الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

إنه لا يقتصر (طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) على مسهم المسيس ، بل (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) المس (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أولاء وهؤلاء في مسهم اللعين المتقين ، فاليقظة اليقظة للذين اتقوا تذكرا باستعاذة باستنجازة حتى يبصروا مسيرهم إلى مصيرهم ولا يصطادوا إلى فخ الشيطان.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢٠٣).

(إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) يقترحونها أو يرتقبونها كما أوتي رسل الله ، (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) كأنه هو المجتبي لآيات الله كما يحب ويرضى (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) دون ما أهواه أم تهوونه أنتم ، إنما أتبعه لا سواه ، سواء في وحي الرسالة أم آيتها الخالدة ، فلا أنتظر من ربي آية سواها ، ولن أقترح عليه آية سواها ، بل والاقتراح على ربي في حقل رسالتي تجاوز عن أدب الرسالة إلى حدب الربوبية ، ثم ليست الآيات الربانية إلّا بصائر من ربكم و «هذا» القرآن العظيم (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فقد جمع آية القرآن بوحدتها كلّ البصائر الربانية ، حيث تبصّر ما يبصر ببصيرة أم بصر (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ـ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ).

أجل إنه «بصائر» تبصر وتبصّر «وهدى» تهدي «ورحمة» تحمل كل الرحمات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ف (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) تحلّق بصائره على كافة المكلفين ، ولكن البصيرة ليست إلّا الطريقة المثلى ، فليست ـ إذا ـ (هُدىً وَرَحْمَةٌ) إلّا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالبصائر ، دون هؤلاء الحماقى الذين (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤) : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٦ : ١٠٤) ـ (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤٥ :) ٢٠) ـ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١٢ :) ١٠٨).

هنا (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) تعجيز إلى سخرية ، وكأنه مدع إمكانية إتيانه بآيات يجتبيها ، و (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ثم الويل كل الويل لهؤلاء الذين يضلون الناس ويعمونهم بتلك البصائر ، تذرعا بالقرآن إلى ضده علميا أو

١٠١

عمليا ، وكما يندّد بهم فيما أوحي إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (١).

وهؤلاء هم المعنيون من خطاب علي (عليه السلام) العتاب : «أريد اداويكم وأنتم دائي ، كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها ، اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي ، وكلت النزعة بأشطان الركي» (الخطبة ١٢٠).

أجل (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) هي القرآن نفسه ، دون حاجة له إلى بصائر أخرى تفسره ، ف «فيه الحجة والنور والبرهان ، كلام الله غض جديد طري شاهد ، وحكم عادل ، قائد بحلاله وحرامه ، بصير به ، قاض به ، مضموم فيه ، يقوم غدا فيحاج أقواما فتزل أقدامهم عن الصراط» (٢) و «القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٥ ـ أخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال : أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) من قوله : أتاني جبرئيل آنفا فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) قلت : أجل فإنا لله وإنا إليه راجعون فمم ذاك يا جبرئيل؟ فقال : إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير ، قلت : فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال : كل ذلك سيكون ، قلت : ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال : بكتاب الله يضلّون وأوّل ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم ، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ، وتتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا تقصرون ، قلت : يا جبرئيل! فبم يسلم من سلم منهم؟ قال : بالكف والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه.

(٢) جامع أحاديث الشيعة للمغفور له استاذنا الأقدم في الفقه السيد البروجردي ، ج ١٥ : ٧ ، السيد علي بن طاووس في الطرف عن كتاب الوصية لأبي ضرير عيسى بن المستفاد من أصحاب الكاظم (عليه السلام) عنه عن أبيه (عليهما السلام) في حديث أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال للأنصار أيام وفاته فيما أوصى به إليهم : كتاب الله وأهل بيتي ، فإن الكتاب هو القرآن وفيه الحجة.

(٣). المصدر عن المجمع ١٥ ج ١ ـ أنس بن مالك عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ..

١٠٢

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): ما من مؤمن ذكر أو أنثى ، حرّ أو مملوك إلا ولله عليه حق واجب أن يتعلم من القرآن ويتفقه فيه ثم قرأ : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٣ : ٧٩) (١).

فلا تحصل الربانية العلمية والتربوية إلّا على ضوء دراسة الكتاب وتعليمه وكما قال (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظل يوم الحرور والهدي يوم الضلالة فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان» (٢).

وقال : «حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله ، الملبسون نور الله ، المعلمون كلام الله ، من عاداهم فقد عادى الله ومن والاهم فقد والى الله» (٣).

ذلك وهؤلاء ممن يكون «القرآن حديثه» (٤) و «شعاره» (٥) و «لا يعذب الله قلبا وعى القرآن» (٦) وقد كان كلام الامام الرضا (عليه السلام) كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن (٧).

__________________

(١ ، ٢). المصدر ، أبو الفتوح الرازي في تفسير عن عبد الله بن عباس عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعن معاذ بن جبل عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم.

(٣). المصدر ٢٥ عن تفسير أبي الفتوح الرازي.

(٤). المصدر ٣٠ في رواية جامع الأخبار :

(٥) المصدر ٢٩ قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أولئك قوم اتخذوا مساجد الله بساطا والقرآن شعارا.»

(٦) المصدر ٣٥ ـ أمالي ابن الشيخ بسند متصل عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وفيه عن جامع الأخبار للصدوق عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): اقرءوا القرآن واستظهروه فإن الله تعالى لا يعذب قلبا وعن القرآن.

(٧) المصدر ٦٧ عن العيون ٢ : ١٨٠ عن إبراهيم بن العباس يقول : ما رأيت الرضا (عليه السلام) يسأل عن شيء قط إلا علم ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه ، وكان كلامه كله.

١٠٣

ف أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك ، أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن ترزقني حفظ القرآن وأصناف العلم ، وأن تثبتها في قلبي وسمعي وبصري ، وأن تخالط بها لحمي ودمي وعظامي ومخي ، وتستعمل بها ليلي ونهاري برحمتك وقدرتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بك يا حي يا قيوم (١).

«اللهم ارحمني بترك معاصيك أبدا ما أبقيتني ، وارحمني من تكلف ما لا يعنيني ، وارزقني حسن المنظر فيما يرضيك عني ، وألزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني ، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني ، اللهم نور بكتابك بصري ، واشرح به صدري ، فرح به قلبي ، وأطلق به لساني ، واستعمل به بدني ، وقوني على ذلك ، وأعني عليه إنه لا معين عليه إلا أنت» (٢).

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢٠٤).

هنا «قرئ القرآن» موضوع لواجب الاستماع له والإنصات (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) والنتيجة الصريحة لسلبية الاستماع والإنصات له هي زوال الرحمة ـ وطبعا ـ إلى خلاف الرحمة وهو العذاب الزحمة ، فإن الله لا يخلى عباده من رحمة أو زحمة جزاء وفاقا بأسبابهما ، وهنا السبب لزوال الرحمة إلى الزحمة هو ترك الاستماع والإنصات للقرآن حين يقرء.

__________________

(١ ، ٢) المصدر ٣٨ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : تقول : اللهم إني أسألك ولم يسأل العباد مثلك ، أسألك بحق محمد نبيك ورسولك وإبراهيم خليلك وصفيك وموسى كليمك ونجيّك وعيسى كلمتك وروحك ، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وقرآن محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبكل وحي أوحيته وقضاء أمضيته وحق قضيته وغني أغنيته وضال هديته ، وأسألك باسمك الذي وضعته على الليل فأظلم ، وباسمك الذي وضعته على النهار فاستنار ، وباسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت ودعمت به السماوات فاستقلت ، ووضعته على الجبال فرست ، وباسمك الذي بثثت به الأرزاق ، وأسألك باسمك الذي تحيي به الموتى ، وأسألك.

١٠٤

أترى بعد أن «قرئ» تختص بقراءة حية للحمد والسورة ومن قارئ مسلم يكلف ، أم وأنت في صلاة جماعة مؤتما به كما قد يروى؟ وقد روي إطلاق فرض الاستماع والإنصات للقرآن أيضا (١) ، و «القرآن»

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١١٣ في التهذيب عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة؟ فقال : إذا سمعت كتاب الله يتلى فأنصت له فقلت : إنه يشهد علي بالشرك! قال : إن عصى الله فأطع الله فرددت عليه فأبى أن يرخص لي قال : فقلت له : أصلي إذا في بيتي ثم أخرج إليه؟ فقال : أنت وذاك وقال : إن عليا (عليه السلام) كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكوا وهو خلفه (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنصت علي تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية ثم عاد في قراءته ثم عاد ابن الكوا فأنصت علي (عليه السلام) أيضا ثم قرأ فأعاد ابن الكوا وانصت علي (عليه السلام) ثم قال له : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ثم أتم السورة ثم ركع ورواه العياشي عن أبي كهمش عن أبي عبد الله (عليه السلام) من قوله : «قرأ ابن الكوا» ، أقول ، ورواه العياشي في تفسيره عن أبي كهمش عنه (عليه السلام) والقمي ٢ : ١٦٠ قال : كان علي (عليه السلام) والجعفريات عنه (عليه السلام) وابن شهر آشوب في المناقب ٢ : ١١٣ مثله.

أقول : علّ قراءته (عليه السلام) هذه الآية كان بعد الفاتحة في نفس السورة التي فيها الآية ، ثم يلمح له «تم أتم السورة ثم ركع» حيث السورة هنا ليست هي الفاتحة لمكان «ثم ركع» بل هي سورة بعدها.

وفيه عن تفسير العياشي (٢ : ٤٤) عن زرارة قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع ، وفيه عن المجمع ٤ : ٥١٥ عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : الرجل يقرأ القرآن أيجب علي من سمعه الإنصات له والاستماع؟ قال : «نعم إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع».

(البحار ٩٢ : ٢٢٢ جامع البزنطي نقلا عن خط بعض الأفاضل عن جميل عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقرأ القرآن (وذكر نحوه).

وروى الإمام أحمد وأهل السنن وقال الترمذي عنه : هذا حديث حسن وصححه أبو حاتم الرازي من حديث الزهري عن أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله (صلّى الله ـ

١٠٥

ليس ليعني سورة خاصة في صورة خاصة ، مهما نزلت هذه الآية فيما كان المسلمون يتكلمون في الصلاة والإمام : النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) جاهر بالقراءة! فمهما كان ذلك سببا لنزولها ولكنه ليس سببا لاختصاصها بذلك السبب ، ولو أن القرآن مات بموت سبب نزوله لمات القرآن كله ، فإنما العبرة بعموم النص لا بخصوص سبب نزوله ، ولو كان قرآن خاص موضوعا للحكم لجيء بخصوصه ، ولا سيما في (بَيانٌ (١) لِلنَّاسِ) أفترى القائل : إذا رأيت مسلما فسلّم عليه ، وهو في مقام البيان ، فهل يصلح تقييده بمسلم خاص؟ وبأحرى القرآن لمّا يقول : (إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) فالموضوع هو مطلق القرآن.

__________________

ـ عليه وآله وسلم) انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرء أحد منكم معي آنفا به؟ قال رجل : نعم يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : إني أقول : مالي أنازع القرآن ، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

أقول : ليس يعني هذا اختصاص وجوب الاستماع بالصلاة الجهرية للمأمومين وإنما هي الظرف الأهم لواجب الاستماع حيث الامام يتحمل عن المأموم القراءة إضافة إلى واجب الاستماع إلى القرآن بصورة مطلقة ، فلا معارضة بين أدلة وجوب الاستماع في الجهرية والأخرى الطليقة فيه ولا سيما الآية حيث ركز الأمر على «القرآن» وليس من الفصيح بل هو من القبيح.

وفي بحار الأنوار ٨٩ : ٢٢٢ عن جامع البزنطي نقلا عن خط بعض الأفاضل عن جميل عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقرأ القرآن يجب على من يسمعه الإنصات له والاستماع له؟ قال : نعم ، إذا قرئ القرآن عندك فقد وجب عليك الاستماع والإنصات.

وفي جامع أحاديث الشيعة ١٥ : ١٦٣ عن كتاب العلا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : يستحب الإنصات والاستماع في الصلاة وغيرها للقرآن ، أقول : لا يعني الاستحباب هنا إلا الوجوب لمكان «في الصلاة» ففي «غيرها» أيضا لوحدة التعبير ، ثم وليس الاستحباب نصا أو ظاهرا فيما اصطلح عليه ، بل هو مشترك في استحباب الواجب والندب اللهم إلا بقرينة تخص أحدهما.

١٠٦

وعناية قرآن الحمد في جهرية الجماعة ، جناية في التعبير ، لا تقبلها كلام اللطيف الخبير ، أن تعنى الحمد من «القرآن» الذي يحوى زهاء ألف ضعف من آياتها السبع!

إنما «القرآن» هو القرآن كله ما صدق عليه ، كلمة أو جملة أو آية أو سورة ، ومجهولية «قرئ» تجهّل تخصيص القارئ بما قد يخصّص به من كونه مسلما بالغا حالة القراءة الجهرية للصلاة ، أو كونها قراءة حية ، فلا يجب الاستماع والإنصات للقراءة المسجلة(١).

ذلك ، وقد هدد التارك للسجود حين يقرء القرآن بعدم الإيمان حيث يعني السجود غاية الخضوع ، لا فقط سجود التلاوة لمكان «القرآن» دون خصوص آيات التلاوة منه : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٨٤ : ٢١) (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٧ : ١٠٩) (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (١٩ :) ٥٨).

ذلك ، وحتى لو لم يكن في القرآن نصوص كهذه التي تدل على فرض الاستماع لكان ذلك فرضا أدبيا وفطريا وعقليا ، فحين يكلمك عظيم من العظماء لصالحه هو دونك فهل يجدر بك أن تلهو عنه إلى غيره؟ فمالك حين يقرء القرآن لا تستمع له ولا تنصت ملتهيا إلى سواه؟ وهو لصالحك فقط دون صالح الله!

صحيح أنك حين تشتغل بواجب يشغلك عما سواه لا يفرض عليك استماع القرآن حيث يزول وجوبه إما حرجا أم تقديما لواجب أهم منه عليه كأن تصلي قارئا لواجباتها ، اللهم إلّا إذا أمكن الجمع كما فعله علي

__________________

(١) راجع الفرقان ٣٠ : ٢٤٩ ـ ٢٥٣ تجد تفصيلا لبحث حول حكم استماع القرآن على ضوء هذه الآية.

١٠٧

(عليه السلام) حيث سكت في صلاته مرات ثلاث احتراما للقرآن إذ كان يقرأه ابن الكوا وهو يندد به في آية الإشراك!

فمثل استماع القرآن كمثل سائر الواجبات التي تختلف حالاتها في دوران الأمر بينها وبين الأهم منها ، أم في حالة الحرج وما أشبه.

ذلك ، فالقرآن ككلّ أيا كان ومن أيّ كان يجب الاستماع له ، لا فقط سمعه ، وإنما (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) تقصّدا بسمع الأذن سمع القلب حتى يحلّق صوته ثم صيته على كيانك كله ، ثم «وانصتوا» فالاستماع دون إنصات كما الإنصات دونما استماع ليس هو كامل الفرض ، فإنه الجمع بينهما حيث القصد توحيد الاتجاه إلى القرآن لمّا يقرء ، كما توحد الله في الربوبية.

فهنا توحيد في الاستماع والإنصات للقرآن هو المأمور به ، وهناك إلحاد ألا يستمع له ولا ينصت ، وبينهما اشتراك أن يستمع له وينصت مع استماع لغيره وإنصات ، أو استماع دون إنصات أم إنصات دون استمتاع.

ثم (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) دون «إليه» أو «استمعوه» مما يدلنا على مغزى الاستماع ، فقد يستمع إليه ولا يستمع له كأن يسمع الصوت دون تأمل في معناه ، حيث القصد من الاستماع إليه هو الاستماع له ، فقد يستمع إلى كتاب الله هزء وتحريفا وتجديفا أم لا له ولا عليه ، و (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) تعني استماعا يليق بالقرآن ولصالحه إيمانا وتصديقا وتدبرا وتذكرا وتطبيقا ، أن يصبح المستمع له استماعا له بكل آذانه ، وإنصاتا بكل كيانه ، والإنصات ذريعة صالحة لصالح الاستماع له ، فإن «له» تعني اختصاص ذلك الاستماع بالقرآن ، دون إشراك له بسواه ، بل هو توحيد الاستماع بعد توحيده الإنصات (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قدر الاستماع والإنصات له (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

لا كمن (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) (٢ :) ٧٥) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٨ : ٢١) و (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢١ : ٢)

١٠٨

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (٦ : ٢٥) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) (٤٧ : ١٦).

فإنما القصد من (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) هو افتعال سمع الأذن لصالح التصديق والتطبيق ، فمن سمع الأذن إلى سمع الصدر والقلب واللب والفؤاد ، وإلى سمع الأقوال والأحوال والأفعال كلها ، حتى تصبح بكيانك ككلّ القرآن كلّه ، وكما أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يسمعهم هكذا : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(٤ : ٦٣).

وهذا هو المعني من السجود للقرآن حيث يندد بتركه المشركون (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) فإنه عناية الخضوع استماعا وقراءة وفي كافة الحقول الأنفسية والآفاقية.

وفي رجعة أخرى إلى الآية نجد المناسبة التامة بين طامة الاستماع والإنصات الواجب للقرآن لمكان (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ) فكما أن «هذا» يعني القرآن كله ، فإنه بصائر كله ، فلا بد من انفتاح الأبصار لرؤيته ، فالبصر عند قراءته استماعه والإنصات له ، ثم سائر الأبصار لسائر الإبصار حتى تحلّق بصائره على كل الأبصار.

وأما أن هناك القرآن البصائر (رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وهو هنا عله رحمة إن استمعوا له وأنصتوا : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) حيث الرحمة الأولى هي المبدئية للذين به يؤمنون ، ثم الرحمة المترقّبة هي الزائدة قدر المزيد من الاستماع والإنصات له ، فالقول إن الآية تخاطب فقط ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) إنه كفر بها ، لا سيما وأنها في عداد الأوامر المتواترة المتتالية للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والذين معه! والروايات المتظافرة انها نزلت بشأن الاستماع والإنصات في الصلوات الجهرية.

ومن الأحكام الفقهية المستفادة من الآية بعد وجوب الاستماع والإنصات له بصورة عامة ، أنه لا تجوز القراءة خلف الإمام الجاهر بها حيث تسمعها ، فإن واجب الاستماع والإنصات ليس لمجرد القراءة ،

١٠٩

حيث الإخفاتية خارجة عن حقل الاستماع ، فحين يمكن الاستماع للقرآن في صلاة وسواها وجب الاستماع ، وأما الهمهمة غير المسمعة للقرآن فليس استماعها استماعا للقرآن حتى يجب ، اللهم إلا تفتيشا عما يسمع منه فيسمع.

ذلك ، وإذا دار الأمر بين واجب الاستماع وواجب القراءة كما في الصلاة وما أشبه ، فالأهم هو الأهم إن لم يمكن الجمع بينهما ، كأن تقرء في صلاتك نفس ما يقرءه غيرك جهارا ، فهناك تقرء مستمعا لما يقرء.

أم تقرء غير ما يقرأه غيرك مع إمكانية الجمع بين قراءتك واستماعك فكذلك الأمر ، هذا ، ولكن المفروض ـ قدر الإمكان ـ التجنب عن هذه المآزق ، ابتعادا في قراءتك المفروضة عن مسمع سائر القراءة ، أم تأخيرا لصلاتك حين لا تتمكن من الابتعاد.

ذلك ، وفي تساوي الفرضين يتساوى الفرضان حيث تتخير بينهما ، وإذا تكرر فالتراوح قضية الاحتياط ، بل هو المفروض ، تقديما لأحدهما مرة وللآخر أخرى.

وقد يجوز الأمر بإخفات القارئ لتجد أنت مجالا لتحقيق فرضك ، فإن قراءتك مفروضة ، وليست قراءته في أصلها ـ فضلا عن الجهر بها ـ مفروضة ، وقضية تقديم الأهم على المهم هي الأمر بإخفات تلك القراءة غير المفروضة التي تناحر قراءتك المفروضة.

ذلك ، وفي رجعة ثالثة إلى الآية نجد في «له» اختصاصا في ذلك الاستماع بالقرآن ، ألا يشرك في استماعه غيره أيا كان وأيان ، اللهم إلا وجاه الأهم أم في ظروف محرجة مخرجة عن إمكانية الاستماع في وسع.

وهكذا الإنصات فإنه أيضا «له» قضية العطف ، فليكن المؤمن بالقرآن ، حين يقرء جهرا يسمع ، مستمعا له ومنصتا له بكل كيانه ، والخطوة الأولى هي الاستماع بظاهر الأذن والإنصات بلسانه ، ثم استماعا وإنصاتا بإذن الفطرة والعقلية السليمة ، وإلى اللب والقلب والفؤاد ، ولحدّ يصبح بكيانه كله استماعا له وإنصاتا له ، وهنا تتحقق الرحمة الطليقة قدر

١١٠

الاستماع والإنصات الطليقين ، وقد سئل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال : يعني حركوا به القلوب ، ولا تتحرك القلوب بحراك القرآن إلا قضية صالح الاستماع له والإنصات له.

ذلك وإن الناس ليخسرون الخسارة العظمى التي لا يعوضها شيء بالانصراف عن القرآن ، فإن العكوف على هذا القرآن في استماع وإنصات فوعي وتدبر ، لينشئ في العقل والقلب من الرؤية البصيرة الواضحة ، البعيدة المدى ، القريبة الهدى ، ما لا تدانيه رياضة أخرى في أية روضة من الرياض.

وهنا (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تعني رحمة زائدة متزايدة على ضوء الزيادة والتزايد من الاستماع للقرآن والإنصات له.

ذلك و «قراء القرآن ثلاثة : رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس ، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده ، ورجل قرأ القرآن ووضع دواء القرآن على دائه وأسهر به ليله وأظمأ به نهاره ، وأقام به في مساجده ، وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله عز وجل البلاء ، وبأولئك يديل الله من الأعداء ، وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء ، فو الله لهؤلاء في قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر» (١).

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)(٢٠٥).

هنا «في نفسك» ذكر موعل في النفس ، محلّق عليها كلّها بحيث

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٩ : ١٧٨ عن أبي جعفر (عليهما السلام) ، وفيه ١٧٩ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : القراء ثلاثة : قارئ قرء ليستدر به الملوك ويستطيل به على الناس فذاك من أهل النار ، وقارئ قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده فذاك من أهل النار ، وقارئ قرء فاستتر به تحت برنسه فهو يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويقيم فرائضه ويحل حلاله ويحرم حرامه فهذا ممن ينقذه الله من مضلات الفتن وهو من أهل الجنة ويشفّع فيمن شاء.

١١١

تحشر النفس «ذكر ربك» فهذا هو موطن الذكر ومأمنه ، ثم (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) يحوّله إلى قال وحال أخرى ، قال دون الجهر اللهم إلّا إذا لزم الأمر كجهرية الصلاة ، أو رجح كأن تتذكر به أكثر أو تعلّم من سواك ، وكقراءة القرآن حيث يرجح الجهر بها إسماعا فاستماعا ، فالضابطة الأصيلة فيه هي (دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) إذ لا تذكر أصم فتسمعه بجهر من القول ، وعل «اذكر» هنا هو خاص الذكر لخصوص المكلفين ، والقرآن والأذان وما أشبه هي من عامة الذكر الدعائي ، فليقرء القرآن جهارا لا إسرارا كما الأذان فإنه للإعلام ، وهكذا المواعظ والمدائح والخطابات المذكرة وأضرابها.

فلئن كان القصد من الجهر بذكر ربك رئاء الناس أم إسماع الله فمحظور محظور ، وإن كان إسماع الناس ليتذكروا كما أنت ، أم تعليما لهم أم إعلاما فمحبور محبور.

والأصل في ذكر ربك ـ تغاضيا عن ملابسات تفرض أو ترجح الجهرية ـ هو تحريك اللسان دون الجهر من القول مع حركة القلب ، فإذا نبست الشفاة مع الأرواح ، فليكن ذلك في صورة وسيرة لا تخدش الخشوع ولا تناقض الضراعة والبخوع ، بل هو صوت خفيض حفيظ دون صراخ وضجّة ، أو مكاء وتصدية أو غناء وتطرية ، وإنما هو ذكر يناسب «عند ربك» وكما يرضاه دون ما ترضاه وتهواه.

و (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) علهما زاويتان أصيلتان للأوقات كلها ، فإنهما بداية اليقظة ونهايتها وقد فرضت الصلاة أوّل فرضها فيهما ثم ازدادت في غيرهما ، أم هما عبارتان عن كافة الأوقات.

هذا قاله ، وأما حاله الأخرى بعد «في نفسك» فهي «تضرعا» أمام ربك بضراعة وتذلل وتبتّل «وخيفة» مما قدمت يداك ، ومن نفسك غير اللائقة بذلك الذكر ، وتلك الدعوة أمام ربك (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) في أي وقت من أوقاتك ، فليحشرك ذكر ربك قالا وحالا وأعمالا على أية

١١٢

حال (١) ف :

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦).

وهنا «عند ربك» تعني عندية الزلفى كما تناسب ربوبيته العليا لمكان «ربك» فهؤلاء السابقون المقربون هم «عند ربك» مكانة لا مكانا أو زمانا ، فلا مكانة لهم إلّا «عند ربك» ولا قال لهم ولا حال ولا أعمال إلّا «عند ربك» فهم ليسوا حضورا عند شيء أو عند أحد أم وعند أنفسهم إلا «عند ربك» فقد تخلّوا عما سوى «ربك» فتحلّوا ب «عند ربك» فهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بذكره في أنفسهم تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال «وليسوا هم من الغافلين».

«ويسبحونه» دائبين «وله» لا لسواه «يسجدون» منقطعين إليه في غاية التذلل بكل كيانهم.

وهذه هي من آيات السجدة التي لا تحصر فيما حصروه في أربع ، بل هي بضع عشرة آية فإحدى عشرة سجدة (٢) ولا سيما التي تأمر بالسجدة ، وعل الأربع هي مهامها ثم تمامها.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٧ ـ أخرج البزار والطبراني عن ابن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل عن الفارين ، وفيه عن ابن عمرو أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : الغفلة في ثلاث عن ذكر الله ومن حين يصلّى الصبح إلى طلوع الشمس وان يغفل الرجل عن نفسه في الدين حتى يركبه.

(٢) المصدر أخرج ابن ماجة والبيهقي في سننه عن أبي الدرداء قال : سجدت مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء : الأعراف والنحل وبني إسرائيل ومريم والحج سجدة والفرقان وسليمان سورة النمل والسجدة وص وسجدة الحواميم.

١١٣

سورة الأنفال مدنيّة

وهي خمس وسبعون اية

١١٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

١١٥

«سورة الأنفال» سمّيت بها حيث (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وإنها هي الوحيدة في القرآن حول الأنفال ، ما تختص بالقيادة الإسلامية السامية ، وليست لتختص بأشخاص خصوص حكومة أو شعبا ، إنما هي لصالح الحكم الإسلامي حيث تصرف في المصالح العامة الراجعة ـ ككل ـ إلى الكتلة المؤمنة.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

هنا «يسألونك» مضارعة ، دون «سألوك» ماضية ، مما تلمح لاستمرارية السؤال عن الأنفال ، منذ السؤال الأول حتى يوم الدين ، والجواب : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) إجابة وافية للمتساءلين حوله إلى يوم الدين.

فالضرائب المستقيمة الإسلامية حسب القرآن هي أربع : هنا الأنفال فقط (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) صرفا في الدعاية التوحيدية والرسولية ، وتحكيما لعراهما ، ثم الفيء الذي عديد مستحقيه هو كعديد مستحقي الخمس ـ إن كان الخمس حقا سوى الزكاة ـ : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٩ : ٧).

فمقسم الفيء والخمس هو الستة ، ومقسم الأنفال اثنان ، ثم مقسم الزكاة ثمانية ، ولا اشتراك بينها وبين ست الخمس إلا في المساكين وابن السبيل ، فتبقى ستة من مقسم الزكاة غير مذكورة في مقسم الخمس ، كما أن أربعة من مقسم الخمس غير مذكورة في الزكاة ، أم إن الخمس ضريبة أخيرة من أنصبة الزكاة نسختها وكما يأتي تفصيله في آية الخمس.

فعلى أية حال قد تختلف الأنفال عن سائر الضرائب مصرفا وعديدا ،

١١٦

كما اختلفت مادة ومديدا.

فمادة الأنفال ـ وهي الزوائد من الأموال التي لا تختص بناس خصوص على أية حال ـ هي البحار والأنهار والصحاري والغابات وبطون الأودية والجبال (١) وما أشبه من عامة الأموال ، التي لم تحصل بسعي ، بل هي من خلق الله كما خلق ، أم لا مالك له بالفعل مهما حصل بسعي سابق لمالك سابق.

فمن الأنفال ميراث من لا وارث له (٢) ، كما منها الأموال المتروكة المعرض عنها (٣) وما أشبههما مما حصل بسعي وليس له مالك بالفعل ، والأراضي المفتوحة عنوة بغير قتال مهما كانت ـ كأصل ـ من الأنفال ، ولكنها مخصصة بآية الفيء ، وتبقى الأراضي وما أشبه ، التي تركها أهلوها ، خربت أم هي بعد عامرة.

إذا فنحن مع حرفية النص «الأنفال» نمشي معها كما تمشي ، فإنها هي الأموال الزائدة ، غير المفروضة لأحد ، حيث الأموال الخاصة هي مفروضة لأصحابها ، فلا تدخل في عامة الأموال وأنفالها حتى تختص بصالح القيادة الرسولية والرسالية.

وترى «يسألونك» سؤال لأخذ الأنفال لمكان (أَصْلِحُوا ذاتَ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١١٨ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو للإمام بعده يضعه حيث يشاء.

(٢) المصدر عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يموت ولا وارث له ولا مولى قال : هو أهل هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وفي أخرى عنه (عليه السلام) قال : من مات ليس له مولى فماله من الأنفال.

(٣) المصدر عن إسحاق بن عمار قال سألت أبا عبد الله عن الأنفال فقال : هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي لله والرسول وما كان للملوك فهو للإمام وما كان من أرض خربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل أرض لا رب لها والمعادن ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال.

١١٧

بَيْنِكُمْ)؟ (١) وصيغته (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)! أم سؤال عن مادة الأنفال وحكمها ومصرفها؟ و (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) تلمح انه سؤال لأخذ الأنفال! ، أم مصرفها.

علّ السؤال ـ قضية الأمرين ـ هو عن الأمرين ، و «عن» يؤكد السؤال عن مادة الأنفال وحكمها ومصرفها مهما كان ـ أيضا ـ سؤالا إياها ، قضية (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فلأن الأنفال كانت معلومة المادة ومجهولة المورد والحكم ، لذلك اختص الجواب بالثاني ، وقد تعني لام التعريف تعريفا بأنفال سالفة الذكر على لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فصحيح أن الأنفال مطلقة تشمل كل زائد عن حاجيات الحياة ، إلا أن تعريفها يعرّفها أن لها عهدا بين المسلمين ولا نجد لها عهدا إلّا في الأموال التي ليس لها أصحاب خصوص ، ففي كل حاجة من حاجيات الحياة فرائض وأنفال ، ولكن المعني من الأنفال هنا ما عنته السنة وعرّفته دون سائر الأنفال.

ولأن «الأنفال» من النفل وهو الزائد ، فالأنفال في حقل الأموال هي الزائدة عن المساعي كالتي لا مالك لها خاصا ، أم عايدة بمساعي وسواها ثم طرء عليها عدم مالك لها كميراث من لا وارث له ، أم الأموال التي أعرض عنها أصحابها (٢) وأما الزوائد عن الحاجات المتعودة فيما حصلت بمساعي

__________________

(١) المصدر ٢ : ١١٧ في تهذيب الأحكام في مرفوعة بعض أصحابنا «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» أن تعطيهم منه قال «قل الأنفال لله وللرسول وليس هو يسألونك عن الأنفال».

أقول : علّه ينفي اختصاص السؤال بمادة السؤال ، ولقد غلط من قال قد صح أن قراءة أهل البيت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) كما في البحار (١٩ : ٢١١) وفي جامع الجوامع للطبرسي. قرأ ابن مسعود وعلي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق (عليهم السلام) : يسألونك الأنفال.

(٢) مما يوافق الآية موثقة إسحاق بن عمار المروية في تفسير القمي عن الأنفال فقال : هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي الله وللرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وما كان للملوك فهو للإمام وما كان من الأرض الخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل أرض لا رب لها والمعادن منها من مات وليس له مولى فماله من الأنفال ، والمروي في ـ

١١٨

كما عنتها «العفو» في : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) فلأنها غير محصورة ب (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فلأصحابها إنفاقها في مختلف الحاجات والمحاويج فلا تشملها «الأنفال» بدليل اختصاصها بالله والرسول.

وهل المعادن من الأنفال؟ كونها من واقع الأنفال يحسبها منها ، ومختلف الرواية حولها معروض على عموم الآية ، فليست المعادن ـ إذا ـ مما يجب فيه الخمس ، بل هي كسائر الأنفال لله والرسول.

وهكذا الكنوز وما أشبه من أموال لا يعرف لها مالك خاص ، فانحساب المعادن والكنوز مما يجب فيه الخمس يطارد آية الأنفال.

وقطائع الملوك هي من الأنفال فإنهم لا يملكونها لكونها من الأنفال أم مجهولة المالكين (١) ، وكذلك الأراضي أو البلاد التي سلّم للمسلمين دون حرب ، إذا فبين الفيء والأنفال والخمس بون ، حيث يختص الفيء بما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب والأنفال تعم كل الأنفال ، والخمس بما غنمتم من شيء ، فالمعادن والكنوز ليست من موارد الخمس.

وليست آية الخمس ـ الآتية ـ بالتي تنسخ آية الأنفال ، بل هي تخصّص بها بغير الأنفال ، لا سيما وأن المحتمل قويا ـ كما يأتي ـ كون الخمس ضريبة ناسخة لأنصبة الزكوة في السنة كما لا تنسخها آية الفيء ، فالأنفال عامة لعموم آيتها ، ثم تخصص بالفيء كما تتخصص بها الخمس خروجا للمعادن والكنوز عنه إلى الأنفال.

إن موضوع الخمس (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) والغنيمة تباين «الأنفال»

__________________

ـ تفسير العياشي عن أبي بصير وما الأنفال؟ قال : منها المعادن والآجام ـ الحديث.

ومما يخالفها هي التي تعد المعادن مما يجب فيه الخمس ، كما عن تفسير النعماني باسناده عن علي (عليه السلام) قال : الخمس يجري من أربعة وجوه من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين ومن المعادن ومن الكنوز ومن الغوص.

(١) وتدل عليه صحيحة داود بن فرقد قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قطائع الملوك كلها للإمام وليس للناس فيها شيء» (التهذيب ١ : ٣٨٨).

١١٩

فإنها خارجة عن المساعي مغنما سواه ، وموضوع الفيء هو الفيء ، فلا تناسخ ـ إذا ـ بين هذه الثلاثة ، وإنما لكلّ موضوعه الخاص وحكمه دون تدخل لبعض في بعض أو تداخل.

إذا ف «الأنفال» ـ باستثناء الفيء ـ هي كلها لله والرسول ، تصرف في صالح الدعوة التوحيدية والرسولية والرسالية ، فهي بيد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) يصرفها في صالح الرسالة الإسلامية كما يراه صالحا ، ثم خلفاءه المعصومون (عليهم السلام) كلّ تلو الآخر ، ومن ثم الشورى من الرعيل الأعلى في العلماء الربانيين ، فالمصرف هو المصرف مهما كان الصارف في مثلث مترتب تلو بعض.

ومهما نزلت سورة الأنفال في جو بدر الكبرى وغزوته بملابساتها الخاصة ، ولكنها ليست ـ على أية حال ـ بأنفال بدر فقط ، قضية جمعها المحلى باللّام حيث يفيد الاستغراق.

ذلك (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وذلك هتاف عطاف لهذه القلوب المتنازعة المتفللة غير المتنفلة حول الأنفال ، من هؤلاء الأغفال الذين كانوا يتهافتون على الأنفال.

ومن حصائل تقوى الله وإصلاح ذات البين طاعة الله ورسوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله ورسوله ، ومتقين حرمات الله ورسوله.

وإصلاح ذات البين هو من هامة الفرائض الإيمانية ، محاولة جماهيرية من كافة الأطراف المعنية لإصلاح الفاسد فيما بينهم حيث بزغ الشيطان ونزغ بينكم ، ف (قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (١٧ : ٥٣). (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) (٤ :) ١٢٨).

والله هو المصلح بيننا بما نسعى ونصلح في الآخرة (١) والأولى.

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ١٦٢ عن أنس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إذا ـ

١٢٠