الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

١
٢

٣
٤

تتمة سورة الأعراف

٥

سورة الأعراف

مكيّة وآياتها ٢٠٦

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا

٦

بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ

٧

بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩)

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(١٧٠).

هنا «الكتاب» هو كتاب الشرعة الربانية أيا كان وأيان ، وكلما كان الكتاب أعلى محتدا وأغلى قدوة ، كان التمسيك به أوجب وأحرى.

والتمسيك الطليق هنا بطليق الكتاب يحلّق على كل تمسيك لواجب الحق الحقيق بالاتباع علميا وعقيديا وأخلاقيا وعمليا وما أشبه.

كما ويحلق على التمسيك به باجتهاد طليق ، أو تقليدا اجتهادي سليم ، أم عوان بينهما لفيق.

إذا ف «الذين» يشمل كافة المكلفين بكتاب الشرعة أن تكون لهم منه حظوة ممسّكة لكل محبور في شرعة الله ، وعن كل محظور فيها.

أجل ، وعلى الورثة المجتهدين أن يجدوا السير في ذلك التمسيك لأنفسهم ولسائر المكلفين ، كما وعلى الورثة التقليدين أن يجيدوا تقليدهم تبنيا للكتاب كأصل أصيل ، سائلين أهل الذكر بالبينات والزبر دون تقليد أعمى وكما يقول الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (١٦ : ٤٤) سؤالا بالبينات والزبر المعصومة الخالصة وحيا ، وكما أن أهل الذكر لا أهلية لهم في تلك المسؤولية إلا بالبينات والزبر.

وهنا (أَقامُوا الصَّلاةَ) بعد (يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) ، إشارة إلى أن الصلاة وجه الدين حينما الدين هو الكتاب وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله : «لكل شيء وجه ووجه دينكم الصلاة فلا يشينن

٨

أحدكم وجه دينه» (١).

فكما أن الوجه يعرف به جملة الإنسان كذلك الصلاة يعرف بها جملة الدين المستفادة من الكتاب ، لأنها أظهر العبادات وأشهر المفروضات.

فورثة الكتاب ، الدارسون ما فيه ، الممسّكون به كأصل أصيل بين كل الفروع والأصول ، إنهم هم المصلحون ، وكلما كان الكتاب الرباني أعلى محتدا ، كان التمسيك به أغلى ، وتركه أنحى وأنكى ، فإذا كان (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٦٢ : ٥) فما ذا يكون ـ إذا ـ مثل الذين حمّلوا القرآن ثم لم يحملوه ، أليس أشد وأمثل من مثل الحمار الحامل للأسفار؟!.

وهنا «يمسّكون» تفعيلا دون «يمسكون» فعلا ، يدلنا على أن واجب ورثة الكتاب أن يمسكوا أنفسهم وسائر الأمة ـ في حقل الإيمان بمواده الصادقة الأصيلة الصافية ـ يمسكون كل ذلك بالكتاب في كل حقول المعرفة والعقيدة دون إبقاء ، تمسيكا مسيكا بوفرة وكثرة وتلاحق ، دون ترك له أو إهمال إياه ولا لفترة قصيرة.

أجل ، وبالكتاب يمسّك أهلوه في الحق من كل زلة وضلّة ، ومن أية تخلّفة وعلة واختلاف ، إلى كل تألّف وصحة وائتلاف.

وهنا يندد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالذين اختلفوا عن القرآن وفي القرآن ، وتركوه وراءهم ظهريا ، ممسكين بكل ممسك إلّا الكتاب ، إلّا إذا فسر كما يهوون قائلا : «وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله ـ وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق

__________________

(١) المجازات النبوية للسيد الشريف الرضي (١٣٢).

٩

تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ـ

فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان ، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو ـ

فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم ، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ـ

فاجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة ، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، فلم يبق عندهم منه إلا اسمه ، ولا يعرفون إلا خطه وزبره ، ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة ، وسموا صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة ، وإنما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم ، وتغيب آجالهم ، حتى نزل بهم الموعود الذي ترد عنه المعذرة ، وترفع عنه التوبة ، وتحل معه القارعة والنقمة» (الخطبة ١٤٧).

ذلك والقرآن هو الخليفة الوحيدة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أم هو الكبرى اعتبارا بالسنة وهي لا تعرف إلا بموافقته ، فقد «قبضه (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه كريما ، وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها ، إذ لم يتركوهم هملا ، بغير طريق واضح ، ولا علم قائم ـ كتاب ربكم ، مبينا حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصه وعامه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسرا جمله ، ومبينا غوامضه ، بين مأخوذ ميثاق علمه ، وموسع على العباد في جهله ، وبين مثبت في الكتاب فرضه ، ومعلوم في السنة نسخه ـ وهو نسخ العموم أو الإطلاق ـ وواجب في السنة أخذه ، ومرخص في الكتاب تركه ـ وهو بين منسوخ بأصله أم في عمومه وإطلاقه ـ وبين واجب بوقته ، وزائل في مستقبله ، ومباين بين

١٠

محارمه ، من كبير أوعد عليه نيرانه ، أو صغير أرصد له غفرانه ، وبين مقبول في أدناه ، وموسع في أقصاه» (الخطبة ١).

ذلك ، فالممسّك بالكتاب ليس ليقبل ما يخالفه ، فانه تمسيك بغير الكتاب لرفضه ، (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (١٨ : ٢٧) و (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٣ : ٤٣) و (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (١٠ :) ١٥) (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠ : ١٠٩) و (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٤ : ١٠٥) وما أشبه ، هذه من عساكر البراهين القرآنية الدالة على أصالة القرآن ، وانه لا ينسخ أو يخالف بأية مخالفة بالحديث مهما كان متواترا.

فلا يقبل من أي حديث أن ينسخ الكتاب بتباين كلي أو جزئي مثل التعميم والتخصيص ، والتطليق والتقييد ، سواء أكان العام والمطلق الكتابيان نصين في العموم والإطلاق أم ظاهرين فيهما ، اللهم إلّا إذا كانا مهملين في العموم والإطلاق ، صريحين في الإهمال أو ظاهرين فيه ، لحدّ يعلم أن هناك في الكتاب أو السنة ما يخصّص أو يقيّد ذلك العام والمطلق المهملين ، المذكورين كضابطة من الضوابط المرسلة ، فهنا لا مخالفة بين مقطوع التخصيص أو التقييد ، بل ونستقبل ما نعرف بإجمال من تخصيص أو تقييد شرط أن يكون معلوم الصدور عن مصدر الوحي ، نقية عن التقية أماهيه من موهنات.

وهكذا لا نصدق حديثا يطارد ظاهر الوجوب من الأمر وظاهر الحرمة من النهي ، وسائر الظواهر البواهر في القرآن العظيم ، ككل ما يخالف موضوعات الأحكام وسواها ، توسيعا لها ، أو تضييقا إياها ، أم إلقاء لخصوصياتها ، زيادة عليها أو نقيضة فيها.

والأحاديث التأويلية إنما تصدّق على كتاب الله إذا كانت موافقة في

١١

خط النص أو الظاهر من الآيات حيث تقبل إلغاء خصوصيات كآية صلاة الخوف تلحيقا لصلاة السفر بها بمعونة مثل (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

ذلك وهنا (أَقامُوا الصَّلاةَ) دون ما سواها مما في الكتاب ، ليدل على أنها عمود الدين وعماد اليقين ، فالذين يقيمون الصلاة حقا هم المؤمنون حقا ف (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٢٩ : ٤٥).

ثم هذه الصيغة السائغة (يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) تصوّر لنا بالغ الصورة الصالحة للقبض على الكتاب بكل قوة وجدية وصرامة ، خارجة عن كل هوة وعرامة في غير ما تعنّت ولا تزمّت وتنطّع ، إنما هو تطلّع على ما فيه بكل إتقان وإيقان ، دون تحميل عليه رأيا ، (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) فالممسّكون بغير الكتاب رفضا ، أم فرضا عليه ما ينافيه ، أو تحميلا عليه ما لا يوافيه ، إنهم هم المفسدون مهما غربلوا آراء من روايات وشهرات وإجماعات أم أي دليل يزعم من غير الكتاب.

وفي الحق إن الحوزات العلمية المسماة بالإسلامية هي كلها مندد بها في الطامة الكبرى وهاهنا ، إذ (قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (٢٥ : ٣٠) ، أو ليس القرآن مهجورا في حوزاتنا ، فلا هو متن لها ولا هامش على متونها ، لحد قد يفتي بخلاف نصه العلي أو ظاهره الجلي!.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ٦٣) ـ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) (٤ : ١٥٤).

فقد كان رفع الطور نتقا وقلعا عن الأرض فإطارة في الفضاء على

١٢

رؤوسهم ، فهو «طير طار مرة لم يطر قبلها ولا بعدها» (١) ، وهنا (واقِعٌ بِهِمْ) دون «عليهم» إشارة إلى أن وقوعه عليهم لم يكن إلّا بهم ، بسبب تمردهم عن شرعة التوراة.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) القلوب والأبدان (٢) فتنكير «قوة» يعرّفنا أنها تحلّق على كلّ قوة ، فالمفروض ـ إذا ـ تكريس كافة القوات والإمكانيات لأخذ التوراة ، أخذا علميا وعقيديا وعمليا : شخصيا وجماعيا ، دون أن يترك في أيّ حقل من هذه الحقول سدى وهملا.

«خذوا» وليس يكفى مطلق أخذه بل (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) فليكن ما فيه من أوامر الله ونواهيه ذكرى لكم تعيشونها على كل حال ، وفي كل حلّ وترحال (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كل المحاظير المذكورة فيه ، ذلك ، فأخذ ما في كتاب الله بقوة وذكر ما فيه ، هما جناحان للوصول إلى حق التقوى ، خروجا عن كل طغوى.

وأهم ما في كتب الله تعالى هو التوحيد الحق وحق التوحيد بدرجاته ، فقد يذكرنا الله فيها بما كتب في الفطر والعقول وسائر الآيات في كتابات الآفاق والأنفس ، فليست كتب الدعوة الربانية إلّا شروحا وتفاصيل ربانية على كتاب الله في الفطر وما أشبه من سجلات الآيات ، مهما كانت فيها زيادات لتعبديات من طقوس وشكليات العبادات.

لذلك فيما يلي يذكرنا الله تعالى بما سجله في كتاب الفطرة الذرية والذرية الفطرة ، حيث هما واحد في الحق مهما اختلفا في العبارة ، ولقد

__________________

(١) بحار الأنوار ١٣ : ٢١٣ ـ ٦ عن أبي بصير قال سأل طاوس اليماني الباقر (عليه السلام) عن طير ذكره الله في القرآن ما هو؟ فقال : طور سيناء أطاره الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل حين أظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة وذلك قوله عزّ وجل : وإذ نتقنا الجبل.

(٢) المصدر ١٣ : ٢٢٦ ـ ٢ عن إسحاق بن عمار قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله : خذوا ما آتيناكم بقوة «أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب؟ قال : فيها جميعا» ، وفيه عنه (عليه السلام) قال : واذكروا ما فيه «واذكروا ما في تركه من العقوبة».

١٣

فصلنا القول في أحكام الفطرة على ضوء آية الفطرة في الروم ، ما يكمل البحث حول آية الذرية.

إذا فالإنسان يعيش عهودا ربانية ، بفطرته وعقليته وبشرعة الله ككل وببنود خاصة راصة من شرعته ، لا يستطيع نكران هذه العهود ، ولا سيما عهد الفطرة المندغم فيها من ذي قبل.

ولأن آيتي الفطرة والذرية بينهما تلاحم الوحدة ، وقصوى الغاية ، فلننظر إليهما نظرة عميقة أنيقة :

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(١٧٣).

فهنا تعرض قضية التوحيد من زاوية الفطرة بصيغة الذرية ، ولأن الفطرة هي ذرية الروح كما النطفة الجرثومية للجسم.

في درس سابق لهذه الآية شهدنا مشهد الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧١) ـ وهنا تتابعه قصة الميثاق الأكبر الذي أخذه الله على الذرية : الفطرة ، في مشهد لا يدانيه أو يساميه شيء في روعة وجلالة مشهد الجبل المنتوق وسائر المشهد ، فهو ميثاق هو أوثق من كافة المواثيق حيث تتبناه كأصل.

إنها قضية توحيد الفطرة في صورة مشهد التساءل ، ولا تساءل بين الإنسان وربه حال ذرّه ، إلّا ما أودعه الله فيه من الغيب المكنون ، المستكن في : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) التي تصاغ هنا بصيغة الذرية ، فهو عرض للواقع الحق من التكوين الفطري للإنسان بصورة التساءل والتقاول كما هي دأب القرآن في تجسيم الحقائق البعيدة عن الإحساس ، حيث يصورها بصورة المحسوس قولا وسواه.

وقد وردت روايات حول الذر وعالمه متهافتة متضادة مع بعض ،

١٤

معارضة مع الآية ، وبجنبها أقوال وآراء غريبة قلّما يقرب منها منطوق الآية.

لذلك ، ولكي نكون على بصيرة في مغزى الآية ، علينا أن ننظر إلى «عالم الذرية» من زاوية الآية نفسها بكل إمعان ودقة : مع العلم المسبق أن «الذر» هي النمل ، وليست الذرية! ولا نجد في القرآن كله إلّا «ذرة» و «ذرية» وهما من أصل واحد ، مهما اختصت الثانية بقبيل الإنسان ، فقد أوغلوا في الخطأ في تفسير آية الذرية لفظيا ومعنويا.

قد يشهد بعض بالآية أن هناك قبل خلق الإنسان له كيان الذر ، وعالمه عالم الذر ، لمكان المسائلة : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(١)

__________________

(١) قال الشريف المرتضى في أماليه (١ : ٢٨) وقد ظن من لا بصيرة له ولا فطنة عنده أن تأويل هذه الآية أن الله تعالى استخرج من ظهر آدم (عليه السلام) جميع ذريته وهم في خلق الذر ، فقررهم بمعرفته ، وأشهدهم على أنفسهم! وهذا التأويل ـ مع أن العقل يبطله ويحيله ـ مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأن الله تعالى قال : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ» ولم يقل «من آدم» وقال «من ظهورهم» ولم يقل من ظهره ، وقال : «ذريتهم» ولم يقل «ذريته» ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة : إنهم كانوا عن ذلك لغافلين ، أو يعتذروا بشرك آباءهم ، وأنهم نشئوا على دينهم وسنتهم وهذا يقتضي أن الآية لم تتناول ولد آدم (عليه السلام) لصلبه وأنها إنما تناولت من كان له آباء مشركون ، وهنا يدل على اختصاصها ببعض ذرية بني آدم فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويلهم ـ

فأما شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي استخرجت من ظهر آدم (عليه السلام) فخوطبت وقررت من أن تكون كاملة العقول ، مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون كذلك فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال وما قرروا به واستشهدوا عليه ، لأن العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى ، وإن بعد العهد وطال الزمان ، ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله ، وليس أيضا لتخلل الموت بين الحالين تأثير ، لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذكر لكان تخلل النوم والسكر والجنون والإغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم لأن سائر ما عددناه مما ينفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا

١٥

ولكنما التأنّق في سائر مضمونها يدلنا إلى أن تلك المقاولة المسائلة ليست هي ظاهرها الواقع ، بل هي من مسارح الحقيقة أن لو كانت هنالك مسائلة لكانت كما هيه ، وهذه هي طريقة القرآن ، الفريدة في تبين الحقائق ، تصويرا بصورة المسائلة ليعقلها العالمون ، وكما «قال (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٤١ : ١١) (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢) (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (١٠ : ٢٩) مع العلم أن الأصنام والأوثان والنبات والحيوان ، بين شركاءهم ، ليست لتتكلم ، وإنما هو قالها الحال.

وإن الكيان الإنساني ليرتعش من أعماقه حين يتحلى ذلك المشهد الرائع الباهر ، ويتملّى اختجالا أمام ربه حين يسأل : ألست بربكم ـ وإجابة «بلى» سابقة سابغة حيث يرى فطرته الذرية مصبوغة بها ، فلما ذا أنكرها بعد إلى خلافها؟

ولأنها آية مسائلة الذرية فلنجعلها في مسائلة حول ما هي الذرية ومسائلته؟ سرا وتقسيما دلاليا ، وبضمنها ردا أو قبولا لما ورد حول الذرية من روايات وآراء.

لماذا «أخذ ربك» دون «الله» أم «رب العالمين»؟ علّه لأن ذلك الأخذ هو في موقف تربوي خاص ، والهدف الأسمى والغاية القصوى هي

__________________

ـ الباب ، وليس لهم أن يقولوا : إذا جاز في العقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفولة جاز ما ذكرناه ، وذلك إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادّعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى لهم وهم كاملوا العقول ، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه ، على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الفرض في الآية وذلك أن الله تعالى أخبر بأنه إنما قررهم وأشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك ، وسقوط الحجة عنهم فيه ، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها ، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثا قبيحا يتعالى الله عنه ...».

١٦

التربية المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلم) كأعلى نموذج تربوي بين ملاء العالمين! وليكون نبراسا ينير الدرب على السالكين إلى الله على ضوء التربية المحمدية عليه أفضل صلاة وتحية. فهذا الرسول الألمعي الابطحي هو المحور الأصيل في الحقل التربوي الربوبي ، وفي ظلاله العالمون على درجاتهم قبولا أم دركاتهم ردا ، ف «ربك» لمحة إلى ذلك وان (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هي ظرف ظريف طريف لكل تربية ربوبية أسماها وأسناها ما اختص به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) دون معاناة أحد أو مساماته معه ، مهما اختلفت المحاولات التربوية للناس وما يختارها الله للمختارين من عباده الصالحين.

ذلك «وإذ» هنا متعلقة ب «اذكر» وما أشبه ، فليذكر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذلك الميثاق (مِنْ بَنِي آدَمَ) برمتهم ، فليس يعني «إذ» إذا زمنا خاصا مضى ، بل هو كل زمن خلقة بني آدم عن بكرتهم ، وقد عبر عنها ب «إذ» كزمن واحد ، لوحدة ذلك الأخذ الفطري دونما تخلّف لأيّ منهم فيه.

ولمكان «ربك» خطابا للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) نتلمح أن تفهّم معنى الآية بحاجة إلى نبوة في التفكير ، فلنقف وراء ساحة النبوة القدسية بنبوة قدسية حتى نعرف القصد من ذلك الأخذ ، وليس باب تفهم أمثال هذه الآية مسدودة على غير من خوطب بها ، إلا على من سدّ على نفسه منافذ المعرفة ، أمن لم يبلغ بالغ الاستعداد لتفهمها.

وليس هنا قصور دلالي ، إنما هو قصور المستدل ، غير البالغ مبلغ العلم القرآني ، فعلى أهل القرآن ، العائشين إياه معرفيا ، أن يتدبروا آياته الغامضة ، فإنها وامضة مشرقة لمن استشرق منها.

ولقد نجد الآيات التي تحمل لفظة «ربك» كلها دقيقة المعنى ، رقيقة المغزى ، لخاصة الخطاب الموجه إلى أعرف العارفين (١) ولأن

__________________

(١) مثل قوله تعالى : «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (٢ : ٣٠) ـ

١٧

القرآن ـ ككل ـ بيان للناس ، إلا الخاص منه كمفاتيح سور وتأويلات أحكام غير مذكورة في القرآن ، فمجال تفهم خاصة الخطابات ـ كهذه ـ مفسوح لمن تدبر فيها حقه ، مهما لا يصل إلى حاقها.

فكتاب التدوين : القرآن ، هو ككتاب التكوين ، هما للناس كافة بمختلف درجاتهم في الاستعدادات الخلقية ، والتي تنبو قضية درجات المساعي قدرها ، لكلّ حسب سعيه وقدره.

ذلك ، ومن آيات القرآن ما هي لائحة لمن يعرف لغة القرآن ، وهي قدر الواجب من معرفة الشرعة ، ومنها ما يختص بالمعصومين كتأويلات الآيات ، ومنها عوان بين ذلك وهي تختلف ظهورا وغموضا حسب مختلف الاستعدادات والقابليات والفاعليات.

فترى «إذ أخذ» حكاية عن زمان سابق لواقع ذلك الأخذ؟ و «بني آدم» لمّا يخلقوا عن آخرهم حتى يعنى هنا سابق الأخذ!.

إنه أخذ علمي في الصميم في حقل خلق الإنسان ، أنه يخلق على طول الخط بهذه الفطرة التوحيدية ، أخذا ربانيا في العلم ، يحذوه أخذ في الخلق دونما استثناء.

ف «إذ» هنا حكاية عن العلم المصمّم دون طليقه ، فإنه أزلي ليس

__________________

ـ «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» (٥ : ٦٧) «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً» (٦ : ١١٥) «وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» (٦ : ١٢٦) «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» (١١ : ١٠٧ ـ ١٠٨) «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» (٧ : ١٦) «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» (١٠ :) ٩٩) «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» (١١ : ١١٨) «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (١٥ : ٩٩) «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» (١٦ : ١٢٥) «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» (١٩ :) ٧١) «وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» (٦٩ : ١٧) «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (٨٩ : ٢٢) «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (٩٩ :).

١٨

له زمان ، بل هو صميم العلم منذ بدء خلق هذا النوع.

و «أخذ» حكاية عن أصيلة خلق الإنسان بحصيلته التوحيدية الفطرية ، فهو ـ إذا ـ مأخوذ بحكم الفطرة التي فطره الله عليها و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وترى بعد أن «ذريتهم» مأخوذة من ظهر آدم كما تقول رواية؟ وهي تطارد نص الآية : (مِنْ بَنِي آدَمَ ـ مِنْ ظُهُورِهِمْ ـ ذُرِّيَّتَهُمْ) دون «من آدم ـ من ظهره (١) ـ ذريته»؟ فما آدم نفسه مأخوذا من ظهره شيء في هذه المعركة!.

__________________

(١) في الكافي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) قال : اخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربه ورواه مثله في التوحيد عن عمر بن أذينة عنه (عليه السلام). ومثله في غوالي اللئالي وقال (عليه السلام) أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالنور ثم كلمهم وتلا (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى).

أقول : هذا التفسير خلاف نص الآية فهو مدسوس على الإمام (عليه السلام)!

وأخرج ما في معناه في الدر المنثور ٣ : ١٤٣ عن جماعة عن مسلم بن يسار والجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) فقال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) سئل عنها فقال : إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون تم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار ويعمل أهل النار يعملون فقال الرجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ففيم العمل فقال : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار أقول : وهو إضافة إلى مخالفة الآية في أخذ الذرية مخالفة للضرورة حيث يصرح بالجبر في عمل أهل الجنة وأهل النار ، ومثله روايات أخر رواها في الدر المنثور عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكلها مردودة بمخالفة القرآن.

وفيه ما يوافق الآية في أخذ الذرية من ظهر بني آدم في ١٤٣ ـ عن جماعة عن هشام بن حكم أن رجلا أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال أتبتدء الأعمال أم قد قضي ـ

١٩

ثم ترى «بني آدم» هم ولده الأولون دون مفاصلة ، وذريتهم هم ولدهم إلى يوم القيامة ، فهم ـ فقط ـ أشهدوا على أنفسهم في هذه المسائلة دون آبائهم؟ ولم يأت «بني آدم» في آياتها الست الأخرى لهم (١) ، إلّا للناس أجمعين من ذرية آدم! ولم يكن بنوه الأوّلون مشركين ولا واحد منهم ـ مهما قتل قابيل هابيل ـ حتى تصح الحجة لو لا الإشهاد والمسائلة (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ)!.

أم إن «بني آدم» هنا بعضهم الأعم منهم بمن فيهم من مشركين؟ والتبعيض بحاجة إلى قرينة هي هنا منفية! و (أَنْ تَقُولُوا) هي خطاب التنديد بعامة المشركين ، فيشمل الآباء كما الأبناء طول التاريخ الإنساني منذ البداية حتى النهاية ، دون خصوص الأبناء! ولا خصوص الآباء ، بأولاد ليسوا بآباء لآخرين ، فإنها حجة ـ لو صحت ـ لعامة المشركين.

ثم ومن الآباء موحدون وأبناء منهم مشركون ، كما منهم مشركون وأبناء منهم موحدون ، أم مشرك من مشرك أو موحد من موحد! وما من أبناء إلّا وهم آباء لآخرين إلّا قليلين هم في عقم عن إيلاد ، وليس يختص الشرك بأولاد ليسوا بآباء لآخرين ، فإنّها حجة ـ لو صحت ـ لعامة المشركين.

إذا ف «بني آدم» هم كلهم منذ أوّل من ولّده آدم حتى آخر من يولد من ذريته إلى يوم القيامة دونما استثناء.

ثم من هم «ذريتهم» المأخوذون (مِنْ ظُهُورِهِمْ)؟ أهم ولدهم بعد؟! وقد شملتهم «بني آدم»! استغراقا لذرية آدم على طول الخط! أم هم آباءهم؟ فكذلك الأمر إضافة إلى أن الآباء ليسوا بذرية! ، وإلى سائر

__________________

ـ القضاء فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم اشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كيفية فقال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار» أقول صدر الحديث فقط يوافق الآية.

(١) وهذه الست الأخرى هي : ٧ : ١٩ ـ ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٣١ ـ ٣٥ و ١٧ : ٧٠ و ٣٦ : ٦٠.

٢٠