الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

فهذه الفتن الجماهيرية هي مثلثة الجهات : الظالمين ، والمقصرين أمامهم تركا لواجب الردع عن الظلم ، والقاصرين الذين لا صيت لهم في حقل الظلم ولا صوت ، فهي لهم فتنة غفرا وارتفاع درجة ، وللأولين فتنة جزاء لما ظلموا أصولا وأتباعا.

ذلك و «ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات ، ألا وان بيتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي بعثه بالحق لتبلبلن بليلة ، ولتغربلن غربلة ، ولتساطن سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا قصروا ، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا ، والله ما كتمت وشمة ، ولا كذبت كذبة ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم ، ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها ، وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ، ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة ، حق وباطل ، ولكل أهل ، فلئن امر الباطل لقديما فعل ، ولئن قل الحق فلربما ولعل ، ولقلما أدبر شيء فأقبل» (الخطبة ١٦).

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢٦).

«واذكروا» أيها المؤمنون (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) كما في العهد المكي (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) النسناس نقمة إيمانكم وكفرهم «فآواكم» هجرة إلى المدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) في حرب بدر وسواها (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

هذا ، وبصورة عامة قد يشمل الخطاب كافة الأميين قبل الإسلام حيث كانوا خطف الخاطفين من الروم والفرس (١) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧٧ ـ أخرج الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن

١٨١

حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (٢٩ : ٦٧) فآواهم الله بالإسلام ، ثم آوى المهاجرين إلى المأمن المدني (١) ومن أشد الاستضعاف لقبيل الإيمان ما حصل في العهد المكي بشعب أبي طالب حيث كانوا حاسرين عن كل متطلبات الحرية والحياة محصورين عن تحري الواجبات ، وذلك مشهد من التربص الوجل الوحل ، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة والأيدي الممتدة الخاطفة ، والقلة المستضعفة المسلمة في ارتقاب وتوجّس ، ومن هذا المشهد الحرج المرج الهرج إلى مشهد الإيواء والتأييد والنصر ورزق الطيبات في ظل الضيافة والإضافة الربانية العطيفة الحفيفة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٧).

هنا (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) كأنها حال من (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ف «أماناتكم» الربانية تحلّق على الفطرية والعقلية وسائر الآيات الأمانات أنفسية وآفاقية وأهمها منشور ولاية الله وهو كتاب الله ، ثم امانة الرسالة والولاية (٢) ثم «أماناتكم» الرسولية والرسالية هي التي يأتمنكم الرسول إياها بأمر الله في سنته ، فكما انفصلت طاعة الله عن طاعة الرسول في صيغة التعبير اعتبارا بالكتاب والسنة ، كذلك خيانة الله والرسول في هاتين

__________________

ـ عباس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الآية قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومن الناس؟ قال : أهل فارس.

(١) المصدر أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدى في قوله : (فآواكم) قال : إلى الأنصار بالمدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) قال : يوم بدر.

(٢) في ملحقات إحقاق الحق ١٤ : ٥٦٤ عن الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٢٠٥ في العتيق روى عن يونس بن بكار عن أبيه عن جعفر بن محمد بن علي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ـ في آل محمد ـ (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

١٨٢

الأمانتين ، إلى سائر الأمانات الربانية المعنية بآية الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣٣ : ٧٢).

ذلك (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) (٨ : ٧١) هي الأخرى الدالة على الأمانتين الربانية والرسالية.

ذلك ، وجزم «تخونوا» قد ينحّي احتمال حاليتها فإن قضيتها «وتخونون» فقد تعني الواو أصل العطف وعامل الجزم محذوف معروف من (لا تَخُونُوا اللهَ) حيث تعني «ولا تخونوا أماناتكم» كضابطة ناهية عن خيانة الأمانات كلها ، وهي ـ قضية الإضافة ـ تضم الأمانات الربانية عندكم ـ كأصل ـ وأمانات بعضكم عند بعض ، وقد يعني الجمع من العاطفة ـ كأصل ـ والحالية كفرع عليه ، والجزم هو قضية الأصل.

ولقد حصلت خيانات من المنافقين (١) والبعض من بسطاء المؤمنين بحق الله والرسول ، فعفى الله عمن استعفى كأبي لبابة (٢) ولم يكن ليعفوا

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧٥ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

(٢) المصدر أخرج سنيد وابن جرير عن الزهري في الآية قال : نزلت في أبي لبابة بعثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأشار إلى حلقه أنه الذبح فقال أبو لبابة لا والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب علي فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك ، قال : لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يحلني فجاءه فحلّه بيده.

وفيه أخرج عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفا لهم فأومأ بيده أي الذبح فأنزل الله هذه الآية فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لامرأة أبي لبابة : أيصلي ويصوم ويغتسل من الجنابة؟ ـ

١٨٣

عن المنافق قضية عناده ، فما خطاب الإيمان للمنافقين مع سائر المؤمنين إلّا بشامل الإقرار باللسان إيمان النفاق ، وكما في التكاليف العامة للمقرين ككل حيث تشمل المنافقين إلى الموافقين.

ولأن أصل الخيانة ليس إلا من منافق ثم من ضعفاء الإيمان قد شملها الخطاب.

هذا وخيانة الأمانة هي بصورة عامة محظورة ، فحتى إذا كانت خيانة بديلة خيانة (١).

__________________

ـ فقالت : إنه ليصلي ويصوم ويغتسل من الجنابة فبعث إليه فأتاه فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والله اني لأصلي وأصوم واغتسل من الجنابة وإنما نهت إلى النساء والصبيان فوقعت لهم ما زالت في قلبي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله.

وفيه أخرج ابن مردويه عن عكرمة قال لما كان شأن بني قريظة بعث إليهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليا رضي الله عنه فيمن كان عنده من الناس فلما انتهى إليهم وقعوا في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وجاء جبريل (عليه السلام) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على فرس أبلق فقالت عائشة فلكأني أنظر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مسح الغبار عن وجه جبريل (عليه السلام) فقلت : هذا دحية يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : هذا جبريل ، فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما يمنعك من بني قريظة أن تأتيهم فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فكيف لي بحصنهم؟ فقال جبريل (عليه السلام) إني أدخل فرسي هذا عليهم فركب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فرسا معرورا فلما رآه علي رضي الله عنه قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا عليك أن لا تأتيهم فإنهم يشتمونك ، فقال : كلّا إنها ستكون تحية فأتاهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا إخوة القردة والخنازير ، فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت فحاشا ، فقالوا : لا ننزل على حكم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولكننا ننزل على حكم سعد بن معاذ فنزلوا فحكم فيهم أن تقتل مقاتليهم وتسبي ذراريهم ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : بذلك طرقني الملك سحرا فنزل فيهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نزلت في أبي لبابة أشار إلى بني قريظة حين قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ : لا تفعلوا أمانة الذبح وأشار بيده إلى حلقه.

(١) نور الثقلين ٢ : ١٤٤ عن الكافي عن سليمان بن خالد قال سألت أبا عبد الله ـ

١٨٤

اللهم إلّا إذا تجرد الاعتداء بالمثل عن ظاهرة الخيانة (١).

فحين يخونك من ائتمنته على مال ليس لك أن تخونه فيما أئتمنك على مثله من مال ، اللهم إلّا أن تعلن له أن هذا بهذا أم تنويه ، دون أن تنكر أمانته كما أنكر هو أمانتك.

فهنا مال بديل مال ، إذا لم يردّ عليك المؤتمن فلا ترد عليه ما ائتمنه عندك ، وأما أن تنكر أمانته كما أنكر أمانتك بحلف وسواه ، فلا يبرره شيء ، إنما المبرّر استنقاذ حقك المهدور قدر المقدور دون تعد آخر عليه.

ذلك ، وبنظرة أخرى إلى الآية قد تعني (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) إضافة إلى الحال ـ الماضية ـ و «أن تخونوا» اعتبارا بثالث ثلاثة من موارد النهي ، خيانة الله والرسول وخياناتكم فيما بينكم ، فخيانة الله الخاصة هي خيانة آياته التكوينية والتشريعية ، وخيانة الرسول هي خيانته في سنته ، وهما أيضا من خياناتكم أنفسكم ، ثم خيانة بعضكم بعضها أم خيانة أنفسكم وهما أيضا من خيانة الله ، ثم الخيانات التي تعود بأخطارها وأضرارها إلى المجموعة المؤمنة هي مثلث الخيانة.

ثم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها خيانات و «تعلمون» أنها محرمات و «تعلمون» آثارها السيئة بنكبات ، و «تعلمون» واجب الحفاظ على الأمانات ف (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٤ : ٥٤). كما (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن خيانة الله والرسول هي خيانة أنفسكم كما وخيانة أنفسكم هي خيانة الله والرسول.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٨).

(أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ) في خيرهما وشرهما ، بكثرتهما وقلتهما وعلى

__________________

ـ (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال وكابرني عليه وحلف ثم وقع له عندي مال فأخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع؟ فقال : إن خانك فلا تخنه فلا تدخل فيما عبته عليه.

(١) المصدر عن أبي بكر الحضرمي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : رجل كان له ـ

١٨٥

أية حال لهما «فتنة لكم وإمتحان» ، ف قد اختبرهم الله بالمخمصة ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم بالمخاوف ، ومخضهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة والاختبار في موضع الغنى والاقتدار فقد قال سبحانه وتعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم (الخطبة ١٩٠).

ذلك ومن فتنة الخير الولد الصالحون ، وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يخطب على المنبر فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من المنبر فحملهما ووضعهما على يديه ثم قال : صدق الله حيث قال : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(١).

و «انما» قد تحصرهما في امتحان ، وهما من الأمانات الربانية من أداها كما أمر وقرر فقد نجح ، ومن خانها فقد سقط ، (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) على الحسنات التي تقدمونها بأموالكم وأولادكم وسواهما ، فلتكن الأموال والأولاد ذريعة لكم إلى يوم المعاد.

ف (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٣ : ١٨٦) ـ (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) (٣٤ : ٣٧) إلا ما تقدمونه في الله لأنفسكم ، ف (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) (٢ : ٢٢٣) (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٦١ : ١١).

__________________

ـ على رجل مال فجحده إياه وذهب به ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله أيأخذه منه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال : نعم ، ولكن لهذا كلام يقول : اللهم إني آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني وإني لم آخذ ما أخذت منه خيانة ولا ظلما.

(١) نور الثقلين ٢ : ١٤٥ في كتاب المناقب عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبي يقول : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

١٨٦

أجل «وان المال والبنين حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام» (الخطبة ٢٣ / ٦٩) وجمعهما أن تعمل صالحا فيهما.

«ولا حاجة لله فيمن ليس له في ماله ونفسه نصيب» (١٢٧ ح) ف «يا ابن آدم كن وصي نفسك في مالك ، واعمل فيه ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك» (٢٥٤ ح / ٦١٢) و «لكل امرئ في ماله شريكان الوارث والحوادث» (٣٣٥ ح).

ولا يقولن أحدكم : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ـ لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فان الله سبحانه يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ومعنى ذلك انه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، لأن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث وبعضهم يحب تثمير المال ويكره انثلام الحال (الحكمة ٩١).

فقد يفتن الإنسان في ماله : أنى لك هذا؟ وأين صرفته؟ وإلى م وجهتك أموالك؟ ولم ادخرتها؟ وكيف أنفقتها؟ وفيم صرفتها؟ أماهيه من فتن حول الأموال.

وكذلك الأولاد ، كيف رضاك عن ذكور دون إناث؟ أم إناث دون ذكور؟ أم جمعا بينهما وكيف ربيتهم؟ أم إلى م وجهتهم؟

فالأموال والأولاد أمانات ربانية يجب رعايتهما في سبيل الله دون التهاء بهما عما يرضاه الله ، فإلى تقوى الله في كل ما منحكم الله إياه أموالا وبنين وما أشبه ف :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩).

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) في أموالكم وأولادكم الفتنة ، وفي أنفسكم

١٨٧

(يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) بين الحق والباطل ، والصالح والطالح ، والفالح والكالح ، نورا تمشون به في ظلمات الأرض فتهتدون إلى خيرات ، وإذا ما ابتليتم بسيئات فالتة أم خيرات فائتة (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

«فاتقوا الله عباد الله ، وفروا إلى الله من الله ، وامضوا في الذي نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم» (الخطبة ٢٤).

أجل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٦٥ : ٣) فهنا على ضوء تقوى الله تقوى على إبصار الحق في خضمّ الباطل حيث يجعل الله لك مخرجا عن المضايق ، وفرقانا لمعرفة الحقائق : «ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا» (الخطبة ١٢٨) وإلى الفلاح مبلجا.

وهنا فرقانان بين الحق والباطل ، فرقان بما نحاول كإتقان اللغة والأدب والبلاغة والفصاحة ثم التفكير والتدبر الصالح في القرآن ، وما هو إلا كعصمة بشرية لا تطلق الإنسان إلى الصواب إلّا القدر المحدّد المحدود بالطاقة البشرية.

وفرقان ثان نحصل عليه بتقوى الله بما يجعل الله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) وهو المنضم إلى الفرقان الأول يطلق صاحبه إلى الصواب الطليق في تفهم القرآن ، فكما العصمة الربانية حين تنضم إلى العصمة البشرية تتم العصمة وتطم ، كذلك الأمر في الفرقان الرباني المنضم إلى الفرقان البشري.

صحيح أنه ما لم يكن فرقان أوّل لا ينتج فرقان ثان النتيجة المطلوبة ، اللهم إلا عرفانا بالله وزائد الإيقان ، ولكنه هو المحور الأصيل الذي ليس عنه بديل في تكملة الفرقان الأوّل.

فلأن القرآن نور مطلق ، فلا يوصل إلى عمقه إلا بنور من الله وفرقان ، فهنالك مجمع فرقانين ، فرقان القرآن وفرقان الرحيم الرحمان لتفهّم القرآن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ففي مربع السلب والإيجاب لمسرح فرقان وفرقان ، نجد صاحب

١٨٨

الفرقانين حاصلا على البغية الصالحة ، الخليصة غير الخليطة ، ولصاحب الفرقان الأول قدر ما يتقن من وسيلة الوصول إلى الحق ، ولصاحب الثاني وصول أقوى ، ولفاقدهما خواء وبواء ، فطالما الفرقان الأول وسيلة غير طليقة ولكنما الثاني معه وصيلة طليقة كما وعد الله.

«واعلم أنه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ونورا من الظلم ، ويخلده فيما اشتهت نفسه ، وينزله منزل الكرامة عنده ، في دار اصطنعها لنفسه» (الخطبة ١٨١) ـ «ألا فصونوها وتصونوا بها ، وكونوا عن الدنيا نزاها ، وإلى الآخرة ولاها ، ولا تضعوا من رفعته التقوى ، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا» (الخطبة ١٨٩) ـ

«أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم ، وإليه يكون معادكم ، وبه نجاح طلبتكم ، وإليه منتهى رغبتكم ، ونحوه قصد سبيلكم ، وإليه مرامي مفزعكم ـ

فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء عشا أبصاركم ، وامن مفزع جأشكم ، وضياء سواد ظلمتكم ـ فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها ، واحلولت له الأمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصعاب بعد انضبابها ، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها ، وتحدبت عليه الرحمة بعد نفورها ، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها» (الخطبة ١٩٦) ـ

أجل فالتقوى هي الزاد ، عدة للطريق الملتوية الصعبة ، حيث تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والوقاية ، كاشفة منحنيات الطريق ودروبه مدّ البصر والبصيرة ، دون غبش للشبهات الحاجبة للرؤية.

وإنها فرقان في كل خليط ، كاشفة منعرجات الطريق ، فطالما الهوى ينشر الغبش وتعمي المسالك وتخفي الدروب ، فالتقوى هي متراس ونبراس تنير الدرب على السالكين ، مزيلة كل غبش.

«فاتقوا الله تقية من سمع فخشع ، واقترف فاعترف ، ووجل

١٨٩

فعمل ، وحاذر فبادر ، وأيقن فأحسن ، وعبر فاعتبر ، وحذر فحذر ، وزجر فازدجر ، وأجاب فأناب ، وراجع فتاب ، واقتدى فاحتدى ، وأري فرأى ، فأسرع طالبا ، ونجا هاربا ، فأفاد ذخيرة ، وأطاب سريرة ، وعمر معادا ، واستظهر زادا ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، وقدم أمامه لدار مقامه ـ

فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له ، واحذروا منه كنه ما حذركم من نفسه ، واستحقوا منه ما أعد لكم بالتنجز لصدق ميعاده ، والحذر من هول معاده ـ

فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلا حواني الهرم ، وأهل غضارة الصحة إلا نوازل السقم ، وأهل مدة البقاء إلا آونة الفناء ، مع قريب الزيال ، وأزوف الانتقال ، وعلز القلق ، والم المضض ، وغصص الجرض ، وتلفت الإستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء ، والأعزة والقرناء ، فهل دفعت الأقارب ، أو نفعت النواحب ، وقد غودر في محلة الأموات رهينا ، وفي ضيق المضجع وحيدا ، قد هتكت الهوام جلدته ، وأبلت النواهك جدته ، وعفت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه ، وصارت الأجساد شحبة بعد بضتها ، والعظام نخرة بعد قوتها ، والأرواح مرتهنة بثقل أعباءها ، موقنة بغيب أنباءها ، لا تستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سيء زللها ـ

أو لستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم والأقرباء؟ تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قدتهم ، وتطأون جادتهم ، فالقلوب قاسية عن خطها ، لاهية عن رشدها ، سالكة في غير مضمارها ، كأن المعني سواها ، وكأن الرشد في إحراز دنياها» (الخطبة ٨٢).

ذلك ، وليس «فرقانا» يختص بفرقان خاص ، فانه ككل ما يفرق بين الحق والباطل قرآنا ورسول القرآن وفاروق الأمة بعده وهو علي (عليه السلام).

فكما أن تقوى الله تستجلب فرقان الله بكل ما يعنيه ، كذلك

١٩٠

تستجلب فاروقا بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يفرق بين الحق والباطل في مضطرب الأحوال وتشتت الحال ، ولذلك سماه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيما تواتر عنه «فاروقا» (١) وهكذا «من فارق عليا (عليه السلام) فقد فارق الله» (٢).

ومن غريب الوفق العددي بين «الفرقان» و «بني آدم» أن كلا مذكور سبع مرات في القرآن ، فنعرف مدى الوفق بين بني آدم والفرقان شريطة تقوى الله ، فكلما زادت التقوى زاد صاحبها فرقانا من الله وبرهانا مبينا.

وليس يختص «فرقان» لمن اتقى بحقل القرآن ، بل هو فرقان في كافة الحقول وهذه ميزة ثانية لفرقان الله بطليق مفعوله ، عن مصطلح الفرقان المختص بمعرفة معاني القرآن والسنة.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٤ : ٢٦ ـ ٣١ ، ٣٤ ـ ٣٥ ، ٢٨٤ ، ٣٣١ ، ٣٤٥ ، ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، ٣٨٦ و ٧ : ٣٧٢ و ١٥ : ٢٨٣ ـ ٢٨٦ ، ٢٩٢ ـ ٢٩٤ ، ٣٠٥ ـ ٣٠٨ ، ٤٣١ ، ٣٤١ ـ ٣٤٥ و ٢٠ : ٢٥٩ ـ ٢٦١ ، ٢٦٣ ، ٢٩٨ ، ٣٣٣ ، ٤٥٩ ، ٤٦٦ ، ٤٧٢ ، ٥٠٩ ، ٥٤٦ ـ ٥٤٨.

(٢) المصدر ٤ : ١٣٩ و ٥ : ٢٩١ و ٦ : ٣٩٥ ـ ٤٠٠ و ١٦ : ٦٠١ ـ ٦٠٥ و ٢١ : ٥٤٥ ـ ٥٤٩.

١٩١

وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ

١٩٢

الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٤٠)

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٣٠).

ذلك في دار الندوة ، مجلس الشورى لصناديد قريش حيث اجتمع فيه أربعون منهم أو يزيدون ، تشاورا في أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كيف يعالجون موقفه الدعائي ، صدا عن دعاياته المستمرة المتخلخلة المتجلجلة بين الناس بتزايد بالغ يشكل خطرا حاسما على قبيل الإشراك.

وحصيلة الآراء الأولى هي ثالوث (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ). ثم توافقت على «يقتلوك» ثم النتيجة الحاسمة لذلك التصميم «يخرجوك» حيث نبهه الله بما مكروه من قتلهم إياه فخرج إلى غار الثور وبات علي (عليه السلام) على فراشه ، ثم هاجر (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد ثلاثة أيام إلى المدينة.

وتلك الهجرة الهاجرة هي منقطعة النظير بين كل بشير ونذير بما فيها من خوارق عادات ، حيث خرج أمام المهاجمين ، آخذا بيده كفا من

١٩٣

تراب ، راميا إلى وجوههم بقوله : شاهت الوجوه ، كما فعله في بدر الكبرى ، متوجها إلى غار ثور ، وحفاظا عليه ، قطعا لاحتمال كونه فيه رغم ظاهر الأثر من أقدامه المباركة تؤمر العنكبوت أن يسدل ستارا ضخما على باب الغار ما يخيّل إلى الناظر أنه شغل سنين! وهكذا (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها)(٩ : ٤٠).

في ذلك المسرح المنقطع النظير ـ إلا ما كان بحق المسيح (عليه السلام) ـ نرى للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) صاحبين بين أصحابه ، صاحب ينام على فراشه مضحيا بنفسه نفس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بما اختاره (صلّى الله عليه وآله وسلم) لتلك التضحية وهو الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد نزلت بشأنه آية الشراء : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢ :) ٢٠٧) بصورة مستقلة.

وصاحب يصاحبه في الغار حالة الفرار من مكر الكفار ، ولا تنزل بشأنه إلا (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (٩ : ٤٠).

فلقد بات علي (عليه السلام) على فراش الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والخطر هاجم ، وصاحبه أبو بكر إلى الغار والخطر ناجم ، ثم نجد عليا (عليه السلام) مقدما بكل بدّ لتلك التضحية دونما تخوف ، ولا نجد صاحبه في الغار إلّا متخوفا ومعه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد يأتي نبأ الموقفين حين نأتي على تفسير آية الغار.

١٩٤

هنا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) يتعانقان ولا يرضي عليا (عليه السلام) إلّا أن تسلم نفس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بهذه التضحية ، وقد يروي عنه نظم في ذلك النظم :

وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا

ومن طاف بالبيت العتيق والحجر

محمد لما خاف أن يمكروا به

فوقّاه ربي ذو الجلال من المكر

وبت أراعيهم متى ينشرونني

وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمنا

هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثا ثم زمّت قائص

قلايص يفرين الحصا أينما تفرى (١)

ولقد ذاق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والذين معه في أخريات سنيّه بمكة أشد ألوان الأذى بحجر أبي طالب سنين أربع ، ولما صمموا على قتله بدار الندوة بدأت الهجرة المباركة مزودة بتسليات لخاطره القريح وقلبه الجريح منذ دخوله الغار (إِنَّ اللهَ مَعَنا) ومن ثم (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (٤٧ :) ١٣) ـ

ثم له وللذين هاجروا معه : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١٧ : ٤٢).

ولكيلا يحزن على ذلك الهجران في هجرته الهاجرة (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٢٩ : ٥٦) (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (٧٣ : ١٠).

لقد اجتمعت قريش في دار الندوة مرتين بين اجتماعاتهم اللعينة ، هما ألعنها ، مرة للمعاهدة على حصره (صلّى الله عليه وآله وسلم)

__________________

(١) قال عبيد الله بن أبي رافع وقد قال علي (عليه السلام) يذكر مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الغار ثلاثا وفي الدر المنثور بتفاوت يسير عن الحاكم عن علي بن الحسين عنه (عليهم السلام).

١٩٥

والذين معه في شعب أبي طالب (١) وأخرى إلى إثباته أو قتله أو إخراجه ثم اجتمعوا على قتله.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٩ : ١ ـ ٤ ص : اجتمعت قريش في دار الندوة وكتبوا صحيفة بينهم ألا يواكلوا بني هاشم ولا يكلموهم ولا يبايعوهم ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولا يحضروا معهم حتى يدفعوا إليهم محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيقتلونه وإنهم يد واحدة على محمد يقتلونه غيلة أو صراحا ، فلما بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشعب وكانوا أربعين رجلا فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام إن شاكت محمدا شوكة لاثبتن عليكم يا بني هاشم وحصن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مضطجع ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر فلا يزال الليل كله هكذا ويوكّل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار فأصابهم الجهد وكان من دخل مكة من العرب لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئا ومن باع منهم شيئا انتهبوا ماله ، وكان أبو جهل والعاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة من رأوه معه مرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئا ويحذرون إن باع شيئا منهم أن ينهبوا ماله وكانت خديجة رضي الله عنها لها مال كثير فأنفقته على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الشعب ، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد المطلب بن عبد مناف وقال : هذا ظلم وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة وتابعهم على ذلك أبو لهب وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يخرج في كل موسم فيدور على قبائل العرب فيقول لهم : تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم الجنة على الله وأبو لهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه فإنه ابن أخي وهو كذاب ساحر ، فلم يزل هذا حالهم وبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم ولا يشترون ولا يبايعون إلا في الموسم وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة : موسم العمرة في رجب وموسم الحج في ذي الحجة فكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني وأصابهم الجهد وجاعوا وبعث قريش إلى أبي طالب قصيدته اللّامية فلما سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه وكان أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ يأتي بالعير بالليل عليها البر والتمر إلى باب الشعب ثم يصبح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره ، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلا ولما أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جمع ما فيها ـ

١٩٦

ولقد باهي الله جبريل وميكائيل بتضحية علي (عليه السلام) ليلة المبيت في الأخوة المحمدية العلوية (عليهما السلام) (١) وقد يروى عنه

__________________

ـ من قطيعة وظلم وتركت «باسمك النهم» ونزل جبرئيل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك فأخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أبا طالب فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه فلما أبصروه قالوا : قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلّم ابن أخيه فدنا منهم وسلم عليهم فقاموا إليه وعظّموه وقالوا : قد علمنا يا أبا طالب إنك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا وأن تسلّم ابن أخيك إلينا ، قال : والله ما جئت لهذا ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله تعالى أخبره أنه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم الله فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم وإن كان باطلا دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتما فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه ثم فكّوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلا «باسمك اللهم» فقال لهم أبو طالب : يا قوم اتقوا الله وكفوا عما أنتم عليه فتفرق القوم ولم يتكلم أحد ورجع أبو طالب إلى الشعب.

في بحار الأنوار ١٩ : ٣٩ روى انهم ضربوا عليا وحبسوه ساعة ثم تركوه وأورد الغزالي في إحياء العلوم أن ليلة بات علي بن أبي طالب (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بحياته؟ فاختار كل منهما الحياة وأحباها فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي بخّ بخّ من مثلك يا بن أبي طالب؟ يباهي الله بك الملائكة فأنزل الله عزّ وجلّ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

(١) وفيه ٤٦ ك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب اليهودي الذي سأل عما فيه من علامات الأوصياء فقال فيما قال : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار : دار الندوة ، وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن حتى اجتمعت آراءها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه فإذا قتلوه منعت قريش ـ

١٩٧

__________________

ـ رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار فأخبرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالخبر وأمرني أن اضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي فأسرعت إلى ذلك مسرورا لنفسي بأن أقتل دونه فمضى (صلّى الله عليه وآله وسلم) لوجهه واضطجعت في مضجعه وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.

وفيه ٥٢ شيء عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) أن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس ثم انطلقوا إلى دار الندوة ليشاوروا فيما يصنعون برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإذا هم بشيخ قائم على الباب وإذا ذهبوا إليه ليدخلوا قال : أدخلوني معكم قالوا : ومن أنت يا شيخ ، قال : أنا شيخ من مضر ولي رأي أشير عليكم فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه فقال : ليس هذا لكم برأي. إن أخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم ، قالوا : صدقت ما هذا برأي ، ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه قال : هذا ليس بالرأي إن فعلتم هذا ومحمد رجل حلو اللسان أفسد عليكم أبناءكم وخدمكم وما ينفعكم أحدكم إذا فارقه أخوه وابنه أو امرأته ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه ، يخرجون من كل بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكتفين ثم قرأ الآية (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ).

وفيه في قصة المبيت قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لعلي : إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفا يخبرني أن قريشا اجتمعت علي المكر بي وقتلي وأنه أوحى إلي عن ربي عزّ وجلّ أن أهجر دار قومي وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي وانه أمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي ـ أو قال : ـ مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثرى فما أنت قائل وصانع؟ فقال علي (عليه السلام) : أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال : نعم فتبسم عليّ ضاحكا وأهوى إلى الأرض ساجدا شكرا لما أنبأه به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من سلامته فكان علي (عليه السلام) أوّل من سجد شكرا لله وأوّل من وضع جبهته على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلما رفع رأسه قال له : امض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك واقع منه بحيث مرادك وان توفيقي إلا بالله وقال : وإن ألقي عليك شبه مني أو قال : شبهي ، قال : إن يمنعني نعم ، قال : فأرقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وقد امتحنك يا ابن أم ـ

١٩٨

(عليه السلام) قوله في قصة المبيت : فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا فالكتاب والسنة ـ كلمة واحدة ـ متجاوبان في أفضلية الموقف المشرّف لمبيت الإمام علي (عليه السلام) على موقف أبي بكر في الغار ، حيث المدار ليس هو الصحبة في المكان ، إنما هو التضحية في الحفاظ على الصاحب (١).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٣١).

هنا (قَدْ سَمِعْنا) تعني سمع الأذن دون القبول بسمع القلوب والعقول ـ رغم ما حققوه ب «قد» كأنهم واعون ما سمعوا ـ إنما هو سماع للهزء بما يسمعون كذريعة لقيلتهم الغيلة : «لو نشاء» ولحصرهم آيات الله المتلوة عليهم بأساطير الأولين ، وترفّعهم ـ بزعمهم ـ عن الأساطير ، يحيلون على أنفسهم أن يقولوا مثل هذا زغم إمكانيتهم ذاتيا لقوله كما يتقولون (٢) وكأنهم يترفعون أن يعارضوا هذه الأساطير بأساطير أمثالها إذ لا يعتبرونها مما يعارض لضالتها ، وبعدهم عن الأساطير!

__________________

ـ وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام) فصبر صبرا فإن رحمة الله قريب من المحسنين ، ثم ضمه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى صدره وبكى إليه وجدا به وبكى عليّ (عليه السلام) جشعا لفراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) واستتبع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر وهند بن أبي هالة.

(١) المصدر ٥٥ ما جماعة عن أبي المفضل معنعنا عن مجاهد قال : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الغار فقال عبد الله بن شداد بن الهاد : وأين أنت من علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قام في مكانه وهو يرى أنه يقتل؟ فسكتت ولم تحر جوابا.

(٢) في الدر المنثور ٣ : ١٨٠ عن السدي قال : كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والقرآن فقال : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ، وفيه عن سعيد بن جبير قال : قتل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : أسيري فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : كان يقول في كتاب الله ما يقول ، قال : وفيه أنزلت هذه الآية.

١٩٩

ف «لو» هنا صد عن السؤال : قولوا مثل هذا ، كما أن (نَشاءُ لَقُلْنا) هدم لصرح الربانية لهذه الآيات البينات ، وما أنحسه مواجهة لآيات الله ، وما أضله البسطاء الذين لا يعقلون!

وهنا يبقى سؤال ، هل إن إبطال هذه الآيات أحرى للعاقل في محكمة العقل كما تدّعون ، أو التورط فيما تستائون ـ زعم أنه من الأساطير ـ لذلك الإبطال حتى تتخلصوا عن عبء هذه الدعوة المتلاحقة ويتخلص الآخرون؟ إذا فهذه وتلك هي من الدعاوي الهاوية الخواء الغاوية البواء ، وليست الدعوى بمجردها مهما كانت براقة ، بالتي يواجه بها البرهان ، فهي هيه من أساطير الأولين ، دون آيات الله البينات التي تملك على صدقها من كافة البراهين ، وإنما السكوت عن ردهم فيما ادعوا لظاهر بطلان دعواهم دونما نكير ، حيث الدعوى المجردة ولا سيما هذه الطائلة الغائلة ليست بالتي ترد على آيات الله البينات التي هي بأنفسها أدلة لربانيتها مصدرا وصادرا.

ذلك ، وقد وصل العناد من هؤلاء الأنكاد الأوغاد لحد تطلبوا لأنفسهم من الله الهلاك ان كان هذا هو الحق :

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣٢).

دعاء غريب يصور حالة راسبة من العناد ضد الحق المرام ، إيثارا للهلاك على الإذعان بالحق ، حيث فسدت جبلتهم بالكبرياء الجامحة ، وأخذتهم العزة بالإثم فحسبهم جهنم وبئس المهاد.

هنا (إِنْ كانَ هذا) لا تختص بمشار إليه خاص ، فقد تعني كافة المتعنتين القائلين هذا ، الغائلين ، سواء أكان في مسرح الآيات الربانية الإسلامية ـ ككل ـ أم سواها ، أم في مسارح خاصة في حقل الإسلام كولاية الأمر بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، أنهم ـ ككل ـ ودون أيّة هوادة يرجحون عذاب الله على تصديق آية من الله لا يهوونها ، وهذه هي الخطوة الأخيرة الشيطانية التي يخطوهم بها الشيطان.

ذلك ، وجوابا عن أمثال هذه الشطحات الزور والغرور من أحابيل

٢٠٠