الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

__________________

ـ التعريف بالحدود.

وخلاصته : أن البسائط قد تعرّف بمعرفة آثارها ولوازمها ، كمعرفة العلة الموجبة للشيء لذاتها من جهة معرفة معلولها ، كما تعرف القوى بأفاعيلها ، وكمعرفة المسخّنة كالنار من معرفة السخونة الشديدة ، ومعرفة الصورة المرطّبة من الرطوبة الشديدة ، وكما يحصل من معرفة الإدراك للكليات معرفة الجوهر الناطق بما هو قوة دراكة ، ومنها طريق القسمة ، ومنها طريق التحليل ، والأول لأفلاطون ، والثاني لأرسطو ، أقول : وهذان الطريقان لا يأتيان في البسائط كما هو المقصود في المقام ، لعدم تركبهما من الذاتي الأعم والأخص لكي يقسّم أو يحلّل.

ومنها معرفته من عرض خاص له ، أي مساو في العموم أعرف عند العقل من هذا المحدود ، ومنها أن يعرف الأعراض البسيطة بموضوعاتها تعريفا بما فيه زيادة للحد على المحدود في المعنى اضطرارا ، كتعريف الأمور بالشيء الذي ـ أي الجسم الذي ـ عرضه السواد (وهناك كلام لطيف عن الشيخ فليراجع إلى ذلك الهامش).

ومنها تعريف الشيء الخاص بمجموع أمور كلّ منها وإن كان عاما له ولغيره ، ولكن المجموع مما يخصه ، ومنها أن الأمر الخاص قد يكون بديهي التصور ، إما من الأوليات أو الحسيات ، فلا حاجة إلى أن يكتسب من مفهوم آخر (انتهى ما أردنا نقله عن هذا الهامش ملخصا) وأقول : المنقول هنا عن الشيخ الرئيس في الحكمة المشرقية مردود منسوخ بما نقله في الأسفار عن تعليقاته حيث يقول : «لا نعرف حقيقة الجوهر ، بل نعرف شيئا له هذه الخاصية» والإنصاف أن الحق مع كلامه في التعليقات. إذ ما يكون خارجا عن حقيقة الشيء كيف يوصلنا إلى حاق ذلك الشيء. فبعد التفتيش التام يظهر أن الحق مع شيخ الإشراق المؤيد بالمنقول عن الشيخ الرئيس ، وهذه كلها نبذات من اختلافاتهم في الحدود ، ولهم اختلافات أخرى في سائر مباحث المنطق ، حيث اختلفوا في :

٢٨ أن حمل الجزئي الحقيقي على نفسه كهذا الكاتب على هذا الإنسان ، جائز؟ كما ذهب إليه الفارابي والصدر ، أم لا؟ كما عليه جمهور المتأخرين (راجع هامش حكمة الإشراق في أواخر الضابط الأول من المقالة الثانية).

٢٩ وفي أن مادة العقود وعناصرها هل هي عين الجهات ذاتيا وغيرها اعتباريا كما عليه متأخروا المنطقيين ، أم لا؟ بل هي غيرها ذاتيا كما هي اعتباريا ، كما عليه قدمائهم ، وهو التحقيق عند المتأخرين من الفلاسفة (راجع شرح المطالع والشوارق في مبحث الماهية) واضطربت الكلمة في أن الممكنة العامة هل هي من الموجّهات أم ليست بقضية أصلا (المصدر). ـ

٤١

__________________

٣٠ وفي أن المطلقة العامة هل هي من الموجبات كما اختاره السبزواري في لتاليه؟ أم لا ، بل هي متقابلة لها تقابل العدم والملكة؟ كما هو التحقيق عندهم ، ويرد عليهم بأنكم تذهبون إلى كون الدائمة المطلقة نقيضا للمطلقة العامة مع اشتراطكم في التناقض اختلاف الجهة ، فكيف تجعلون الدائمة نقيضا لها مع أنه لا جهة فيها ، قال الشيخ الإشراقي في آخر الضابط الثالث : كثر الخبط فيها ، يعني من المشائين.

٣١ وفي أن المواد مواد للموجبات فقط؟ أم وللسوالب أيضا؟ ذكره الصدر في بحث عدم كون العدم رابطيا في الأمور العامة من الأسفار.

والعجب أنه أنكر قوم من المناطقة الإمكان ، لاستلزامه إما كون الواجب ممكن العدم ، أو كونه ممتنع الوجود (راجع شرح المطالع) وقال الشيخ في الإشارات : «السؤال الذي يهول به قوم» قال شارحه : السؤال الذي ذكره مما استعظمه قوم من المنطقيين وهو مغالطة باشتراك الاسم ـ انتهى.

أقول : هذه غاية مدارك بعض المنطقيين ، فكيف الاطمئنان بضوابطهم وقواعدهم؟ والأعجب أن جمهورا من المنطقيين لم يفرقوا بين الضروري والدائم لأن كل دائم كلي فهو ضروري (راجع شرح الإشارات في الضرورة والدوام).

٣٢ وفي أن تعدد القضية هل هو بتعدد الحكم فقط؟ كما عليه المحققون ، أم لا؟ كما ذهب إليه صاحب المطالع في الفصل السادس من مباحث التصديقات.

٣٣ وفي أن الوحدات المعتبرة في التناقض هل هي ثمان ولا يجوز إرجاعها إلى الموضوع والمحمول والزمان؟ كما هو مختار الشيخ والمحقق في الإشارات وشرحه ومختار الجمهور ، أم لا ، بل يجوز الإرجاع؟ كما عليه الفارابي والإمام الرازي (راجع شرح الإشارات والمطالع).

٣٤ وفي أن الوحدات الثمانية هل تكفي في تحقق التناقض؟ كما عليه جمهورهم ومحققوهم كالشيخ الرئيس والمحقق الطوسي وأتباعهما ، أم لا ، بل تحتاج إلى وحدة الحمل ذاتيا وصناعيا؟ كما ذهب إليه الصدر ومقلدوه.

٣٥ وفي أنه هل يعتبر في تناقض المحصورات الاختلاف في الكمّ؟ كما عليه مشهور المنطقيين ومحققوهم كالشيخ والمحقق وأتباعها؟ أم لا ، بل لا بد من كون السلب واردا على عين القضية الموجبة؟ كما عليه شيخ الإشراق وشارح حكمة العين والصدر ، فيكون نقيض القضية عند القوم لازم النقيض عند هؤلاء.

والعجب أن الشيخ وأتباعه ذهبوا إلى أن السالبة الجزئية ليست بنقيض للموجبة الكلية ، وكذلك العكس ، بل هما لازما النقيض ، والشيخ وأتباعه جعلوها نقيضا صريحا ، مع أن الجميع اتفقوا على أن التناقض يحصل بورود السلب على عين ما ورد الإيجاب.

٤٢

__________________

ـ ٣٦ وفي أنه هل يعتبر في تناقض الموجبات الاختلاف في الجهة؟ كما عليه الشيخ الرئيس وأتباعه ، وشنّع في الإشارات بقوله : إن الناس قد أفتوا على سبيل التحريف وقلة التأمل أن للمطلقة نقيضا من المطلقات أم لا؟ ، بل ليس الاختلاف فيها بمعتبر في نقائض الموجبات؟ كما عليه شيخ الإشراق وشارح حكمة الإشراق والصدر وصاحب الكشف.

قال شيخ الإشراق : ولعلّه لا يحتاج إلى تعمق المشائيين ، وقال الصدر : أرى كلام هذا الشيخ وهذا التحقيق من الشيخ يخلّص السالك عن ارتكاب كثير من التكلفات الشاقة ، ويسهّل الطريق إلى طلب الحق.

٣٧ وفي أن عقد الوضع في القضاء هل هو بالفعل؟ كما عليه الشيخ ، أو بالإمكان؟ كما عليه الفارابي ، فعلى الأول لا عكس للممكنتين ، ولا تنتج الصغرى الممكنة في الشكل الأول والثالث ، وتكون فعلية الصغرى شرطا في إنتاجهما ، ولا تنعكس السالبة الضرورية المطلقة والدائمة المطلقة والمشروطة العامة والعرفية العامة إلى أنفسها ، ولا تنعكس الخاصتان إلى عامتهما مع قيد اللّادوام في البعض ، بل عليه تنعكس الدائمتان إلى الدائمة المطلقة ، والعامتان إلى العرفية العامة مع قيد اللّادوام في البعض ، والخاصتان إلى العرفية الخاصة.

وعلى الثاني للممكنتين عكس ، ولا يشترط فعلية الصغرى في الشكل الأول ، وينعكس جميع هذه المذكورات إلى أنفسها ، ويجرى دليل الخلف والعكس في جميعها ، وقدماء المنطقيين اختاروا مذهب الفارابي ، وإليه ذهب المحقق الطوسي في جوهر النضيد واختار متأخروهم مذهب الشيخ وشنّعوا عليه ، حيث أخذ عقد الوضع بالفعل ، ولكن في مقام ترتيب الأحكام سلك مسلك القدماء بجعل السالبة الضرورية منعكسة كنفسها ، وقد وجه شارح المطالع كلام الشيخ بتكلّف ثم قال : ويلوح في كلام الشيخ اضطراب وتشويش ، وذهب صاحب المطالع إلى انعكاس الدائمتين إلى الدائمة المطلقة ، وانعكاس العامتين إلى أنفسهما ، وانعكاس الخاصتين إلى عامتين مع قيد اللّادوام في البعض ، وهذا المسلك كما ترى مذهب متوسط بين المذهبين.

٣٨ وفي أن السالبة لا تنعكس مطلقا كما عليه القدماء؟ أو في غير الخاصتين كما عليه المتأخرون؟ فهم بين فريقين متخالفين بالاختلاف السابق ، فتبعه الفارابي ، ذهبوا إلى انعكاسهما كنفسهما ، وأتباع الشيخ إلى العرفية الخاصة ، وقال العلامة في شرح جوهر النضيد : إن أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري عثر على انعكاسهما.

ثم ليعلم أنه قد أورد الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي على مذهب الجمهور في انعكاس السوالب المطلقة كنفسها ، وارتضاه الصدر واستنصر للشيخ الإشراقي بأن مسلكه في العكوس أحسن من مسألة الجمهور. لأنه في فسحة ومندوحة عما يرد عليهم ، ثم نقل عن ـ

٤٣

__________________

ـ الفارابي قياسا مؤلفا في انعكاس السالبة الكلية كنفسها (راجع هامش حكمة الإشراق).

٣٩ واختلف الشيخ الإشراقي مع جمهور المنطقيين في عكوس القضايا ، إذ على مذهبه يكون جميع العكوس مع أصولها ضروريات بتأنة كلية ، سواء أكان الأصل موجبا أم سالبا ، كليا أو جزئيا ، مطلقا أو موجّها ، وقد نسب الجمهور إلى الخبط في انعكاس الضروريات الموجبة.

٤٠ واختلفوا في لزوم تكرار الوسط بتمامه بلا زيادة ولا نقصان في القياس. كما عليه الجمهور ، ولذلك وقعوا في الحيرة وتشتت الكلمة في قياس المساوات ، أو عدم لزومه بالتمام كما عليه المحقق الطوسي والصدر ، أو أن التكرار ليس بلازم أبدا كما عليه شارح المطالع. ولا يخفى أن النزاع في المقام إنما هو في إنتاج القياس لا العلم به.

وأعلم أنه قد أورد أبو سعيد أبو الخير إيرادا على الشكل الأول بأنه دوري ، وهو صعب الانحلال عند التفطن بمقصوده.

وقد أورد الشيخ شكا في اشتراط الإيجاب في صغرى الشكل الأول ، وفي اشتراط الكلية في كبراه ، ولذلك زاد المحقق الطوسي في تعريف القياس قيد «بعينه» دفعا لهذا الشك.

ثم الشيخ لم يشترط خصوص الإيجاب في صغرى الشكل الأول ، بل قال : يشترط أن تكون موجبة أو في قوة الموجبة كالسالبة اللّادائمة ، وعلى مذهبه تكون القرائن المنتجة ثمانية ، وعلى مذهب الجمهور أربعة ، وعلى مذهب الشيخ الإشراقي واحدة.

٤١ وفي أن الصغرى الممكنة في الشكل الأوّل لا تنتج أصلا كما هو مذهب جماعة منهم ، أو تنتج كما هو مذهب الشيخ والمحقق وأتباعها ، واحتجوا عليه بالخلق ، وأجاب المانعون عن حجتهم.

٤٢ ثم القائلون بالإنتاج اختلفوا في أن الصغرى الممكنة مع الكبرى الضرورية تنتج ممكنة؟ كما عليه جمهور القدماء ، أو ضرورية كما عليه الشيخ والمحقق ومن تابعهما؟ ٤٣ وهذا الاختلاف نشأ من اختلاف آخر بينهم هو أنهم اختلفوا في أن النتيجة في هذا الشكل هل تتبع أحسن المقدمتين في الكم والكيف والجهة جميعا كما عليه جمع منهم؟ أم هي تابعة في الكمية للصغرى ، وفي الكيفية والجهة الكبرى إلا في موضعين كما عليه الشيخ والمحقق في الإشارات وشرحه؟

٤٤ واختلفوا في إنتاج القياس الشرطي الاقتراني المؤلّف من منفصلتين حقيقيتين فذهب الشيخ إلى عدم إنتاجه وخالفه صاحب المطالع وشارحه.

٤٥ وفي قياسية القياس الشرطي المؤلف من متصلتين اتفاقيتين ، فمنع بعضهم قياسيته ، وآخر عدّه قياسا مفيدا.

٤٤

__________________

ـ ٤٦ وفي أن القياس المركب من الحملية والمتصلة لا ينتج ، كما عليه جماعة من متأخري قدمائهم ، أو ينتج ، كما عليه المحققون.

٤٧ وفي أن الضروب المنتجة في الشكل الرابع هل هي خمسة أو ثمانية ، وأوّل من عثر على هذه الثلاثة الزائدة هو أثير الدين المفضل الأبهري.

٤٨ وفي شروط إنتاج الشكل الثاني بأنه يجب الاختلاف في الكم ، ولو لم يكن حكم المقدمتين مختلفا ، كما ظنه جمع منهم؟ أم لا بل يجب الاختلاف في الحكم كما عليه المحققون؟ ونبه على ذلك في شرح الإشارات.

٤٩ وفي شروط إنتاج الشكل الثالث من القسم الثالث من أقسام القياس الشرطي الاقتراني أي المركب من المتصلة والحملية ، فأشترط الشيخ وأتباعه إيجاب الحملية ، ولم يشترط صاحب المطالع وشارحه وأتباعهما وأجابا عن إشكالات الشيخ.

٥٠ وفي شروط إنتاج الشكل الثاني من القسم الرابع من أقسام القياس الشرطي الاقتراني ، فاشترط الشيخ وجوب موافقة الحملية لمقدم المتصلة في الكيف ، ولم يشترطها صاحب المطالع وشارحه.

٥١ وفي القسم الثاني من قسمي القياس الاقتراني ، المركب من الحملية والمنفصلة ، فقال الشيخ : إن الحملية الواحدة إن كانت صغرى لا تنتج في هذا القسم ، وقال صاحب المطالع وشارحه بإنتاجهما سواء أكانت صغرى أو كبرى.

٥٢ وفي أن المنفصلة الحقيقية إذا كانت موجبة جزئية وكبرى فهل تنتج مع المتصلة الموجبة الكلية المشاركة التالي كما عليه صاحب المطالع وشارحه؟ أم لا تنتج كما عليه الشيخ وأتباعه ، وقد استدل الشيخ بما فسخه شارح المطالع.

ثم إنهم قد شكلوا في إنتاج الشرطية الاقترانية المؤلفة من المتصلتين كما أن الشيخ قد شك في الشكل الأول عن لزومية هذه الشرطية ، وأجاب عنه في الشفاء ، وقد أجاب عنه شارح المطالع أيضا بما قد ردّه الصدر في تعليقاته فراجع.

٥٣ وفي أن اعتبار الاتصال في الشرطية المتصلة هل هو بلحاظ نفس النقيضين ، بلحاظ التوافق بينهما في الصدق (راجع شرح المطالع أواسط الفصل الثاني من التصديقات).

٥٤ وفي أن النسبة التي تكون جزء للقضية هل هي نسبة موضوعية الموضوع للمحمول أو نسبة محمولية المحمول إلى الموضوع ويثمر ثمرا عظيما في الموجبات ، حيث إن الجهة هي كيفية النسبة ، فما هذه النسبة المكيفة ، فقولنا : الكاتب إنسان ، نسبة موضوعية الموضوع فيها للمحمول إنما هي بالوجوب ، وقد بين في شرح المطالع تغاير النسب.

وبالجملة هنا اختلاف عظيم بحيث قال شارع المطالع : اضطربت الأقوال فيها ، ثم قال في آخر هذا الفصل : فحقّق هذا الموضوع على هذا النسق ، وامح من بالك ما يقولون ـ

٥٦ وفي اختصاص الشرطيات بالقياس الاستثنائي ، والحمليات بالقياس الاقتراني وعدم وجود قياس اقتراني شرطي كما عليه عامة الجمهور قبل الشيخ؟ وعليه ورود التعليم الأول أم لا ، بل هناك اقترانات شرطية كما نبه عليه الشيخ واختاره جمع آخرون.

٤٥

__________________

ـ ويزخرفون ، فلا شبهة بعد شروق الحق المبين.

٥٥ وفي أن كلّ متصلتين توافقنا في المقدم والكم وتخالفتا في الكيف وتناقضا في التالي ، تكونان متلازمتين ومتعاكستين كما عليه القدماء منهم؟ أو لا تكونان متلازمتين ولا متعاكستين كما عليه متأخروهم؟ (راجع جوهر النضيد في بيان أقسام المتصلة والمنفصلة في أوّل مبحث القضايا).

٥٧ وفي جواز تركب مانعة الجمع والخلو من أجزاء فوق اثنتين ، كما عليه جمع كثير من متقدميهم وعليه شارح حكمة الإشراق والمحقق في جوهر النضيد ، بل ظاهر عبارة المحقق تجويزه في المنفصلة الحقيقية أيضا ، أم لا ، بل لا يجوز في كل واحد من المنفصلات الثلاث إلّا التركّب من جزئين فقط ، كما عليه الشيخ وصاحب المطالع وشارحه.

٥٨ وفي حقيقة القضية الحقيقية ، وأنه ما الفرق بينها وبين الخارجية وهناك تفصيلات كثيرة تطلب من شرح المطالب.

٥٩ وفي حقيقة القضية الطبيعية بأنها شخصية أم لا؟ وهل هي داخلة في المهملة أم لا؟ (راجع الإشارات وشرح المطالع وتعليقات حكمة الإشراق في المحصورات).

٦٠ وفي اقتضاء الموجبات وجود الموضوع وإن كانت معدولة ، دون السوالب إن كانت بسيطة كما عليه الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي والصدر وجمع كثير منهم ، أو ليس بين الموجبات والسوالب فرق من هذه الجهة حسب الواقع أصلا ، بل هما كلتاهما تقتضيان ثبوت الموضوع في الذهن أو في نفس الأمر كما عليه المحقق الدواني وجمع آخر منهم؟ بل وذهب بعضهم إلى أنه إن لم تقتض السالبة وجود الموضوع لزم عدم إنتاج الضرب الثاني والرابع من الشكل الأول (راجع شرح المطالع).

ومن هنا نشأ الاختلاف في حقيقة القضايا التي تكون موضوعاتها من الممتنعات كشريك الباري واجتماع النقيضين والمعدوم المطلق ، ولهذا لجأ بعضهم إلى تصوير قضية أخرى مسماة بالموجبة السالبة المحمول.

ثم إن الفرقة الأولى ـ أي الشيخ وأتباعه ـ القائلين باقتضاء الموجبات دون السوالب قد افترقوا فرقتين ، ففرقة ذهبت إلى أن التمايز بين الموجبات والسوالب فالاقتضاء وعدمه إنما يكون في الشخصيات والمحصورات كلتيهما ، كالشيخ الرئيس والصدر وجمع من المحققين ، وفرقة أخرى ذهبت إلى انحصار التمايز في خصوص الشخصيات دون ـ

٤٦

__________________

ـ المحصورات لاشتمالها على عقد وضع هو في قوة قضية إيجابية حملية بخلاف الشخصيات لعدم وجود عقد الوضع كالشيخ الإشراقي ومن تبعه.

وهنا لك وقع الاختلاف بينه وبين الصدر في حقيقة عقد الوضع بأنه ما هو؟ (راجع الضابط السادس من المقالة الثانية من حكمة الإشراق عند قوله : وهاهنا دقيقة إشراقية).

٦١ وفي وجود الموجبة السالبة المحمول وعدمها ، وأنها هل هي قضية أخرى سوى البارقية أم لا؟ وعلى فرض كونها قضية ، فهل تقتضي وجود الموضوع كما عليه صاحب المطالع وشارحها أم لا؟ تشبيها بالسوالب المحصلة كما ذهب إليه جماعة أخرى منهم السبزواري في لئاليه (راجع شرح المطالع عند بيان المعدومات).

٦٢ وفي تحليل قياس الخلف ، ففرقة كالشيخين ومن تبعهما خالفوا المتأخرين وعسر عليهم فهم التعليم الأول ، ومن هذا الاختلاف يختلف شرائط إنتاج قياس الخلف فيعسر الأمر في إنتاج الضروب المنتجة من الأشكال الثلاثة ، إذ عمدة الدليل في تمييز المنتج منها عن غيره هو الخلف (راجع تعليقات حكمة الإشراق لدى بيان قياس الخلف).

٦٣ وفي أن مقدمات البرهان هل يجب أن تكون واجبات محضة ـ أي ضروريات ـ قبال الممكن والممتنع ، كما ذهب إليه الصدر تبعا للشيخ الإشراقي ، وإليه ذهب قوم من قدمائهم تبعا لما ورد في التعليم الأوّل ، أم لا؟ بل يمكن كون كلتيهما أو إحداهما ممكنة بل وممتنعة كما ذهب إليه الشيخ الرئيس وأتباعه ، فإنه بعد ما أبطل رأيهم نسبهم إلى تقليد المعلم الأول وهجى المعلم وقال : إن القوم تخبطوا في كثير من المواضع لأجل تقليدهم المعلم الأول.

٦٤ وفي أن المتواترات هل تكون حجة في المعقولات كما عليه المعلم الثاني الفارابي في كتابه : (الجمع بين الرأيين) أم لا بل تنحصر حجيتها في المحسوسات فقط كما عليه الشيخان والصدر والمحقق الطوسي.

ومن هنا ينبعث الخلاف في وجوب كون المتواترات قضايا جزئية مفيدة للحكم الجزئي كما هو لازم المذهب الثاني؟ أو عدم وجوبه بحيث يمكن إفادته رأيا كليا كما هو لازم المذهب الأوّل.

٦٥ وفي أن العلم الحاصل بالمتواترات نظرية كما ذهب إليه قوم على ما في جوهر النضيد ، أم ضرورية كما عليه مشهور المناطقة.

٦٦ وفي تمايز برهان الّلم عن برهان الإنّ ، فقد ذهب الشيخ الرئيس والشيخ الإشراقي والمحقق الطوسي وصاحب المحاكمات وشرح المطالع وشارح حكمة الإشراق والجمهور من المتأخرين إلى أن الأوسط في برهان الّلم هو الذي علة للوجود الرابط للأكبر في الخارج وفي العقل ، سواء أكان معلولا لوجوده المحمولي أيضا أم لا ، وفي برهان الإنّ ـ

٤٧

ذلك المنطق العلمي الرسمي كمقدمة ضرورية لهذه الفلسفة ، فضلا عن نفسها التي فيها مغالطات ومخالطات ، ولا بد للسالك إلى الله من زاد معصوم وراحلة معصومة لكي تكون عاصمة ، وليست إلّا راحلة العقل السليم بزاد الفطرة السليمة ، استضاءة من الشرعة الربانية ، دون أية حاجة للورود في لجج المنطقيات والفلسفيات والعرفانيات المصطلحة الحائدة عن الصراط المستقيم والطريق القويم.

هذا! ف :

نهاية أقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا (١)

فمن أسس الفلسفة تلازم العلة والمعلول ، ولأنهم يعتبرون الله علة يقولون بأزلية وأبدية الخلق لكونه معلولا له تعالى ، والعلة هي والدة المعلول ، والله سبحانه لم يلد ولم يولد ، فهو خالق بالإرادة وليس والدا دون إرادة كما هو قضية العلية المصطلحة.

ومنها مسانخة العلة والمعلول ، إذا فهناك مسانخة ذاتية بين الخالق

__________________

ـ هو الذي يكون علة لوجود رابط الأكبر في العقل فقط ، وأما الصدر فقد ذهب إلى أن برهان اللم ما كان الأوسط فيه علة للوجود والمحمول الذي للأكبر ولوجوده الرابط كليهما في العقل والخارج كليهما أيضا ، وبرهان الإنّ ما كان الأوسط فيه علة لوجوده الرابط فقط في الخارج والعقل كليهما. ولهذا يختلط الأمر على هذين المذهبين كمال الاختلاط ، إذ يكون أغلب البراهين اللّمية على المذهب الأوّل إنية على المذهب الثاني ، وأنت تعلم أن طرفي الاختلاف في هذه المسألة من فحول الحكمة والمنطق وأساطينهما.

وحيث إن أعداد الاختلافات المذكورة بلغت إلى عدد «الله» أي : ست وستين ، وقد ورد في الحديث: «إذا بلغ الكلام إلى الله فانصتوا» ننصت ونسكت ونرجع إلى ما كنا من موهنات مسلك الفلاسفة.

(١) ينسب المبيدي شارح هداية المفضل الأبهري في شرحه على الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى فخر الدين الرازي هذه الأشعار.

٤٨

والمخلوق ، وهذا من أسس القول بوحدة حقيقة الوجود وإنما الاختلاف بالمراتب.

ومنها أن الواحد لا يصد منه إلا واحد ، فليس معلول الله عندهم إلّا واحد هو العقل الأوّل ، ثم هو الخالق لسائر الخلق ، ووحدة العقل الأول قضية وحدة العلة الأولى ، هي وهدة في خلق سائر الخلق كوهدته تعالى عندهم عن خلق سائر الخلق.

هذه وما أشبه خلطا بين الخالق والعلة مما أهواهم في هوّات جارفة ، مما جعل الفلسفة الإلهية إلحادية أو إشراكية لا تشبه تصريحات الكتاب والسنة ، وكما تجد المفاصلة التامة بينهما بطيات الآيات في حقول معرفة الله في هذا الفرقان.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(١٧٦).

هنا عرض وجيز عن (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) وهو منقطع النظير في القرآن كله ، وقد ورد في مسرحه روايات متهافتة تحمل في الأكثر خرافات غريبة : ـ شرقية أو غربية ـ تفرض علينا تعمقا أنيقا في نص الآية ليسهل لنا الرد والقبول والله المستعان.

ترى من هو صاحب المسرح؟ وما هي الآيات التي أوتيها؟ وكيف انسلخ منها؟ ولا تؤتى الآيات المعجزات إلّا أهلوها الصالحون لها! (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

إنه حسب روايات عدة «بلعم بن باعورا من بني إسرائيل» أم سواه (١) ولم يكن نبيا ولا وصيا خلاف ما قد يروى ، حيث العصمة

__________________

(١) بحار الأنوار ١٣ : ٣٧٧ عن تفسير القمي حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الرضا (عليه السلام) أنه أعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجيب له ، ـ

٤٩

ولا سيما الرسالية اصطفاء واجتباء ، وكيف يصطفى ويجتبى من هو من الغاوين المخلدين إلى الأرض المتبعين أهواءهم لحد يمثّل بالكلب ، وهو مكذب بآيات الله ، فكيف يصطفيه إلّا الجاهل القاحل المغري للمجاهيل ويكأن الله يجهل حيث يجعل رسالته؟ و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فكيف جهل هنا موضع رسالته؟

إذا ف «آياتنا» هنا ليست هي من آيات العصمة رسالية وسواها ولا الآيات العامة المزيدة ، بل هي التي قد تؤتى غير الصالحين لردح من الزمن امتحانا فامتهانا ، ولكي نعلم أن الآيات الربانية ليست إلّا لمستحقيها بحق والذين يعملون لها كما هيه ، ليست إلّا هيه.

فسواء أكانت «آياتنا» آية استجابة الدعوة كما يروى؟ وهي آية واحدة! أم وآيات آفاقية وأنفسية في سلك معرفة ربانية زائدة ابتلاء له وامتحانا؟ وقد تناسبه جمع «آياتنا» هي الآيات العوان بين الخاصة الرسالية والعامة السارية.

هنا «آياتنا» هي عوان بين الآيات المؤتيات لكافة المكلفين بمختلف قابلياتهم وفاعلياتهم ، وبين الآيات الرسولية والرسالية للمرسلين ، فلا هي الخاصة ب (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) من الآيات العامة ، حيث تعمه وسواه ، ولا هي من الآيات الخاصة الرسالية لاختصاصها بالمصطفين ، فهي ـ إذا ـ عوان بين قبيلي الآيات ، أن زوّد فيما أوتي منها على سائر المكلفين ،

__________________

ـ فمال إلى فرعون في طلب موسى (عليه السلام) وأصحابه ، قال فرعون لبلعم : أدع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا ، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عزّ وجلّ فقالت : ويلك على ما تضربني؟ أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين؟ فلم يزل يضربها حتى قتلها ، وانسلخ الاسم من لسانه وهو قوله : (فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ... فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) وهو مثل ضربه.

أقول : هذا الحمار هو كالحمار الذي اختلق هذه الرواية المخيّلة للناظر إليها كان الله مجبر في إجابة دعاء ابن باعورا ، فلذلك امتنع عن المرور إلى موسى خوفة دعاءه وإجابته تعالى إياه.

٥٠

مهما نقص عن المرسلين.

فهي ـ إذا ـ قوة زائدة في الفطرة والعقلية الإنسانية ، والطاقة الحسية ، أماهيه في ذلك المثلث ، ومنها ظاهرة الكرامات بدعوات وسواها ، قوة زائدة بين زائدة العصمة والناقصة قدر الحاجة في قضية التكليف العام ، وهذه القوة رحمة للذين يتذرعون بها رفعا لكيانهم المعرفي والعبودي ، وزحمة للذين ينسلخون منها فيسقطون في هوّات الضلالة والمتاهة ، وكأنهم ما أوتوا من آيات الله شيئا.

ذلك ولقوة البصيرة والنظر ، ولنضوج العقل والبصر ، ولمزيد العلوم والفكر ، إن لها نصيبا بالغا للسالك إلى الله في مزيد معرفة الله ، ولكنه (فَانْسَلَخَ مِنْها) وقد كانت تحوطه حيطة الجلد على البدن فسلخها عنه (فَانْسَلَخَ مِنْها).

فرغم أن على الإنسان الاستزادة والاستقواء من ذرائع مزيد المعرفة بالله فالحب في الله ، ترى ماذا تكون حال من (آتَيْناهُ آياتِنا) دون محاولة منه إذا (فَانْسَلَخَ مِنْها) رغبة في الحياة الدنيا والإخلاد إليها ، قلبا لنعمة الله والذريعة إلى معرفة الله ، نقمة ونعمة وجهلا بالله ، ولذلك (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) له ولنفسه ومن سواه خالصا كالسا فالسا عما أوتي ، (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) الهاوين ، رغم الآيات التي أوتيها ، إذ كفر بها.

ومن هذه الآيات هي الباهرات على نبوة هذا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، وهذه الآيات تحمل له بسوء صنيعه سبعا من أبواب جحيم الغوايات لهذا الذي (آتَيْناهُ آياتِنا) إذ بدل نعمة الله كفرا وأحل نفسه دار البوار جهنم يصلاها وبئس القرار :

١ (فَانْسَلَخَ مِنْها) حيث عامل «آياتنا» معاملة الكفران والنكران ، فعمل في انسلاخه منها عن بكرتها فأصبح أدنى ممن أوتي آيات الله ككل وهم عامة المكلفين.

٢ (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) في انسلاخه حيث صار من أتباع الشيطان بعد ما أوتي آيات الرحمن ، ولأن المفعول الثاني ل «أتبعه» محذوف ، فهو إذا

٥١

المعروف بثالوثه ، أتبعه نفسه الأمارة ، فاتبعه إياه : الشيطان ، وأتبعه جموعا يتابعونه.

٣ (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) بذلك الانسلاخ فالإتباع الذي هو من خلفيات الانسلاخ ، فحين ينسلخ الإنسان من آيات الله ، فيصبح خاويا عنها جافيا ، فهنالك إتباع الشيطان في ثالوث بخطواته الثلاث ، وهنا تتم الغواية الطليقة (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) المحسوبين بحساب الشيطان : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢) فإن له عليهم سلطانا ما كنا حيث يحتنكهم راكبا عليهم فهم ـ إذا ـ سيّقة الشيطان.

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) رفعا من حالة الكرامة إلى هالة العصمة وما أشبه.

٤ (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) رغم ما أوتي من آيات ترفعه إلى السماء ، (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) : أرض الشهوة والحيونة والإنية والأنانية ، أماهيه من أرضيات سافلة تافهة.

و «الأرض» هنا هي أرض الحياة المادية قبال الحياة الروحية ، فالمخلد نفسه بكل حوله وقوته إلى الحياة المادية ، لا يعني من الحياة ما هو حي إلّا الشهوات والحيونات وإن كان موحدا فضلا عن ملحد أو مشرك ، فمن الموحدين من لا يعني من الحياة إلا دنياها ، وقد يتذرع بمظاهر إيمانية بغية الوصول إلى بغيته الأرضية منها.

ذلك ، والأرض هي الأرض بالنسبة لقبيلي الكفر والإيمان ، بفارق أن الكافر يبصر بها فتبصّره ، والمؤمن يبصر إليها فتعميه ، وعلى حد قول الإمام علي (عليه السلام) في صفة الدنيا : «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».

٥ (وَاتَّبَعَ هَواهُ) تخلفا عن أمر مولاه فهويّا في خضمّ هواه ، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق.

٦ (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) بل وأضل سبيلا ، حيث الكلب كلب له كلب كما خلق ، وهو جعل نفسه كلبا يكلب بانسلاخه عن آيات الله

٥٢

فانسلاخه عن إنسانيته ، (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) في (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) : دالعا لسانه من العطش ، فهو ـ إذا ـ دائم اللهث وكأنه ليس له قلب يضبطه لهثه حين لا تحمل عليه.

٧ (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ومن مثلهم السوء حالة الكلب في حمل سواه.

ذلك ، وباحتمال آخر قد تعني الآية أشخاصا أخر (١) وبثالث لا تعني شخصا أو أشخاصا خصوصا ، إنما تعني الموصوف بهذه الأوصاف الخبيثة النحيسة على مدار الزمن (٢) والنص يحتمل كل هذه الثلاث فلنرسله كما أرسل دونما تحديد بواحدة من هذه.

فلقد أوتي من الآيات لحد كأنها أصبحت جلدا له يحفظه لمكان (فَانْسَلَخَ مِنْها) انسلاخا بسوء صنيعه إذ لم يقل : فسلخه منها ، ففاعل السلخ هو هو بما صنع ، وهو الله جزاء بما ضيع فيما صنع.

ولأن هذا المسرح الغاوي الهاوي هو المجال الأجلي للشيطان ، لذلك (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) اتبعه نفسه إذ أصبح تابعا للشيطان تماما كما انسلخ من آيات الله تماما جزاء وفاقا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) كما وأتبعه الشيطان نفسه بعد ما اتبعه نفسه الامارة ، ثم اتبعه جموعا

__________________

(١) وهم بين أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمدا في ذلك الوقت ورجا أن يكون حسده ثم مات كافرا ولم يؤمن بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي قال فيه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «آمن شعره وكفر قلبه» عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق ـ

وأبي عامر الراهب الذي سماه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الفاسق كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فمات طريدا وحيدا وهو قول سعيد بن المسيب ـ

ومنافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الحسن والأمم ـ

(٢) وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم.

٥٣

يرأّسونه إذ أصبح من رؤساء الشيطنات (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) نفسه وأتباعه ، رغم ما أوتي من الآيات (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ).

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) كما آتيناه إياها ، لو أنه اتبعها واستفاد منها ، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) لازقا إياها ، راضيا بالحياة الدنيا من الآخرة ، تاركا آيات السماء وراءه ظهريا (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إخلاده فلم ينج منه ، فقد يرفع الله بآياته الذي يتذرعونها إلى الحق المرام قدر مسعاهم ومرماهم.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) اللّاهث (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) هجوما ضاريا «يلهث» ـ «أو تتركه» مسالما «يلهث» واللهث هو حال العطش ، فمن الكلاب من تسوى له الحالتان ريّا وعطشا ، فذلك الذي (آتَيْناهُ آياتِنا) فأصبح ريا بها لا يعطش ، وأخذ يلهث وعنده ما يغنيه منها ، فقد آتاه الله العلم فأغناه عن التعرض لهذا الأركس الأدنى ، ولكنه ألغاه إلقاء لنفسه فيما تشتهيه نفسه الخبيثة وطبيعته الخسيسة ، دونما حاجة إلى الأرض بما عنده من آيات السماء ، فسواء عليه إن أوتي «آياتنا» أم لم يؤت منها فإنه لاهث عطشان للحياة الأرضية الدانية الفانية ، حيث يفدي للحصول عليها بآياتنا (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وقد أوتوها انسلاخا منها (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ـ

فيا له من مشهد عجاب ، إنسان آتاه الله آيات له بينات ، خالعا عليه من فضله ، كاسيا من علمه بفرصة كاملة شاملة للاهتداء والارتفاع بها ، وإذا هو ينسلخ منها وكأنما الآيات أديمت له متلبسة بلحمه ، فهو ذا ينسلخ منها بعنف ، انسلاخ الحي أمن أديمه اللّاصق بكيانه.

فمن هذه الآيات آية الفطرة : الذر التي فطر الناس عليها ، حيث تلبس بها تلبس الجلد بالإنسان ، تجردا وانسلاخا من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، فيهبط من الأفق البارق إخلادا إلى الطين المحمى الحارق ، فيصبح غرضا للشيطان ، مخلدا إلى الأرض ، ملتبسا ملوثا بطينها ، ممسوخا كالكلب اللّاهث.

٥٤

ثم آية العقل وسائر الآيات الأنفسية الواسطة بين العقل والفطرة ، وبينها وبين الآيات الآفاقية ، من النبيين وكتاباتهم وآياتهم ، ومن الكائنات ككل ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه صانع.

فبقدر ما يؤتي الإنسان من آيات الله يرجى منه بنفس القدر أن يرتفع بها من الحياة الأرضية إلى الحياة السماوية ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا ، فاحصا عن الحيونات ، لاهثا وراء الفرعنات والنمردات.

وكم من عالم عيلم نراه على مدار التاريخ يعلم دين الله بزيادة بالغة ولكنه يزيغ عنه ويزيغ ، إعلانا للبدع ، واستخداما لشرعة الله في التحريفات المقصودة والفتاوى المطلوبة أو المتطلّبة للأهواء والمصلحيات! منسلخا من آيات الله ، منتهيا إلى كلب الكلاب بلهثات لا تنقطع كما الجحيم حيث يقول كما تقول : هل من مزيد؟.

إنهم يلهثون وراء هذا الأدني الأركس ، وراء الحطام ، وراء الشهوات والأهواء ، ولا حدود لهذه اللهثات ولا تنقطع أبدا إلّا بانقطاع أنفاسهم النحيسة البخيسة الخبيثة.

هؤلاء هم أشر خلق الله ، وأخطر على دين الله من الكلاب اللاهثة الضارية في ضرايع الغنم!

كلام حول قصص القرآن :

(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) هنا ، و (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) في يوسف (١١١) و (كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١١ :) ١٢٠) و (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٦ : ٥٧) وما أشبه.

إنها تعريفات بالقصص القرآنية أنها تعني للرسول نفسه تثبيت فؤاده على بلاغه الرسالي دونما تلكؤّ وتهامل ، أم يأس من فاعليها ، وللمرسل

٥٥

إليهم عبرة وتذكرة وتفكرة ، فإن كل إنسان تاريخ بنفسه فضلا عن كل جيل.

فدراسة القصص الحق هي كراسة للتفكير ، وحراسة عن التهدير ، ومراسة لسلوك صالح السبيل (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) و (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

فليس القرآن كتاب العرض القصصي تخديرا لأعصاب متوترة ، وإتلافا لأوقات ثمينة ، إنما هو فتح لما مضى من كتاب الحياة الإنسانية ، ممثلا كافة النتائج الواقعة ، خيّرة وشرّيرة من قبل لفريقي الخير والشر ، فهو نبراس لمستقبل الحياة ومتراس ، إضافة إلى حاضرة العظات القرآنية ، المحلقة على كل صنوف البراهين ، مبشرة ومنذرة.

وهذا هو المعني من السير في الأرض بتاريخها الجغرافي وجغرافياها التاريخي ، تفكرا في خلق الله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩ :) ٢٠) وذلك سير آفاقي وأنفسي متعاضدين مع بعضهما البعض للحصول على معرفة المبدء والمعاد ، وسير آخر به يطلع على مسير المكذبين ومصيرهم : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٢٧ : ٦٩).

وجامع السير هو النظر إلى كل عواقب الخير والشر : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (٣٠ : ٤٢).

فقد يضم السير في الأرض إلى كل إنسان تجربات ماضية لقبيل الإنسان ، فالإنسان السائر في الأرض بنظرة واقعية إلى وقائع الأرض ، يصبح كأنه التاريخ كله ، يقبل إلى وارده ويدبر عن شارده فيصبح ابنا صالحا للتاريخ الواقع.

ولكي نحصل على حاق التاريخ دون ليّ وعيّ ، علينا أن نكون واقعيين ، لا خياليين تقليديين لكل ما قيل أو يقال ، فننظر إلى واقع التاريخ

٥٦

المفتوح ، دون المقفل المغلق المغفّل الذي اختلقته مصلحيات المترفين المسيطرين على الشعوب بالسيف والنار ، فإنه تاريخ منكوس مركوس يصنع من السائر فيه نكسة وركسة عن انسانيته.

فالإنسان الجاهل بالتاريخ هو ابن نفسه قدر نفسه خيّرة وشريرة ، والعالم بالتاريخ هو ابن التاريخ إضافة إلى كونه ابن نفسه ، حيث يجمع تجارب السابقين إلى تجاربه نفسه ، ان في طريق الهدى أم طريق الردى.

ولأن النبوات هي بناة التاريخ الصالح ، فالذي يدرس تاريخها بتقدماتها وعرقلاتها لتكون له نبراسا ينير الدرب إلى الحق المرام ، ومتراسا يترس به عما لا يرام ، ذلك الإنسان يصبح ابن النبوات بحصائلها في وسائلها التي يدرسها.

ولا بد في عرض التاريخ من أرض صالحة لذلك العرض وهو القرآن ، حيث تعني (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أرضه بعرضه لصالح التاريخ غير المدسوس ولا المغشوش.

والقرآن حافل للقصص التاريخي الصالح لإنشاء فكرة صالحة ، بجنب ما هو حافل لسائر المواد التربوية الربانية.

إذا فلا فارق بين إنشاءات القرآن وإنباءاته ، حيث الكل تعني بناية الإنسان كأصلح ما يرام في حقل التربية الربانية.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)(١٧٧).

فقد رجع رجيع ظلمهم ـ بما كذبوا ـ إلى أنفسهم ، فلن يضروا الله شيئا ولا آياته حيث الحق ليس ليتحول عن حاله بتواتر التكذيب ، فإنما المتحول هو نفوس الظالمين حيث نزلوا أنفسهم عن كيانها الإنساني فهم (كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) :

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٧٨).

٥٧

ولا يهدي الله إلّا من هو في سبيل الاهتداء ، ناحيا نحو الهدى ، وأما الناحي نحو الردى ، حيث يضل بما يهوى ، فهو يضله مهما أوتي من آيات الله الدالة على حق الهدى.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩) ـ

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢٥ : ٤٤) ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٤٧ : ١٢).

إن القلوب تفقه كأصل من ناحيتين اثنتين ، ذاتية أنفسية دون حاجة إلى أعين وآذان ، وآفاقية هما فيها من الذرايع الإذاعية لها ، فإن الصورة الصوتية المسموعة وغيرها المبصرة تنتقل إلى القلوب فتدرسها تقليبا لها ظهر بطن اصطفاء لأحسنها وأليقها تقبلا.

فالذين (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) ثم (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) بصر الإنسان الواعي (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) سمع الإنسان (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) حيث لا تفقه فقه الإنسان ولا تبصر أو تسمع كما الإنسان ، ولأن ذلك في الأنعام قصور دون تقصير ، وهو في الإنسان تقصير دون قصور فليس ـ فقط ـ أولئك كالأنعام (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) حيث (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) بما غفلوا ، والأنعام غافلة عن ذكرى الإنسان كما خلقت.

وترى كيف (ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)؟ وقد خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، ف (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٩).

ثم (لَهُمْ قُلُوبٌ) هل هي صفة الذرء الخلق؟ فما بالهم يؤنّبون ويعذّبون! أم صفة المخلوق بسوء اختياره؟ فكيف (ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ)!.

الذرء ليس هو الخلق نفسه ، بل هو إظهار ما خلق بمظهر أعمالهم

٥٨

الصالحة أو الطالحة ، كما «يذرؤكم فيه» (٤٢ : ١١) و (مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ) (٦ : ١٣٦) هما إظهار ما خلق بمظهر آخر.

فكما أن مظاهر الخير هي من الخيّرين وهي من عند الله ، كذلك مظاهر الشر هي من الشرّيرين وهي من عند الله ، بمعنى أنهما منا بما نختار ونعمل ، وهي من عند الله بما يجازي بالعمل.

وهنا ثالوث المواصفات «لهم قلوب لهم أعين لهم آذان» تقرر معنى الذرء ، فنسبة الذرء إليه تعالى لا تعني أنهم خلقوا لجهنم ، بل هم الكثير كما القليل خلقوا للرحمة ، ولكنهم بسوء صنيعهم بهذه الذرايع إلى الرحمة ، هيّئوا أنفسهم لجهنم.

فلما ذا (ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لأن (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) وقد أمروا بالفقه والإبصار والسماع وهو مهيّئ لهم أسبابها الآفاقية والأنفسية ، فهو يذرؤهم ـ إذا ـ إظهارا بمظهر الخير الذي لم يعملوه بمظهر الشر الذي عملوه ، فذلك ذرأهم أولاء لجهنم ، وكما ذرأ قليلا للجنة وهم أولئك الذين لهم قلوب يفقهون بها ولهم أعين يبصرون بها ولهم آذان يسمعون بها ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(٦٧ : ١٠).

ذلك ، فإنما الإنسان هو القلب الفقيه والعين البصيرة والأذن السميعة بما لها من درجات ، ومن سواه ليس من الناس ، بل هو من النسناس بماله من دركات.

فقد خلق الله الإنسان للرحمة ، ثم ذرأ الصالحين للجنة والطالحين للنار بما ذرأوا أنفسهم ، وكما يحضر الزارع الحبّ فيذرء صالحه لزرعه ويذرأ طالحه لما دون ذلك ، وهكذا يذرأ الإنسان كما يزرع في مزرعة الدنيا (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

ذلك ، وقد يعني «ذرأنا» هنا إلى ما قدمناه ، ذرء العلم ، أن الأكثرية من الجن والإنس هم سائرون إلى جهنم بما يختارون على علم

٥٩

من (قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) وليس العلم قبل واقع المعلوم سببا للمعلوم ، إنما هو كاشف عنه ، سواء أكان سببا له إلى كونه كاشفا ، أم ليس هو السبب بل إنما هو كاشف ، وهكذا «لقد ذرأنا».

وفي احتمال ثالث قد يصح «ذرأنا» بما ذرأ الله وسائل النار والذرايع إليها كما ذرأ الذرايع إلى الجنة ، ولكنها كما العلم بها ليست مسيّرة لهما إلى عمل الجنة ولا عمل النار.

فقد خلقنا الله مختارين وهدانا النجدين خيرا وشرا ، وخلق ما نختاره من خير أو شر ، ولم يسيّرنا لا إلى أسباب الجنة ولا إلى أسباب النار ، ثم وذرائع الجنة هي أكثر بكثير من ذرائع النار ، فلا خلقه هذه الذرايع وإيانا ولا خيرنا تسيير ، ولا علمه بما سوف نعمله تسيير ، فإنه «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين».

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨١) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ

٦٠