الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٨١).

لقد تحدثنا عن (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) على ضوء آيات الأسرى (١١٠) وطه (٨) والحشر (٢٤) وهنا زيادة (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) نتحدث ـ فقط ـ عنها دون زيادة أخرى اللهم إلّا شطرا.

كما أن ذات الله هي الحسنى بين الذوات ، بل ولا حسن لها أمام

٦١

قدسية هذه الذات ، كذلك (لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ذاتية وفعلية ، وذوات المقربين والسابقين التي هي من أحسن الأسماء الفعلية (١) وكذلك الأسماء اللفظية التي تعني مثلث الأسماء هذه (فَادْعُوهُ بِها) لا سواها.

والإلحاد في أسماء ، منه أن تختلق له أسماء من أيّ الأربعة ، أم تفسر بغير معانيها ، أم يدعى بها خلاف المرسوم أو المطلوب بها في أي دعاء : استدعاء ونداء ومعرفة وتوصلا وما أشبه.

والإلحاد في أسماءه تعالى وجاه التوحيد فيها يعني كلا الإشراك والإلحاد ، وكافة التخلفات عما رسمه الله من دعوته بها كما هو المسرود في القرآن والسنة.

ومن الإلحاد في أسماءه تسمية غيره بها كما هو يدعى ، تركا له سبحانه فإلحاد أم إشراكا به فإشراك ، ومنه تحسّب عناية أسماءه معاني زائدة على ذاته في أسماءه الذاتية ، وتحسّب عديدها واقعيا ، وما أشبه من تخلفات عن شرعة التوحيد الحق وحق التوحيد في (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ـ (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من تخلفات عن رسم التوحيد فيها وتوحيدها.

واحسن أسماءه الحسنى اللفظية وأجمعها هو الاسم الظاهر : «الله» وهو الاسم الباطن : «هو» ف «الله» ليس له سميّ حتى عند المشركين والملحدين : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١٩ :) ٦٥)؟.

والأسماء اللفظية الحسنى حسب المذكور في القرآن مائة وخمسة وأربعون (٢) والروايات القائلة إنها تسعة وتسعون بين مطروحة ـ إذا ـ أو

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٠٣ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في الآية : نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله عملا إلا بمعرفتنا.

(٢) إليكم هذه الأسماء حسب ترتيب حرف التهجي : سواء المذكورة بألفاظها أو المستفادة من صيغها :

ألف الله ـ الإله ـ الأحد ـ الأوّل ـ الآخر ـ الأعلى ـ الأكرم ـ الأعلم ـ أرحم الراحمين ـ

٦٢

مأوّلة برجوع الزائدة عليها من عديد القرآن إلى تسعة وتسعين ، وكما يروى

__________________

ـ أحكم الحاكمين ـ أحسن الخالقين ـ أهل التقوى ـ أهل المغفرة ـ الأقرب ـ الأبقى ـ أسرع الحاسبين ـ أسرع مكرا ـ

ب ـ البارئ ـ الباطن ـ البديع ـ البر ـ البصير ـ الباقي ـ

ت ـ التواب ـ التائب.

ج ـ الجبار ـ الجامع ـ

ح ـ الحكيم ـ الحليم ـ الحي ـ الحق ـ الحميد ـ الحسيب ـ الحفيظ ـ الحفي ـ

خ ـ الخبير ـ الخالق ـ الخلاق ـ الخير ـ خير الماكرين ـ خير الرازقين ـ خير الفاصلين ـ خير الحاكمين ـ خير الفاتحين ـ خير الغافرين ـ خير الوارثين ـ خير الراحمين ـ خير المنزلين.

ذ ـ ذو العرش ـ ذو الطول ـ ذو الانتقام ـ ذو الفضل العظيم ـ ذو الرحمة ـ ذو القوة ـ ذو الجلال والإكرام ـ ذو المعارج ـ ذو المغفرة.

ر ـ الرحمان ـ الرحيم ـ الرؤوف ـ الرب ـ رفيع الدرجات ـ الرازق ـ الرقيب ـ رب الفلق ـ

س ـ السميع ـ السلام ـ سريع الحساب ـ سريع العقاب ـ أسرع الحاسبين ـ أسرع مكرا ـ

ش ـ الشهيد ـ الشاهد ـ الشاكر ـ الشكور ـ شديد العقاب ـ شديد المحال ـ شديد القوى ـ شديد العذاب ـ

ص ـ الصمد ـ

ظ ـ الظاهر ـ

ع ـ العليم ـ العزيز ـ العفو ـ العلي ـ العظيم ـ علام الغيوب ـ عالم الغيب والشهادة ـ

غ ـ الغني ـ الغفور ـ الغالب ـ غافر الذنب ـ الغفار ـ

ف ـ فالق الإصباح ـ فالق الحب والنوى ـ الفاطر ـ الفتاح ـ

ق ـ القوي ـ القدوس ـ القيوم ـ القاهر ـ القهار ـ القريب ـ القادر ـ القدير ـ قابل التوب ـ القائم على كل نفس بما كسبت ـ

ك ـ الكبير ـ الكريم ـ الكافي ـ ل ـ اللطيف ـ

م ـ الملك ـ المؤمن ـ المهيمن ـ المتكبر ـ المصور ـ المجيد ـ المجيب ـ المبين ـ المولى ـ المحيط ـ المقيت ـ المتعال ـ المحيي ـ المميت ـ المتين ـ المقتدر ـ المستعان ـ المبدي ـ مالك الملك ـ مالك يوم الدينـ

ن ـ النصير ـ خير الناصرين ـ النور ـ

و ـ الوهاب ـ الواحد ـ الولي ـ الوالي ـ الواسع ـ الوكيل ـ الودود ـ الوفي ـ المتوفي ـ

ه ـ الهادي ـ هو ـ

٦٣

عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهي في القرآن (١).

وظاهر التعبير في الكتاب والسنة عن (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أنها توقيفية لا يجوز الزيادة فيها ولا النقص عنها ، بل وهما من الإلحاد في أسماءه تعالى ، كمثل «العلة» «علة العلل» «واجب الوجود» وما أشبه ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٦) وأسماء الله تعالى هي توصيفات له سبحانه ، «ان الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده والأبصار عن الإحاطة به جل عما يصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون» (٢).

ذلك ، وكما أن اشتقاق أسماء للخلق من أسماءه الخاصة هو من الإلحاد في أسماءه تعالى ، كإلهة من الإله وما أشبه (٣)(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) جهلا بغير علم ، فالذي يلحد في أسماءه بغير علم يشرك وهو لا يعلم ويكفر به ، وهو يظن أنه يحسن ، ولذلك قال : وما يؤمن أكثرهم بالله إلّا وهم مشركون «فهم الذين يلحدون في أسماءه بغير علم فيضعونها غير مواضعها» (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٤٨ ـ أخرج أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن ، أقول : وهذه التسعة والتسعون لما تطابق بما ذكرناه من المائة وخمسة وأربعين ، نجدها فيها والستة والأربعون هي من المكررات الراجعة إلى التسعة والتسعين ، وقد نقل هذا العدد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في بخ ـ ك ٥٤ ب ١٨ ، ك ٨٠ ب ٦٨ ، ك ٩٧ ب ١٢ مس ـ ك ٤٨ ح ٥ و ٦ ـ تر ـ ك ٤٥ ب ٨٢ ـ مج ـ ك ٣٤ ب ١٠ حم ـ ثان ص ٢٥٨ و ٢٦٧ و ٣١٤ و ٤٢٧ و ٤٩٩ و ٥٠٣ و ٥١٦.

(٢) نور الثقلين ٢ : ١٠٣ في أصول الكافي عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال :

(٣) وقد حرف المشركون في الجزيرة من أسماء الله الحسنى فسموا بها آلهتهم المدعاة فحرفوا «الله» فسموا به «اللات» ، و «العزيز» فسموا به العزى.

(٤) المصدر عن كتاب التوحيد للصدوق باسناده إلى حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ...

٦٤

وبرجعة أخرى إلى آية (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ننتبه بما يلي :

١ في تقديم «لله» على (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) عناية لحصرها فيه سبحانه وتعالى ، فليس ـ إذا ـ لغيره أسماء حسنى حيث هم بجنبه فقراء ولا حسن فيهم إلا كيان الفقر والافتقار إليه وكما يروى عن أحسن أسمائه الفعلية أن «الفقر فخري».

فليس لغير الله شيء من هذه الأسماء الحسنى في أيّ من حقولها ، ولا أي نصيب منها.

٢ الأسماء الحسنى لأنها خاصة بالله ، فلا تعني الأسماء العامة المستعملة في الله وما سواه ، إذا ف «شيء ـ موجود» وما أشبه وإن استعملت في الله ولكنها ليست من أسماءه الحسنى ، وحين تستعمل في الله تجرد عن ميزات ما سوى الله بذلك الاستعمال ، وقد يصح كونها من أسماءه الحسنى.

٣ (فَادْعُوهُ بِها) يدلنا انه تعالى لا يدعى إلا بها ، فدعوته تعالى بغيرها أم دون اسم منها إلحاد فيها.

٤ (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) مما يدلنا على توقيفية الأسماء الحسنى حيث «الأسماء» تعني المعهودة وطبعا هي في الكتاب والسنة ، ولو لم تكن توقيفية لما كان للإلحاد في الأسماء اللفظية معنى.

٥ قضية الدعوة بها أن يعرف من معانيها ما يصح أن يدعى بها ، وهنا ركنان ركينان لتلك الدعوة هما معرفة ذل العبودية وعز الربوبية.

٦ ولأن الإلحاد هو الميل عن الحق ، إذا ف (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) هو الميل عن الحق في كلا الأسماء والدعوة بها ، إلحادان اثنان هما ركنان للمعني من (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ).

ومن الإلحاد في أسماءه إطلاقها على غير الله كما يطلق على الله ، ومنه تسمية تعالى ودعوته بغير هذه الأسماء ، ومنه عناية المعاني غير اللائقة بساحته منها ، وما أشبه.

٦٥

ذلك ، ومن مجامع الأسماء الحسنى سلبيا وإيجابيا ، كتابا وسنة ، محلقة عليها كلها ، وشارحة لمعانيها ومغازيها ، مبرهنة عليها ، موضحة إياها ، إن منها الخطبة التوحيدية الجامعة لكل شؤونها ذاتيا وصفاتيا وأفعاليا ، للإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ما لا تجمعه غيرها من الخطب :

«ما وحده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا حمده من أشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكره ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضادّ النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصّرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدايناتها ، لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعدّ ، وإنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الآلات إلى نظائرها ، منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الأزلية ، وجنّبتها لو لا التكملة ، بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ، إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذا وجد له أمام ، ولا لتمس التمام إذ لزمه النقصان ، وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره ، الذي لا يحول ولا يزول ولا يجوز عليه الأفول ، لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا ، جل عن اتخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء ، لا تناله الأوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ، ولا يتغيّر بحال ، ولا يتبدل في الأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيام ، ولا تغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا

٦٦

بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والأبعاض ، ولا يقال له حد ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أن الأشياء تحويه ، فتقله أو تهويه ، أو أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله ، وليس في الأشياء بوالج ، ولا عنها بخارج ، يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة ، يقول لمن أراد كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا ـ

لا يقال : كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل ، ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدع والبديع ـ

خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه خضعت الأشياء له ، وذلت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفء له فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه ، هو المغني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشاءها واختراعها ، وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما كان من فراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتلبّدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشاءها مذعنة بالضعف عن إفناءها ـ

وإن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتداءها ، كذلك يكون بعد فناءها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلّا الله الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الأمور ، بلا قدرة منها كان

٦٧

ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناءها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاءها ، لم يتكأده صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ندّ مكاثر ، ولا للإقرار بها من ضدّ مثاور ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها ، ثم هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه في تصريفها ، وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منها عليه ، ولا يملّه طول بقاءها فيدعوه إلى سرعة إفناءها ، لكنه سبحانه دبّرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشيء عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذل وضعة إلى عزّ وقدرة منا ما لا نملك ومن أنفسنا ، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى» (الخطبة ٢٢٨).

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(١٨٢).

هنا «يهدون» حالا واستقبالا قد تختص بالأمة الإسلامية ، كما (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وكما يروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون» (١).

هذا ، ومن أهدى هداة الأمة الإسلامية هو علي (عليه السلام) وكما

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٤٩ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح في الآية قال : ذكر لنا أن نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : هذه أمتي وفيه عن قتادة في الآية قال : بلغنا أن نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يقول إذا قرأها : هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) وفيه عن الربيع في الآية قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل.

٦٨

يروى بطرق عدة أن هذه الأمة «هم علي وشيعته» (١).

ذلك وقد تهدي الآية بطليق نصها أن (أُمَّةٌ يَهْدُونَ) تشمل الأمة الهادية العادلة من كل أمة ، وهم من هذه الأمة (خَيْرَ أُمَّةٍ) إذ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)(١٨٣).

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٦٨ : ٤٥)(٢) وعذاب الاستدراج ـ وهو طلب الدرج في حزب الشيطان خطوة خطوة ـ إنه أخطر عذاب يوم الدنيا ، ومن ظروفه (وَأُمْلِي لَهُمْ) إمهالا في بوتقة العصيان (إِنَّ

__________________

(١) السيوطي في الدر المنثور (٣ : ١٤٩) أخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة يقول الله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه التي تنجو من هذه الأمة ، والكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي (٥٢) بسند قال علي كرم الله وجهه وهم أنا وشيعتي ، والقندوزي في ينابيع المودة (١٠٩) عنه (عليه السلام): وهم أنا ومحييّ وأتباعي ، وابن مردويه في المناقب كما في كشف الغمة (٩٥) عنه : «هم أنا وشيعتي» كما في ملحقات إحقاق الحق ٣ : ٤١٣ وفيه ١٤ : ٣٤٤ عن البدخشي في مفتاح النجا (٤٢) وأخرج زادان عن علي كرم الله وجهه مثله : «هم أنا وشيعتي» والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٢٠٤ بسند عن ابن عباس في الآية قال : يعني من أمة محمد أمة ، يعني علي بن أبي طالب (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) يعني : يدعون بعدك يا محمد إلى الحق (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) في الخلافة بعدك ، ومعنى الأمة العلم في الخير نظيرها : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) يعني علما في الخير ، معلما للخير.

(٢) القول الفصل حول الاستدراج مدرج في تفسير آيته الأخرى في «القلم» فراجع.

نور الثقلين ٢ : ١٠٥ في أصول الكافي عن سفيان بن السمط قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): وهو قول الله عزّ وجلّ : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بالنعم عند المعاصي ، وفيه عن سماعة بن مهران قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) قال : هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب ، وعنه (عليه السلام) مثله بزيادة : هو مستدرج من حيث لا يعلم.

٦٩

كَيْدِي مَتِينٌ) مكين لا ينجو منه (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أبدا.

وهكذا «إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار ، وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها» (١).

أجل ف (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٣ : ١٩٧) (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا) (٧ : ٩٥) (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٩ : ٥٥).

وهؤلاء المستدرجين من حيث لا يعلمون هم من المعنيين ب (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

ف «كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه ، وكم من مستدرج يستر الله عليه ، وكم من مفتون بثناء الناس عليه» و «إنه من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا» (٢).

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١٨٥) ألم ينظروا إلى عقليته البارعة المنقطعة النظير (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما

__________________

(١) المصدر عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) : وفيه عن روضة الكافي خطبة طويلة مسندة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها : ثم إنه يأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إلى أن قال ـ : يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ، ينتقل من دين ملك إلى دين ملك ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك ومن عهود ملك إلى عهود ملك فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون وان كيده متين بالأمل والرجاء.

(٢) المصدر عن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) والثاني فيه عن نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام).

٧٠

بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) فقد صاحبهم صاحبهم عمرا من قبله بكلّ رزانة عقل ورحابة صدر ورصانة قدر : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦).

كيف وقد صاحبكم صاحبكم طوال أربعين عاما أمينا متينا عاقلا لحد سميتموه محمد الأمين ، فالآن تتهمونه بالجنة لأنه يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر (١) و (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) هويته في النذارة الرسالية بعقلية الوحي الصارم : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٢٣ : ٧٠) ـ (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢).

ذلك لأن الرسالات الربانية تعارض الجاهليات والهمجيات المجنونة ، وهذه طبيعة الحال أن المجانين يحسبون من يخالفهم في جنّتهم مجانين وهم أولاء عقلاء!

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)؟ وهكذا يدق عليهم الله دقّاته المتواترة علّهم ينتبهون عن غفلتهم ويستيقظون عن غفوتهم ، إيقاظا لهم بإيعاظ بالغ من تحت الركام الطامّ المسيطر على فطرهم وعقولهم.

ولأن الإنسان بين عاقل ومجنون ، وهم صاحبوا المجانين وصاحبوا صاحبهم هذا الذي يقولون إنه لمجنون ، فهل رأوا فيه جنّة كسائر المجانين ، الخالطين في أقوالهم وأفعالهم ، المتناقضين في كل حالاتهم؟ ولم يدّع أحد من هؤلاء أنه رأى فيه ما كان يراه في المجانين ، بل ولا أنه رأى وزان ما رآه منه بين سائر العقلاء ، إذا فهو فوق العقلاء بعقلية الوحي بعد العقلية الإنسانية الناضجة التي كانوا يعترفون بها فيه في العمر الذي لبث فيهم قبل الرسالة.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٤٩ عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قام على الصفا فدعا قريشا فحذا فحذا من قريش فقال : يا بني فلان يا بني فلان وكان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله هذه الآية.

٧١

وعل «ما» هنا تعني مع النفي ـ نفيا لجنة ـ الموصول ، فتعني : الذي بصاحبهم من جنة ، مجاراة في قولة الجنون ، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) جنته المدّعاة ما هي جنة ، (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ينذر العقلاء عما يناحر العقل والفطرة الإنسانية فضلا عن عقلية الوحي ، فلو كانت به جنة كما تدعون فما هي مادتها بين مواد الجنة التي هي معروفة عن المجانين؟

ذلك ، والقرآن يحث دوما على التفكير ، مادحا المفكرين ، قادحا غير المفكرين ، الذين لا يستعملون عقولهم : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٧ : ١٧٦) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٦ : ١١) (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣ : ١٩١).

أجل و «تفكرك يفيدك الإستبصار ويكسبك الإعتبار» (١) «والتفكر حياة قلب البصير» (٢) و «الفكر مرآة صافية» (٣) و «طول الفكر يحمد العواقب ويستدرك فساد الأمور» (٤) و «من أسهر كنه فكرته بلغ كنه همته» (٥) و «ركعتان خفيفتان في تفكر خير من قيام ليلة» (٦) و «لا عبادة كالتفكر في صنعة الله» (٧).

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(١٨٦).

__________________

(١) غرر الحكم ١٥٧ عن الإمام علي (عليه السلام).

(٢) الكافي ١ : ٢٨ الامام الصادق عنه (عليه السلام).

(٣) نهج البلاغة ١٠٩٠.

(٤) غرر الحكم ٢٠٨ عنه (عليه السلام).

(٥) غرر الحكم ٢٨٨ عنه (عليه السلام).

(٦) ثواب الأعمال ٦٨ عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).

(٧) أمال الطوسي ١ / ١٤٥ عن الإمام علي (عليه السلام).

٧٢

وإذا لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ليعرفوا أنه لا إله إلّا هو وأن محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) رسوله.

ذلك ، ولأن التعرف إلى العقلية الرسالية له بابان اثنان ، ١ التفكر في قالات الرسول وحالاته وفعالاته وكما عناها رسل المسيح ردا على الناكرين : (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (٣٦ : ١٦) حيث وجهوهم إلى التربية الرسالية الباهرة فيهم ، ثم النظر في ملكوت السماوات والأرض حيث يوصل إلى معرفة الله ، وضرورة الرسالة من الله ، والرجوع إلى الله ، ثم إذا تفكروا في صاحبهم وجدوه رسولا من الله يحمل تفاصيل هذه الأصول وسائر الفروع.

ومن ثم (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) فليتقوا ربهم قبل فجأة الأجل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) : بعد الله إلها وبعد محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) رسول الإله ، وبعد القرآن كتاب الله؟ والدلائل القاصعة قاطعة كل شك وريبة عن ساحة هذه الرسالة التوحيدية.

والحديث يعم الحادث الذات والصفات والأفعال ، وحادث الذكر الذي يتحدث عنه ، فالقرآن ورسول القرآن حديثان ذاتا وذكرا ، والله تعالى حديث يتحدث عنه في كافة الحقول المعرفية فإيمانا أو نكرانا ، فكما أن آيات الله حديث يتحدث عنها في الاستدلال بها على الله ، كذلك الله وهو رأس كل حديث : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٤٥ : ٦).

ذلك ، والملكوت في حقل النظر المعرفي لها درجات أعلاها هي المختصة بالله ، وهي الحيطة العلمية الحقيقية : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٦ : ٨٣) وأدناها هي العامة لكل السالكين إلى الله على درجاتهم فدرجاتها ، وهي المأمور بها هنا وفيما أشبه أن (يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فيهما تذرعا بها إلى معرفة الله كما هنا ، وأوسطها هي الخاصة بالرعيل الأعلى من السابقين والمقربين المكرمين كمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)

٧٣

والمحمديين من عترته المعصومين (عليهم السلام) ، ثم من دونهم كإبراهيم الخليل في مثل (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) حيث تطلّب كيفية الإحياء وهي ملكوت فعل الله ، وقد أوتيها قدر ما يمكن لمن سوى الله على قدر المعرفة والكيان الإبراهيميين ، وفي قصة رؤية الكوكب والقمر والشمس : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٦ : ٧٥).

فالخلق كله بمراتبه مجال فاسح للنظر في ملكوته للحصول على معرفة الله بدرجاته ، والنظر المأمور به إليه عبارة عن تحديق حدقة العقل والفطرة إليه إبصارا إلى كيانه أزلية أم حدوثا ، ثم من الحدوث إلى المحدث وهو الله تعالى شأنه العزيز (١).

أجل إن كتابي التكوين والتدوين التشريع هما من كاتب واحد ، يدل عليه التجاوب التام بينهما ، فكما (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٤) كذلك كتاب التدوين (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢) ثم ولا نجد بين الكتابين أنفسهما اختلافا لو أننا أجدنا النظر واعتبرنا بالعبر.

إن التوازن المقصود ملحوظ في خلق الرحمن حين نتفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ، ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرّة ، ولو اختل قيد شعرة لفسد الخلق عن بكرته ،

__________________

(١) للاطلاع الوسع على مراتب الملكوت راجع إلى تفسير آية الأنعام ، وفي الدر المنثور ٣ : ١٥٠ عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): رأيت ليلة أسري بي فلما انتهينا إلى السماء السابعة نظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق قال : وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم ، قلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت ما هذا يا جبرئيل؟ قال : هذه الشياطين يحرجون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض ولو لا ذلك لرأوا العجائب.

٧٤

حيث ننظر بالقلب المفتوح والبصيرة المتفتحة إلى ملكوته.

ذلك ، وأما الملحدون المصلحيون الجدد ، أصحاب الاشتراكية العلمية ، فهم مسوخ مشوّهو الفطر ، بل هم ناكروها عند ما يلجئون إلى تقبل أحكامها ، فعند ما يصعدون إلى الفضاء وينزلون على القمر فيشهدون مشاهد الكون الرائع أمامهم ، ومشهد الكرة الأرضية معلقة في الفضاء هتفت فطرهم ما الذي خلقها وعلّقها في فضاءها ، ولكنهم حين هبوطهم إلى الأرض أمام إرهاب الدولة ، وإرهاب المصلحيات المادية ، يقول أحدهم إنه لم يجد الله هناك ، كاتما إلحاح فطرته وإلماع فكرته أمام ظاهرة من ملكوت السماوات والأرض! أجل و :

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٧).

وهو لا يضل إلّا من ضل على علم وتجاهل ، فإضلاله هو إدلاله فيما هو فيه ، ومدّه في ضلاله باستدراج «فلا هادي» له ، إذا (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وهذا هو جانب من إضلاله تعالى أنه يكلهم إلى أنفسهم دون مدّ إلى الهدى ، وهم ممدودون إلى الردى جزاء وفاقا ، فإنهم هم الذين أغلقوا أبصارهم وبصائرهم ، وعطلوا قلوبهم وعقولهم ، فغفلوا عن ملكوت السماوات والأرض وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، فيذرهم ـ إذا ـ في طغيانهم يعمهون ، وفي غيّهم يترددون.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٨).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) (٧٩ : ٤٤) ـ (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) (٣٣ : ٦٣) «الساعة» في هذه الثلاث وفي الأربعين الأخرى هي من أسماء القيامة الكبرى ، وأصل الساعة هو الزوال والضياع ويقال لجزء خاص من الزمان «ساعة» لتصرّمه وضياعه فهي ـ إذا ـ حين تضيع الكائنات

٧٥

وتزول عن كينونتها الحالية ، فالساعة هي منتهى الحياة الدنيا منذ قيامة الإماتة إلى قيامة الإحياء.

و «مرساها» هي ثباتها ، ثباتا لذلك الضياع والزوال ، وبداية ليوم القيامة إماتة وإحياء (١).

وكل هذه الآيات الثلاث والأربعون تؤكد على اختصاص علم الساعة بالله ، إجابة عن كافة الأسئولة عنها :

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) حيث رباني بهذه التربية القمة الرسالية ، ولكنه ما علمني إياها لاختصاصها بحضرته تعالى ، وليس فقط (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) بل و (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) تجلية الإعلام عند وقوعها ، وتجلية التحقيق لها ، فلا حظّ لي على محتدي الرسالي العظيم والتربوي العميم من هذه الثلاث ، فلا علم لي بها أبدا ولا تجلية لها أبدا.

(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) علما وإعلاما وتحقيقا وتحققا ، ثقلا لا تتحمله السماوات والأرض وحتى من شاء الله ألّا يصعق عندها : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨) ومنهم هذا النبي العظيم الذي هو أثقل من السماوات والأرض ، فقد «ثقلت» الساعة عليه علما وإعلاما وتجلية بكل أبعادها ، وأما غير (مَنْ شاءَ اللهُ) فهم فانون عند الساعة فكيف يعلمون مرساها؟

__________________

وفيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): تقوم الساعة على رجل أكلته في فيه فلا يلوكها ولا يسيغها ولا يلفظها وعلى رجلين قد نشرا بينهما ثوبا يتبايعانه فلا يطويانه ولا يتبايعانه.

٧٦

ومن ثقل الساعة في السماوات والأرض وطئتها ووقعتها القارعة حيث تنفطران : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨) ، (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) مهما جاءت أشراطها ، فإن أشراطها تشير إلى قربها دون إشارة إلى مرساها (١).

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وما أنت بحفي عنها (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) والحفي من الحفاوة هو الرحمة والحنان : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (١٩ : ٤٧) ، وهو العلم ، فهو يائيا التنزع في الإلحاح في المطالبة (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) (٤٧ : ٣٧) أو في البحث عن تعرف الحال ، وأصله من أحفيت الدابة جعلتها حافيا أي منسجح الحافر والبعير جعلته منسجح الخف من المشي حتى يرق ، فما هو المناسب هنا من هذه المعاني؟

«عنها» هنا قد تستثني العلم بها حيث الصحيح ـ إذا ـ حفي بها ، وكذلك الإلحاح حيث الملحّ هو السائل دون المسؤول ، اللهم إلّا أن يعني الحفي المفعول يعني أنت ملحّ عنها؟ والإلحاح في السؤال عنها عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أمر واقع مكرور فكيف (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)! اللهم إلا أن تعني أنك عالم تلحّ في السؤال عنها حتى تعترف بجهلك بها أو تجيبهم بشيء حتى يكذبون (٢) ، أم حين تسكت يقولون : أنت ضنين بها (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٠٦ عن تفسير القمي في الآية أن قريشا بعثت العاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث من كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى نجران ليتعلموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكان فيها : سلوا محمدا متى يقوم الساعة فإن ادعى العلم فهو كاذب فإن قيام الساعة لم يطلع الله عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا فلما سألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) متى تقوم الساعة أنزل الله تبارك وتعالى : يسألونك عن الساعة.

(٢) الدر المنثور ٣ : ١٥٠ عن قتادة قال قالت قريش يا محمد أسر إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة ، قال : يسألونك كأنك حفي عنها.

(٣) الدر المنثور ٣ : ١٥٠ ـ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال قال ـ

٧٧

وقد يناسب المقام أن تعني الحفيّ الخفيّ : كأنك خفي عنها بمعنى أن ربك أخفاك عنها وكان له أن يعلمك إياها لأنه «ربك» فكيف يضنّ بإعلامك إياها؟! أو كأنك ملح في السؤال عنها ربك فمخبرك إياها إذا كرر عليك السؤال عنها ، أو كأنك أخبرت عنها بالحاحك في السؤال عنها أو كأنك حاف عنها راجل عن العلم بهذه المهمة العظمى فكيف ـ إذا ـ أنت رسوله الأعظم ونبيه الأكرم وأنت حاف لا تقدر أن تمشي مشية الرسالة الصالحة حيث تجهل الساعة.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) فإذا لمح (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) إمكانية أن تعلّمها بتلك التربية الطليقة فهنا بصيغة أخرى (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تقضي على هذه الإمكانية بأسرها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) فلذلك يحفونك في السؤال عنها كأنك حفي عنها.

فذلك السؤال المكرور الإلحاح الإحفاء كان القصد منه إحراج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى يعترف بجهله! أم انه بخيل عن الإجابة ، أو ربه بخيل عن تعليمه إياها أو يدعى العلم بها فهو إذا كاذب كما سولت لهم اليهود. إزراء بساحته ومسا من كرامته ، فجاء جواب حاسم لا حول عنه (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ).

فالساعة غيب مغيّب من غيوب الله الخاصة حيث استأثر الله بعلمه ، ولكن المشركين يحفون في السؤال عنها بين اختبار الامتحان والامتهان ، وسؤال المستعجب المستقرب ، وسؤال المستهين المستغرب.

والجواب الحاسم جهله وجهل من في السماوات والأرض بها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ).

أجل : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ) وكيف لا تثقل؟ :

«حتى إذا تصرمت الأمور ، وتفضت الدهور ، وأزف النشور ،

__________________

ـ حمل ابن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرنا متى الساعة ان كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم ما هي ، فأنزل الله هذه الآية.

٧٨

أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعا إلى أمره مهطعين إلى معاده ، رعيلا صموتا ، قياما صفوفا ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، عليهم لبوس الاستطانة ، وضرع الاستسلام والذلة ، قد ضلت الحيل ، وانقطع الأمل ، وهوت الأفئدة كاظمة ، وخشعت الأصوات مهيمنة ، وألجم العرق ، وعظم الشفق ، وأرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب ، ومقايضة الجزاء ، ونكال العقاب ، ونوال الثواب ـ

عباد مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ، ومقبوضون احتضارا ، ومضمنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون جزاء ، ومميزون حسابا» (٨١) ـ

«حتى إذا بلغ الكتاب أجله ، والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوله ، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه ، أماد السماء وفطرها ، وأرج الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ، ودك بعضها بعضا من هيبة جلالته ، ومخوف سطوته ، وأخرج من فيها فجددهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفريقهم ، ثم ميزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال ، وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين ، أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء» (١٠٧).

وي «وكأن الصيحة قد أتتكم ، والساعة قد غشيتكم ، وبرزتم لفصل القضاء ، قد زاحت عنكم الأباطيل ، واضمحلت عنكم العلل ، واستحقت بكم الحقائق ، وصدرت بكم الأمور مصادرها ..» (١٥٥) ـ

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١٨٩).

آية صريحة لا حول عنها في أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يعلم الغيب كأصل ، اللهم إلّا ما يعلّمه الله تعالى قضية ضرورة الرسالة الربانية : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ

٧٩

رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٧٢ :) ٢٨) (١).

وهنا «الغيب» هو الغيب المطلق الذي لا يتحوّل شهودا لمن سوى الله ، فما ورد متظافرا «أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة» مطروح أو مأوّل ببعض الغيب ، وهو المرتبط بالوحي الرسالي ، فحين لا يعلم الرسل غيب الآيات الرسالية التي تجري بذوات أيديهم ، فكيف يعلمون سائر الغيب التي ليست لتجري على ألسنتهم وأيديهم كغيب الساعة وما أشبه.

وهنا (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) تعم ملك العلم والقدرة ، ف (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) تستثني ملك بعض النفع والضر ، سواء أكان غيبا أم شهودا ، أو كان مقدورا عاديا أم سواه ، فقد يصدق انه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ فضلا عمن سواه ـ لا يعلم الغيب المطلق مهما علّم مطلق الغيب حيث يستثنيه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

ثم (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) تحيل له علم الغيب عن بكرته ذاتيا أم تعلما من الله حيث الاستكثار من الخير لا يختص بذاتية علم الغيب ، بل العلم ذاتيا أم عرضيا بالغيب ينتج الاستكثار من الخير وعدم مس السوء حيث الإيجابية العملية وسلبيتها وجاه الخير والشر ، هما من خلفيات طليق العلم بالغيب.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (٦ : ٥٠) ـ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) (٦ : ٥٩) ـ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) (١٠ : ٢٠) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١١ : ١٢٣).

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الفرقان ٢٩ : ٢٠١ ـ ٢٠٦.

٨٠