الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه ما منه».

فلا تفتكر أنه قد يخدعك باستجارتك كاذبا فلا تأجره ، بل تأسره ، اللهم إلّا بأكيد الكيد الخطر اللعين المكين ، حيث يعني خطرا على الصف المسلم ، فالأصل ـ إذا ـ هو الإجارة بالاستجارة ، إلا فيما يستثنى حفاظا على الأهم من صالح المجموعة المسلمة.

ولكن (أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أيا كان ، وهو في إجارة قيادة القوات المسلحة ، لا يخشى منه خطر على فرد فضلا عن المجموعة ، فلكي تكون حجة الحق هي العليا قد نجيره لمّا يستجير ، آمنين عن كيده وميده ، ثم (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) حيث الموضوع هو طليق الاستجارة فله طليق الإجارة وإبلاغ المأمن.

ذلك ، فاحتمال أن أحدا من المشركين يستجير لكي يستنير يمنع عن ملاحقته ، حيث القصد منها دفع نائرة الفتنة القاطعة ، فحين يرجى زوالها جرا إلى الإيمان والرحمة فلما ذا بعد استمرار الملاحقة (١) ، بل وإذا لا نحتمل فعلّ الواقع الخارج عن الاحتمال يحتمل تحرّيه أو تنبّهه ، بل وإذا نتأكد ألّا خير فيه ولا شرّ.

وهنا (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) قد تفسر المعني من هذه الاستجارة أنها تقصد التحري عن الحق المرام ، ولكن (حَتَّى يَسْمَعَ) ليس جزاء للشرط ، إنما هو من الغايات الصالحة للجزاء.

ثم إذا يسمع كلام الله لا ينتظر منه فور الإيمان ، بل (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ليجيد التفكر ويعيد النظر إجالة له دون عجالة حتى يرتكن الإيمان في قلبه ، وهذه العناية الأدبية هي غاية ما يمكن رعايته منها ، تحريا عن

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي ١٥ : ٢٢٦ نقل عن ابن عباس انه قال : إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) : إن أردنا أن نأتي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل؟ فقال علي (عليه السلام) : لا ـ إن الله يقول : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ).

٣٤١

مواضع الاسترشاد فالرشاد ، دون رفض للمستجير زعم أنه كاذب أو محتال ، فالأصل ـ على حائطة ـ صدق المستجير ، ما فيه محتمله (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ).

وهل هذه الإجارة تختص بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ أم ومن يخلفه في القيادة الحربية؟ أم تعم كل المؤمنين المحاربين حين تكون الإجارة صالحة لا تحمل خطرا على جيش الإسلام.

«أجره» بعد خطابات جامعة تصلح خطابا لكل فرد فرد من المؤمنين وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله : «من استجاركم فأجيروه» (١) و «يجير على المسلمين أدناهم» (٢) حتى «النساء والعبيد» (٣).

وهنا (كَلامَ اللهِ) الطليق في صيغته ، لا يعني طليقا منه في محتواه ، إنما هو (كَلامَ اللهِ) الذي يهديه هديا صالحا إلى الله ، فتلاوة آيات الطلاق والعدة وما أشبه ليست لتنفع المشرك ، إنما هي الآيات المبرهنة لتوحيد الله وصدق هذه الرسالة ، حاملة الحكمة والموعظة الحسنة ، فإن لكلّ مجال مقالا ولكل مقال مجال.

فقد خصصت هذه الآية ـ آية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وخصتها بالمعاندين الذين ليسوا ليسمعوا كلام الله تحريا عن الحق ، فإنما هم فاتنون ضالون مضللون صادّون عن سبيل الله حيث يبغونها عوجا ، ولأن الفتنة أكبر وأشد من القتل ف (قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (٢ : ١٩٣) وعلى ضوء هذه الآية تعرف الحقائق التالية :

١ السمع الصالح لكلام الله للتحري عن الحق يكفى حجة

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة نقلا عن حم ـ ثان ص ٩٩.

(٢) المصدر عن حم ـ ثان ص ٢١٥ و ٣٦٥ ، رابع ص ١٩٧ ، خامس ص ٢٥٠ ، هش ـ ص ٤٦٩ ، قد ـ ص ٣٣٩.

(٣) المصدر بعنوان «إجارة النساء والعبيد» عن بخ ـ ك ٥٨ ب ٩ ، بد ـ ك ١٥ ب ١٥٥ ، تر ـ ك ١٩ ب ٢٦ ، مى ـ ك ١٧ ب ٥٨ ، عد ـ ج ٨ ص ٢١.

٣٤٢

للحق ، مما يدل على حجة القرآن البالغة ، الدالة على ربانية آياته ، وأنها دون أي مساعد آخر يرشد السالكين المتحرين عن الحق إليه ، فقيلة أن القرآن لا يفهم إلّا بدلالة وتفسير السنة كأصل ، إنها غيلة وحيلة على القرآن الذي هو بيان للناس ، ولأن المعدات والقابليات مختلفة فعلى القيادة الحربية إسماعه كلام الله لحدّ يقنعه تماما دون أي خفاء لكيلا يبقى له عذر في رفض الحق.

٢ الاستجارة لسمع الحق تفرض على أهله عندها الإجارة الصالحة له ، وإتاحة الفرصة بعده حتى يتروى فيما سمع ـ كما تشير له «ثم» المراخية لإبلاغه مأمنه ـ مما يبرهن على أن معرفة أصول الدين ليست إلّا بالاجتهاد قدر الجهد والإمكانية الذاتية ، ثم الاستعانة الاستجارة بمن يعرف الحق بصورة مقنعة ، فلا تعني الاستجارة هنا فقط فسح المجال بين المستجير وبين سماع كلام الله لمكان القصور الذاتي أو الحالي للبعض من المستجيرين ، فعلى أهل الله أن يبينوا كلام الله قدر ما يقنع المستجير.

٣ وبطبيعة الحال لا تعني (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) مجرد السماع لمجرد الكلام وإن لم يفهم معناه ومغزاه كالذي لا يعرف لغة القرآن ، أو يعرفها ولكنه لا يعرف مغازي الكلام لحد تنتجه صالح النتيجة.

٤ ولأن هذه الآية تحمل فرضا فطريا عقليا صالحا للدعوة الربانية الصالحة التي لا مرد لها ولا حول عنها ، لذلك فلا تتحمل النسخ حيث (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ولا ملاحقة قبل بيان الحجة وتمامها ، فليست أمثال (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) مما تنسخ هذه الآية.

٥ ولأن الخطاب هنا يخص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في (اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) فقد نتلمح قرن البيان الرسولي إلى بيان القرآن ، الرسالي ، ولمكان (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) مما يفرض المحاولة الصالحة المقنعة لكامل السمع لكلام الله ، دون مجرد الكلام أيّا كان ومن أيّ كان مهما يحمل كل القرآن ، إنما هو (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً

٣٤٣

بَلِيغاً) يبلغ إلى شغاف أنفسهم ، فعلى قيادة الجيش الإسلامي هذه الرعاية الشاملة الكاملة الكافلة لإسماع حجة الحق على ضوء كلام الله.

٦ ولأن «استجارك» تفرض السماح لسماع كلام الله ، فكذلك في بدء القتال والملاحقة من المفروض الدعاء الحق قبله بما يقنع ثم القتال ، ف (إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين لم يسمعوا إلى كلام الله ، أم سمعوا والتهوا ، أم على أية حال لم يقتنعوا أم تمنّعوا عن سماعه ثم استجاروا «فأجره» حيث القصد من القتال توجيههم إلى الله بداية أم نهاية وعلى أية حال ، ف (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).

ذلك ، فمجرد احتمال أن المشرك في طريق التحري ، ليس فقط ليحرم ملاحقته قتلا أو حصرا ، بل ويسمح للاستغفار له وكما فعله إبراهيم لما سمع آزر يقول (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) فاستفاد من ذلك أنه يعني مهلة للتفكير فاستغفر له ، ف (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٩ : ١١٤).

ذلك ، وهل تختص هذه الاستجارة بما تعني سماع كلام الله لمكان (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)؟ طليق «استجارك» يطلقها إلى غير هذا المعنى ، فقد يعني ذلك الإطلاق اغتنام الفرصة في هذا المجال لإسماعه كلام الله ، حيث الاضطرار يحمل الناكر للحق أيا كان ليسمع كلام الله حفاظا على صالحه المقصود من استجارته ، فإذا سمع كلام الله سمع التدبر لا الإدبار (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) إذ لا يعني من «يسمع» إلّا سمع التفكر والاهتداء دون سواه من سمع لا يغني سامعه شيئا حيث لا يعني الاستنارة به.

فالمشرك المستجير عند الملاحقة يجار على أية حال (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) سواء أكانت استجارته لذلك أم لسواه ، فإنما القصد هنا

٣٤٤

اغتنام هذه الفرصة المتيحة لنا لنسمعه كلام الله ، فإن سمع مؤمنا فإلى جيش الإسلام ، وإن سمع مترددا مترويا «فأبلغه مأمنه» وإن سمع غير سامع فلم تحصل ـ إذا ـ الغاية المعنية من إجارته وهي (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فلا إبلاغ إلى مأمنه ، بل هو كسائر المشركين غير المستجيرين ، اللهم إلا إذا لا يشكل خطرا على الصف الإسلامي ، فمجرد استجارته يفرض إجارته.

فالحملة الإسلامية على المشركين ليست حملة إبادة ، بل هي حملة هداية ما وجدت إليها سبيلا ، أم إيقافا لفتنة المشركين.

ذلك ، فقد تشمل (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) المستجير الذي سمع كلام الله ولم يؤمن ، ولكنه لا ينوي محاربة المسلمين على أية حال ، فهذا أيضا (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) فإنما هنا مسرح واحد لقتالهم هو قتالهم أو اغتيالهم أو تضليلهم المسلمين ، وإلّا فلا ملاحقة إلا لاهتدائهم إلى الحق ، وإلا فلا سلب ـ إذا ـ معهم ولا إيجاب ، حيث القتال إنما يعني إزالة الفتنة ، نفسية ودعائية ، ولو عني من الاستجارة الاستهداء أم مجال التحري لجيء بلفظه الخاص ، دون الاستجارة العامة ، فمجرد الاستجارة لأي هدف كان إلا الحيلة الخطرة على المسلمين ، إنه موضوع واجب الإجارة (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ).

فيا لهذه الإجارة الرحيمة من قمة عالية وهمة غالية ، حراسة على المشرك لحد إبلاغه إلى مأمنه وهو بعد مشرك ، ما لم يشكّل خطرا على كيان الإسلام والمسلمين ، سواء سمع كلام الله سمع قبول فإيمان ، أو سمع التحري والتروي ، أو سمع الخوف دون تقبل وتروّ ، ولكنه بهذه الاستجارة يعني ابتعاده عن كافة الحزازات ضد الحوزة الإسلامية ، وكل (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) فالعالمون حق الإسلام المعارضون إياه لا إجارة لهم.

ثم مبدء الإشراك من قضاياه ورزاياه عدم الالتزام بالعهد ، فعلى المسلمين أن يأخذوا حذرهم منهم حالة الصلح كما في حالة الحرب حتى لا يؤخذوا على غرّة.

٣٤٥

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧).

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) عليكم (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) دون أن تعاهدوهم ، وليس لهم مبدء صالح يلزمهم على عهد صالح لصالح المسلمين ، اللهم (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حاسبين حسابكم في معاهدتهم ، وهنا (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) في تلك المعاهدة (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) معاملة بالمثل عادلة ، قضية تطبيق المعاهدة الإسلامية السليمة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) إياه عن أية تخلفة في معاهدة وسواها ، فلا يحب ـ إذا ـ الناقضين عهودهم وإن مع المشركين القائمين بشروطات المعاهدة ، المستقيمين لكم فيها.

فحين يعهد المشركون لكم عهدا أنتم غير قابليه فلا عهد لهم عند الله وعند رسوله ، فضلا عما لا يعهدون ، وأما إذا عاهدتموهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أم سواه ، فاستقيموا لهم ما استقاموا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وهنا ضمير الجمع راجع إلى «المشركين» دون خصوص (الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأن (فَمَا اسْتَقامُوا) ضابطة لا تنحصر في الآخرين ، وأن الأولين هم ركن الكلام.

وغير صحيح أن غيرهم إذا استقاموا لم تجب الاستقامة لهم لأن معاهدتكم إياهم ليست عند المسجد الحرام ، فلا أن صالح المعاهدة يختص بالمسجد الحرام ، ولا أن رعاية العدالة خاصة بهؤلاء المعاهدين في ذلك المكان الخاص ، وهنا المقصود صلح الحديبية فقد عنى المسجد الحرام كله.

ذلك ومن قبل (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) يسلب الاستقامة لعهدهم حين لا يستقيمون ، ثم يفرضها حين يستقيمون كالذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، فالعهد المستقيم لزامه الاستقامة قدرها دون حول عنها أيا كان ومن أي كان.

٣٤٦

وترى (فَمَا اسْتَقامُوا) تتجزء في أقدار الاستقامة بأجزائها؟ ففيما يستقيمون فاستقيموا وفيما ينقضون فانقضوا إذا كان للمعاهدة بنود.

ولكن (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) قد تنافي التجزؤ ، اللهم إلّا أن «أتموا» وجاه (لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) جمع قبال جمع ، فإذا أتموا أتموا ، ثم «ما (اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) كما وأنه قضية العدالة والمقابلة بالمثل ، ثم قد تعمم (فَمَا اسْتَقامُوا) فرض «فاستقيموا» وإن بعد موتهم ، حيث الأصل لسماح أو فرض قتالهم هو فتنتهم ، فحين يستقيمون بعهد ودون عهد فواجب الاستقامة لهم قائم ، بل وبأحرى بعد تمام مدتهم ، حيث إن الالتزام بالمعاهدة بعد تمام مدتها أدل على سلمهم طيلة المدة.

إذا (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) قد تعني إلى مدة عهدهم مدة الالتزام بالمعاهدة ، أم لا مفهوم له أن قاتلوهم بعد تمام المدة وإن كانوا ملتزمين بما التزموه في نفس المدة.

وهنا «ما» في (فَمَا اسْتَقامُوا) إما شرطية مضمّنة الزمان وهي الأشبه ، أم زمانية ، وعلى أية حال ف «ما» تطلق شرط الاستقامة بجزاءها إلى مدتهم بعد موتهم.

ثم ترى بعد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حصر للوفاء بالمعاهدة فيهم؟ ولا حصر واقعيا فيهم! ذلك حصر فيمن يستقيمون ، وهؤلاء كانوا مثالا للاستقامة لمكان (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) فليس للمسجد الحرام والذين عاهدوكم عنده ميزّة في ذلك الاستثناء إلّا مصداقية بارزة لهم دون حصر ، فما هذا الاستثناء استثناء بموضوع يفيد الحصر ، بل بمصداق بيّن منه كما في الإيمان عند رؤية الناس : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١ : ٩٨).

ثم وضابطة (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) محكّمة لكل هؤلاء

٣٤٧

الذين يستقيمون في عهودهم ، سواء أكانوا من المعاهدين عند مسجد الحرام أم سواه.

فالمبدأ الأول للمشركين أنه ليس لهم عهد عند الله وعند رسوله ، فإنهم ناقضوا عهد الله بإشراكهم به ، وناقضوا عهد رسول الله بنكرانهم له ، فكيف يكون ـ إذا ـ لهم عهد عند الله وعند رسوله للجماعة المؤمنة بالله وبرسوله ، فذلك استفهام إنكاري يوقظ المسلمين بأن الأصل فيهم أولاء الأنكاد الأنكاث هو نقض العهود فلا يوثق بهم أبدا ، فعليهم اليقظة الدائمة أمامهم حياطة على النقض المرتقب منهم دائما.

ذلك لأنهم كأصل يكمنون لكم العداء العارم دون رغبة فيكم ولا رقابة عليكم ، فالأصل في معاهدة المسلم المحارب عدم النقض فإذا نقض انتقض ، ثم الأصل في معاهدة المشرك المحارب النقض ، فإذا لم ينقض لم ينتقض ، فلا تجوز بدار النقض منا لعهد المشرك قبل نقضه ، فإنه ـ إذا ـ حجة علينا واعتداء بغير مثل.

وهكذا يلزمنا الإسلام بالوفاء بالعهود مع المشركين فضلا عن المسلمين ، ولكن علينا أن نحتاط أمام المشركين المعاهدين إذ ليس لهم عند الله ولا عند رسوله عهد.

وإذا كانت الاستقامة للمعاهدات الإسلامية مع المشركين بهذه المثابة فما ذا ترى في المعاهدات الإسلامية مع بعضهم البعض ، فهل يجوز نقضها من طرف واحد بأي سناد؟ كلّا وحتى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليس له ذلك النقض فضلا عمن سواه مهما بلغ به الأمر.

فلا يبرّر نقض العهد إلّا نقضه قدره ، دون أي مبرر آخر دونما استثناء.

وهنا (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قد يعني إلى صلح الفتح بمكة صلح الحديبية إذ لم يسبق لهم معاهدة قبل الفتح إلا فيها مما يوسع نطاق المسجد الحرام إلى الحرم كله ، و «عند» هنا لأن الحديبية هي على أشراف الحرم وشفيره فإن بعضها في الحرم وبعضها في الحل.

٣٤٨

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)(٨).

«كيف» يكون لهم عهد وهم لا يراعون عهدا عاطفيا إنسانيا بقرابة وما أشبه فلا يرقبون (فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) عهدا بمعاهدة ، فهم خلو عن كل عهد «إلّا» بقرابة و «ذمة» بقرار ، فكيف يوثق بهم وهم لا عهد لهم من هذا وذاك.

فالإل هو كلما يقابل الذمة مما تجب رعايته ورقابته من ١ تحديد فطري أو عقلي أو عرفي ، ٢ أم صفاء ولمع إنساني ، أم ٣ جوار أم ٤ قرابة نسب أو سبب ، فقد جاء الإل بمعاني عدة لا تناسب هنا إلا هذه الأربعة ، وأما العهد فهو المعني ب «ذمة» ثم «الله» ليس ليعبر عنه بالإل ، وأما «ذمة» فهي العهد الذي يذم على نقضه ، فهو العهد اللزام المذموم نقضه.

إذا ف «لا يرقبون» حراسة ورقابة (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا) قرابة أم صفاء ولمعا إنسانيا ، أم فطرة أو عقلية أو عرفية أماهيه من رقابات أصيلة هي قضية أصل الإنسانية ، ثم «ولا ذمة» بمعاهدة وذمام ، فهو ـ إذا ـ خواء عن أية مراقبة لمؤمن فكيف يكون لهم عهد؟!

فقد فسدت إنسانيتهم وكسدت حيث حجبت فطرهم وعقولهم وحلومهم وعلومهم عن لمس الحقائق فهم إذا شر الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون.

«يرضونكم» في إل أو ذمة «بأفواههم» مداهنة لا مهادنة حيث (تَأْبى قُلُوبُهُمْ) عن أية رقابة لأي إلّ أو ذمة ، وعلى الجملة كأصل (أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) متخلفون عن كل وثاق ووثيقة ، مهما كان لأقلهم إلّ أو ذمة كالذين عاهدتم عند المسجد الحرام.

ف (أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) هنا لا يعني مطلق الفسوق فإن كلهم فاسقون عن طاعة الله وشرعته ، فإنما حكم الأكثرية هنا يختص بحقل رقابة إلّ أو ذمة.

٣٤٩

فهؤلاء لا يسالمونكم أو يعاهدون إلا مضطرين (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) غلبا في المعركة أم في القوة «لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأكثرهم فاسقون» خارجون عن أي إل أو ذمة.

فهم ـ إذا ـ لا يقفون في التنكيل بكم لحد حتى المتعارف في أية بيئة إنسانية ، متجاوزين كافة الحدود والأعراف ، وهم أولاء الأنكاد الأغباش :

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩).

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) أنفسية وآفاقية ، رسولية ورسالية ، هذه الآيات المرئية لهم المعروضة عليهم ، اشتروا بها (ثَمَناً قَلِيلاً) من متعة الحياة الدنيا ، وكل ثمن أمام آيات الله قليل.

وبالنتيجة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أنفسهم وسواهم ، فأصبحوا في قالهم وحالهم وفعالهم صدا عن سبيل الله على أية حال ، في كل حلّ وترحال ، فهم يحملون أصول الفتن وأثافي المحن والفتنة أكبر وأشد من القتل ، فقاتلوهم يعذبهم الله (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

هناك «لا يرقبون فيكم» اللامحة لخصوص المؤمنين الحضور ، وهنا «في مؤمن» طليقة تشمل كل مؤمن على مد الزمن إلى يوم الدين ، انتقالا عن خاص إلى عام كيلا يخيّل إلينا أن هذه العداوة خاصة بجماعة خصوص من المؤمنين.

هنا (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) وأمثالها لها نطاق واسع يعم إلى «الذين (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كل هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله ، وأفضل سبل الله هو القرآن وعلى ضوءه رسول القرآن.

فقد يصد عن القرآن تكذيبا له وتزييفا لموقفه ، وهذا هو الكفر الجاهر المستهتر ، أم يصد عنه بطرق ملتوية تنقبا بنقاب الحفاظ على حرمة القرآن ، والحياد عن المسّ من كرامة القرآن كالقيلات الغيلات التالية :

١ القرآن ظني الدلالة وقطعي السند ، والحديث قطعي الدلالة وظني السند.

٣٥٠

٢ في أن ظواهر القرآن حجة أم لا اختلاف بين العلماء ، فكيف يستدل بما فيه خلاف.

٣ آيات القرآن مجملات هي بحاجة إلى تبيان بالحديث ، فالأصل هو الحديث حيث يفسر القرآن!

ذلك وما أشبه من هرطقات تعني أن القرآن ليس بيانا ولا تبيانا ، بالرغم من أنه في أعلى قمم الفصاحة والبلاغة ، فهو يحمل أبين بيان وأفضل تبيان ، ف : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٣ :) ١٣٨) ـ (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (٦ : ١٥٧).

أو ليس نكران أن القرآن بياس للناس ، وجعله في بوتقة النسيان ، وإبعاده عن أمته وحوزته ، أليس ذلك صدفا عنه أن يجعل في زاوية منعزلة عن ناسه بأساسه.

ثم وكتمان أن القرآن بيان للناس وتبيان يستجر لعنة ربانية على الكاتمين ف (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢ : ١٥٩).

فليس يختص كتمان الآيات البينات أن تكتم عن بكرتها ، بل وكتمان أنها بينات بدعايات كالتي سلفت وما أشبه ، إنه كتمان كسائر الكتمان مهما اختلفت دركاته.

فالقرآن بنفسه بينة قضية قمة الفصاحة والبلاغة البيانية ، المنقطعة النظير ، ثم ويصرح في آيات أنه بينة من الله كافية (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) (٢ : ٩٩).

فكما أن الكفر بهذه الآيات فسق كافر ، كذلك الكفر بكونها بينات مع الاعتراف بكونها آيات ، إنه كما هو فسق فاسق ، مهما اختلف فسق عن فسق ، (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (٢٢ :) ١٦) (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

٣٥١

(٢٤ : ٣٤) (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٦٥ : ١١).

إذا فهؤلاء الذين يفصلون بين القرآن وبين حوزته وأمته ، انهم (يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وهم «الفاسقون» والصادون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم الظالمون :

ف (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (١١ : ١٩) وهم أولاء في ضلال بعيد : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٤ : ٣) (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) (٢٨ : ٨٧).

أجل ، إن كتمان أن القرآن بيان كتمان للقرآن ، و (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) (٢ : ١٧٤).

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)(١٠).

«أولئك» ١ الذين ليس لهم عهد عند الله ورسوله ٢ (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا) ٣ (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ٤ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) ٥ (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ، ٦ (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ٧ (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).

هؤلاء الأنكاد البعاد عن كل شؤون الإنسانية ، الحاصلون على هذه الدركات السبع الجهنمية ، كأنهم (هُمُ الْمُعْتَدُونَ) فقط لا سواهم ، حيث ركزت فيهم جذور الاعتداء ، واستأصلت جذور الاهتداء ، فكيف يكون ـ إذا ـ لهم عهد عند الله وعند رسوله؟

وهم على هذه الأوصاف النكدة علّهم لهم منفذ إلى رحمة الله حيث تستقبلهم بشارة الله :

٣٥٢

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(١١).

فطالما الأخوة في الدين هي التي بين المؤمنين ، فقد تشمل هؤلاء المشركين شريطة التوبة ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة كما فصلناها من ذي قبل ، وهي الأخرى بين المؤمنين وأدعيائهم غير المعروف آباءهم : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ... ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) (٣٣ : ٥) ثم لا رابع إلّا اليتامى ، ولكنهم لأنهم صغار غير مكلفين لم يصرح لهم بالأخوة في الدين : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٢ : ٢٢٠) ولكن نسبتهم إلى المؤمنين في الأخوة قد تجعلهم إخوة في الدين ، ما تتطلبه هذه الأخوة وراء التكاليف الخاصة بالمكلفين ، فعليهم أن يراعوهم بأخوة في الدين ، وليس عليهم أولاء لصغرهم فرض في حقل الأخوة الدينية ، اللهم إلّا ما يفرض على أولياءهم من تأديبهم وتدريبهم على الدين.

وحين تثبت الأخوة في الدين بين المؤمنين ككل (١) وحتى بالنسبة للقاصرين فهلّا تثبت بين فريقي المسلمين شيعة وسنة أماهيه من الفرق ، وهم ككل حاصلون على هذه الثلاثة ، وحتى التاركين منهم للصلاة والزكوة ، المصدقين لهما ، هم غير خارجين عن هذه الأخوة الشاملة ربع الإيمان ، فقد تثبت حرمة اغتيابهم بعضهم بعضا بنص آية الحجرات منضمة إلى هذه الآيات (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) و (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ).

فقيلة حلية اغتياب أهل السنة غيلة على وحدة الأخوة الإسلامية ، وحيلة لوهدتها أعاذنا الله من سوء الفهم والعصبية الجاهلة العمياء! ، فإنما (نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) في تفسير العياشي جابر عن أبي جعفر (عليهما السلام) (فَإِنْ تابُوا) يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين. ـ

٣٥٣

فحين يصبح المؤمنون الجدد ـ على سوابقهم المزرية ـ ثم الأدعياء غير المعروف آباءهم ، حين يصبح هؤلاء وهؤلاء ومعهم يتاماهم إخوانا لهم في الدين ، أفلا يكون سائر المسلمين إخوانا لنا نحن الشيعة الإمامية ، زعم أن الإيمان فالأخوة الإيمانية تختص بنا ، ويكأن آيات الإسلام والإيمان والأخوة الإيمانية تخاطبنا فحسب دون سوانا؟! وهكذا الغلطة المغلّظة بين جمع من إخواننا السنة حيث يرفضون إخوتنا الإيمانية ، أم ويفضلون اليهود والنصارى علينا!

وهكذا نزغ شيطان الاستعمار والاستحمار بيننا لحد جعلنا شذر مذر ، تاركين لوحدة الاعتصام بحبل الله هابطين لوهدة الانقسام عن حبل الله ، عاملين على بث الخلافات وحثّها فيما بيننا ، وهذه هي بغية أعداءنا لكي يكونوا علينا ـ المتفرقين المفترقين ـ ظاهرين قاهرين!

والقول إن إخواننا فاسقون في عقيدة الدين متجاهرين ، فهم ممن يحل اغتيابهم؟ غول من القول ، حيث الفسق المتجاهر به في حقل حلّ الاغتياب هو الذي يعترف صاحبه بأنه فسق ، ثم لا يبرّر سائر الفسق المستور أن يغتاب فاسد العقيدة فيه ، والأكثرية المطلقة من إخواننا قاصرون وإن كان عن تقصير ، فليسوا هم يعاندون الحق فينكرونه لعنادهم ، بل هم حسب بيئتهم وملابساتهم ظلوا في تلكم العقائد ، وعلى الدعاة إلى الله أن يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن.

ولو حلت الغيبة بين فرق المسلمين لفرقت بينهم أكثر مما هم متفرقون ، وهم مأمورون بالوحدة قدر المستطاع ، اعتصاما بحبل الله جميعا دون تفرق وتمزق ، فكيف يجوز اغتيابهم فيما هم غير متجاهرين من فسوق ، أم هم غير مقتنعين أنه فسوق ، فمن شروط الأمر والنهي ثم جواز الاغتياب ، أن يكون الواجب والمحرم واضحين للمأمور والمنهي وضح النهار ، فإن تخلف بعد فأمر أو نهي ، ثم إن أصر وجاهر فإصرار في الحمل على شرعة الله وجهار في عرض مآسيه عله ينتهي.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ

٣٥٤

الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(١٢).

هنا نكث اليمين والطعن في الدين يردفان عطفا مما يدل على أن ذلك العهد المؤكد باليمين كان على المحايدة تجاه الدين ، ألا يحاربوا المؤمنين في الدين ، ولا يطعنوا طعنة أخرى في الدين كالدعاية ضده أو مظاهرة عدو على المؤمنين ، فعند نكثهم وطعنهم (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) الناكثين الطاعنين ، (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) قاتلوهم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) عن كفرهم ، أم ـ لأقل تقدير ـ عن نكثهم وطعنهم.

وهنا تبرز من ملامح الحرب الإسلامية أنها فقط حرب دفاعية أمام الهجمة الكافرة على نفوس المؤمنين أم على عقائدهم وسائر نواميسهم ، فحين ينتهون عن الطعن في الدين فلا قتال ، كما لا قتال حين لا يقاتلونكم.

ولأن الأصل في نكث اليمين والطعن في الدين بين جموع الكافرين ، هو من أئمة الكفر دون المأمومين لهم ، لذلك (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وطبعا بمن يساندهم من هؤلاء الأتباع الأغباش (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) والقصد الأصيل في ذلك القتال ليس هو الانتقام ، بل الانتهاء عن النكث والطعن في الدين ، ثم علياه هي الانتهاء عن الكفر.

وقد تشمل (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) ـ جريا ـ كل من يحمل راية الضلالة والمتاهة كأصحاب الجمل ومن أشبه حيث يشكّلون على الإسلام خطرا علّه أخطر ممن سواهم من الكفار الرسميين (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٨٨ في قرب الإسناد للحميري عن حنان بن سدير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير فقلت لهم : كانوا من أئمة الكفر ، إن عليا (عليه السلام) يوم البصرة لما صف الجمل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم فقام إليهم فقال : يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا : لا ، قال : فحيفا في قسم؟ قالوا : لا ، قال : فرغبة في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا : لا ، قال : فأقمت فيكم الحدود وعطلتها في غيركم؟ قالوا : لا ، قال :

٣٥٥

ذلك ، ففرض قتال أئمة الكفر طليق على أية حال ، فإنهم بطبيعة حالهم الشريرة يؤمّون الكفر بكل بنوده السلبية للإيمان والإيجابية لنفسه ، قتلا للأنفس وطعنا في الدين بكل ما يملكونه أو يمّلكون من طاقات وإمكانيات في مؤاتية المجالات.

فالقادة الأئمة هم بين أئمة الإيمان وأئمة الكفر ، فلا بد لأئمة الإيمان بربعهم أن يقاتلوا أئمة الكفر بربعه : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢ : ٢٥١) ف (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) هنا ظاهرة بديل ضمير : «فقاتلوهم» عبارة قاصدة لموضوعية إمامة الكفر لفرض القتال مهما لم يكن نكث لأيمان وسواها.

وهنا (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) تعني ـ لأقل تقدير ـ الانتهاء عن إمامة الكفر

__________________

ـ فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث ، إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف ، ثم ثنى إلى أصحابه فقال : إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : والذي فلق الحبة وبرء النسمة واصطفى محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت ، ورواه العياشي عن حنان بن سدير عنه (عليه السلام) أقول : مغتصبو الخلافة هم من أهل هذه الآية ولكن الملابسات منعت الإمام عن القيام بالسيف أمامهم. وفي أمالي المفيد باسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين خرج طلحة والزبير على قتاله : عذرني الله من طلحة والزبير ، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية ، ورواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن وأبي الطفيل والحسن البصري مثله ، ورواه الشيخ في أماليه عن أبي عثمان المؤذن وفي حديثه قال بكير : فسألت عنها أبا جعفر (عليهما السلام) فقال : صدق الشيخ هكذا قال علي هكذا كان وفيه عن العياشي عن الحسن البصري قال : خطبنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) على هذا المنبر وذلك بعد ما فرغ من أمر طلحة والزبير وعائشة ، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ثم قال : يا أيها الناس والله ما قاتلت هؤلاء إلا بآية تركتها في كتاب الله ، إن الله يقول : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أما والله لقد عهد إليّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقال : يا علي لتقاتلن الفئة الباغية والفئة الناكثة والفئة المارقة.

٣٥٦

فتنة وإفسادا على المؤمنين وسائر المستضعفين ، ثم انتهاء عن أصل الكفر ، وإذا فهم إخوانكم في الدين.

ثم (لا أَيْمانَ لَهُمْ) بعد (إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) تعبير قاصد إلى أن أيمانهم لم تكن أيمانا قاصدة صادقة ، فإن طبيعة حال الأيمان هي الوفاء دون النكث ، فالأيمان المنكوثة ليست في الحق بأيمان ، وإنما هي قالتها دون حالتها وفعالتها ، وصرف القالة في اليمين قالة غائلة.

هؤلاء أئمة الكفر وهم دركات ، كما وأئمة الايمان درجات علياها الأئمة من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، الأعزة عند الرسول وعلى حد تعبيره (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش» (١) و «الأئمة من المهاجرين» (٢).

وترى «إن نكثوا» تختص واجب قتال أئمة الكفر ـ فقط ـ بما إذا نكثوا وطعنوا ، فغير المعاهد الطاعن لا يقاتل؟ (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) موضوعا ل «قاتلوا» تكفي دليلا أن لها الموضوعية التامة الطامة في حكم واجب القتال ، فسواء في ذلك المعاهد الناكث وغير المعاهد ما دام الطعن في الدين بإمامة الكفر قائما ، فذلك ـ إذا ـ حكم يحلق على كافة أئمة الكفر الطاعنين في الدين للطول التأريخي والعرض الجغرافي.

ذلك ، ومن أبرز النكث للإيمان فالطعن في الدين هو نكث يمين الإيمان المدعى ارتدادا عنه جاهرا ، مما يفت عضد الدين ويضعف ساعد اليقين حيث يخيّل إلى بسطاء المؤمنين أنهم ارتدوا عنه بما وجدوا فيه من خلل فجحدوه لهذه العلل وما نجدوا ، وهو طعن في الدين وقلوب الديّنين ، طعنا عمليا يعمل في إضلال البسطاء سراعا ، ودليلا باهرا على الشمول إضافة إلى ظاهرة العموم ، أن «نكثوا» هنا بعد (فَإِنْ تابُوا)

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة بخ ـ ك ٩٣ ب ٥١ ومس ـ ك ٣٣ ح ٥ ـ ١٠ وتر ـ ك ٣١ ب ٤٦ وحم أول ص ٣٩٨ قا ٤٠٦ ، خامس ص ٨٦ و ٨٧ و ٩٣ و ٩٤ و ٩٥ و ٩٦ و ٩٧ و ٩٨ و ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ و ١٠٦ و ١٠٧ و ١٠٨ وط ـ ح ٧٦٧ و ١٢٧٨.

(٢) المصدر ط ـ ح ٩٢٦ و ٢١٣٣.

٣٥٧

فهو في الأصل نكث بعد التوبة ، ثم يشمل كل نكث ، ثم كل إمامة للكفر ، وقد سبق ذلك النكث ما يعممه تماما ، فسابق (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) مع «إن تابوا» مرتين ، دليل باهر لذلك التعميم.

فلا تختص (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) بمن يطعنون في الدين وهم كفار جاهرين ، بل وأنحس وأنكى منهم كبراء بزعم الناس ، يظهرون الإيمان مضمرين الكفر ثم يرتدون ، وذلك كاف في زعزعة إيمان البسطاء المستضعفين.

إذا فنكث الأيمان يشمل نكث الإيمان ـ وبأحرى ـ لأنه أيضا يمين من الأيمان ، بل وأحرى مما سواه من أيمان ، فقضية طليق (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) بنقض الأيمان والطعن في الدين هي وجوب قتال كل من يحمل مشعل الضلالة والطعن في الدين ، ملحدا أو مشركا أو كتابيا أم ومسلما يحمل ما يحملون بل هو أخطر وأنكى ، فأصحاب البدع الجاهرة ، الذين يبدعون خلاف الضرورة من شرعة الحق هم من أئمة الكفر ، وترى إذا انتهى المرتد عما فعل وأبرز الإيمان ، فهل يثبت قتاله بعد أم لا؟ (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) حيث تنهي قتالهم لغاية انتهاءهم ، دليل نفيه عندئذ ، اللهم إلّا أن يدل قاطع الدليل على استثناء المرتدين.

وهل للكافر يمين لمكان (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) حيث النكث لها دليل واقعها؟ أم لا ـ ل (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ)؟ إن لهم يمينا ما لم ينكثوا ، فحين نسمع منه يمينا لا نتأكد كذبه فقد نعامله معاملة صادق اليمين على حذر لأنهم ـ كأصل ـ لا أيمان لهم ، إذ لا مولى لهم به يحلفون.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣).

هذه الآية بما بعدها تواجه ما حاك في نفوس ضغيفة لم يتعرق الإيمان بعد فيها ، من تردد وتهيّب للإقدام على هذه الخطوة الحاسمة الجاسمة القاصمة ، ومن تعلل ورغبة وتعلّة في أن يفيء المشركون الباقون إلى الإسلام دون اللجوء إلى القتال الشامل ، ومن خوف على نفوسهم

٣٥٨

ومصالحهم ، ركونا إلى أيسر وسائلهم في مسائلهم.

فالقرآن يواجه هذه المشاعر بملابساتها الملبّسة على أصحابها ، والتعلّات والمخاوف المحلقة عليها ، استجاشة لقلوب المؤمنين بذكريات وأحداث ورغبات صالحة ، تذكرة بنقض المشركين عهودهم بعد إبرامها وسائر ما افتعلوه بحق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والذين معه.

وهنا سرد مختصر غير محتصر لثالوث أئمة الكفر : (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ـ (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وكل واحدة من هذه الثلاثة تكفي في فرض قتالهم فضلا عن الثالوث كله.

و (أَلا تُقاتِلُونَ) استفهام إنكاري ممن يتهاون ولا يتعاون في قتال هؤلاء الناكثين البادئين في الحرب وقد (هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) مما يدل على مدى تعرق الكفر في نفوسهم النحيسة البئيسة.

١ (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) مع الرسول ـ كما هو شيمتهم الشنيعة ـ : نقضا لعهد الحديبية ف «إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهده ليلا فقاتلوهم للضغن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» (١) وكان (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد قبل من

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢١٥ ـ أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا : كان في صلح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية بينه وبين قريش أن من شاء أن يدخل في عقد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعهده دخل فيه ومن شاء أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا : ندخل في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : ندخل في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك المداهنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعهده ليلا بماء لهم يقال له الوتير قريب مكة فقالت قريش : ما يعلم بنا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهذا الليل وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وركب عمر وابن سالم عند ما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير حتى قدم ـ

٣٥٩

شروطهم ما حسبه الخليفة عمر قبولا للدنية!

ثم وفى لهم أحسن الوفاء وأدقّه ، ولكنهم نقضوا عهده (صلّى الله عليه وآله وسلم) وخاسوا به بعد عامين لأول فرصة سانحة.

٢ (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) مرات عدة ، يوم الندوة ، ويوم الشعب ، وليلة الفراش التي انتهت إلى الهجرة ، ثم وكل أيامهم كانت تحمل هما بالغا قالا وحالا وفعالا لإخراج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن عاصمة الدعوة ، وذلك أنحس وأنكى ما حصل منهم طول همومهم بخصوصهم وعمومهم ، ثم ولم يكونوا يكتفون إخراجه بإخراجه عن مكة ، بل وهموا بإخراجه أيضا عن المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل ، فهمهم لإحراجه في المدينة همّ لهم لإخراجه عنها كما أخرجوه عن مكة المكرمة.

٣ (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدء بالقتال والنكال منذ بزوغ الدعوة ، ومن ثم بعد الهجرة خلال بضع أشهر ، في حرب بدر التي أصبحت ـ خلاف قصدهم ـ بادرة القوة الإسلامية ضدّهم.

__________________

ـ المدينة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأبيات أنشده :

اللهم إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الا تلدا

كنا والدا وكنت ولدا

ثمت اسلمنا ولم نزع يدا

فانصر رسول الله نصرا اعتدا

وادعوا عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

إن شئتم حسنا فوجهه بدر بدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن ليس تدعو أحدا

فهم أذل وأقل عددا

قد جعلوا لي بكداء رصدا

هم بيتوا لنا لهجير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : نصرت يا عمرو بن سالم فما برج حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.

٣٦٠