الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

وترى (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) تسلب عنه ـ وبأحرى ممن سواه ـ الإختيار في جلب النفع وسلب الضر؟ كلّا لمكان (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) حيث تثبت له ملكا للنفع والضر بمشيئة الله ، وهي عبارة أخرى عن الأمر بين أمرين ، فنحن لا نملك نفعا ولا ضرا مستقلين عن إرادة الله ، والله لا ينزّل علينا نفعا ولا ضرا دون عمل ومحاولة منا اللهم إلا ما لا يحصل بعمل وما أشبه ، فقد يشاء الله ما نشاء حسب الصالح من حكمته تعالى وتقدس ف ـ (ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وما أشبه دليل واقع المشية منا في خير أو شر ، ولكنها مربوطة بإذن الله.

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فقد انحصر كياني في هذه السلبية والإيجابية الرساليتين في حقل رسالتي من الله ، دون أية ولاية تكوينية أو تشريعية ، ولا أي علم لا تقتضيه الرسالة الربانية لزاما أو رجحانا.

ذلك ، وقد يروى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله : «والله ما أدري وأنا رسول ما يفعل بي» نسخة طبق الأصل : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٦ : ٩).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ليَسْكُنَ إليهَا فَلَمَّا تَغَشَّاها

حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَماّ اَثْقَلَتْ دَعَوُا اللهَ

٨١

رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا

٨٢

وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١٩٨)

هذه الآيات هي قبل صحيح التأمل فيها قد تكون متسرّبا لوثنيات مفتريات على أبينا الأول أول المرسلين المعصومين سلام الله عليهم أجمعين ، لحد يختلق عن خاتم المرسلين (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «خدعهما مرتين» (١) يعني الشيطان ، فالخدعة الأولى حيث أضلهما في الجنة وجاه الشجرة المنهية ، والثانية لما (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) كما هنا!!

ذلك رغم أن الله اجتباه بعد ما هبط إلى الأرض ، وكيف يقع اجتباءه على من يشرك به وقد علّمه الأسماء كلها؟! أجهلا بما يشرك ، أم اجتباء لمن يشرك!

فكيف بالإمكان للذي علّم الأسماء كلها ، وقد عرّفه الله الشيطان إذ هما في الجنة ، كيف له أن ينخدع مرة أخرى هي أفضح من الأولى أن يسمي بعض أولاده أسماء شركية؟ فهل ضاقت عليه الأسماء بما رحبت فلم يجد لولده اسما إلّا ما يختاره عدوه المعروف لديه؟

ذلك ، وليس في مسرح هذه الآيات ذكر من الشيطان ، ولو كان هو المقصود من (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) لكان النص «جعلا له شريكا» لوحدة هذا الشيطان ، ثم (ما لا يَخْلُقُ) كان «من لا يخلق» اعتبارا بأن الشيطان من ذوي العقول.

وبعد ذلك كله فضمائر الجمع التي هي هنا بضع وعشرون وفي

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٥ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : ولد لآدم ولد فسماه عبد الله فأتاهما إبليس ما سميتما ابنكما هذا؟ قال : عبد الله ، وكان ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فقال إبليس : أتظنان أن الله تارك عبده عند كما والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمّياه عبد شمس فسمّياه فذلك قوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا الشمس لا تخلق شيئا إنما هي مخلوقة ، قال وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : خدعهما مرتين.

٨٣

أفعال مستقبلة! لا تناسب خصوص أبوينا الأولين ، فلو كانا هما المقصودين لكان حق النص التثنية الماضية ، لا سيما وأن الحق في اجتثاث جذور الوثنية عن بكرتها منذ بزوغها أن يركز على أول المشركين ، فلو كان أبوانا هما اللذان أشركا بالله قبل كل المشركين! لكان الحق تركيز الضمائر في ذلك التنديد المديد عليهما ، دون أولادهما اللذين لم يولدوا بعد والذي ولد لمّا يبلغ الحلم حتى يكلّف فيندّد بشركه.

ذلك خلاف ما يروى أنه بعد مرات عدة لم تكن زوجه موفقة حيث ولدت ناقصا لا يعيش (١)! فإنها من الإسرائيليات المسيحية والمسيحيات الإسرائيلية التي تلقي كل عصان على آدم وزوجه ، وهنا «مرت به» أي الحمل ، هو المرور كعادة بلا ثقل حيث لا تحس ذلك الحمل.

فالعلاقة الأولية بين الزوج ومسكنه هي التغشي حبا وشهوة وإنجابا للمماثل ، والتغشي هو أحسن تعبير عن ذلك اللقاء اللقاح حيث يغشى كيانها ككل فتحشر فيه بكلها روحا وجسما ، فهو التقاء روحين بجسدين وجسدين بروحين ، كما الزواج هو الالتقاء المثنّى وأهمها الروح إذ هو الذي يدرك المسكن ، وهذه صورة إنسانية في تلك المباشرة بعيدة عن الحيوانية الخالصة الكالسة الفالسة ، قريبة إلى الإنسانية الصالحة ، إنجابا لصالح.

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) بحملها (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) الذي رباهما وحملها (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) يصلح للحياة الإنسانية (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) المخلصين لك الدين.

فقد تبين الحمل وتعلقت به قلوبهما وجاء دور الأطماع فيه ، المختصرة في صيغة (صالحا) وهو الصلاح الظاهر عند الولادة لمكان (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) حيث الصلاح الظاهر عند الولادة ليس إلا الظاهر في

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥١ عن سمرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره.

٨٤

الحياة الإنسانية ، دون الباطن الذي لا يظهر إلّا عند بلوغ الحلم ، لا سيما وأن الطبيعة الإنسانية المائلة إلى الإشراك لا تنحو نحو صلاح الباطن.

فهذه قصة واقعية عامة بين بني الإنسان تصويرا لمدارج الانحراف في النفس الإنساني من معارج الفطرة التي فطرهم الله عليها :

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) يعيش عيشة صالحة (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهنا «شركاء» دون «شريك» لا ينطبق على الشيطان ، كما أن «يشركون» جمعا لا ينطبق عليهما ، إذا فهما كل أبوين من هذا النسل ، أنهما عند اثقالها يدعوان الله (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ولكنهما ينسيان صالح ما آتاهما الله إلى طالح الإشراك به حيث (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) إذ يخيل إليهما أن لغير الله مدخلا في صالح الولد.

وهذه طبيعة الإنسان الغفلان النسيان إلّا من هداه الله ووقاه ، تخلفا عما فطره الله عليه كما ويكرر قصّ ذلك التخلف في القرآن بصورة عدة : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠ :) ١٢) ـ (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣١ : ٣٢) (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٤).

وهكذا ينقطع الإنسان فطريا إلى ربه حين تنقطع الأسباب التي كان يعيشها ، فلما كشف عنه ضره رجع إلى نفس الأسباب معتبرا إياها كأنها الكاشفة له ضره ، فقد يمرض مرضا هالكا فلا ينفعه أي طبيب ولا دواء ، فلمّا يعافى ينسب عافيته إلى كل شيء إلّا الله!

هذا ، والقول إن «يشركون» وما أشبه جمعا لا ينافي تثنية الأبوين ، فإن دأب القرآن الدائب هو التعميم بعد التخصيص إعطاء للضابطة ، مردود

٨٥

بظاهر الجمع الراجع إلى صاحبي القصة ، إلّا إذا دلت قرينة كما فيما تقولون ، ولو كانت هنا قرينة كسائر الموارد ف (نَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ لأقل تقدير ـ لا تعني ـ فقط ـ آدم (عليه السلام) مهما كان محتملا ، ولكن الاحتمال ليس بناء الاستدلال ، ففرية الإشراك على أبوينا الأولين لا سناد لها هنا ، والأسناد القرآنية الأخرى تترى على أنهما كانا موحدين ، مهما عصيا في الجنة : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢٢) وكيف يقع اجتباء الله على من يشرك بالله فيما يعلم منه و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ولا يلمح القرآن بعد عصيان آدم في الجنة أية لمحة لتخلف منه صغير طيلة حياته وهو رسول ، فضلا عن هكذا الإشراك بالله ، وعوذا بالله من هذه المختلقات الزور الغرور التي يزوّرها لأهليها الغرور ، (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ) لهم (شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) إشراكا به في صالح ما آتاهم من ولد؟ (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)؟

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) وهنا الخطاب الجمع برهان آخر مع عساكر البراهين الأخرى أن التنديد غير وارد على أبوينا الأولين (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أنتم المشركون على مدار الزمن (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) فهؤلاء الذين تدعونهم من دون الله من حي وميت هم في ضلال لا يهتدون فكيف يتخذون شركاء لله (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٠ : ٣٥)!.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أيا كانوا وحتى الملائكة والنبيين هم «عباد» لله (أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنهم ليسوا أمثالكم بل هم آلهة كما الله.

«ألهم» أولاء الأموات منهم الذين تعبدونهم (أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) وحتى الذين لهم أرجل وأيد طائلة وأعين مبصرة وآذان سامعة ، لا يستطيعون نصركم بل ولا أنفسهم ينصرون.

٨٦

ذلك ، فاحتمال أن النفس الواحدة هنا أبو البشر ، فضلا عن ظهور الآية أو صراحتها فيه كما الخصم يدعيه لا يأتي بشيء ينال من كرامة آدم (عليه السلام) إلّا باحتمالات أخرى لو ثبت :

الأول : رجوع ضمير الغائب في «ليسكن» و «تغشاها» إلى خصوص النفس الواحدة هذه ، وهو خلاف الأدب الفصيح والصحيح أن يرجع الضمير المذكر إلى مرجع مؤنث هو (نَفْسٍ واحِدَةٍ) فالصحيح هنا لو عنيت نفس النفس الواحدة (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) و (فَلَمَّا تَغَشَّاها) بضميري التأنيث كما في ضميري (مِنْها زَوْجَها) حيث هما راجعان إلى (نَفْسٍ واحِدَةٍ) وفقا لتأنيثها ، إذا فلا تعني «ليسكن وتغشى» إلّا جنس النفس الواحدة من ذكور بني الإنسان دون شخصها ، وليس من المحتمل رجوع ضمير المذكر هنا إلى «زوجها» لأنوثتها الحقيقية ، ولأن الزوج هو الذي يسكن إلى زوجته من الأتعاب كما (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) (٣٠ : ٢١).

الثاني : أن تعني «شركاء» شخص إبليس حسب الرواية المختلقة ، والجمع لا يناسبه ، فهم ـ إذا ـ الشركاء المعبودون لجنس بني الإنسان.

الثالث : رجوع ضمير الجمع في «يشركون» وما أشبه من بضع وعشرين إلى خصوص آدم وزوجه والفصيح الصحيح رجوعه إلى الجمع دون المثنى ، إضافة إلى استقبال تلكم الجموع ، والمثنى ماض فقد رجع الضمير المفرد الغائب في «ليسكن وتغشاها» إلى نوع مرجعه وهو كل ذكر من ذلك النوع لا شخصه ، استخداما لطيفا في ذلك الإرجاع.

وهكذا ترجع ضمائر الجمع أيضا من «يشركون» وما أشبه إلى جمع الأزواج من نوع الإنسان ، أي يشركون هؤلاء الأزواج ، استخداما لطيفا حيث هو من المجازات الحسنة اللطيفة.

ثم من قال لكم ـ بعد ـ إن (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هنا هي شخص آدم إلّا على وجه أن «من» في (مِنْها زَوْجَها) نشوية لا جنسية ، والجنسية هي المعنية هنا للذكورة في «ليسكن وتغشاها» والجمعية في بضع وعشرين ،

٨٧

فلا تدل الآية على ما تستدل به الجمعية المرسلون الأمريكيون إلّا على احتمال اختصاص (نَفْسٍ واحِدَةٍ) بآدم ، ورجوع ضمير الذكورة إلى مؤنث (نَفْسٍ واحِدَةٍ) ورجوع ضمائر الجمع هنا إلى مثناهما رغم استقبال افعالها ، ثالوث من الاحتمالات التي لا تحتملها هذه الآيات ، اللهم إلا أولاها دون الأخريين.

ذلك ، فالقصة كما ترى تتحدث عن سيرة عامة لأفراد هذا النوع إلّا من رحمه الله وهداه ، أنهم مهتمون بنقض مواثيقهم وخلف مواعيدهم مع الله نقضا لنداء الفطرة والعقلية السليمة : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

والذي غفل عنه كلا الناقدين ، والموجهين للآية بوجوه غير وجيهة ولا مرضية ، هو تحسّب أن هذه الآيات عرض عن الحالة الوالدية لأبوينا الأولين ، وهي بعيدة عنها كل البعد.

ذلك لأن «خلقكم» تعم كل بني الإنسان ، و (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هنا هي الوالد لكل مولود منهم (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) قد تعني والحال انه تعالى جعل من جنسها زوجها فخلقكم منهما اعتبارا بأصالة زائدة بين الأصلين للزوج الوالد على الزوجة الوالدة ، «جعل ليسكن إليها» : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (٣٠ : ٢١) فالأصل في التقاء الزوجين هو السكن ليظل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب : فليس لمجرد اللذة ، إلا ذريعة تجذبهما إلى هذه العشرة العشيرة على أتعابها وأسغابها ، فاللذة العابرة والنزوة العارضة هما اللتان تتغلبان على كل الحوادث والكوارث في ذلك الالتقاء.

(فَلَمَّا تَغَشَّاها) جماعا (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) هو النطفة الجرثومية «فمرت به» وذلك هو الحمل الأول فهي تبين حال الأبوين من النوع الإنساني في انجابهما أولادهما باعتبار العام النوعي دون اختصاص بالأولين ، ولا جمع خاص من الأبوين ، ولا شمولهما للأولين ، حيث تعني أن كل إنسان وليد أبويه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (١٣ : ٤٩).

٨٨

والغالب على حال الأبوين ـ وهما محبان مشفقان شغفان على ولدهما ـ أن ينقطعا في أمرهم إلى الله قبل ولادهم ، دون التفات إلى تفصيل ذلك الانقطاع ، وكما ينقطع راكب البحر ـ إذا التطمت أمواجه وأخذت تلعب به ـ إلى الله ، فالإنسان في هذه الحالة المضطربة ينقطع في لب ذاته إلى ربه وإن لم يكن موحدا ولا معترفا بأصل الألوهة ، ولكنه ينسى ربه أو يتناساه بعد ما نجى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٢٩ : ٦٥).

كذلك للأبوين ـ نوعيا ـ انقطاع إلى ربهما في أمر الأولاد ، يريدان صلاح الولادة ويشترطان بطبيعة الحال أن يكونا له شاكرين ، فلما أجيبت دعوتهما إذا هما يشركان بالله وينثلان ما عاهدا عليه الله ، وهذه حالة النوع الإنساني إلّا من عصمه الله كآدم وسائر المعصومين والصالحين الموحدين على طول الخط.

إذا ففرية الشرك على أبوينا الأولين مبنية على فرية أخرى هي الخلط وعدم التناسب بين هذه الضمائر ومراجعها ، وهل ترى عاقلا منصفا يزيف المعني من مقالة صادقة لا لشيء إلا الخبط والخلط في لفظية التفسير ، كاعتبار المؤنث مذكرا في حالة ومؤنثا في أخرى ، واعتبار التثنية جمعا أو الجمع تثنية والشريك الواحد شركاء والشركاء واحدا!

وهكذا (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) نزل الكتاب هدى للصالحين وهو بنفسه دون شركاء يتولى الصالحين (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أيا كانوا (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) هؤلاء المشركون ، كمثل شركائهم (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ك ، كرسول تدعو إلى الهدى ، إنما يبصرون شركاءهم فهم عليها عاكفون.

٨٩

فهذه الآيات ـ بالرغم من روايات شيطانية (١) وتخيّلات واهية ـ لا تدل ـ ولا لمحة ـ على ما يمس من الكرامة التوحيدية لأبوينا الأولين.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٠٨ في تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن محمد بن النعمان الأحول عن بريد العجلي عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : لما علقت حوا من آدم (عليهما السلام) وتحرك ولدها في بطنها فقالت لآدم : إن في بطني شيئا يتحرك فقال لها آدم : أبشري إن الذي في بطنك نطفة مني استقرت في رحمك يخلق الله منها خلقا ليبلونا فيه فأتاها إبليس فقال لها : كيف أنتم؟ فقالت له : أما إني قد علقت وفي بطني من آدم ولد يتحرك ، فقال لها إبليس : إما إنك إن نويت أن تسميه عبد الحارث ولدتيه غلاما وبقي وعاش ، وإن لم تنوي أن تسميه عبد الحارث مات بعد ما تلدينه بستة أيام ، فوقع في نفسها مما قال لها شيء فأخبرت بما قال لها آدم فقال لها آدم : قد جاءك الخبيث لا تقبلي منه فإني أرجو أن يبقى لنا ويكون خلاف ما قال لك ووقع في نفس آدم مثل ما وقع في نفس حوا من مقالة الخبيث ، فلما وضعته لم يعش إلا ستة أيام حتى مات فقالت لآدم قد جاءك الذي قال لنا الحارث فيه ، ودخلهما من قول الخبيث ما شككهما فلم تلبث أن علقت من آدم حملا آخر فأتاها إبليس فقال لها : كيف أنتم؟ فقالت له : قد ولدت غلاما ولكنه مات يوم السادس ، فقال لها الخبيث : أما إنك لو كنت نويت أن تسميه عبد الحارث لعاش ، وان ما هو الذي في بطنك كبعض ما في بطون هذه الأنغام التي بحضرتكم ، إما بقرة وإما ناقة وإما ضأن وإما معز ، فدخلها من قول الخبيث ما استمالها إلى تصديقه والركون إلى ما أخبرها الذي كان تقدم إليها في الحمل الأول ، فأخبرت بمقالته لآدم فوقع في قلبه من قول الخبيث مثل ما وقع في قلب حوا (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) أي لم تلد ناقة أو بقرة أو ضأنا أو معزا فأتاها الخبيث فقال لها : كيف أنتم؟ فقالت له : قد أثقلت وقربت ولادتي ، فقال : أما إنك ستلدين وترين من الذي في بطنك ما تكرهين ، ويدخل آدم منك ومن ولدك شيء لو قد ولدتيه ناقة أو بقرة أو ضأنا أو معزا لكان أحسن ، فاستمالها إلى طاعته والقبول لقوله ، ثم قال لها : اعلمي إن أنت نويت أن تسميه عبد الحارث وجعلت لي فيه نصيبا ولدتيه غلاما سويا وعاش وبقي لكم ، فقالت : فإني قد نويت أن أجعل لك فيه نصيبا ، فقال لها الخبيث : لا تدعين آدم حتى ينوي مثل ما نويت ويجعل لي فيه نصيبا ويسميه عبد الحارث ، فقالت له : نعم ، فأقبلت على آدم فأخبرته بمقالة الحارث وبما قال لها فوقع في قلب آدم من مقالة إبليس ما خافه فركن إلى مقاتلة إبليس وقالت حوا لآدم لئن أنت لم تنو أن تسميه عبد الحارث وتجعل للحارث فيه نصيبا لم أدعك تقرني ولا تغشاني ولم يكن بيني وبينك مودة ، فلما سمع منها آدم قال لها : أما إنك سبب المعصية ـ

٩٠

ف (نَفْسٍ واحِدَةٍ) كما تحتمل آدم (عليه السلام) حيث خلق منه الجميع برمتهم ، كذلك تحتمل كل والد من هذا النوع حيث خلق منهم المجموع ، كل من كلّ على الأبدال ، وتحتملهما ـ أيضا ـ معا ، أن خلق المجموع من نفس واحدة كما خلق الجميع من نفس واحدة ، مهما اختلف خلق عن خلق ، في تسلسل الانتشاء كما من آدم ، أم فرديته كما من كل ذكر لهذا النوع.

ثم (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) كما تحتمل أمّنا الأولى أن جعلت من أبينا خلقا منه ، ثم جعلت له زوجا ، كذلك تحتمل كافة الأمهات حيث جعلت في الخلق كالآباء في المجانسة الإنسانية المؤاتية للزواج ، وجعلت في التشريع محلّلة لذلك التزاوج.

ف «من» في الأول نشوية حيث انتشأت الأم الأولى من الأب الأول ، والجعل يعم التكوين والتشريع ، وهي في الثانية جنسية والجعل نفس الجعل حيث يعمهما.

ثم (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) الحاملة ضمير المذكر ـ كما في ـ تغشاها ـ لا تعني تغشية خاصة بأبوينا الأولين ، حيث المرجع وهو (نَفْسٍ واحِدَةٍ) تستحق أنوثة الراجع إليه قضية الأدب الصحيح أو الفصيح ، ولكيلا يشتبه

__________________

ـ الأولى وسيدليك الغرور ، قد تابعتك وأجبت إلى أن أجعل للحارث فيه نصيبا وأن أسميه عبد الحارث ، فأسرّ النية بينهما بذلك فلما وضعته سويا فرحا بذلك وأمنا ما كانا خافا من أن يكون ناقة أو بقرة أو ضأنا أو معزا وابلا أن يعيش لهما ويبقى ولا يموت يوم السادس ، فلما كان يوم السابع سمياه عبد الحارث.

أقول : هذه من الروايات الشيطانية التي اختلقها عباد الحارث ونسبوها إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وعوذا بالله من هذه الهرطقات الزور والغرور التي دسها في أحاديثنا الغرور ، نعوذ بالله منه ومن أتباعه.

ذلك ، وقد افترى مثلها على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما في الدر المنثور ٣ : ١٥١ عن سمرة بن جندب عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره. أقول : بل نفس الرواية هي من وحي الشيطان.!

٩١

أمر العناية من ذلك التغشي بما بعده من (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ).

ومن ثم (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ) تحمل الحمل الأوّل لأقل تقدير ، فلا تحمل على الحمل غير الأول كما حملتها روايات شيطانية تشيطن أبوينا في حقل الحمل!

ثم «يشركون» وما بعدها من الجموع المستقبلة لمن يشركون ، تدل بجمعيتها واستقبالها أنها ليست لتعني أبوينا الأولين ، لأنهما اثنان ماضيان دون جمع مستقبل.

كما و «شركاء» وما بعدها من الجموع لا تناسب شخص الشيطان المضلل إياهما في هذه الرواية الشيطانية.

فسواء أكانت «نفس واحدة وزوجها» هما خصوص أبوينا الأولين ، أم وبأحرى كل الآباء والأمهات ، أم المجموع من الأولين وسائر الآباء والأمهات ، ف «ليسكن ـ تغشاها» وما تتلوها من عرض لما استعرض ، لا تناسب إلّا نسل الإنسان ككلّ وبطبيعة الحال ، إلا من رحم الله.

فذلك ـ إذا ـ عرض للحالة التي عليها الأكثرية الساحقة من هذا النوع (١) ، وكما (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٠٧ في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) عند المأمون في عصمة الأنبياء عن علي بن محمد الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون يا بن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال : فما معنى قول الله عزّ وجلّ : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما)؟ قال : إن حوا ولدت لآدم خمسمائة بطن في كل بطن ذكر وأنثى وإن آدم وحوا عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا : لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين. فلما آتاهما صالحا من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة والعاهة كان ما آتاهما صنفين : صنفا ذكرانا وصنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء في ما آتاهما «ولم يشكرا» كشكر أبويهما له عزّ وجلّ ، قال الله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فقال المأمون:«أشهد أنك ابن رسول الله حقا» وفي الدر المنثور ٣ : ١٥٢ عن ابن عباس قال : «ما أشرك آدم ، إن أولها شكر وآخرها مثل ضربه لمن بعده». وفيه عن السدي في قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) هذه فصل بين آية آدم ، «خاصة في آلهة العرب» ـ

٩٢

ظَلُوماً جَهُولاً) (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) فانها وما أشبه تقرر الأصل الأكثري بطبيعة الحال لقبيل الإنسان (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) «وإلا».

فلا تعني الآية أبوينا الأولين بلا كرامة حتى في إشراك طاعة (١) فضلا عن إشراك عبادة.

فليست هذه الآيات الكريمة لتمس من كرامة أبوينا الأوّلين إلّا بتأويلات عليلة مختلقة لا تناسب أدب اللفظ ولا حدب المعنى لهذه الآيات.

وليس إقحام أمثال هذه المختلقات الزور التي دسها الغرور في رواياتنا إلا من شيطنات الشياطين ، عمدا وعلما وعنادا من الذين يعلمون ، وجهالة وحماقة من بسطاء المسلمين مؤلفين وسواهم.

فحذار حذار من تنقل هذه الروايات الشيطانية ، التي تبزر آيات من القرآن كأنها آيات شيطانية ، اللهم إلا تزييفا لها حين تنقل (٢).

__________________

ـ وفيه عن أبي مالك في الآية قال : هذه مفصولة أطاعاه في الولد (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) هذه لقوم محمد «وقال الحسن : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا ، وعنه أيضا قال : يعني بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال : هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحا هودا ونصرا».

(١) المصدر في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية قال : هو آدم وحواء وإنما كان شركهما شرك طاعة ولم يكن شرك عبادة فأنزل الله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ إلى قوله ـ (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قال : جعلا للحارث نصيبا في خلق الله ولم يكن شركاء إبليس في عباده ، ثم قال : أيشركون مالا يخلق شيئا وهم يخلقون.

(٢) ومن جراء هذه الروايات الشيطانية تؤلف كتابات شيطانية تسمي القرآن «آيات شيطانية» تناصرا من شيطانين اثنين في هذا البين ، شيطان العناد والتزييف لساحة القرآن العظيم من ملحدين ، وشيطان الحماقة ممن يتسمون مسلمين والله منهما براء على سواء ، إن لم تكن الشيطنة الثانية أشطن حيث تفسح مجالات لهذه الشيطنات ، وتخيّل إلى بسطاء المسلمين كأنها صادرة عن مصدر الوحي المعصوم!

٩٣

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

٩٤

«خذ» هنا لا تختص برسول الهدى ولا سيما (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وهو معصوم عن نزغ الشيطان فإنه من أفضل المخلصين وقد (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ :) ٨٣) ونزغ الشيطان إغواء تسمو عنه ساحة الرسالة القدسية.

إذا ف «خذ» هي لأقل تقدير تعم كافة المكلفين ، ثم يستثنى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن نزغ الشيطان.

وترى ما هو «العفو» الذي يؤمر هنا بأخذه؟ أهو ـ فقط ـ العفو عمن ظلمك؟ وصيغته الخاصة : أعف عمن ظلمك ، ولأن العفو تستعمل بمختلف المتعلّقات أم دون متعلّق ، وهي هنا طليقة عن أي تعلق ، فالقصد منها هنا كل معانيها المناسبة للأخذ : ف «عفاه» تعني قصده متناولا ما عنده ، وعفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها ، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه ، والعفو هو الزيادة كما في (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) أي الزائد عن الحاجة ، ومن العفو الوسط ، إذا ف (خُذِ الْعَفْوَ) قد تعم أخذ العفو من الأموال ، ف (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (٩ :) ١٠٣) قد تقيدها بالزكوات المفروضة المقررة بأنصبتها كضريبة مستقيمة ، ولكن (خُذِ الْعَفْوَ) تعني أخذ الزائد عن الحاجة من الأموال وهو ضريبة غير مستقيمة ، كما وتعني أخذ هذه الطريقة لنفسه أن ينفق الزائد من ماله للمحاويج.

ثم (خُذِ الْعَفْوَ) عن الناس ، أن تعفو عمن ظلمك (١) والعفو في الأمور هو الوسط فيها دون إفراط ولا تفريط. وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لما نزلت هذه الآية : أمرت أن آخذ العفو من

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٥ ، أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق وهب بن جرير عن أبيه قال : كنت جالسا عند الحسن إذ جاء رجل فقال : يا أبا سعيد ما تقول في العبد يذنب الذنب ثم يتوب؟ قال : لم يزدد بتوبته من الله إلا دنوا ، قال : ثم عاد في ذنبه ثم تاب؟ قال : لم يزدد بتوبته إلا شرفا عند الله ، قال ثم قال لي : ألم تسمع ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قلت : وما قال؟ قال :

٩٥

أخلاق الناس (١) إذ قد تعني بين الإفراط والتفريط.

ثم (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) قد تعني نفس الأمر عرفا كما الأمر بالعرف ، فليكن الأمر عرفا دون نكر ، عرفا في مادة الأمر وكيفيته ، وعرفا من الآمر أن يكون هو نفسه مؤتمرا به ثم ليكن أمرا بالعرف ، فالباء في الأولى للمصاحبة وفي الثانية للتعدية وهما معا معنيّان.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) إعراضا عن ملاحقتهم لجهلهم القاحل ، وإعراضا عن مصاحبتهم للجهل المتجاهل العارف ، وإعراضا عن إتباعهم مسايرة جهلهم ، فالجهل في مثلث التعامل تتركز عليه نقطة الإعراض ، إبرازا للمفاصلة بين غير الجاهلين والجاهلين ، ونهيا جاهرا عن منكر الجهل الجهالة.

وهنا الأخذ بالعفو الإغماض هو كأصل ما لم يعارض ملابسات تفرض عدم العفو ، كأن يعفى عن الظالم الذي يزداده العفو عتوا على المظلوم ونفورا عن العدل ، سواء كان المظلوم هو العافي فهو ظالم مرتين ، أم المطّلع على ظلم أخيه فهو ظالم مرة.

كما وأن الإعراض عن الجاهلين لا تعنى ـ فيما تعنيه ـ الإعراض عن تعليم وتأديب الجهال الذين هم في تحرّي العلم والمعرفة ، أم هم غافلون عن جهلهم أو واجب تعلمهم ، فعلى العالم أن يظهر علمه اللهم إلّا فيما يهدر أو يهدّر فإنه ـ إذا ـ ظلم بالعلم ورعيله.

ومن الترتيب التربوي بين هذه الثلاثة أن الأصل الأوّل هو الأخذ بالعفو مالا وحالا وأعمالا في نفسك وذويك وسائر الناس ، ومن العفو في

__________________

(١) المصدر ـ أخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن إبراهيم بن أدهم قال : لما أنزل الله وفي نور الثقلين ٢ : ١١١ في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ان الله أدب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : «يا محمد خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين» قال : خذ منهم ما ظهر وما تيسر والعفو الوسط.

٩٦

الدعوة هو الوسط بين الإفراط والتفريط ، فإذا تخلف متخلف بعد بلوغ الحجة ف (أْمُرْ بِالْعُرْفِ) ثم إذا جهل جاهل إصرارا على جهله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

وهكذا يصدق المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (١).

فهنا في ختام السورة يؤمر صاحب الدعوة بمن معه ـ وهم بعد في مكة ـ أن يواجهوا تلك الجاهلية العريقة الحميقة بكل سماحة ويسر ، أخذا بالعفو الميسّر ورفضا لكل معسّر إلّا إذا لزم الأمر كما في حقل النهي والأمر ، تغاضيا عما يقبل في عشرة الناس ، دونما تنازل عما قرره الله من شرعته حيث لا تقبل التنازل كما ليس فيها تعاضل.

فالأعضاء عن الضعف البشري ، والعطف عليه ، والسماح معه ، كل ذلك واجب الداعية ، فالتعامل مع مختلف النفوس البشرية بغية هداها يقتضي رحابة صدر وسماحة طبع ، في غير تهاون ولا تفريط في شرعة الله.

ثم الأمر بالعرف هو عرف ذلك الأمر في شرعة الله ، والعرف المأمور به هو المعروف لدى الفطرة والعقلية الإنسانية والشرعة الربانية ، معروفا لا ينكر ولا يتنكر ، وهذه هي الخطوة الأولى في حقل الأمر ، ومن ثم خطوات

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٤ ـ أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين؟ قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نعم قال : تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك ، أقول وقد تظافرت الروايات عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال مقالته تلك بعد نزول هذه الآية وبمناسبتها.

وفي نور الثقلين ٢ : ١١١ في عيون الأخبار باسناده إلى الحارث بن الولهاث مولى الرضا (عليه السلام) قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول : لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال سنة من ربه وسنة من نبيه وسنة من وليه ـ إلى قوله : وأما السنة من نبيه فمداراة الناس فإن الله أمر نبيه بمداراة الناس فقال : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.

٩٧

أخرى إلى أعراف أخرى تلحقها.

ثم الإعراض عن الجاهلين في حقلي الأخذ بالعفو والأمر بالعرف ، ومن الإعراض عنهم هو الإعراض عن عفوهم إلى مجازاتهم ، والإعراض عن أمرهم إلى إلزامهم.

ذلك ، وتعريفا بالجاهلية عن لسان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «الناس معادن ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (١) و «كل دم ومال كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين» (٢) و «كل ربا في الجاهلية موضوع» (٣) و «كل دين في الجاهلية موضوع» (٤) و «دعوى الجاهلية حرام» (٥).

وقد يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله : مثل المؤمن مثل السنبلة تميل أحيانا وتستقيم أحيانا وفي ذلك تكبر فإذا صدها صاحبها حمد أمره كما حمد صاحب السنبلة بره ثم قرء هذه الآية (٦).

ف احذروا أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة عن بخ ـ ك ٦١ ب ١ ، مس ـ ك ٤٣ ح ١٦٨ ، ك ٤٤ ح ١٤٩ مى ـ المقدمة ب ٢٣ ، حم ـ ثان ص ٦٥٧ و ٢٦٠ و ٣٩١ و ٤٣١ و ٤٣٨ و ٤٨٥ ٣ و ٤٩٨ و ٥٢٤ و ٥٣٩ ، ثالث ص ٣٦٧ و ٣٨٣ ، رابع ص ١٠١ ط ـ ح ٢٤٧٦ قا ، قد ـ ص ٤٢٤.

(٢) المصدر عن بد ـ ك ٣٨ ب ١٧ و ٢٤ ، تر ـ ك ٤٤ سورة ٩ ح ٢ ، مج ـ ك ٢١ ب ٥ حم ـ ثان ص ١١ و ١٠٣ و ١٨٧ و ١٨٧ و ٢٠٧ ، رابع ص ٣٢ ، خامس ص ٧٢ و ٤١١ ، ط ـ خ ٢٢٧ هش ـ ص ٦٩٨ ، قد ـ ص ٣٣٨.

(٣) المصدر عن بد ـ ك ٢٢ ب ٥ ، مى ـ ك ١٨ ب ٣.

(٤) المصدر عن حم ـ ثان ص ١٠٣.

(٥) المصدر عن بخ ـ ك ٢٣ ب ٣٦ و ٣٩ و ٤٠ ، ك ٦١ ب ٨ ، ك ٦٥ سورة ٦٣ ب ٥ ، حم ـ ثالث ص ٣٣٨ و ٣٨٥ و ٣٩٢ ، رابع ص ١٣٠ و ٢٠٢ ، خامس ص ٣٤٤ ، ط ـ ح ١١٦٢.

(٦) الدر المنثور ٣ : ١٥٤ ـ أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزلت «خذ العفو» قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): وفيه عن ابن مسعود عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه.

٩٨

وحذركموها في كتابه الصادق بالبيان الناطق فلا تأمنوا مكر الله وتحذيره عند ما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا فإن الله عزّ وجلّ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) فأشعروا قلوبكم خوف الله وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه كما قد خوفكم من شديد العقاب (١)

ذلك! ومن الجاهلين الماحلين الذين يحسبونهم عارفين فالحين من يصفهم الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في عظة له :

لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ، ويرجئ التوبة بطول الأمل ، يقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين ، إن أعطي منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع ، يعجز عن شكر ما أوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، ينهى ولا ينتهي ، ويأمر بما لا يأتي ، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم ، ويبغض المذنبين وهو أحدهم ، يكره الموت لكثرة ذنوبه ، ويقيم ما يكره الموت له ، إن سقم ظل نادما ، وإن صح امن لاهيا ، يعجب بنفسه إذا عوفي ، ويقنط إذا أبتلي ، إن أصابه بلاء دعى مضطرا ، وان ناله رجاء أعرض مغترّا ، تغلبه نفسه على ما يظن ، ولا يغلبها على ما يستيقن ، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله ، إن استغنى بطر وفتن ، وإن افتقر قنط ووهن ، يقصّر إذا عمل ، ويبالغ إذا سأل ، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية ، وسوّف التوبة ، وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة ، يصف العبرة ولا يعتبر ، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ ، فهو بالقول مدلّ ، ومن العمل مقلّ ، ينافس

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١١٢ في روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ والزهد في الدنيا يقول فيه : وفيه عن الخصال عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : ثلاثة من أشد ما عمل : إنصاف المؤمن نفسه ومواساة المؤاخاة وذكر الله على كل حال وهو أن يذكر الله عند المعصية وهو قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : وفيه عن الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ : «إذا مسهم» قال : هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك فلذلك قوله : (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).

٩٩

فيما يفنى ، ويسامح فيما يبقى ، يرى الغنم مغرما والغرم مغنما ، يخشى الموت ولا يبادر الفوت ، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه ، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره ، فهو على الناس طاعن ، ولنفسه مداهن ، اللغو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقهاء ، يحكم على غيره لنفسه ، ولا يحكم عليها لغيره ، ويرشد غيره ويغوي نفسه ، فهو يطاع ويعصي ، ويستوفي ولا يوفي ، ويخشى الخلق في غير ربه ، ولا يخشى ربه في خلقه (الحكمة ١٤٣).

وهنا يقول رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم): «كيف يا رب والغضب»؟ غضبي عليهم لعنادهم وغضبهم علي حيث أدعوهم وآمرهم وأنهاهم خلاف أهواءهم ، فيجاب :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٠٠).

النزغ هو دخول في أمر لإفساده ، وهكذا يتدخل الشيطان في صالح أمورنا لإفسادها ، ومنه تدخّله في هذه المكارم الأخلاقية والعلاج بعد كلّ القدرات المقاومة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ليعيذك من نزغ الشيطان ، ولا بد فيها من قال مع حال وأعمال لمكان (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فهو «سميع» لقالات المستعيذين ، «عليم» حالاتهم وفعالاتهم المستعيذة ، كما هو (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قالات وفعالات المتخلفين عن شرعة الله.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(٢٠١).

مسّ طائف من الشيطان يعمي على الممسوس طريقه ، فإذا تذكروا فإذا هم مبصرون والمس هنا مس للصدر فالقلب وما قبلهما من الفطرة والعقلية وما بعدهما من اللب والفؤاد حيث الشياطين يطوفون على كل مواضع اليقظة تعمية لها ، إلّا (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١٦ : ٩٩) استعاذة وسواها (١).

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(٢٠٢).

__________________

(١). تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٩٦ وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : ...

١٠٠