الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣)

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٥١).

هنا ملائكة العذاب يتوفون الذين كفروا ، وهناك ملائكة الرحمة يتوفون الذين آمنوا : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦ : ٣٢).

ثم وملائكة العذاب والرحمة يرأسهم كلهم ملك الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٣٢ : ١١) ومن فوقهم كلهم هو الله ، ف (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٣٩ : ٤٢).

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٢٨).

وهنا ضرب الوجوه استقبال لهم بذوق من عذاب البرزخ ، وضرب أدبارهم استدبار بآخر منه ، فهم بين الدنيا والبرزخ يدفعون إلى الموت بضرب الأدبار ، ويستقبلون فيه بضرب الوجوه ، فإنهم أدبروا عن الحياة الأخرى واتجهوا ـ فقط ـ إلى الحياة الدنيا ، فيقال لهم بعد الضربتين : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) مما يدل ـ كما في عشرات من الآيات ـ على الحياة البرزخية ، إذ لا مجال ـ إذا ـ ل «ذوقوا» إلّا إذا كان عذاب الحريق حاضرا ، و «ذلك» الثالوث من عذاب الوجوه والأدبار وعذاب الحريق (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من مستحق العذاب (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

وهنا «الذين كفروا» كمصداق حاضر ، هم المشركون في بدر حيث ضربتهم الملائكة فتوفتهم ، وقد يروى أن رجلا قال للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضرب فندر ـ سقط ـ رأسه ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : سبقك إليه الملائكة (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٦٢ عن مجمع البيان روى مجاهد أن رجلا.

٢٦١

ولماذا (لَيْسَ بِظَلَّامٍ) وهو ليس ظالما أبدا؟ علّه لكي يستأصل خرافة الجبر ، أم وزيادة العذاب على المستحق فإنه ظلّامية في التعذيب ، ولأنه (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) فليس بظالم كما ليس بظلام للعبيد.

وترى «لو ترى» تمنيا لرؤيته (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذلك المرئى ، أليس يجعل الله متمنيا والرسول غائبا عن ذلك المرئى؟ إن غياب الرسول عن ذلك المرئى كسائر الغيّب ليس عليه عيبا حيث الضابطة له (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) اللهم إلا ما يظهره عليه ربه ، ثم «لو ترى» من الله بيان لموقف التمني ، أنه مكانه ومجاله أن يرى الرسول إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة دون واقعه من الله.

وهكذا يكون دور الذين كفروا في مصيرهم لمسيرهم بما قدمت أيديهم ، فهم كما يصفهم :

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٥٢).

دأبان اثنان : دأبهم أنفسهم في الكفر فإضافة إلى الفاعل ، ودأب الله في جزاءهم الوفاق فإضافة إلى المفعول.

الدأب هو العادة المتعود عليها والسنة السائرة ، وهنا (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) دأب الذين كفروا ككل في أخذهم بذنوبهم ، (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) وهم فرعون وأتباعه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من فراعنة التاريخ ونماردته (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) آفاقية وأنفسية ، تكوينية وتشريعية (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) هنا وفي الأخرى ، برزخا وأخرى (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) في موضع النكال والنقمة كما هو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة.

ومن إمام المتقين علي أمير المؤمنين (عليه السلام):

«سبحانك خالقا ومعبودا بحسن بلاءك عند خلقك ، خلقت دارا ، وجعلت فيها مأدبة : مشربا ومطعما وأزواجا وخدما وقصورا وأنهارا وزروعا وثمارا ـ

ثم أرسلت داعيا يدعوا إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغّبت إليه رغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا ـ

٢٦٢

أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئا أعمى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولّهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولما في يده شيء منها ، حيثما زال زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا ينزجر من الله بزاجر ، ولا يتعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغرّة ـ حيث لا إقالة لهم ولا رجعة ـ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءتهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون ـ

فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففرّت لها أطرافهم ، وتغيرت لها ألوانهم ، ثم ازداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ، ينظر ببصره ويسمع بأذنه على صحة من عقله وبقاء من لبّه ، يفكر فيم أفنى عمره وفيم أذهب دهره ، ويتذكر أموالا جمعها ، أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرّحاتها ومتشابهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره ، والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعض يده ندامة على ما أضحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ، يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه ، يردد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم ، ثم ازداد الموت التياطا ، فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قربه ، لا يسعد باكيا ، ولا يجيب داعيا ، ثم حملوه إلى محط في الأرض فأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته» (الخطبة ١٠٨).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٥٣).

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ

٢٦٣

ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١٣ : ١١).

فحين يغيّر المنعمون ما بأنفسهم وجاه الله ووجاه نعم الله ، تبديلا للنّعمة نعمة ، فقد يغير الله تلك النعمة نقمة ، فالنعمة ابتلاء ، إذا صرفت في مرضات الله ازدادت ونمت ، وإذا صرفت عن مرضات الله فندت ونفت (أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ذلك وإن الله قضى قضاء حتما ألا ينعم على العبد فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة (١) «وليس شيء أدعى إلى تغيير نعم الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد» (٢) ف «إياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها» (٣).

وليس فقط أن الله يغير النعمة نقمة إذا غيروا ما بأنفسهم كفرانا لنعمة ، بل ويغير النقمة نعمة إذا غيروا ما بأنفسهم شكرانا لنعمة أم جبرانا لكفران ، وأين غيار من غيار ، شرّ إلى خير جزاء وفاقا (٤).

فقد يملك الإنسان أن يستجلب نعمة الله لنفسه أو يستبقيها ويستزيدها

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٦٣ في أصول الكافي عن أبي عمرو المدايني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : ...

(٢ ـ ٣). نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٤) المصدر عن الكافي عن الجزري قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : إن الله عزّ وجلّ بعث نبيا من أنبياءه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك أنه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون ... وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما دام العبد يعرف نعم الله عنده فإن الله لا ينزع منه نعمة حتى إذا جهل النعمة ولم يشكر الله عليها إذ ذاك حري أن ينزع منه» (مجلة الفرقان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٨٩).

٢٦٤

إذا هو عرف وشكر ، كما يملك أن يزيلها عن نفسه أو ينقصها إذا هو أنكر ويطر ، وانحرفت نواياه فانجرفت خطاه.

فهنا نعم أنفسية هي الفطرة والعقلية الإنسانية والحس السليم والقلب السليم كما خلق الله ، فحين يغيّر هذه النعم الأنفسية إلى عليين فالله يغيرها إليه وأعلى مما يعنيه ، ويزداده نعما آفاقية تكوينية وتشريعية ، وإذا كانت له نعم آفاقية فغيّر ما بنفسه من نعمة ازداده الله فيها ، ويعاكسه إذا غير ما بنفسه إلى سفل فهو يسفله ويرذله كما فعل ، ومن ذلك الختم على القلوب والغشاوة على السمع والأبصار (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

وهذه سنة دائبة عادلة في التعامل بين الإنسان ونفسه وربه ونعمه ، حيث تنعكس عليه بكل خير أو شر في الأولى ثم الأخرى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

وتلك الضابطة الثابتة حقيقة كبيرة حقيقة بالتأمل التام في كافة الحقول الحيوية ، جانب عظيم من التصور القرآني لحقيقة الإنسان ، يبين تقديره عند العظيم القدير بذلك التدبير العادل الجدير ، وكما يبين فاعلية الإنسان بقابليته في مصير نفسه ومصير الأحداث حيث يبدو الإنسان من خلال كل المساير والمصاير عنصرا إيجابيا في صياغة ذلك المصير بإذن الله وتقديره وتقريره لكل مسير ومصير من خلال حركته الصالحة والطالحة على ضوء نيته وشاكلته.

فقد تنتفي عنه بذلك تلك السلبية الذليلة المفروضة عليه من المذاهب المادية ، حيث تتصوره وتصوره عنصرا سلبيا إزاء الحتميات الجبارة المتخيلة ، كحتمية الإقتصاد والتاريخ والتطور وما أشبه من سائر الحتميات المختلقة التي ليس للإنسان إزاءها حول ولا قوة ، فلا يملك أمامها إلا الخضوع الطليق كالرقيق ، ضائعا خائفا ذليلا ساقطا إلى مهوى سحيق.

وهكذا نتعرف إلى الإنسان أنه هو الذي يصنع التاريخ دون جبر ولا تفويض ، وإنما هو أمر بين أمرين أمرّين (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) قالاتهم «عليم» حاجياتهم.

ذلك ، ومن أنعم النعم الربانية نعمة القرآن العظيم والذكر الحكيم ،

٢٦٥

فلما غيرنا ما بأنفسنا وجاه القرآن فنبذناه وراءنا ظهريا ، سلب عنا التوفيق في دراسته وحراسته فأصبحنا عنه بعيدين بعد الأرض من السماء ، لحد خيل إلينا وإلى حوزاتنا بزعمائها وعلماءها أن ليس القرآن كتاب دراسة وتعلم ، فقد زين لنا الشيطان أحوالنا وأعمالنا لحد حسبنا كل دراسة حوزية هي صالحة لتبني الحوزات الإسلامية وإصلاح المسلمين إلا دراسة القرآن.

فلا وخزة أخرى ولا أخذة أقضى من رفع القرآن من بيننا ونحن أمة القرآن ، لذلك لا نجد نعمة المعرفة والإيمان بيننا الأقلة قليلة لتلك القلة العليلة أمام القرآن حيث اتخذناه مهجورا بكل مواضعه ومواضيعه اللهم إلا قراءة بأجرة ودونها على الأموات أم استخارة أم تيمنا وتبركا في الأعراس والبيوت.

وقد تناسب هذه الآية القاصعة قصعة من الخطبة القاصعة تبينا أمينا لقصص من الأمم الماضية :

«واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلاث بسوء الأفعال وذميم الأعمال ، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم ، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم ، وراحت الأعداد له عنهم ، ومدّت العافية فيه عليهم ، وانقادت النعمة له معهم ، ووصلت الكرامة حبلهم ، من الاجتناب للفرقة ، واللزوم للألفة ، والتحاضّ عليها ، والتواصي بها ، واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم ، وأوهن منّتهم ، من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصدور ، وتدابر النفوس ، وتخاذل الأيدي ـ

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلك كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدنيا حالا ، اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة ، وقهر الغلبة ، لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا إلى دفاع ، حتى إذا رأى الله سبحانه جدّ الصبر منهم على الأذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا ، فأبدلهم العز مكان الذل ، والأمن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكاما ، وأئمة أعلاما ، وقد بلغت الكرامة من الله

٢٦٦

لهم ، ما لم تذهب الآمال إليه بهم ، فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة ، والأهواء مؤتلفة ، والقلوب معتدلة ، والأيدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة ، ـ

ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين ، وملوكا على رقاب العالمين؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتت الألفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعبوا مختلفين ، وتفرقوا متحاربين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين منكم ـ

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل ، فما أشد اعتدال الأحوال ، وأقرب اشتباه الأمثال ، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم ، يختارونهم عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا إلى منابت السيح ، ومهافي الريح. ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين ، إخوان دبر ووبر ، أذل الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على غرها ، فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء أزل ، وأطباق جهل ، من بنات موءودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة ـ

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا ، فعقد بملته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت جداول نعيمها ، والتفّت الملة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعمتها غرقين ، وفي خضرة عيشها فكهين ، قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطان قاهر ، وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب ، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت ، فهم حكام على العالمين ، وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة ، ولا تقرع لهم صفاة ـ ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية ، وان الله سبحانه قد أمتن على جماعة

٢٦٧

هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنها أرجح من كل ثمن ، وأجل من كل خطرـ

واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلقون بالإسلام إلا باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه ، تقولون : النار ولا العار ، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه ، انتهاكا لحريمه ، ونقضا لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرما في أرضه ، وأمنا بين خلقه ، وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم ، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم ـ

وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه ، وأيامه ووقائعه ، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه ، وتهاونا ببطشه ، ويأسا من بأسه ، فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي ، والحلماء لترك المناهي ـ

ألا وقد قطعتم قيد الإسلام ، وعطلتم حدوده ، وأمّتم أحكامه».

«وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها ، لأن الله ليس بظلام للعبيد ، ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم ، وتزول عنهم النعم ، فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لرد عليهم كل شارد ، وأصلح لهم كل فاسد» (١٧٦) ـ و «إن لله عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد فيقرها في أيديهم ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ثم حولها إلى غيرهم» (٤٢٥ ح).

ومن ختام المسك هنا قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لبعض نساءه : «أحسني جوار نعم الله فإنها قل ما نفرت عن قوم فكادت ترجع إليهم» (١).

__________________

(١) المجازات النبوية للسيد الشريف الرضي (١٣٩).

٢٦٨

أجل ، والنعم المتفاضلة على الإنسان بمنزلة الضيف النازل والجار المجاور الذي يحب أن يعد قراه ، ويكرم مثواه ، وتصفى مشاربه ، وتؤمن مساربه ، فإن أخيف سربه ورنق شربه وضيعت قواصيه واعتميت مقاربه كان خليقا بأن ينتقل وجديرا بأن يستبدل ـ

فكذلك النعم إذا لم يجعل الشكر قرى نازلها ، والحمد مهاد منزلها ، كانت وشيكة بالانتقال ، وخليقة بالزيال.

ذلك ، وفي خبر آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أحسنوا جوار نعم الله فإنها وحشية» (١) ، وهنا يشبّه النعم بأوابد الوحش التي تقيم مع الإيناس ، وتنفر مع الإيحاس ، ويصعب رجوع شاردها إذا شرد ، ودنوّ ناخرها إذا بعد.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(٥٤).

ترى كيف يتكرر (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) بفاصل آية واحدة والمضمون نفس المضمون باختلاف يسير في تلحيقة التعبير؟

من مبررات ذلك التكرار اختلاف الموقفين كما تتكرر آية واحدة في «الرحمن» لمختلف المواقف ، ف (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) في الأولى تنظير لهم ب «الذين كفروا» و (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) حيث (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (١٧ : ١٠٣) وفي الثانية «ب (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) مع اختلاف يسير في التعبير قضية اختلاف في الموقف يسير.

ففي الأولى (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) قضية أصل الألوهية ، وفي الثانية ، (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) قضية ما غيروا بأنفسهم وجاه النعم الربانية ، ثم العذاب في الأولى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) قضية نفس الألوهية ، وفي الثانية : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) قضية ربوبيات منه إليهم في نعمه ، اقتضت إهلاكهم ، بصيغة المتكلم مع الغير حيث تعني جمعية صفات الجلال

__________________

(١) المصدر.

٢٦٩

المقتضية لجمعية الإهلاك ، ثم في الأولى (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) بنفس القضية ، عقابا شاملا للذين من قبلهم آل فرعون ، وفي الثانية (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) تصريحا بنوعية العقاب لخصوص آل فرعون.

وأخيرا هنا (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) هؤلاء الذين كفروا بهذه الرسالة ، وآل فرعون والذين من قبلهم.

فهذه الثانية تأكيدة مع تفصيلة للأولى مع اختلاف الموقع وهامة الموضوع حيث يقتضي بنفسه التكرار فضلا عما بيناه وما أشبه من مبررات التكرار.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٥٥).

وترى كيف تتفرع «لا يؤمنون» على «كفروا» وهما سيان في عناية عدم الإيمان؟

«كفروا» تعني : ستروا ، كما ستروا الحق عن أنفسهم وكما يقول (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) (١١ : ٦٨) فقد يعني «كفروا» الطليقة ـ هنا عن أي متعلّق ـ ثالوث الكفر ، إذ : كفروا أنفسهم عن درك الحق ، وكفروا الحق عن أن يدرك ، وكفروا بالله.

ذلك ، وقد تترجم هذه الآية آية أخرى هي : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٨ : ٢٢) إذا فقد (كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حيث السد لمنافذ الإيمان صد عن الإيمان فهم بطبيعة الحال «لا يؤمنون» بما ختموا على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فختم الله عليها.

وهنا يعرف أن القصد من الكفر هو الكفر المطلق دون مطلقه ، فقد يؤمن الكافر إذا لم يتعرق الكفر في نفسه ، فالكافر المتحير غير المعاند للحق ـ فضلا عن متحريه ـ قد يؤمن حين تصله دلائله ، ولكن المعاند المتعمد المتجرئ على الحق لا يرجى خيره ، فالواجب إزالته حفاظا على كرامة الإيمان عن أن ينصدم بضلاله وإضلاله لمكان الفتنة التي هي أكبر وأشد من القتل.

٢٧٠

فمن الدواب ما هي شرّيرة خلقة وقصورا ، ومنها ما هي شريرة تقصيرا دون أن يحلّق الشر عليها فقد يرجى أن تبوء إلى خير ، ولكن الدابة المقصّرة التي حلّق الشر العاند العامد على كيانه ككل ، فهذه هي (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) : (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ليس هؤلاء متجردين عن الخصيصة الفطرية الإنسانية فحسب ، بل وعن الفطرة البهيمية أيضا ، فالبهيمة تنطلق على بهمها لو لا القيود المفروضة عليها وهم منطلقون رغم كل قيد وعهد :

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ)(٥٦).

فليس ـ فقط ـ انهم لا يؤمنون بالله ، بل ولا يؤمنون بعهودهم التي عاهدوها معكم حيث (يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) ـ (عاهَدْتَ مِنْهُمْ) ألا يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بسوء (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) : أيّة تخلفة ، وانطلاقة عن أية عهود وقيود ، فلا يربطهم عن شماسهم أي رباط منكم ولا منهم أنفسهم في عهودهم ، فلا علاج عن بأسهم إلا نقض عهودهم هذه التي هم ينقضونها في كل مرة ، وإلا قتالهم واستئصالهم حتى يخلوا جو الإنسانية من بأسهم وتعسهم.

فإنما العهد الملتزم هو المستقيم الذي يطمئن ، دون المنزلق المنحلق (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) معاملة معهم بالمثل ، فإن لم يستقيموا لكم فلا تستقيموا لهم ، حيث الاستقامة مع غير المستقيم اعوجاج ، وانخداع فانخلاع عن الأمنة إلى شفا جرف الهلكات.

وهنا قواعد حربية مستفادة من آيات عدة نحن أمامها ، نعد منها عشرا :

١ الكفار الذين يعاهدون المعسكر الإسلامي معاهدات ثم تنقضون عهدهم في كل مرة ، إذا :

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(٥٧).

٢٧١

فملاحقتهم على حذق إذا مفروضة لمقتاتلتهم حيث الثقف فضلا عن أكيده التثقيف هو الملاحقة اليقظة الحاذقة اللازقة دون فتور فظفر وإدراك بسرعة وحذق (فَشَرِّدْ بِهِمْ) بعد تشريدهم أنفسهم «من خلفهم» فحين تشردهم قويا صارما دفعا عن أخطارهم قتلا لهم أم نفيا إياهم إلى البعيد ، فقد شردت بهم من خلفهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ألا مجال لاختلاق الدوائر ضد المجموعة المؤمنة.

وهنا «تثقفن» تأكيد لواجب تثقيف العدو وتضييق كل المجالات عليه.

فهؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم ، إنما جزاءهم هنا هو حرمانهم من كل ما حرموا غيرهم من الأمن ، فتخويفهم وتشريدهم والضرب على أيديهم لحد يرهب معهم من خلفهم من المتسامعين بهم.

وانها الضربة المروعة المرهبة للهروب والشرود اتقاء عن أذاهم ، كأقل ما يعامل معهم ، ومن ثم قتالهم وقتلهم باستئصالهم عن بكرتهم.

٢ خوف الخيانة من المعاهد الذي تكررت منه حلّ المعاهدة فلا التزام بها بعد :

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(٥٨).

وهنا «تخافن» تأكيد للخوف ، أن الخوف المتأكد المرتقب أكيدا من هؤلاء الخونة الناقضين عهودهم ، ذلك الخوف يحل عقد معاهدتهم ، فكما نبذوا إليكم عهدهم فتخافنهم ، كذلك (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عهدهم «على سواء» نبذا كنبذهم دونما تعدّ طوره (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) فكيف يصح لكتلة الإيمان أن تأتمنهم في عهدهم المنقوض كل مرة.

أجل (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عهدهم إلقاء إليهم بإعلام الإلغاء ، فإن في اجتماع نقض العهد في كل مرة وتخوّف الخيانة من جرّاءه خطرا حاسما جاسما على المؤمنين ، فلينبذ إليهم عهدهم كما نبذوا ، إعلانا جاهرا بالقتال.

٢٧٢

ذلك ، فلا يجوز نقض عهدهم ما لم ينقضوا ولا تخافن منهم خيانة (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) وكما أن نقضهم عهدهم خيانة ، كذلك نقضكم عهدهم قبل نقضهم ، أم نقضكم ولمّا ينقضوا ، وهم دائبون في النقض على تخوف من خيانتهم ، إلّا أن تنبذ إليهم على سواء ، فنقض عهدهم دون نبذ وإعلام بالنقض خيانة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) كفارا كانوا أم مؤمنين.

وقد نزلت الآية في بني قريظة حيث خوفته (صلّى الله عليه وآله وسلم) خيانتهم وهم

ينقضون عهدهم في كل مرة (١) وقد عاهدوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، وهنا لك حقل (إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) بعد نقض منافق للعهد ، وأما النقض الجاهر فقد يترقب به نقض جاهر مثله ، فلا مورد إذا للإعلام بنقضه ، إنما المحتاج إليه ما لم ينقض جاهرا ، وقد قاتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أهل مكة لما نقضوا عهدهم جاهرا بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).

وهنا «على سواء» برهان قاطع لا مرد له أن النبذ إليهم ليس إلّا بعد نبذهم وتخوّف خيانتهم ، فلكل نبذ نبذ مثله على سواء ، دون أن يبرّر نبذ ولمّا ينبذ العدو مهما كان ينبذ في كل مرة ، فانظر إلى السماحة الإسلامية

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٩١ ـ أخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال : دخل جبريل (عليه السلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فأخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة وأنزل فيهم (وَإِمَّا تَخافَنَّ) وفيه عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : لا تقاتل عدوك حتى تنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ، وفيه أخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن سليم بن عامر قال : كان بين معاوية وبين الروم عهده وكان يسير حتى يكون قريبا من أرضهم فإذا انقضت المدة أغار عليهم فجاءه عمرو بن عبسة فقال : الله أكبر وفاء لا غدر سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقده ولا يحلها حتى ينقضي أمرها أو ينبذ إليهم على سواء.

٢٧٣

السامية ألا تسمح للمؤمنين نقضا عمليا لعهد الناقض عهدهم ، إلّا بإلقاء الإلغاء ، دونما حيلة وغيلة ومباغتة ، اللهم إلا حيلة بحيلة وغيلة بغيلة.

وهنا نسمع عليا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في حديث له طويل : فقدمت البصرة وقد اتسقت إليّ الوجوه كلها إلا الشام فأحببت أن أتخذ الحجة وأقضي العذر وأخذت بقول الله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) فبعثت جرير بن عبد الله إلى معاوية معذرا إليه ، متخذا للحجة عليه ، فرد كتابي ، وجحد حقي في دفع بيعتي (١).

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)(٥٩).

ليس الكفر ليسبق الإيمان ولا الكافرون ليسبقوا المؤمنين في ميادين السباق الحيوية ، اللهم إلا بظاهر من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، و (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الله ولا رسل الله ولا المؤمنين بالله ، فليس الباطل أيا كان ليعجز الحق مهما كان له جولة ، فإن للحق دولة : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢٩ : ٤) فمهما نجوا من القتل في حرب وسواها متخلفين عن شرعة الله ، فليس سبقا لهم ف (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) فهل تراهم ـ إذا ـ سابقين في ذلك الميدان الميدان؟

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣)! فقد خسروا السباق بكل الرفاق ، والله هو السابق وعباده الصالحون.

فلا هم سابقون مشيئة الله في التكوين مهما تخلفوا عنها في التشريع إذ لن يضروا الله شيئا ، ولا هم سابقوه في أي سباق آخر إعجازا له وإحجازا إياه عما يشاء.

٣ إنه يجب على المؤمنين إعداد المستطاع من كافة القوات والإمكانيات أمام أعدائهم:

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٦٤ في كشف المحجة لابن طاووس عنه (عليه السلام).

٢٧٤

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٦٠).

«وأعدوا» خطاب هام عام موجّه إلى المؤمنين في الطول التاريخي والعرض الجغرافي على مدار الزمن الرسالي الإسلامي ، كما و «لهم» تعني (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) وهم الكفرة الناقضون لعهودهم ـ إن كانت لهم عهود ـ الذين تخافن منهم خيانة على الهيكل الإسلامي السامي.

وقد تعني «لهم» ـ دون عليهم ـ أصل المواجهة ، أن اعدوا لمواجهتهم ، بما أن في هذه القوات الحربية صالحهم حيث تصدهم عن مهاجمة المؤمنين فلا يقتلون ولا يستحقون عظيم النكال أم هم يؤمنون.

ثم (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) خطرا وخيانة ، أو معرفة بهم فيهما (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) فالأصل هو الحصول على القوة الرهيبة الإرهابية العادلة في كافة الميادين الحيوية ، ثقافية وعقيدية واقتصادية وسياسية وحربية أماهيه من قوات يحاول أعداءنا أن يسبقونا فيها سنادا لسيادتهم وسيطرتهم علينا.

ف «من قوة» تحلق على كافة القوات ، مهما أشارت (رِباطِ الْخَيْلِ) وفسرت الروايات (١) تلك القوة بقوات الحرب ولا سيما السابقة ، حيث

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٩٢ عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول وهو على المنبر (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا إن القوة الرمي ، قالها ثلاثا عنه قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير والذي يجهز به في سبيل الله والذي يرمي به في سبيل الله ، وقال : ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا ، وقال : كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة : رميه عن قوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق ومن علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها.

وفيه أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مر على ناس ينتضلون فقال : حسن اللهم مرتين أو ثلاثا ارموا وأنا مع ابن الأدرع فأمسك القوم قال : ارموا وأنا معكم جميعا فلقد رموا عامة يومهم ذلك ثم تفرقوا على السواء ما يضل بعضهم بعضا.

٢٧٥

المدار هو طليق «قوة» تعم كافة القوات الإيمانية.

وقد يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله في القوات الحربية : من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني (١) و «من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها» (٢).

ومهما كان الرمي يومئذ بالنبال قضية الظروف والإمكانيات ، فهو اليوم ـ وبعد توسع الأسلحة ـ يعم كل رمي بري وبحري وجوي بمختلف وسائله المستطاعة أتوماتيكية وسواها ، حيث القصد هو رمي العدو إرهابا وقضاء عليه ، فكيف يكتفى برميه بما هو مجهز بأقواه فإنه أغواه!

ولأن الأكثرية الساحقة أو المطلقة من البشرية سائرة سيرا كالسا فالسا معاكسا لشرعة الله ، فهم ـ إذا ـ يعارضونها جهلا أو تجاهلا وعداء بمختلف أساليب المعارضة كيلا يقعوا في ذلك الفخ أم لا يصطدموا به ، لذلك فعلى المجموعة المؤمنة إعداد قوات إرهابية ولا سيما الحربية المكافحة للحفاظ على كيانها وكونها ، وكيف تختص «من قوة» بقوة الأسلحة الحربية والحاجة إلى سائر القوات أكثر حيث الفتنة أشد من القتل وأكبر ، فهل يؤمر المسلمون بإعداد القوة الحربية دون الأخرى منها والأهم حفاظا على كيان الإسلام في المسلمين؟ ، ومجرد وقوع الآية بين الآيات الحربية لا يحصر آية القوة الطليقة فقط بتلك القوة مهما كانت هي البارزة منها في المظهر ، ولكن غيرها ولا سيما العقيدية هي البارزة في المحضر ، المفروضة للحفاظ على الكيان الإسلامي.

ومن مخلفات هذه القوة الإرهابية العادلة ـ الأصيلة ـ امام الإرهابات الباطلة إرهاب عدو الله وعدوكم ، فلا يجرءون على الميل إليكم والنيل

__________________

(١) وفيه أخرج القراب عن عقبة بن عامر قال : لا أترك الرمي أبدا ولو كانت يدي مقطوعة بعد شيء سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني.

(٢) وفيه أخرج البزاز عن أبي هريرة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ـ

٢٧٦

منكم ، ولا إعانة سائر الكفار عليكم حيث يعيشون يأسا من الغلب عليكم فتعيشون أنتم على رغد الأمن والكرامة.

وكما ترهبون به الأعداء الرسميين المعروفين ، كذلك (آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) من منافقين أم سائر الكافرين.

فإعداد ما في الطوق من الطاقات الذاتية وسواها فريضة دائبة على كل المجموعة المؤمنة ، طمأنة للذين يدخلون في دين الله ، وترغيبا لمن يحيدون عنه ، وترهيبا لمن يتربصون به الدوائر ، فلا يفكروا يوما في الوقوف في وجه المدّ الإسلامي ، ولكي ينطلق لتحرير الإنسان عن عبودية العباد إلى عبودية خالق العباد.

ذلك ، وكما على المؤمنين برسالة السماء أن يعدوا ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل حفاظا على الثغور والأقطار الإسلامية ، كذلك وبأحرى عليهم أن يعدوا ما استطاعوا من قوة الثقافة الحيوية والعقيدة الإيمانية والأخلاق الحميدة والسياسة الصالحة والإقتصاد الصالح والحضارة السليمة ، حتى لا ينغرّ جاهلون بما عند الكفار من مظاهر ، فليجدوا في المؤمنين قوات من كل الحيويات مكافحة صالحة للسيطرة على ما عند الكافرين.

فأعداء المسلمين بكل الطاقات الحيوية المكافحة فرض جماهيري ، سدا لكافة المنافذ التي ينفذ منها الكفار ، تسربا إلى المجموعة المسلمة فترسبا فيها فتحويلا لها عن الحيوية الإسلامية إلى غيرها.

أجل إن القوة المكافئة ضرورة لا محيد عنها للمسلمين ، ولكن القوة المكافحة هي التي تجعلهم سادة الأمم وقادتها ، بيدهم أزمة أمورهم وأمور الناس وكما يفعله الإمام المهدي (ع).

إذا فهذه الآية ترسم مسيرا حيّا للحياة الإسلامية تضم في خضمّه كافة الصالحات ، التي هي رسوم صالحة لصالحة الحياة في كل النشآت ، فرضا لما يصلحها ويفلحهم فيها ، ورفضا لطالحها التي تفلجهم فيها.

وهنا (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) له عوان هو عدو محمد وعترته المعصومين

٢٧٧

(عليهم السلام) وكما يروى متواترا عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله : «عدوي عدو الله» (١) و «عدوه عدوي» (٢) و «من عاداه فقد عادى الله» (٣) «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» (٤).

ولأن أعداء الطاقات المكافحة بحاجة إلى أموال وما أشبه كما هي بحاجة إلى سائر الاستعدادات ، فليكن المؤمنون على نبهة ويقظة دائمة أن الإنفاق في هذه السبيل مفروض قدر الحاجة المكافحة ، وهو يوفّى إليهم عاجلا هنا وآجلا في الأخرى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أيا كان ذلك الشيء ، من شيء المال والثقافة والعقلية الإيمانية أماهيه (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) فمادة الإنفاق ـ إذا ـ أيّا كان هي منكم وإليكم على أية حال.

ذلك إعلان المحاربة من الضفة الإيمانية إلى الضفة الكافرة بكامل الإعدادات إن هوجموا نفسيا أو عقيديا ، فالحرب الإسلامية ـ إذا ـ ليست إلا وقائية دفاعية ولذلك :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦١).

فإذا جنح فريق من الكفار إلى مسالمة المعسكر الإسلامي وموادعته فإن على القيادة الإسلامية أن تجنح لها :

أجل «ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٤ : ٤٩ و ٦ : ٤٠٦ و ١٦ : ٦١٣ ـ ٦١٤ و ٢٠ : ٢٢٦.

(٢) المصدر ٤ : ٤٩ ـ ٥٠ ٢٩٥ ـ ٢٩٧ و ٦ : ٤٠٦ ـ ٤١٧ و ١٦ : ٦١٣ ـ ٦١٤ و ٢٠ : ٢٢٦.

(٣) المصدر ٥ : ٤١.

(٤) المصدر ٢ : ٤٢٦ ـ ٤٦٥ و ٣ : ٣٢٢ ـ ٣٢٧ و ٦ : ٢٢٥ ـ ٣٠٤ و ٧ : ٥٣ ـ ٥٦ و ١٦ : ٥٥٩ ـ ٥٨٧.

٢٧٨

بالحزم ، واتهم في ذلك حسن الظن ، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهواءهم وتشتت آراءهم من تعظيم الوفاء بالعهود» (١).

والجنوح هو الميل ، والسّلم هو الصلح السليم و «إن جنحوا» هؤلاء الكفار الخونة «للسّلم» معكم ، تركا للصّدام نفسيا وعقيديا ، وتركا لأية فتنة (فَاجْنَحْ لَها) كما جنحوا دونما تعلل وتخلخل وتململ بما هو طبيعة الحال من مخابئ الخيانات للكافرين الذين ليس لهم مبدء سليم يسندون إليه ، وهم ينقضون عهودهم في كل مرة ، مجرّبون في نقض العهد ، فحقل الاعتداء والسلم لا يعامل فيها إلّا بالمثل.

وإن خطر لك خاطر من هذا القبيل من كذبهم ونقضهم ف (تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في تطبيق أمر الله ، ولكي يعرف العدو ويعرف معه آخرون أن ليس الأصل في كتلة الإيمان المقاتلة والاستئصال لأعداء الدين ، إنما هو الدفاع عن النواميس والحفاظ على كيان الإيمان (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) قالات الأعداء وقالاتكم «العليم» بكل الحالات ، فإن لم تجنحوا للسّلم عند ما جنحوا فقد تتطاول ألسنتهم عليكم أنكم تؤججون نيران الحروب التوسعية ولا تريدون سلما إضافة إلى ظاهرة التخلف عن الاعتداء بالمثل ، فإن رفض الجناح للسّلم رغم جناحهم للسلم نقض لقاعدة الاعتداء!

أجل ، والصبغة الإسلامية وصيغتها السليمة هما السّلم ما سلم المسلمون عن كيد الكفار وميدهم ، فليس لهم إلا الدفاع عن نواميسهم الخمسة دون أي هجوم بدائي لتفتّح البلدان ، اللهم إلّا تفتحا للقلوب بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالهم بالتي هي أحسن ، ثم إذا شكّلوا

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢٩٢ فيما أمر به أمير المؤمنين (عليه السلام) مالك الأشتر النخعي لما ولاه مصر.

٢٧٩

خطرا على الضفّة المؤمنة فالدفاع الذي هو حق لكل حي عن حياته وحيويته.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣).

«إن يريدوا» لأسوء الاحتمالات في جنوحهم للسّلم فجنوحك لها (إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) وليس هو قوتك واستمرارك للحرب دون تقبّل للسّلم المتوقّع ، (حَسْبَكَ اللهُ) الذي يأمرك بذلك الجنوح ف (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) دون سبب ظاهر في بدر وحنين وسواهما (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) الصامدين مثل علي أمير المؤمنين (عليه السلام) (١) ومن أشبه ، وهم من السبب الظاهر ، نصر حاضر ملموس «بالمؤمنين» ونصر غائب بملائكة أم دونهم ، كما (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) و (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في ذلك التأليف الأليف (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) حيث القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء لما يشاء ، فطالما النعمة تكفّر والرحم يقطع ، ولكن

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٩٩ ـ أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال : مكتوب على العرش : لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي وذلك قوله : هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين.

وفي ملحقات إحقاق الحق ٣ : ١٩٤ الگنجي في كناية المطالب (١١٠) بسند متصل عن أبي هريرة مثله ، وفيه عنه روى أبو نعيم الحافظ بسنده عن أبي هريرة عن أبي صالح عن ابن عباس عن جعفر الصادق رضي الله عنه في هذه الآية قالوا : نزلت في علي (عليه السلام) وان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : وروى مثله ، وفيه عنه روى في كتاب الشفا روى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء مثله ، وفيه ١٤ : ٥٨٥ ورواه الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٢٢٣ بعدة طرق عن أنس وجابر وأبي الحمراء عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم).

٢٨٠