الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

ولكنه (لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وقد تعني (ذاتَ بَيْنِكُمْ) إلى مختلف الأطراف المتنازعة ، ذوات الأنفس ، حيث الاختلاف بين العقل والنفس ، بل وإصلاح النفس هو قبل إصلاح ذات البين لآخرين.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٢).

هنا مثلث وجل القلوب ، وزيادة الإيمان ، والتوكل على الرب ، هي المحاصيل الأصيلة لصالح الإيمان.

١ ف (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) حيث يدخل ذكر الله من مسامعهم إلى عقولهم ومنها إلى قلوبهم فهي وجلة من عظم الموقف من ربهم حيث يجدونه حاضرا في قلوبهم ، فيغيب عنها كل ما سوى الله حيث احتل مجالاتها ذكر الله.

وترى كيف (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)؟ والإذاعة القرآنية تعلن (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

هنا (تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) إلى الله ، وهناك (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) عما سوى الله ، حيث تجلت بذكر الله ، وجل من أن تحل في قلوبهم ذكر غير الله مع الله ، ووجل من عظمة الله ، ثم تجلّ كامل فيها لذكر الله ، فاطمئنان ـ إذا ـ بذكر الله ، كما (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٣٩ : ٢٣).

فالوجل والقشعريرة هما حالتان سلبيتان للقلوب تخلية لها عما سوى الله ، ثم الاطمئنان لها بذكر الله حالة إيجابية تمثيلا للكلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) مهما كان للوجل حالة أخرى إيجابية تجتمع مع الاطمئنان وهي الشعور بعظم الموقف الرهيب أمام الله.

فليس الله ليوجل ويخاف إلا من عدله ومن عظم محتده ، وذلك

__________________

ـ كان يوم القيامة نادى مناد يا أهل التوحيد إن الله قد عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض وعليّ الثواب.

١٢١

الوجل الثاني هو الوسيط بين الأول وبين اطمئنان القلوب بذكر الله ، وهو يعيش ذلك الاطمئنان ومن حصائل ذلك الوجل الجلل والطمأنة :

٢ (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) حيث تجلو القلوب بتلاوة آيات الله إذ تحل فيها وتحتل القمة منها ف (زادَتْهُمْ إِيماناً) على إيمانهم ، ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧) بتلاوة آياته سمعا وعقلا وعلما وطاعة بكاملها.

هنا «تليت» وليست «قرأت» مما يلمح بأن ذلك من خواص التلاوة المتبعة ، كما وان مهمة الرسالة الإسلامية هي (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) دون «أقرء» حيث التلاوة هي المتابعة.

وقد تعني (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٤ : ٦٣) هذه التلاوة الصالحة المصلحة التي يتلوها (زادَتْهُمْ إِيماناً).

فقد يحصل حاصل الإيمان الزائد بفاعلية «تليت» وقابلية القلب المتلوّ عليه ، فأما إذا فقد القابلية بسوء الاستقبال أم عدم تصميمه في صميمه فلا محصل للقلب قطعا ، وفي القابلية ـ وحتى مع نقص الفاعلية ـ له محصل مهما اختلفت الدرجات ، فوا ويلاه إذا ضعف الطالب والمطلوب ، نقصانا في الفاعلية والقابلية.

و «آياته» جمعا مضافا تستغرق إلى الآيات التدوينية ، الأخرى التكوينية ، فحين تتلى تبينا عليه هذه الآيات زادته إيمانا كما زادته آياته التشريعية إيمانا.

وهذه التلاوة المباركة لطليق آياته تسمعه ما يحرضه على زائد الإيمان سمعا ثم عقلا وتدبرا ثم علما ثم عقيدة ثم تطبيقا شخصيا ثم نشرا وبلاغا.

٣ ومن ثم (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في الحصول على مزيد الإيمان وصالح أعمال الإيمان ، دونما اتكالية خاوية عن مساعي ، أم توكل دون معداته.

ولقد ذكر الإمام أمير المؤمنين لأهل الذكر ذكرا جميلا ما أجمله ، قاله عند تلاوته (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) : إن الله

١٢٢

سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد الغشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ـ عزت آلاءه ـ في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة ، يذكّرون بأيام الله ويخوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلة في الفلوات ، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه ، وبشروه بالنجاة ، ومن أخذ يمينا وشمالا ذمّوا إليه الطريق ، وحذروه من الهلكة ، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات ، وأدلة تلك الشبهات ـ

وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع ، يقطعون به أيام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين ، يأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عذابهم ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون (الخطبة ٢١٣).

ولأن أصل الذكر هو في القلوب فخير الذكر هو في أوعى القلوب وكما قال لكميل بن زياد : «يا كميل! إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا ينور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ـ

اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهرا مشهورا ، وأما خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، وكم ذا وأين؟ أولئك والله الأقلون عددا ، والأعظمون عند الله قدرا ، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، أولئك خلقاء الله في أرضه ،

١٢٣

والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقا إلى رؤيتهم ، انصرف يا كميل إذا شئت» (١)

يا كميل! العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله ـ

يا كميل بن زياد! معرفة العلم دين يدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه ـ

يا كميل بن زياد! هلك خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ، ها أن هاهنا لعلما جما لو أصبت له حملة ، بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا ، ومستظهرا بنعم الله على عباده ، وبحججه على أولياءه ، أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ، ألا لا ذا ولا ذاك ، أو منهوما باللّذة ، سلس القياد للشهوة ، أو مغرما بالجمع والادخار ، ليسا من رعاة الدين في شيء شبها بهما الأنعام السائمة ، كذلك يموت العلم بموت حامليه ـ

«إنما» هؤلاء الأكارم هم «المؤمنون» شرط أن يكونوا من :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣).

رباط أوّل بالله بإقام الصلاة التي هي عمود الدين وعماد اليقين ، ورباط ثان بالإنفاق لأهل الله في الله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) ما يمكن إنفاقه مالا وحالا : علما وعملا صالحا وعقيدة «ينفقون» دون رجاء لجزاء أو شكور إلا ابتغاء وجه الله ، ف :

__________________

(١) الحكمة ١٤٠ قال كميل بن زياد : أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخرجني إلى الجبّان ، فلما أصحو تنفس الصّعداء ثم قال : ...

١٢٤

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤).

فحق الإيمان وحاقّه ودرجات عند الرب ومغفرة ورزق كريم ، ليست إلّا على ضوء الواقع من ذلك المخمس البارع ، ثم من دون هؤلاء هم دونهم في الإيمان والدرجات والمغفرة والرزق الكريم (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) و «بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرطون النار»(١).

ولقد تقدمت هنا أفعال القلوب الثلاث على أفعال القوالب الإثنين في الذكر ، قضية تقدمها في صالح الترتيب واقعيا ، فما لم يعمّر القلب لم يعمّر القالب.

فالخطوة الأولى من الأولى هي (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) بجانبي السلب والإيجاب ، والثانية (زادَتْهُمْ إِيماناً) وهي جانب الإيجاب ، والثالثة (عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في كلا السلب والإيجاب ، ابتداء بذكر الله وانتهاء إلى التوكل على الله ، وهم على طول الخط يعيشون الإيمان بالله ، متكاملا متكافلا على مدار الحياة في سبيل الله.

ومن محاصيل هذه الخطوات القلبية الثلاث كظاهرة أولى في العمل : إقام الصلاة. ومن ثم الإنفاق من رزق الله ، ف (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٢١ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : ... وفي الدر المنثور ٣ : ١٦٢ ـ أخرج الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري انه مر برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال له كيف أصبحت يا حارث؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا ، قال : انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، قال : يا حارث عرفت فالزم ثلاثا.

١٢٥

وقد تختصر هذه الخمس في : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) كما العكس هو عكسه : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٢٢ : ٥١).

وهنا ـ قضية مختلف الدرجات لذلك المخمس وعامليها (دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مقسّمة فيما بينهم حسب درجاتهم في هذه الخطوات الخمس دونما فوضى جزاف ، كما والعندية الزلفى أيضا «درجات» درجات حسب الدرجات ولا يظلمون فتيلا.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ

١٢٦

إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ)(٥).

ترى وإلى م يرجع التشبيه في (كَما أَخْرَجَكَ) ثم الذين كفروا هم الذين أحرجوه حتى أخرجوه بالباطل ، فكيف ـ إذا ـ (أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ)؟ : ف (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) (٩ : ٤٠)! لأن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان في أعلى قمم التقوى ، وجلا قلبه بذكر الله ، زائدا إيمانه إذا تليت عليه آيات الله أو تلي

١٢٧

آيات الله ، متوكلا ـ على أية حال ـ على الله ، مقيما للصلاة ومنفقا مما رزقه الله في الله ، لذلك فعلى الله ألا يكله إلى نفسه وان يرعاه بخاصة رعايته ، وإخراجه من بيته مهما كان بإخراج المشركين تصميما لقتله ، ولكن ـ من ناحية أخرى ـ إخراج من الله إلى الغار حيث أعماهم كيلا يروه ، خلاصا عن قتلهم إياه ، وإلى المدينة حتى بعد عدّته ، ويمضي مدته خلال عشرة كاملة فيرجع إلى بيته عزيزا منتصرا ، ثم إخراجا منه للبدر الكبرى كانتصار أول له بعد الهجرة ، فمهما كان ذلك الإخراج من المشركين بالباطل قضية تصميمهم على قتله ، فقد كان من الله بالحق ، بل إنهم ما أخرجوه في مكرهم اللعين ، بل صمموا على قتله فأخرجه الله تخليصا له عن كيدهم أولا ، وتأسيسا لدولة الإسلام في مهجره أخيرا ، ثم رجوعا إلى العاصمة منتصرا.

فنسبة الإخراج إلى الذين كفروا نسبية فإنه ـ فقط ـ إحراج بتصميم قتله فأخرجه الله ، ثم نسبته إلى الله واقعية حقيقية حيث نجاه به من بأسهم.

فهو ـ إذا ـ إخراج من ربك بالحق ، قضية التربية القمة الخاصة بك ، حيث يريد الله تكميل رسالتك وبلاغ دعوتك ، ولأنها لم تكن لتتم في ذلك الجو المحرج المكي ، فقد أخرجه الله إلى المدينة استتماما لدعوته واستكمالا لبقيته ، وكما أخرجك ربك من بيتك بالحق يوم بدر.

ذلك ، رغم (إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) ذلك الإخراج ، بقصر النظر إلى ظاهر الإحراج وحاضره الوبيء ، دون نظرة إلى صالح الحاضر فرارا عن بأسهم ، وصالح المستقبل استرجاعا للعاصمة بكل قوة.

فحين يرى الداعية أن جو الدعوة الحاضر صعب صلب صلت ، وقد يقضى على دعوته فيه أو يصد عنها ، فصالح الدعوة أن يتنقل بحياته وحياة الدعوة إلى جو آخر يستكمل فيه عدته وعدته لردح صالح من الزمن ، ثم إذا رأى كفاحا صارما في بنيته بأنصاره يرجع إلى عاصمة الدعوة قويا صارما منتصرا وكما فعله الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بما أخرجه الله من بيته بالحق.

١٢٨

ذلك إخراج بالحق هجرة ، ثم إخراجات أخرى كما أخرجك ربّك من المدينة لحرب بدر (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) كراهة لمعركة دموية خطيرة ، حيث يرون عدم المكافحة في عدة ولا عدة ، فإنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركون ألف أو يزيدون ، وكما كانوا كارهين اختصاص الأنفال بالله والرسول ، فبين الكراهتين تشابه موردهما في الحق لصالحهم أنفسهم.

ف (كَما أَخْرَجَكَ) في التأويل الأول ، هي كما أخرجناه ، وفي الثاني قد يعني : أن الله خصك بعد نفسه تعالى بالأنفال ، كما خصّك أن (أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ). فلو لا أن الله أخرجه يوم بدر لم يحصل ذلك الفتح المبين ، جبرا لكسر إخراجه من العاصمة بعد ثمانية عشر شهرا من مهجره.

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٦).

هؤلاء الكثيرة الكارهة لخروجك عن العاصمة عند الهجرة ، وخروجك عن المدينة إلى بدر (يُجادِلُونَكَ فِي) ذلك (الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) لهم بما أخرجك ربك وحيا فارضا (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) حيث يرونهم قلة وأعداءهم كثرة كثيرة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إلى مضاجعهم في هذه الحرب الحرجة الخطيرة المرجة (١).

__________________

(١) روي الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره باسناده عن ابن أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونحن بالمدينة : إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ فقلنا : نعم فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا : ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم؟ فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال : ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما قال قوم موسى لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمر أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال : فأنزل الله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (كَما أَخْرَجَكَ).

١٢٩

__________________

ـ وفي البحار ١٩ : ٢١٥ قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما دخل حديث بعضهم في بعض : أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة فيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أصحابه للخروج إليها ليأخذوها وقال : لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ولم يظنوا أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يلقى كيدا ولا حربا ، فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادي يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك فأخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة هذه مصيبة في قريش وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أبا جهل فقال : هذه بنية ثانية في بني عبد المطلب واللات والعزى لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا وإلا لنكتبن كتابا بيننا انه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ولا نساء من بني هاشم ، فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير أدركوا وما أراكم تدركون ، ان محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهيأوا للخروج وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش وقالوا : من لم يخرج نهدم داره ، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب واخرجوا معهم القيان يضربون الدفوف وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر أخذ عينا للقوم فأخبره بهم ـ

وفي حديث أبي حمزة الثمالي بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عينا له على العير اسمه عدي فلما قدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأخبره أين فارق العير نزل جبرئيل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاءها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلت منذ عزت ولم تخرج على أهبة الحرب .. وأنا عالم بهذا الطريق فارق عديّ العير بكذا وكذا وساروا وسرنا فنحن والقوم على بدر يوم كذا وكذا كأنّا فرسا رهان ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : أجلس فجلس ثم قام ـ

١٣٠

__________________

ـ المقداد فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاءها وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا أن ما جئت به حق والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك ، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكنا نقول : امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون فجزاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على قوله ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس ـ وإنما يريد الأنصار ـ لأن أكثر الناس منهم ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : إنا براء من ذمتك حتى نصل إلى دارنا ، ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع آباءنا ونساءنا فكان يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو وأن ليس عليهم أن ينصروه بخارج المدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ فقال : نعم ، فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأترك منها ما شئت والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعل الله أن يريك ما تقربه عينك ، فسر بنا على بركة الله ففرح بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقال : سيروا على بركة الله فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالرحيل وخرج إلى بدر وهو بئر ـ

وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش ، قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير ، فأقبلوا يضربونهم وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يصلي فانفتل من صلاته وقال : إن صدقوكم ضربتموهم وان كذبوكم تركتموهم فأتوه بهم فقال لهم : من أنتم؟ قالوا يا محمد نحن عبيد قريش ، قال : كم القوم؟ قالوا : لا علم لنا بعددكم قال : كم ينحرون كل يوم من جزور؟ قالوا : تسعة إلى عشرة ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : القوم تسعمائة إلى ألف رجل فأمر (صلّى الله عليه وآله وسلم) بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ولقى عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال : أما ترى هذا البغي والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا والله ما أفلح قوم بغوا قط ولوددت ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير فقال له أبو البختري : إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمل العير التي أصابها محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك ، فقال له : علي ذلك وما على ـ

١٣١

وهنا نعرف أن التكتيكات الحربية إلى سائر التصرفات الرسالية ، كانت كلها بوحي من الله وكما قال الله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٤ : ١٠٥) فحاكميته الرسالية في كل حقولها ليست إلّا بما أراه الله دون رأيه أم آراء المسلمين.

ومهما استشار الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في ظاهر الحال أصحابه في مواجهة النفير أو العير وأكثرهم كانوا مع العير خائفين عن النفير كأبي بكر وأضرابه ، ولكن قلة قليلة كمقداد وأضرابه تقول «امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون» ولكنه كان ماضيا بأمر الله على أية حال حيث (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

ذلك والمجادلة بين محظورة ومحبورة (١) والمحظورة هي المجادلة

__________________

ـ أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلة يعني أبا جهل ، فصر إليه وأعلمه أني حمّلت العير ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلي عقله ، قال : فقصدت خباه وأبلغته ذلك فقال : ان عتبة يتعصب لمحمد فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ويريد أن يخذل بين الناس ، لا واللّات والعزى حتى نقحم عليهم يثرب ، أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش قد نجى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمدا والعرب وادفعوه بالراح ما اندفع وان لم ترجعوا فردّوا القيان ، فلحقهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردوا القيان من الجحفة ، قال : وفزع أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لما بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرعوا فأنزل الله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ).

(١) يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «نحن المجادلون في دين الله» وقد نهي عن الجدل والاختلاف ، وهو الجدل في الحق لإبطاله أو التشكيك فيه دون عناية لإيضاحه وتحقيقه كما في مفتاح كنوز السنة تحت عنوان «النهي عن الجدل والاختلاف» عن بخ ـ ك ٩٦ ب ٢ و ٣ و ٢٦ ، مس ـ ك ٤٣ ح ١٣٢ و ١٣٤ ، ك ٤٨ ح ٥ ، بد ـ ك ٣٩ ب ٤ ، قا ١٨ ، مج ـ المقدمة ب ٧ و ١٠ ، مي ـ المقدمة ب ٢٨ و ٣٤ ، حم ـ أول ص ٤٥٧ ، ثان ص ٣١٧.

وتحت عنوان «ما يهدم الإسلام من الجدل» عن مى ـ المقدمة ب ٢٢ ، وتحت عنوان ما ـ

١٣٢

في الحق نكرانا له ، والمحبورة هي المجادلة تصديقا إياه.

والمجادلة في الحق بعد التبين أشد حظرا منها بغير علم كما (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) ومن ثم بغير علم : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (٣ : ٦٦) وأنحس منهما المجادلة لدحض الحق : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (١٨ : ٥٦).

وكما للمجادلة المحظورة دركات ، كذلك للمحبورة درجات أحسنها أحسنها : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٦ : ١٢٥) وطالما الجدال نوعان ، لكنما المراء محرم على أية حال (١).

(كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ)! «فإن الموت هادم لذاتكم ، ومكدر شهواتكم ، ومباعد طياتكم ، زائر غير محبوب ، وقرن غير مغلوب ، وواتر غير مطلوب ، قد أعلقتكم حبائله ، وتكفتكم غوائله ، وأقصدتكم معابله ، وعظمت فيكم سطوته ، وتتابعت عليكم عدوته ، وقلت عنكم نبوته ، فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله ، واحتدام علله ، وحنادس غمراته ، وغواشي سكراته ، وأليم إزهاقه ، ودجو إطباقه ، وجشوبة مذاقه ، فكان قد أتاكم بغتة فأسكت نجيكم ، وفرق نديكم ، وعفى آثاركم ، وعطل دياركم ، وبعث وراثكم يقتسمون تراثكم ، بين حميم خاص لم ينفع ، وقريب محزون لم يمنع ، وآخر شامت لم يجزع» (الخطبة ٢٢١).

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ)(٧).

«الطائفتين» هنا هما العير والنفير (٢) عير كبير من الشام إلى مكة

__________________

ـ ضل قوم بعد هدي إلا أوتوا الجدل عن مس ـ ك ٤٣ ح ١٣٠ و ١٣١ حم ـ خامس ص ٢٥٢ و ٢٥٦.

(١). وعن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة وأنس قالوا : خرج علينا رسول الله (صلّى الله عليه ـ

١٣٣

مثقلة بأموال ضخمة ، ونفير من مكة مثقلة بعتاد للحرب ضخمة يريدون حرب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد وعد الله المؤمنين إحدى الطائفتين «أنها تكون لكم» تغلّبا على العير أم على النفير ، والنفير هي بطبيعة الحال ذات الشوكة الحربية القوية عدة وعدة ، والمسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا في قلة من عدة وعدة ، فأنتم (تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) خوفا عن الشائكة ، واغتناما للغنيمة دونما حرب ، ولكن (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) بهزيمتهم العظيمة رغم كثرتهم الكثيرة في عدة وعدة.

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨).

وحيث لا يضمن التغلب على العير إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا تغلبا اقتصاديا ، ولكن التغلب على النفير يضمن كل تغلب للحق على الباطل ، لذلك أراد الله أن تكون لهم الطائفة ذات الشوكة ، تحقيقا للحق وقطعا لدابر الكفر ، تضعيفا لساعده ومساعده لردح بعيد من الزمن.

وهكذا حاك في نفوس كثير من المؤمنين كراهة القتال حتى ليقول الله عنهم : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) رغم تبين الحق وأن الله وعدهم إحدى الطائفتين ، مقدرا لهم إحداهما كما يريد لا كما يريدون.

فقد قدر الله لهم إحدى الطائفتين أولا على سبيل الإجمال كائنة ما كانت عيرا أو نفيرا ، القوية ذات الشوكة والشائكة ، أو الأخرى غير ذات الشوكة ، وهم يريدون حاضر العير دون تعب ، والله يريد حاذر النفير بتعب

__________________

ـ وآله وسلم) «ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم قال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ذروا المراء فإن المؤمن لا يمارى ، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة : في رياضها وأوسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء» (العوالم ٢ ـ ٣ : ٤٣٢).

١٣٤

وليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، بضمان رباني «انها تكون لكم» مهما كان في أمر مواجهتهم من إمر (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فأين ما أراده الله لهم مما أرادوه ، فلقد كانت تمضي ـ لو كانت لهم غير ذات الشوكة ـ قصة غنيمة فحسب ، فأما قصة بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة صامدة للمؤمنين ، وعقدة كافرة عاندة للكافرين ، قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله انفصالا عما سوى الله وتخلصا من ضعفها الذاتي ، فقد خاضت المعركة بنصر الله وكفة الكفر راجحة في الظاهر ، فقلبت كفة الإيمان بيقينها ميزان الظاهر فغلبت عليها ذلك الغلب الباهر.

ولقد حقق الله وعده في أنها تكون لكم : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (٣ : ١٢) و ١٢٧).

ذلك ، وهنا تفاصيل هامة عن وقعة بدر الكبرى امتنانا على الرسول وعلى المؤمنين وليأخذوا درسا عن روحية التكتيك في قتال أعداد الله على مدار الجبهات الإسلامية السامية دونما استثناء.

لقد نسمع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في غائلة بدر يقول : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداءه من منكبه فأنزل الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ)(١) ويقول : «اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، اللهم انهم عراة فاكسهم ، اللهم إنهم جياع فأشبعهم» (٢).

__________________

(١) البحار ١٩ : ٢٢١ قال ابن عباس : لما كان يوم بدر واصطف القوم للقتال قال أبو جهل : اللهم أولانا بالنصر فانصره ، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) وقيل : إن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال : اللهم ..

(٢) المغازي للواقدي ١ : ٢٦ والسنن الكبرى للبيهقي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) دعا بهذا الدعاء رافعا يديه إلى السماء حين خرج بعدة البدر من المؤنثة.

١٣٥

ذلك ، وقد دعاهم رسول الله ـ مبتدرا بينهم ـ إلى بدر لمواجهة النفير دون العير فقال : هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر ، وهناك البلاء الأكبر ، لأضع قدمي على مواضع مصارعهم ، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة ولا قليلا ولا كثيرا فلم يخف ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحده وقال : نعم ـ بسم الله فقال الباقون : نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام فخطا القوم خطوة ثم الثانية فإذا هم عند بئر بدر فعجبوا فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : اجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراعا فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها قال : هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبد الله بن مسعود ضعف أصحابي ، ثم قال : اذرعوا من البئر من جانب آخر ثم جانب آخر ثم جانب آخر كذا وكذا ذراعا وذراعا ـ وذكر أعداد الأذرع مختلفة ـ فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذا مصرع عتبة ، وذلك مصرع الوليد ، وهذا مصرع شيبة ، وسيقتل فلان وفلان ، إلى أن سمى تمام سبعين منهم بأسمائهم ، وسيؤسر فلان وفلان ، إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آباءهم وصفاتهم ، ونسب المنسوبين إلى الآباء منهم ، ونسب الموالي منهم إلى مواليهم ، ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أوقفتم على ما أخبرتكم به ، قالوا : بلى ، قال : «إن ذلك لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوما من اليوم التاسع والعشرين وعدا من الله مفعولا وقضاء حتما لازما» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ١٩ : ٢٦٥ م ج بالإسناد إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال : أرسل أبو جهل بعد الهجرة رسالة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهي أن قال : يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ورمت بك إلى يثرب وانها لا تزال بك حتى تنفرك ، وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار وتعدّيت طورك ، وما أرى ذلك إلا وسيؤل إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ودفع ضررك وبلائك فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك ـ

١٣٦

فهؤلاء القتلى السبعون والأسرى السبعون من المشركين الذين كانوا ألفا أو يزيدون ، وأما الشهداء من المؤمنين فأربعة عشر بين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا! (١).

__________________

ـ على ذلك من هو كافر بك مبغض لك فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب كما يأتون على أموالك وعيالك وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح ـ فأديت هذه الرسالة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل وهكذا أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليجّبن المؤمنين ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين ـ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) للرسول : قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك؟ قال : بلى. قال : فاسمع الجواب : إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق ، لن يضر محمدا من خذله أو يغتصب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه ، قل له : يا أبا جهل إنك راسلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان ، وأنا أجيبك بما ألقاء في خاطري الرحمن ، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسعة وعشرين وان الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي وستلقى أنت وعتبة وشيبة والوليد وفلان وفلان ـ وذكر عددا من قريش ـ في قليب بدر مقتلين ، أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين ، أحملهم على الفداء الثقيل ، ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط ألا تحبون أن أريكم مصرع كل واحد من هؤلاء؟ قالوا بلى ، قال : هلموا إلى بدر فان هناك الملتقى والمحشر فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لسائر اليهود : فأنتم ماذا تقولون؟ قالوا : نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : لا نصب عليكم بالمصير إلى هناك ، اخطوا خطوة واحدة فان الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك ، قال المؤمنون : صدق رسول الله فنتشرف بهذه الآية وقال الكافرون والمنافقون : سوف نمتحن هذا الكذاب ليقطع عذر محمد ويصير دعواه حجة واضحة عليه وفاضحة له في كذبه ، قال : فخطى القوم خطوة.

(١) في مجمع البيان وكانت المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وسنة وثلاثون رجلا من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمهاجرين ـ

١٣٧

وهذه هي الحرب الأولى بعد الهجرة بين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمشركين ، وقد كسرت سواعدهم وبترت عوائدهم ، وذلك بعد مكاتبة بين أبي جهل والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) مما يدل على مدى تخوف آباء الجهالات بعد هجرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين ، ومما أجابه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني».

ذلك ، وإلى هامة المسارح لبدر حسب ما يقصه القرآن :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠).

إنها المعركة التي دارت بأمر الله ، شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال هذه الآيات المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان كأنه هو الآن ، ولندرسها في كل زمان كأنها ماثلة بين أعيننا آنا بعد آن.

وعلّ الإستغاثة هنا من كلا الغوث والغيث ، فأغاثهم بألف من الملائكة ، وأغاثهم من السماء ماء ، فقد استغاثوا ربهم في حالة الخطر الناجم الهاجم ، بهالة الإيمان القائم بما وعد الله ، وكان الإمداد بألف من الملائكة مردفين ، حيث يخيل إلى المشركين أن قد واجههم أكثر منهم عديدا ومديدا فخافوا على شوكتهم وشائكتهم ضد المؤمنين.

__________________

ـ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكانت الإبل في جيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) سبعين بعيرا والخيل فرسين فرس للمقداد بن الأسود وفرس لمرثد بن أبي مرثد وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف وجمع من استشهد يومئذ أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان المشركون ألفا وخيلهم مائة فرس وكان حرب بدر أوّل مشهد شهده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

١٣٨

وهنا «مردفين» قد تعني ـ فيما عنت ـ إرداف الألف غيرهم من بقية الثلاثة آلاف أو الخمسة آلاف المردفين في آل عمران : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(١٢٦).

ذلك ، وقد يلمح (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) (٣ : ١٣) إرداف ألف آخر فقط ، فالجميع ألفان مع ثلاثمأة وثلاثة عشر رجلا ، والمجموع يرى مثلي ألف المشركين (١) ، ولم تدل (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) أنه أنزل ثلاثة آلاف ، ولا «يمددكم» أنه أنزل خمسة آلاف ، لمكان الشرط الفاقد في ثانيهما إذ لم يأتوهم من فورهم هذا ، وعدم البتّ في الأول ، وهنا البتّ في «ألف (مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) حيث (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ).

ذلك ، إضافة إلى أن قضية طليق الإرداف هي إرداف مماثل في العديد ، وإذ لم يكن عديد المؤمنين ألفا فليكن المردفون هم ألف من الملائكة آخرون.

ولو أراد الله نصرهم دون هؤلاء الألف المردفين لفعل ، ولكن «بشرى» لهم بحق النصر بظاهر من أسبابه (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) (وَمَا النَّصْرُ) على أية حال ـ بظاهر من معداته ودونه ـ (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

وتراهم حاربوا المشركين مع المؤمنين؟ (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) تنفيها ، ثم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ

__________________

(١) في البحار ١٩ : ٢٢٣ في حديث القمي وأبي حمزة في مردفين أي متبعين ألفا آخر بعضهم في أثر بعض.

(٢) راجع آيات البدر في آل عمران تجد الملائمة بين «ألف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» و «ثلاثة آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» و «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» فلا نعيد هنا.

١٣٩

فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) يثبت ذلك النفي ، وكما الوارد في الآثار أن عليا (عليه السلام) قتل النصف أو الثلث من السبعين ، وقتل الباقين سائر المؤمنين ، ولم يذكر ولا مرة يتيمة أن أحدا من القتلى هو قتيل الملائكة المردفين.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وليس ـ فقط ـ بعدّة وعدة الحرب والتكتيكات الحربية ، فقد أراد الله يوم بدر أن تقيس الكتلة المؤمنة قوتها الحقيقية المستمدة من قوة الله إلى قوة أعدائها ، فتعلم أنما النصر إنما هو قدر اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوّات العباد ، تجربة واقعية تكون لهم نبراسا ومتراسا في كافة الحروب الإيمانية ، تزودا بهذه التجربة في الحرب الأولى الإسلامية لمستقبلاتها كلّها ، ف (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢ : ٤٩).

وأول المستغيثين وأولاهم كان هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث رفع يديه وسأل ما سأل واستجيب فيما سأل وكان يقول : «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» (١).

ذلك (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) واستجاب لكم ونصركم بما يلي :

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)(١١).

هنا (يُغَشِّيكُمُ ـ النُّعاسَ ـ أَمَنَةً مِنْهُ) تلقي ظلا لطيفا حفيفا شفيفا على المشهد ، مما يطمئنهم عن كل بأس وبؤس.

فلقد نعسوا في المصاف ثم غشاهم الله النعاس وهي كامل النوم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٦٨ ـ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في حديث له طويل عن قصة بدر. وفيه «ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) سيروا وأبشروا فان الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين.

١٤٠