الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) هنا في بدر ، كبادرة للفتح المبين وأنتم أذلة وقلة ف (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وسوف يأتيكم ـ بأحرى ـ بعد ردح إذا كنتم كما أنتم وبأحرى وأقوى ، فقد تشمل (جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الفتح المستقبل إلى الماضي قضية تحقق وقوعه بما وعد الله.

ثم تحول الخطاب إلى الفرق الآخر (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أم وقد يشمل المؤمنين (إِنْ تَنْتَهُوا) عما لا يليق بالمؤمنين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أو «تنتهوا» عن استعجال الفتح المبين حيث يأتي الله لكم حتى حين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (وَإِنْ تَعُودُوا) لهذه الحالة والهالة الإيمانية التي اقتضت غلبكم عليهم «نعد» إلى نصركم ، ولكن اعلموا أنه : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) لو لا واقع الإيمان ، كما لم تغن يوم أحد حيث تركتم المواقع المقررة لكم طمعا في الغنيمة ، وعلى أية حال (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قدر إيمانهم.

وما أجمله جمعا بين الخطابين بمثنى الاستفتاحين المتعاكسين ، ثم (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أنتم المشركين عما أنتم عليه (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) توبة إلى الله أم تركا لمحاربة المؤمنين بالله ، (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى تلك المحاربة «نعد» إلى ذلك الاستفتاح ، واعلم أن (لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) عدّة وعدّة عن الله «شيئا» ما دام الله مع المؤمنين (وَلَوْ كَثُرَتْ) كما كثرت (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

أم (إِنْ تَنْتَهُوا) أنتم المؤمنين عن القتال استفزازا للكفار ، أم عن الاستفتاح العاجل ، أم عما لا يليق بالمؤمنين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى صالح الإيمان «نعد» إلى الفتح لصالح الأمان ، واعلموا أنه (لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) إن كانت لكم فئة (وَلَوْ كَثُرَتْ) لو لم يكن الله ناصركم (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

فقد حملت الآية نذارة للكافرين وبشارة للمؤمنين دونما اختصاص في خطابها فريقا دون آخرين ، قضية أدب اللفظ وحدب المعنى.

١٦١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ

١٦٢

وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٣٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(٢١).

(أَطِيعُوا اللهَ) فيما يأمركم وينهاكم «ورسوله» فيما يحمل إليكم من طاعة الله (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) : عن الله أصالة وعن رسوله رسالة ، فإفراد الضمير قاصد إلى تلك الأصالة أن ليست طاعة الرسول مستقلة أو مشتغلة عن طاعة الله ، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أنباء ما قد سلف من المتولين عن الله ورسوله ، والمطيعين الله ورسوله ، و «تسمعون» أوامر الله تترى في كتابه وعلى لسان رسوله.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) كالمنافقين (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) عقيديا وعمليا ، فإنما يسمعون سمع النفاق دون وفاق ، وكالكفار المستهزئين بما يسمعون : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (٨ : ٣١) فهم (لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) (٧ :) ١٧٩) كافرين أو منافقين (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦٧ : ١٠) أم ومؤمنين متخلفين قدر ما هم يشابهونهما في عدم سمعهم لما يسمعون.

فقد تعني (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) جمعا من المكيين الذين آمنوا أوّل مرة

١٦٣

ثم أخرجوا مع المشركين إلى بدر التحاقا إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أم نظرة الالتحاق بالفرقة الغالبة ، فلما رأوا قلة المسلمين قال نفر منهم (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) وأما الذين خرجوا إلى بدر مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فهم خلّص ذو خلّط مهما كانوا درجات.

وحين تكون طاعة الرسول كطاعة الله مفروضة طليقة والتولي عنه كالتولي عن الله مرفوض طليق فما هو الجواب عن «حيلولة عمر بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابة وصيته (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرض وفاته» (١)؟ والوصية حق لكل مسلم فضلا عن النبي الذي يعني في وصيته تحويل هامة الأمور الرسالية إلى من يرضاه الله! و «لقد لد في مرضه وهو غير راض» (٢).

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(٢٢).

إن الشرّ المعني هنا ليس إلّا في حقل التكليف الإنساني ومن أشبه ، فالتعبير هنا ب : «الدواب» دون «الناس» أو (الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) تنديد بهؤلاء النسناس الذين هم في الحق دوابّ بل هم أضل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

ف «الدواب» هنا طليعة تشمل خيرها وشرها ، من حيوانها وإنسانها وغيرهما ، والشر الطليق بينها (الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) شرا بين خير من الدواب أو شر بقصور أم تقصير.

فطالما البهائم لها آذان ولكنها ليست لتسمع سمع الإنسان ، وهي

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة نقلا عن بخ ـ ك ٣ ب ٣٩ قاك ٥٨ ب ٦ ، ك ٦٤ ب ٨٣ ك ٧٥ ب ١٧ ك ٩٦ ب ٢٦ مس ـ ك ٢٥ ب ٢٢ قد ـ ج ٢ ق ٢ ص ٣٦ و ٣٢٤ و ٣٣٦ قا حم ـ أوّل ص ٢٣٢ و ٢٩٣ و ٣٢٤ و ٣٣٦ قا ٣٥٥ ثالث ص ٣٤٦.

(٢) المصدر ـ ك ٧٦ ب ٢١ مس ـ ك ٣٩ ح ٨٥ و ٨٦ عد ـ ج ٢ ق ٢ ص ٣١ حم ـ أول ص ٢٠٩ سادس ص ٥٣ و ١١٨ و ٤٣٨ هش ـ ص ١٠٠٧.

١٦٤

مهتدية بفطرتها كما فطر الله ولكن هؤلاء الدواب الناس النسناس لهم آذان وألسنة وهم بسوء صنيعهم لا يسمعون إنسانيا ولا ينطقون ، فقد قطعوا عن أنفسهم النفسية الإنسانية النفيسة إلى نفسية نحيسة بئيسة تعيسة جعلتهم (شَرَّ الدَّوَابِّ) بصورة طليقة! حيث سدوا منافذ الإدراك ظاهرا على آذانهم ، واذاعتها على ألسنتهم ، وباطنا على قلوبهم ، وأهم الواردات المعرفية هي الواردة من الأسماع : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦٧ : ١٠).

وشر الدواب هؤلاء الأنكاد لهم «الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان وذلك ميت الأحياء» (٨٥ / ١٥٥) ـ أولئك «لم يستضيئوا بأضواء الحكمة ، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة ، فهم في ذلك كالأنعام السائمة ، والصخور القاسية» (١٠٦ و ٤٠) ـ «منهوما باللذة ، سلس القياد للشهوة ، أو مغرما بالجمع والادخار ، ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبها بالأنعام السائمة» (١٤٧ ح / ٥٩٥).

إن الله تعالى لم يخلق دابة شريرة في أصلها ، فلم يخلق الشيطان شيطانا وإنما جنا كسائر الجان ، ثم هو الذي شيطن نفسه بسوء صنيعه ، كما لم يخلق الكافر كافرا ، وكذلك سائر الدواب الشريرة ، اللهم إلّا شرا قاصرا هو قضية كون الكائن مخلوقا إذ لا يمكن أن يخلق ما هو خير مطلق كما الله.

ذلك ، فالدواب الشريرة في حقل (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ) هي المقصرة في شرها فأين تقصير سائر الدواب وتقصير الصم البكم ، فقضية خلق الإنسان في أحسن تقويم والشرعة التي تقومه أكثر صاعدا في المعارج ، ألا يعمل شرا أم يعمل أقل من سائر الدواب ، فأما إذا يعاكس الإنسان أمره ارتدادا إلى أسفل سافلين فهو (شَرَّ الدَّوَابِّ) بصورة طليقة وكما يقول الله عنه (حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) مهما كان حمل الأمانة خيانة من سائر الكائنات كثيرة ، فهو بجنب حمل الإنسان ضئيل قليل.

١٦٥

والتعبير عن الصم البكم بالدواب تعبير لهم بارتجاعهم إلى كيان الدواب الشريرة وأضل سبيلا ، فلا يحق لهم اسم الإنسان أو الناس بل هم الدواب النسناس.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٣).

هنا «لو» تحيل أن يعلم الله فيهم خيرا إذ لا خير فيهم حتى يعلم ، فهنا مساوات بين علم الله شيئا وواقعه ، وبين عدمه وعدم واقعه لأنه بكل شيء محيط.

فحين لا سمع لهم وهم صمّ بسوء فعالهم واختيارهم ، فلا يحق إسماعهم الحق الذي هم عنه معرضون ، إذا ـ والحال هذه ـ «ولو أسمعهم ـ اسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم ـ لتولوا» عما أسمعو (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق المرام. ف «إذا أراد الله بقوم خيرا أسمعهم ولو أسمع من لم يسمع لولى كأن لم يسمع» (١).

فليس (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) واردا مورد سمع القبول ، وإلّا لاستحال التولي والإعراض ، إنما هو مورد سمع التمّنع لهؤلاء الدواب الصمّ البكم الذين لا يعقلون.

وقد قيل إنهم سألوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يحيي لهم قصي بن كلاب وغيره من موتاهم ليخبروهم بصحة نبوته ، ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون قولهم هذا إلا تعنتا وعنادا ، فحتى لو أسمعهم كلام موتاهم تصديقا لهذه الرسالة (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤).

(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٤١ في أصول الكافي بسند متصل عن سلمة بن محرز قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه وعلم تغيير الزمان وحدثانه ، إذا أراد الله ثم أمسك هنيئة ثم قال : ولو وجدنا أوعية أو مستراحا لقلنا والله المستعان.

١٦٦

يَسْمَعُونَ)، (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) وكيف «لما» دون «إلى ما»؟ علّه كما الصراط المستقيم حيث يهداه أو يهدى له أو يهدي إليه ، مثلث متدرجة الزوايا في حقل الهدى.

فهنا (لِما يُحْيِيكُمْ) لمحة إلى لزام الحياة لما يدعوكم بكل وصل : أصل دون أي فصل فاصل.

والحياة الموعودة هنا بالدعوة ليست ـ بطبيعة الحال ـ هي الحياة الحاصلة قبل الدعوة والاستجابة ، كالحياة الحيوانية والإنسانية الفطرية والعقلية أماهيه من حياة معطاة قبل أي دعاء واستجابة.

ثم وليست هي حياة طليق الإيمان أيضا حيث المخاطبون هم المؤمنون ، إذا فهي فوق أصل الإيمان بدرجاته المتكاملة على ضوء الاستجابة في مختلف حقول الدعوة الربانية ، كالحياة الحاصلة بالجهاد في سبيل الله وهي (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (٩ : ٥٢) قاتلا ومقتولا ف : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٣ :) ١٦٩) وهذه حياة متميزة عن سائر الحياة لأهل البرزخ.

هذا ، ولكن لا تختص الحياة الموعودة بحياة الشهداء ، كما لا تختص الدعوة لما يحييكم بالجهاد ، بل هي الدعوة العامة القرآنية بكل حقولها.

ذلك والأحياء بهذه الحياة : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٥٨ : ٢٢) ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٦ : ١٢٢) ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧) : أطوار من الحياة بعد حياة الإيمان : تثبيتا للإيمان ومزيدا له وتأييدا بروح منه وسائر الحياة الطيبة علما ومعرفة وإيمانا ، ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧).

وبصيغة واحدة المجاهدة في سبيل الله هي التي تحييكم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦١ : ١١).

إذا ف «استجيبوا إذا دعاكم لما يحييكم» و «إذا» هذه مستمرة

١٦٧

على مدار الدعوات الربانية بالقرآن والسنة ، فانها تحييكم مهما اختلفت درجات إحياءها حسب درجات أحياءها وموادها ، وقد شهد بحق هذه الحياة الرسولية والرسالية المحمدية من غير المسلمين كثير (١).

__________________

(١) يقول الشاعر الفرنسي (لامارتين) ١٧٩٠ ـ ١٨٦٩ وهو من مشاهير الشعراء الفرنسيين وزعيم الحركة الرومنطيقية ـ يقول بحق هذا النبي العظيم :

«إن حياة مثل حياة محمد وقوة كقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه وشدة بأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان ، وإيمانه بالظفر ، وإعلاء كلمته ، ورباطة جأشه لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية ، إن كل ذلك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعا أو يعيش على باطل ـ

فهو فيلسوف ، وخطيب ، ورسول ، ومشرع ، وهادي الإنسان ، إلى العقل ، وناشر العقائد المعقولة الموافقة للذهن واللب ، ومؤسس دين لا فرية فيه ، ولا صور ، ولا رقيات ، ومنشئ عشرين دولة في الأرض ، وفاتح دولة روحية في السماء وتمتلئ بها الأفئدة ـ فأي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثل ما أدرك ، وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ» (أخرجه المهندس زكريا هاشم زكريا : المستشرقون والإسلام ص ٢٧٢ ـ أنظر كتاب أحمد السيد (محمد نبي الإنسانية) دار الشروق ص ٧٦.

ويقول ويل ديورانت ـ المؤلف الأمريكي ، صاحب قصة الحضارة ـ : وإذا حكمنا للعظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمدا كان من أعظم عظماء التاريخ ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به دياجير الهمجية حرارة الجو وجذب الصحراء ، وقد نجح في تحقيق هذا الفرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله ، وقل أن نجد إنسانا غيره حقق كل ما كان يحلم به ، واستطاع في جيل واحد أن ينشئ دولة عظيمة ، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم. (قصة الحضارة ـ ترجمة محمد بدران ـ الجزء الثاني المجلد الرابع ص ٦).

وفي دائرة المعارف البريطانية تحت مادة «محمد» : محمد بن عبد الله مؤسس الدين الإسلامي ـ ولد في مكة عام ٥٧٠ ميلادية ومات عام ٦٣٢ ، وقليلون هم الرجال الذين أحدثوا في البشرية الأثر العميق الدائم الذي أحدثه محمد ، لقد أحدث أثرا دينيا عميقا لا يزال منذ دعا إليه حتى الآن هو الإيمان الحي ، والشريعة المتبعة لأكبر من سبع سكان العالم. على أن أثره التاريخي يبدو بالأكثر عند ما نذكر أنه في أقل من عشرين سنة منذ بدأ دعوته قوّض دعائم إمبراطوريتين عقيدتين وهما الإمبراطورية البيزنطية والامبراطورية الفارسية ، مؤسسا على أنقاضها حضارة جديدة ـ

ولقد أرسى منذ جاء بدعوته ـ التي هي عقيدة وشريعة ـ قواعد بناء المجتمع الاجتماعية ـ

١٦٨

ثم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) حيلولة صالحة لمن يستحقها بتلك الاستجابة الإيمانية ، وطالحة جزاء وفاقا للذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وعلى حد المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم): «يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى» (١) فلو أن قلب المؤمن حاول التقلب إلى الردى حال بينه وبينها ، ويعاكس أمر الكافر إلى الردى.

ذلك ، ومما يحييكم ، الداخل في دعوة الله والرسول ، ولاية

__________________

ـ والسياسية ، وقد أعقب موته أن سجل خلفاءه الأحاديث التي رويت عنه ، وأدق التصرفات والأفعال التي قام بها ، فاتخذ المؤمنون من هذه الأحاديث نبراسا ومثلا أعلى يحتذونه في حياتهم اليومية جيلا بعد جيل (أحمد السيد : محمد نبي الإنسانية ـ دار الشروق ص ٧٢).

وجاء في كتاب (مختصر تاريخ الإنسانية) لمؤلفه ه. ج. ويلز : كان يمكن لأي متنبئ تاريخي يستعرض حياة بشر في مستهل القرن السابع الميلادي ، أن يتوقع بحق أنه لن تمضي بضعة قرون حتى تقع كل أوروبا وآسيا تحت سيادة المغول والتتار ، فلم يكن في أوروبا الغربية أي إشارة تدل على إمكان قيام النظام فضلا عن الوحدة ، والامبراطوريتان البيزنطية والفارسية كانتا في طريقهما نحو الانحلال والدمار ـ

ولكن هذا المتنبي كان سيخطئ في تقديره ، فقد اشتعلت دنيا الصحراء والبدو بمائة عام من المجد عند ما بسط العرب سلطانهم ومدوا حكمهم ولغتهم من اسبانيا إلى حدود الصين ، مقدمين للعالم ثقافة جديدة ، ومنشئين دينا لا يزال حتى اليوم أحد القوى الحيوية في العالم ـ

وكان محمد بن عبد الله هو الذي أشعل الجزيرة العربية ودفعها لتحقيق ذلك كله ، والذي ظل حتى سن الأربعين لا يميز نفسه بشيء غير عادي عن بقية معاصريه ، (أخرجه أحمد السيد في : محمد نبي الإنسانية ، المصدر نفسه ص ٧٣).

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧٦ ـ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : سألت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قال : ، وفيه عن ابن عباس في الآية قال : يحول بين المؤمن وبين معصيته التي يستوجب بها الهلكة فلا بد لابن آدم أن يصيب دون ذلك ولا يدخل على قلبه الموبقات التي يستوجب بها دار الفاسقين ويحول بين الكافر وطاعته فلا يصيب من طاعته ما يستوجب ما يصيب أولياءه من الخير شيئا وكان ذلك في العلم السابق الذي ينتهي إليه أمر الله تعالى وتستقر عنده أعمال العباد.

١٦٩

علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما يروى (١).

وعلى أية حال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥٠ : ١٦) فالله أقرب إلى قلوبنا منا إليها :

يار نزديكتر از من بمن است

وين عجب تر كه من أز وى دورم

ذلك ، ف «كل ميسر صاحب النار ميسر لعمل النار وصاحب الجنة ميسر لعمل الجنة» (٢) : إذ (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠).

أجل ، كلّ ميسر وليس مسيّرا ، وليست الحيلولة الربانية بين المرء وقلبه مؤمنا أو كافرا ، إلا بما يختاره صاحبه تيسرا لما يهواه ، دون ما يختاره الله له أو عليه تسييرا خلاف هواه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

فالحيلولة الربانية بين المرء وقلبه تحلق على كل مرء بقلبه ، ولأن القلوب هي أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس

__________________

(١) وممن أورده وصححه الحافظ أبو بكر بن مردويه على ما في تفسير اللوامع وكشف الغمة (٩٥) روى باسناده مرفوعا إلى الإمام الباقر (عليه السلام) أن هذه الآية قد نزلت في ولاية علي بن أبي طالب ، ومنهم الترمذي في مناقب مرتضوي (٥٦) نقلا عن ابن مردويه في المناقب.

(٢) المصدر أخرج أبو الشيخ عن أبي غالب قال سألت ابن عباس عن هذه الآية قال : قد سبقت بها عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذ وصف لهم عن القضاء فقال لعمرو غيره ممن سأله من أصحابه : اعمل فكل ميسر قال : وما ذلك التيسر؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) صاحب النار.

وفي نور الثقلين ٢ : ١٤١ عن تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية يقول : بين المؤمن ومعصيته أن تقوده إلى النار وبين الكافر وبين طاعته أن يستكمل بها الإيمان واعلموا أن الأعمال بخواتيهما ، وفيه عن كتاب التوحيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق ، وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا ولا يستيقن القلب أن الباطل حق أبدا.

١٧٠

والحواس أئمة الأعضاء ، فلا تفويض لعباد الله في أفعالهم كما لا جبر ، ولله تعالى الدور الأصيل في تحويل القلوب عدلا وفضلا ، حيلولة بين إمام الأئمة والمأمومين في مخمس الكيان الإنساني في هذا الحقل.

وليس (اللهَ يَحُولُ) يعني انه بذاته يحول بين المرء وقلبه ، فإنما هي علمه ومشيئته الحائلة بينهما ، فصلا بين المرء وبين قلبه ، فانه فصل بين قلبه كإمام الأئمة وبين المأمومين العقول والأفكار والحواس والأعضاء.

فحين يحنّ قلب المؤمن خلاف هواه إلى شرّ أو يحن إلى ترك خير ف (اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تقليبا له إلى خير أم ترك شر ، ويعاكسه الكافر ، قضية الجزاء العدل.

فرغم أن القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء (١) ، رغم ذلك لله المشية الحكيمة بين القلوب وسائر الخمسة تدبيرا صالحا على ضوء ما يقدمه المرء من معدّات وما يعنيه في أصل التصميم الصميم خيرا أو شرا ، وصالح الحيلولة الإلهية هو حيلولة العلم فإنه أقرب إلينا منا ، وحيلولة القيومية ، فإنه أقوم لنا منا ، وحيلولة الإرادة إيجابيا أو سلبيا في صالحنا وطالحنا كما هو قضية العدل أو الفضل ، توحيدا لربوبية التأثير ، وحين يحول الله بين المرء وقلبه ، فبأحرى له أن يحول بين المرء وكل قواته ومراداته ، بين بصره ومبصره ،

__________________

(١) وبنقل آخر في مستدرك نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : العقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة القلوب والقلوب أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء(مستدرك ١٧٦) ولكن الآية تؤيد ما ننقله في المتن كرارا ، حيث المحاور الأصيلة هي القلوب ، وحصائل العقول والأفكار والصدور لما تدخل في القلوب تغربل وتخلص.

وقد يوجه الوجهان توافقا بينهما في وجهين ، ان للعقول قوسا صعوديا وآخر نزوليا ، فالصعودي إنها أسس الأفكار ثم الأفكار أسس القلوب ثم القلوب آمرة للحواس ثم الحواس آمرة للأعضاء.

والقوس النزولي ان القلوب تأمر العقول والعقول تأمر الأفكار والأفكار تأمر الحواس والحواس تأمر الأعضاء ، فالآمرية الأخيرة إذا هي للحواس حيث تأمر الأعضاء ، ثم بداية الصعود من العقول ، ثم نزول الأمر من القلوب إلى العقول إلى الأفكار. تأمل.

١٧١

بين سمعه ومسموعه ، بين ذوقه ومذوقه ، بين حسه ومحسوسه ، وبين كل كيانه وما يهواه ، وحيلولته بين المرء وقلبه هي حيلولة بينه وبين كل كيانه ، وهو القائل (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) منه إلى نفسه وحياته ككل ، وهذه الحيلولة الشاملة هي من قضايا ملكه الطليق للكائنات كلها.

وليس يكفي للمرء أن يعقل صحيحا ، فكثير هؤلاء الذين يعقلون ثم لا تطمئن قلوبهم بما عقلوه لأن قلوبهم مقلوبة مطموسة مركوسة فلا تستجيب.

ذلك ، وبوجه آخر تعني هذه الحيلولة أن الله لا يغيب عن أي قلب مهما تناكر وتجاهل ، فقد يغيب عن القلب أي حاضر أو غائب ولا يغيب الله عنه قضية الفطرة المجبولة على معرفة الله ، فلا عاذرة في عدم استجابة الله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).

فقد تعرفه القلوب ، ويعرف هو القلوب وما في القلوب ، وهو يقلبها كيف يشاء ، فهو المرجع والملجأ في تقلب القلوب فالعقول فالأفكار فالحواس فالأعضاء (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

وهذا المقطع القاطع من آية الاستجابة هذه يحلّق على جذور المعارف الربانية ، قاطعا أعذار المتجاهلين المتكاسلين دعوة الله ، قالعا غرة النفاق ، وغرور الإيمان الوفاق ، أن المؤمن ـ أيا كان ـ ليس ليستقل في إيمانه فتزول به نكبة الغرور نكسة للغرور ، وهو عبارة أخرى عن (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

ذلك ، ومن حيلولته تعالى بين المرء وقلبه قربه إليه أقرب من نفسه إلى نفسه ، ف (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥٠ : ١٦).

ومنها أن ينسيه ما ذكره أو يذكره ما نسيه ، فإن القلب بين أصبعي الرحمان ، ومنها أن يزيل عنه عقله وتميزه ، حيلولة لإزالته ، أم لتخفيفه ، أم ولتثبيته ، فلا فاعلية للقلب ولا عطلة إلا بإرادته تعالى حسب القابليات والفاعليات ، وهكذا يحول بين قلب الكافر وبينه تجميدا لصميم قصده السيء الخطر ، كما يحول بين قلب المؤمن وبين نفسه تأييدا له في فعل

١٧٢

الخير وترك الشر تكوينا ، كما ويحول تشريعا بالأمر والنهي حيث الإيمان قيد الفتك.

وتلك الحيلولة المؤمنة تعني إمحاء ما يناحر الإيمان أو يضعفه وكما يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله تفسيرا لآية المحو والإثبات : يمحو الكفر ويثبت الإيمان ، ويمحو النكرة ويثبت المعرفة ، ويمحو الغفلة ويثبت الذكر ، ويمحو البغض ويثبت المحبة ، ويمحو الضعف ويثبت القوة ، ويمحو الجهل ويثبت العلم ، ويمحو الشك ويثبت اليقين ، ويمحو الهوى ويثبت العقل على هذا النسق ودليله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) محوا وإثباتا (١).

حيلولات ربانية تناسب ساحة قدسه تعالى قضية وحدانيته الوحيدة غير الوهيدة فيما يحصل من خلقه أم لا يحصل.

ولعمر إلهي الحق إنها صورة رهيبة يتمثلها القلب بين أصبعي الرحمان ـ رحمة وغضبا ـ يقلبه كيف يشاء حسب المساعي صالحة وطالحة لأصحاب القلوب صورة تستوجب اليقظة الدائمة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ، تحذرا من كل هاجسة فيه واجسة ، تعلقا دائما بالله ، واستجابة له ولرسوله مخافة تقلبه في سهوة أو غفلة أو دفعة ، ففرارا إليه مما سواه.

ولقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على محتدة القمة عند الله يكرّر دعاءه : «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فيكف بنا ونحن نحن المجاهيل الضعفاء الفالتون.

ف «اللهم داحي المدحوات وداعم المسموكات ، وجابل القلوب

__________________

(١) مجلة العرفان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٩٥ عنه (عليه السلام).

١٧٣

على خطريها : شقيها وسعيدها» (الخطبة ٧٠) ثبت قلوبنا على دينك.

فقلوب المؤمنين المطمئنين بالله تتقلب إلى الرشد والنور ، وقلوب من سواهم تتقلب إلى النار «قاسية عن حظها ، لاهية عن رشدها ، سالكة في غير مضمارها ، كأن المعني سواها ، وكأن الرشد في إحراز دنياها» (١) «فالصورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان وذلك ميت الأحياء» (٨٥) ـ

ف «أين القلوب التي وهبت لله ، وعوقدت على طاعة الله» (١٤٢) ـ

فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة ، لزهقت نفسك شوقا إليها ، ولتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا الله وإياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته (١٦٣) ـ و «أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر» (١٧١) ـ

«وإن لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإن قلب المنافق من وراء لسانه ، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه ، فإن كان خيرا أبداه ، وإن كان شرا واراه ، وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه ، لا يدري ماذا له وماذا عليه ، ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (١٧٤) ـ

«ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلل في

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٨١ / ٢ / ١٤٣. وكذلك التي تتلوها بارقامها.

١٧٤

نفوسهم ، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه ، فالله الله في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فإنها مصيدة إبليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ، التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، فما تكدي أبدا ، ولا تشوي أحدا ، لا عالما لعلمه ، ولا مقلا في طمره ، وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات ، تسكينا لأطرافهم ، وتخشيعا لأبصارهم ، وتذليلا لنفوسهم ، وتخفيضا لقلوبهم ، وإذهابا للخيلاء عنهم» (١٩٠) ـ

ف «أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوه باليقين ، ونوره بالحكمة ، وذلله بذكر الموت ، قرره بالفناء ، وبصره فجائع الدنيا ، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام ، وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين» (٢٧٠) ـ

فيا لله من ذلك القلب المتقلب الذي أحتل الإمامة الكبرى في كيان الإنسان ككل ، ف «لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه وذلك القلب ـ بضعة من روحه ـ وله موارد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فان سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ ، وإن ناله الخوف شغله الحذر ، وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة ، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى ، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن عضته الفاقة شغله البلاء ، وإن جهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أفرط به الشبع كظة البطنة ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد» (١٠٨ ح).

و «إن للقلوب شهوة وإقبالا وإدبارا ، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها ، فإن القلب إذا أكره عمي» (١٩٣ ح) ـ

١٧٥

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٥).

انها فتنة شاملة حاملة الذين عدلوا إلى الذين ظلموا ، أو ليس هذا ظلما بالذين لم يظلموا أن يسوّوا بالذين ظلموا في هذه الفتنة؟ أم كيف تتقى وتقوى العدول هي خير وقاية ، فإن كان هؤلاء غير متقين فهم من الذين ظلموا.

وإن كانوا متقين فكيف ـ إذا ـ يتقون؟ إنها فتنة وليست ـ فقط ـ عذابا حتى لا يشمل غير الذين ظلموا ، فتنة شاملة واختبار هي للذين ظلموا شر ودمار ، ولكنها لغير الظالمين فتنة عليهم أن يتقوها ويقوا أنفسهم منها حتى يتخلصوا عنها ناجحين ، مهما هلكت فيها أبدانهم وفنيت أموالهم.

فالفتن الربانية أنماط وأشكال يتعاكس الأمر فيها للذين اتقوا على الذين ظلموا ، فقد تكون فتنة خير وسعة ، وأخرى فتنة شر وضيق (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٢١ : ٣٥) فالذين آمنوا واتقوا هم ناجحون والذين فسقوا وطغوا هم ساقطون : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (٩ : ٤٩).

فمن جملة الفتن التي (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فتنة الخلافة بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) (١) وعن النبي (صلّى الله

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٤٢ عن العياشي عن عبد الرحمن بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : أصابت الناس فتنة بعد ما قبض الله نبيه حتى تركوا عليا وبايعوا غيره ، وهي الفتنة التي فتنوا بها وقد أمرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) باتباع علي (عليه السلام) والأوصياء من آل محمد (عليهم السلام).

١٧٦

عليه وآله وسلم) قال : أخبرت أنهم أصحاب الجمل (١) وفتنتهم في ليلة القدر هل هي ماضية أم مستمرة (٢) وما أشبه من فتن صعبة ملتوية تجعل المتوسطين في الإيمان حيارى ، فضلا عن البسيطين كفتنة الرماة يوم أحد ، وهنالك مجالة حق التقوى حفاظا على صالح الهدى.

ولقد تعترضكم فتن تزلزل فيها أركان الإيمان ، ما ليس لها بقية إلّا بكامل التقوى والإيمان : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢ : ٢١٤).

ف «يا أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة» (الخطبة ٥) ـ فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر إلى كل نفس بما

__________________

ـ وفي ملحقات أحقاق الحق ٣ : ٥٤٦ عن النيشابوري تفسيره ٩ : ١٣٤ بهامش تفسير الطبري.

وفيه ١٤ : ٣٩٩ عن الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٢٠٦ بسند متصل عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي ، وعن الزبير بن العوام أنه قرأ هذه الآية فقال : ما شعرت أن هذه الآية نزلت فينا إلا اليوم ، يعني يوم الجمل في محاربته عليا ، وفيه عن ابن عباس في الآية قال : حذر الله أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يقاتلوا عليا.

(١) المصدر عن العياشي عن إسماعيل السرى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : .. ، وفي تفسير الفخر الرازي ١٥ : ١٤٩ عن السدي نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل وروي أن الزبير كان يساير النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوما إذ أقبل علي رضي الله عنه فضحك إليه الزبير فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : كيف حبك لعلي؟ فقال يا رسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد ، فقال : كيف أنت إذا سرت تقاتله.

(٢) المصدر في أصول الكافي باسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) عن علي بن الحسين (عليهما السلام) حديث طويل وفيه : ثم قال في كتابه (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) في (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) يقول : إن محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) يموت يقول أهل الخلاف لأمر الله عزّ وجلّ : مضت ليلة القدر مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فهذه فتنة أصابتهم خاصة.

١٧٧

قسم لها من زيادة أو نقصان فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة ـ زيادة ـ في أهل أو مال أو نفس فلا تكونن له فتنة (خ ٢٣) ـ

و «كن في الفتنة كابن اللبون ـ رضيع الناقة ـ لأظهر فيركب ولا ضرع فيحلب» (ح) ولا يقولن أحدكم : اللهم إن أعوذ بك من الفتنة ، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استفاد فليستفد من مضلات الفتن فإن الله سبحانه يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (٩٣) ح).

أما بعد أيها الناس ، فأنا فقأت عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها غيري بعد أن ماج غيهبها ، واشتد طلبها ، فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي نفسي بيده لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها ومن يقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتا ، ولو فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسؤولين ، وذلك إذا قلّصت حربكم ، وشمرّت عن ساق ، وكانت الدنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيام البلاء عليكم ، حتى يفتح الله لبقية الأبرار منكم ـ

إن الفتن إذا أقبلت شبّهت ، وإذا أدبرت نبّهت ، ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حوم الرياح ، يصبن بلدا ويخطئن بلدا ـ

ألا وان أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية ، فإنها فتنة عمياء مظلمة عمّت خطّتها ، وخصّت بليّتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عمي عنها ، وأيم الله لتجدنّ بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس ، تعذم بغيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درّها ، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم ، أو غير ضاربهم ، ولا يزال بلاءهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة ، وقطعا جاهلية ، ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى ،

١٧٨

نحن أهل البيت منها بمنجاة ، ولسنا فيها بدعاة ، ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا ، ويسوقهم عنفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة ، لا يعطيهم إلا السيف ، ولا يجلسهم إلا الخوف فعند ذلك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاما واحدا ، ولو قدر جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطوننيه (الخطبة ٩٢).

«فاتقوا سكرات النعمة ، واحذروا بوائق النقمة ، وتثبتوا في قتام العشوة واعوجاج الفتنة ، عند طلوع جنينها ، وظهور كمينها ، وانتصاب قطبها ، ومدار رحالها ، تبدو في مدارج خفية ، وتؤول إلى فظاعة جلية ، شبابها كشباب الغلام ، وآثارها كآثار السلام ، تتوارثها الظلمة بالعهود ، أولهم قائد لآخرهم ، وآخرهم مقتد بأولهم ، يتنافسون في دنيا دنية ، ويتكالبون على جيفة مريحة ، وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع ، والقائد من المقود ، فيتزايلون بالبغضاء ، ويتلاعنون عند اللقاء ، ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف ، والقاصمة الزحوف ، فتزيغ قلوب بعد استقامة ، وتضل رجاء بعد سلامة ، وتختلف الأهواء عند هجومها ، وتلتبس الآراء عند نجومها ، من أشرف لها قصمته ، ومن سعى فيها حطمته ، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة ، قد اضطرب معقود الحبل ، وعمي وصية الأمر ، تغيض فيها الحكمة ، وتنطق فيها الظلمة ، وتدق أهل البدو بمسحلها ، وترضهم بكلكلها ، يضيع في غبارها الوحدان ، ويهلك في طريقها الركبان ، ترد بمر القضاء ، وتحلب عبيط الدماء ، وتثلم منار الدين ، وتنقض عقد اليقين ، تهرب منها الأكياس ، وتدبرها الأرجاس ، مرعاد مبراق ، كاشفة عن ساق ، تقطع فيها الأرحام ، ويفارق عليها الإسلام ، بريها سقيم ، وظاعنها مقيم» (الخطبة ١٥١).

ذلك ، ومن واجهة أخرى لأن خطاب التحدير التحظير عام يعم كافة المؤمنين ، إذا ف «فتنة» عامة تشملهم أجمع بما ظلم ظالمهم ، كفتنة التفرق والتمزق من المفرقين بين المسلمين ، والاتقاء فيها درجات ، منها التقوى عن الدخول في الفتنة مسايرة معها أم عملا أو عمالة لها ، ومنها الصد عنها نهيا عن نكيرها قدر المستطاع ، ففتنة المنكر الجماعي تشمل

١٧٩

غير الظالمين الذين ظلوا عنها ساكتين لا يقومون بواجب الأمر والنهي ، وتشمل ـ شيئا ما ـ القائمين بهما إذا لم يتمسكوا بكامل التقوى إمساكا على إيمانهم ، وكما تشمل القصّر العاجرين عن الأمر والنهي ، والتقوى العامة المفروضة على الكل في هذه الفتن ألّا يسقطوا فيها ، ثم المفروضة على الخاصة أن يزيلوها أو يقلّلوها.

ففي فتنة السلطات غير الشرعية زمنية وروحية تتساقط الشعوب بين أيديها قدر تخاذلها أمامها ، تسايرا معها ، أم تركا للمعارضة الممكنة ضدها ، أم فسحا لمجال ظهورها في مظاهرها ، والتقوى العامة المفروضة على كل المؤمنين في هذه الفتن أن يتقوا السقوط فيها تجاوبا معها ، حفاظا على بقية الإيمان وبغيته ، ومعارضتها قدر المستطاع.

وهنا «لا تصيبن» نهي مؤكد بالثقيلة ، لمحة إلى ثقل الفتنة الشاملة ، وقد نفيت عن إصابة الظالمين خاصة ، لأنها فتنة عامة تعني ـ بطبيعة حالها ـ المجموعة ، والواجب في حقلها درجات من التقوى قدر المستطاع إزالة إياها أم ـ لأقل تقدير ـ عدم السقوط فيها.

ذلك ، وبوجه عام واجب المؤمنين أمام الفتنة الظالمة عامة وخاصة أن يصدوا عنها بداية واستمرارية ، أم ـ لأقل تقدير ـ ألّا يسايروها ويتماشوا معها أو يسقطوا فيها.

فالجماعة التي تسمح لفريق منها بظلم في أية صورة من صورها ، أو تسكت متجاهلا عنه ، ولا تقف في وجهه ، إنها جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين.

إذا ف «اتقوا» صدور فتنة ، أم تزايدها ، أم المزايدة فيها ، أم السكوت عنها بعد ما حصلت ، أم التأثر بها ، فواجب التقوى أمام هذه الفتن العامة درجات حسب الإمكانيات ، لا ـ فقط ـ الاتقاء عن التأثر بها.

(فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) لأنها فتنة عامة ، أم شارك فيها غير الظالمين إلى الظالمين ، فأصبحوا معهم من الظالمين المستحقين لها.

١٨٠