهف ، فالثابت من الصحبة ليس إلّا صحبته في الغار وأما الصحبة الايمانية فلا تثبتها كما قد لا تنفيها اللهم إلّا قوله تعالى : «فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ» حيث اختص سكينته بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) دونه وهو بحاجة حين يحزن الى السكينة وقد «أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (٩ : ٢٦) و (٤٨ : ٢٦)! راجع تفسير سورة الفتح من الفرقان ج : ٢٦.

٩٤

اللهُ رَبِّي) بيان واف لكيانه «أنا» واين «انا» من كافر و «انا» من مؤمن؟!

الكافر يجعل «انا» ه محورا رئيسيا وحتى لربه وكما قال (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) كأنه يملك ربه ، والمؤمن يجعل «انا» ه لا شيء إلّا ما ربّاه ربه «لكن انا» : (هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)!

هنالك ثالوث من «انا» انحسه دعوى الألوهية من غير الله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ثم دعوى الوحدة الحقيقة مع الله «انا هو وهو انا» ثم انا المحور والله الحائر حول هذا المحور ، ثالوث الانحراف والانجراف الى الإنية والأنانية.

وصالحه «أنا هو الله ربي» حيث (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) هو الأصل الأصيل ولا خبر عني «انا» إلا ما هباني ربي ، فانا صفر الوجود وهو صرف الوجود ، انا مبتدء هو مبدئه وخبره ومبتدئه ومنتهاه (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) وما أحلاه توحيدا (١).

أترى أن صاحبه كان مشركا ناكرا للمعاد لمكان الظنّة الكافرة ذات أبعاد ـ ١ ـ (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) تأبيدا للحياة الدنيا ـ ٢ ـ (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ترديدا في الحياة الآخرة ـ ٣ ـ وتنديدا بوعد الله للمؤمنين ووعيده لغير المؤمنين : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي ..)!.

أم إنه لم يكن مشركا وثنيا يعبد أصناما ، حيث المشركون ينكرون المعاد

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٢٢ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن اسماء بنت عميس قال علمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كلمات أقولهن عند الكرب «الله الله ربي لا أشرك به شيئا».

٩٥

وهو متردد (ما أَظُنُ .. وَلَئِنْ رُدِدْتُ) ولهم ارباب متعددون وهو يقول : «ربي» .. وهم بعاد عن (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) إلّا ان يؤمنوا ، وقد رجاه صاحبه ان يقوله!

فهو إذا أشرك بربه بزهوة الثراء والخيلاء كما هو للأغنياء الأغبياء ذوي الانفة والكبرياء ، (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) في تمنيه بعد الحسبان تنديد بنفسه ان حسب قوته وجنته تكفيان بقاء بادرار واستمرار لثمره من دون الله ، وهذه حالة شركية تتمثل لكل من جنّته الثراء وإن كان من الموحدين في قوله الخواء. (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.)

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ..)(٣٩)

«لو لا .. قلت : ما شاء الله كائن لا ما شئته أنا (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) دونني أنا ، فانا أنما أمشي وأمضي على هامش مشيئة الله ، دونما استقلال في نفسي ولا استغلال لمشيئة الله ، و (ما شاءَ اللهُ) تعم المشيئة التشريعية والتكوينية سواء ، لا شريك له فيهما سواء ، فلا شرعة صالحة الّا من الله ، ولا تكوين أيا كان إلّا من الله ، من خير ف «الخير كله بيديه» ومن شر ف «الشر ليس اليه» لان تكوينه ـ أيا كان ينتهي الى اذنه ، فلو لا إذنه أخيرا بعد اختيار المختار لم يحصل إذ «لا مؤثر في الوجود إلا الله» :

فانه «لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين».

ليست الاختيارية في فعل إلّا بمقدمة او مقدمات اختيارية ، لا أنه بمقدماته كلها اختيارية ، مهما اختلفت الأفعال الاختيارية ثوابا وعقابا بقلة او كثرة في مقدماتها الاختيارية والاضطرارية ، فما يشاءه الله من شر أنت تفعله باختيارك لا يصبح اضطراريا لأنه شاءه ، إذ ما شاءه إلّا بعد ما شئته ولكي لا تجبر على ترك الشر كما ولا تجبر على فعله وفعل الخير او تركه ، مهما يمتاز

٩٦

الخير بتوفيق من الله ، وليس الله بموفق شريرا في شره :

ف (ما شاءَ اللهُ) كلمة جامعة تجمع عالمي التكوين والتشريع ، إذ (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فان كل قواتك من الله ، وهي لا تكفي حولا عن معصية الله وقوة في طاعة الله إلّا بالله ، فهما بعد ان متناصران في قوة بالله ، ثم ولا تكفي فعلا لمعصية الله وتركا في طاعة الله إلّا وأخيرا بقوة الله ، فبقوته أعطاك امتحانا ما تشاء التخلف عنه ، ثم بقوة منه اخرى يشاء ما تشاء مما لا يرضاه تشريعا ، فهو تكوين في امتحان يخالف تشريعا ، ليس لأنه مغلوب في عصيانه ، بل تحقيقا لواقع الإختيار الامتحان.

وقد يعني (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) معنى «لا حول ولا قوة إلا بالله» (١) حيث القوة في ترك المعصية حول عن معصية الله ، والقوة على الطاعة قوة بالله ، ف «لا حول عن معصية الله إلا بقوة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله» (٢).

وانها باب من أبواب الجنة (٣) وكنز من كنوز الجنة (٤) ودافعة كل آفة حتى

__________________

(١) المصدر ـ اخرج ابن أبي شيبة واحمد والنسائي عن معاذ بن جبل ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ألا ادلك على باب من أبواب الجنة؟ قال : ما هو؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا حول ولا قوة الا بالله» :

(٢ ، ٢) المصدر ـ اخرج ابن مردويه والخطيب والديلمي من طرق عن ابن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : أخبرني جبرئيل ان تفسير لا حول ولا قوة الا بالله انه ... وفي معناه ما رواه في كتاب التوحيد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال : سألته عن معنى «لا حول ولا قوة الا بالله» فقال : معناه : لا حول لنا عن معصية الله الا بعون الله ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بتوفيق الله عز وجل.

(٣) المصدر ـ اخرج ابن مردويه والخطيب والديلمي من طرق عن ابن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه ـ

٩٧

تأتي المنية (١) ومبقية لكل عطية إلهية (٢) وتزجر الشياطين بها الملائكة (٣) ودواء من كل بلية (٤) مهما كانت حرقا او غرقا (٥) ام أية بلية! ف (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) و (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢ : ١٦٥) :

فليقل الموحد (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) وليفعل (ما شاءَ اللهُ ...) وليعتقد (ما شاءَ اللهُ ...)! فيصبح بكيانه ككل (ما شاءَ اللهُ ..) لا في

__________________

ـ وآله وسلم) قال : أخبرني جبرئيل ان تفسير لا حول ولا قوة الا بالله انه ... واخرج نصه او ما في معناه جماعة آخرون.

(١) المصدر اخرج ابو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن انس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ما أنعم الله على عبد نعمة في اهل او مال او ولد فيقول (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) الا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ).

(٢) المصدر اخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) «من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها فليكثر من «لا حول ولا قوة الا بالله» ثم قرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أقول وقد فسره الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) باضافة الحول كما قدمناه وهنا وقبله يستدل لها بالآية وليس فيها «حول».

(٣) نور الثقلين ٣ : ٢٦١ ج ٨٥ في محاسن البرقي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال قال لي : إذا خرجت من منزلك في سفر او حضر فقل : بسم الله آمنت بالله توكلت على الله ، ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله ، فتلقاه الشياطين فتضرب الملائكة وجوهها وتقول : ما سبيلكم عليه وقد سمى الله وآمن به وتوكل على الله وقال «ما شاء الله ولا قوة الا بالله»؟!.

(٤) الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) «ولا حول ولا قوة بالله» دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم.

(٥) نور الثقلين ٣ : ٢٦٠ ج ٨٤ في تهذيب الأحكام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اربع لأربع ـ الى قوله : والثالثة للحرق والغرق : ما شاء الله ولا قوة الا بالله وذلك انه يقول (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) ـ أقول ـ وقد أحرقت جنته بحصبان من السماء فأصبحت صعيدا زلقا.

٩٨

لفظة القول دون فعل واعتقاد ام وفي اي منهما ام فيهما دون لفظة القول.

أنت وكل فاعل مختار انما تعمل بقوة الله ، منك المشية والإختيار وتقديم ما عندك من طاقات وامكانيات ، ومن الله التوفيق بإزالة الموانع وتهيئة ما لا تسطع من الأسباب ف «لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين»!.

(.. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)(٤١)

لك جنة قد يرسل عليها ربي حسبانا (١) من السماء خلاف حسبانك فيها : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً)! ولي جنة خير من جنتك هي لا تبيد أبدا ولا يرسل ربي عليها حسبانا من السماء إلّا رحمة متواصلة ورضوانا ، فأين جنة من جنة ، واين عقلية ايمان وجنة؟:

و «عسى» هنا ترجّ دون تردد تادبا أمام وعد الله الحق ، علّه يؤهل له! أنا هنا اقل منك مالا وولدا وهنالك في يوم الله أكثر بل ليس لك هنالك إلّا حسبان بدل الجنة والرضوان ، وأنت هنا اكثر مني مالا وولدا قد يرسل عليها حسبان كما لك هنالك حسبان ، واين حسبان من رضوان.

جنتك قد تصبح بكفرانك صعيدا زلقا : لا ماء فيها ولا كلاء (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)!

__________________

(١). الحسبان هو الحساب وهو هنا ما يحاسب عليه فيجازي وهو الظن ، فالحسبان الاول في المتن هو الثاني والثاني ، هو الثالث ، فقد يكون عذابا بحسبان او رحمة بحسبان فليس الحسبان إذا ـ فقط ـ حسبان العذاب.

٩٩

فقد تصطدم الجنة ببرودة ام حرارة زائدة فتيبس ثم تجبر حيث تعمّر ، ولكنما الحسبان من السماء يجعلها غير قابلة الزرع والإنماء ـ إذ «تصبح (صَعِيداً زَلَقاً) : دحضا لا نبات فيه.

ام قد يقل الماء المتفجر ام يسد بسدات تحت الأرضية فيرجع بالتنقية ، ولكنما الغور إبعاد له أو إفناء (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)!.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً)(٤٢).

لقد حصل فعلا ما أنذره صاحبه حيث (أُحِيطَ بِثَمَرِهِ) بما أحاط الله ثمره بحسبان من السماء إمّا ذا ، فاستأصل ثمره (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) وقد تكون هذه الاحاطة السماوية من كل الجوانب كالبحرية : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ..) (١٠ : ٢٢) والإصابة المحيطة هي التي لا منفذ عنها ولا مخلص منها : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) : صمر مدمر من كل جانب وكأنه لم يكن له ثمر ، حيث لم يبق له أثر إلّا (صَعِيداً زَلَقاً) و (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) كناية عن الإنفاق النادم حيث تهدّر دون اي ثمر «وهي» الجنة (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) مهشمة محطمة تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا «وهو يقلب كفيه» أسفا على ماله الضائع بحاله الضائعه (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) ولات حين مناص وفرار عما قدّمه ، ومن ورائه جهنم وبئس القرار! ترى ولماذا أصبحت الجنتان في سرد القصة كأنهما جنة واحدة : آتت ـ أكلها ـ لم تظلم ـ جنته ـ هذه ـ منها ـ جنتك ـ من جنتك ـ عليها ـ فتصبح ـ ماءها ـ فيها ـ عروشها ـ؟

علهما لأنهما أصبحتا كجنة واحدة لمكان زرع بينهما كما فيهما مهما فصل بينهما جدار من نخل ، فدخوله في قسم منها دخول فيهما ، أو أنه دخلهما.

١٠٠