الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(٣٠).

(فَرِيقاً هَدى) بما اهتدوا : (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧)(وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) بما حققوها : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١٦ : ٥) ف (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) متورطين في اللجج بعد بهور الحجج ، ثم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

أجل ، فكما بدأوا الرحلة فريقين : آدم وزوجه ، والشيطان وقبيله ، كذلك يعودون كل مع إمامه الذي كان يأتم به ، الصالحون مع أهل الله ، والطالحون مع الشياطين.

ذلك ، وترى كيف نقيم وجوهنا عند كل مسجد؟ عراة كما خلقنا الله أم لابسين كما اختلقناه من ملابسنا؟ :

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(٣١).

.. لما أمر بالقسط فرضا وراجحا ، فإليكم منها مصاديق : أخذ الزينة عند كل مسجد ، والقسط في الأكل والشرب دون إسراف ، فالتبذير فيها محرم بأحرى ، والإسراف فيها محرم دونه ، والشبع دون إسراف غير محبور ولا محظور ، ودون الشبع محبور.

ثم من «زينتكم» هي الرياش : ملابس التجمل فوق ملابس الستر (١) ، فكما من سوء الأدب أن نصلي عراة ، كذلك أن نصلي ـ فقط ـ مستوري العورات ومهما صحت الصلاة بذلك الستر القليل العليل في الفقه الأصغر ، فهي ليست لتصح في الفقه الأكبر ، وحين يجب أخذ

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٧٩ ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وفيه نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلي الرجل في لحاف لا يتوشح به ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء.

٨١

لباس الزينة عند كل مسجد فبأحرى لباس يوارى سوآتكم ، فالصلاة عاريا محرمة باطلة ، وهي دون لباس الزينة ـ إن كانت صحيحة ـ عاطلة ، ولأن «خذوا» أمر يدل على فرض ، فأخذ الزينة عند كل مسجد فرض على فرض ، إلا أن يدل قاطع الدليل كتابا أو سنة على عدم الفرض بعضا مّا فتتقيد «خذوا» به.

ذلك ، ومن «زينتكم» أموالكم وأولادكم وأهليكم ، ف (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١٨ : ٤٦) كما منها التمشط (١) والتطيب.

ولأن «زينتكم» لم تلحق بشيء من «معكم» حتى تختص بمعيتها كيفما كانت ، ولا «عنكم» حتى تختص بتركها كذلك ، فهي بين آمرة باستصحاب زينة كالملابس الواجبة والمسموحة زينة ، وكذلك الأموال لإنفاقها على المحاويج ، والأولاد لمشاركتهم في الصلاة ، وبأحرى الأئمة العدول فإنهم زينة المساجد (٢) ، وسائر الزينة الإيمانية حيث تناسب الصلاة والمصلين معك ، فلتكن معك الزينة الباطنة إلى الظاهرة ما يناسب كل مسجد وهو محبور ، دون ما لا يناسبه وهو محظور ، وناهية عن استصحاب زينة كالتي يحرم استصحابها للرجال مثل الذهب والحرير ، في صلاة وسواها ، أو الملابس المغتصبة أماهيه من محظورة ، وملابس الزينة للنساء ، المحظورة أمام الجماهير.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٩ في من لا يحضره الفقيه سئل أبو الحسن (عليه السّلام) عن قول الله عزّ وجلّ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال : من ذلك التمشط عند كل صلاة.

وفيه عن الخصال عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية قال : تمشطوا فإن التمشط يجلب الرزق ويحسن الشعر وينجز الحاجة ويزيد في ماء الصلب ويقطع البلغم.

وفيه في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السّلام) قال : وهي الثياب ، وفيه كان الحسن بن علي (عليه السّلام) إذا قام إلى الصلاة يلبس أجود ثيابه فقيل له يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول : خذوا زينتكم عند كل مسجد. فأحب أن ألبس أجود ثيابي.

(٢) نور الثقلين ٢ : ١٩ عن تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية يعني الأئمة.

٨٢

ف «زينتكم» التي تزينكم إنسانيا وإيمانيا ، خذوها معكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) حيث المحضر ربانيا وبشريا يتطلب أدب الزينة.

ثم «زينتكم» الملهية المحظورة خذوها عنكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ف «خذوا» تعم المحظور إلى المحبور ، خذوا معكم محبورا وخذوا عنكم محظورا ، فلا يظن ظان أن مساجد الله التي هي محاضرة ، أنها محاظر عن أخذ «زينتكم» ملابس وأموالا وأولادا ، ولا أنها معارض لرعونات الزين الملهية.

وترى النعلين ـ وهما زينة الرجلين ـ هل هما من زينة الصلاة المعنية ضمن ما عنته «زينتكم»؟ إنهما زينة في غير الصلاة ، ولكن أدب العبودية في الصلاة يقتضي تركهما حالها إما لكونهما خلاف زينة الصلاة ، أم زينة محظورة فيها فخذوا عنكم ـ إذا ـ نعليكم واخلعوهما وكما قال الله لموسى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)(٢٠ : ١١)فالمروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان يلبسهما فيها ويأمر به ، مفترى عليه فمضروب عرض الحائط.

وكما أن أخذ الزينة عند كل مسجد محبور ، كذلك في سائر الحالات ولا سيما في زيارة المؤمنين (١) أم ورقابة أعين الفاسقين.

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٧٩ ، أخرج أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال : «أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثوب درن فقال : ألك مال؟ قال : نعم ، قال : من أي المال؟ قال : قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق ، قال : فإذا آتاك الله فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته» وفيه أخرج أحمد ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يدخل النار من كان في قلبه ذرة مثقال من إيمان ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ، قال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه يعجبني أن يكون ثوبي غسيلا ورأسي دهينا وشراك نعلي جديدا ـ وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه ـ فمن الكبر ذاك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : لا ، ذاك الجمال إن الله عزّ وجلّ جميل يحب الجمال ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس ، وفيه أخرج ابن سعد عن جندب بن مكيث قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر علية أصحابه بذلك.

٨٣

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما يحل لكم ، ولكن ليس فوضى جزاف أن تبذروا أو تسروا لأنها من أموالكم ، بل «ولا تسرفوا» أكلا ولا شربا زائدا عن الحاجة المتعودة ، إسرافا في كمهما وكيفهما : وإسرافا في أصلهما كأن يكونا محرّمين ، فالأكل والشرب المحرمان هما من الإسراف مهما كانا قليلين ، ومنه المأكول والمشروب اللذان يضران بصحة الإنسان ، فإن فيهما إسرافا ، فلا يختص الإسراف المحظور بحقل خاص في الأكل والشرب ، بل هو فيهما بكل الأبعاد مادة وكما وكيفا وصحيا وأي حظر آخر ، وقد يفسره بهذه السعة : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٨٠ : ٢٤).

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) بل يبغضهم ، فضلا عن المبذرين ، ف (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) (١٧ : ٢٧).

إن التبذير والإسراف إضافة إلى محظورهما الجماعي حيث فيهم جياع معدمون ، فيه أيضا محظور صحي روحيا وبدنيا ، لا فحسب الإسراف ، بل والشبع فإن «من شبع عوقب في الحال ثلاث عقوبات : يلقى الغطاء على قلبه ، والنعاس في عينه ، والكسل على بدنه» (١) ، و «كثرة الطعام تميت القلب كما تميت كثرة الماء الزرع» (٢) ، ف «لا تطلب الحياة لتأكل بل أطلب الأكل لتحيا» (٣) ، و «لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع ، ولا تقم عنه إلا وأنت تشتهيه ، وجود المضغ ، وأعرض نفسك على الخلاء فإذا استعملت هذه استغنيت عن الطب» (٤).

ذلك ، و «إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت» (٥) وهو

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٦٧٤.

(٢ ، ٣). المصدر ٨٢٤.

(٢ ، ٣). المصدر ٨٢٤.

(٤) مستدرك النهج ١٦٢.

(٥) الدر المنثور ٣ : ٨٠ ـ أخرج ابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة.

وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.

وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا ـ

٨٤

إسراف في الكيف مهما لم يكن إسرافا في الكم ، و «لا تسرفوا» يعم الكيف إلى الكم ، وفي الناس من لا يجد كما ولا كيفا من الطعام.

وكما أن الأكل والشرب المسرف محرم على الآكل والشارب ، كذلك الإيكال والإشراب المسرف (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أكلا وإيكالا أم وتصرفات أخرى.

فلقد جمع الطب كله بحق الأكل والشرب في نصف آية (١) وعلّه يعم إسراف السلب والإيجاب (٢) ، ولكن الإيجاب أضر أن تأكل

__________________

ـ صحت المعدة صدرت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم.

وفي تفسير البرهان ٢ : ١٠ عن الكافي عن إسحاق بن عبد العزيز من بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : نكون بطريق مكة ونريد الإحرام فنطلي ولا يكون معنا نخالة فنتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق وقد دخلني من ذلك ما شاء الله أعلم به؟ فقال : مخافة الإسراف؟ قلت : نعم ، فقال : ليس فيما أصلح البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلّك به إنما الإسراف فيما أفسد المال وأضر البدن ، قلت : وما الإقتار؟ قال : أكل الخبز والملح وأنت تقدر على غيره ، قلت : فما القصد؟ قال : الخبز واللحم واللبن والخل والسمن مرة هذا ومرة هذا.

وفيه عن العياشي عن ابان بن تغلب قال قال أبو عبد الله (عليه السّلام): أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه ومنع من منع من هوان به عليه؟ لا ـ ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع وجوز لهم أن يأكلوا قصدا ويشربوا قصدا ويلبسوا قصدا وينكحوا قصدا ويركبوا قصدا ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ويشرب حلالا ويركب حلالا وينكح حلالا ومن عدا ذلك كان عليه حراما ثم قال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أترى أئتمن رجلا على ماله خول له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما ويشتري به جارية بألف دينار ويجزيه جارية بعشرين دينار وقال (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

(١) روي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان فقال له علي (عليه السّلام) قد جمع الله الطب كله في نصف آية وهو قوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) وجمع نبينا الطب في قوله : المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته ، فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.

(٢) تفسير البرهان ٢ : ١٠ عن العياشي عن هارون بن خارجة قال قال أبو عبد الله (عليه السّلام) : ...

٨٥

مسرفا ، وأما ألا تأكل مسرفا فضره أقل إلا إذا كان مضرا كما الأكل ، فكلا الأكل والشرب وتركهما إسرافا أو تبذيرا محرم فإنهما محرمان كضابطة عامة في كافة الحقول.

إذا ف (وَلا تُسْرِفُوا) تعم كل تجاوز كمي أو كيفي في الأكل والشرب وما أشبه من مصروفات هي إسرافات ، أم وأنحس منها تبذيرات.

فالمواد الدخانية كلها داخلة في حقل الإسراف ، أو التبذير ، فالجيگارة وما أشبه تنطبق عليها عناوين تالية :

١ الإسراف ٢ أو التبذير ٣ (إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) تنطبق عليها لو كان لها نفع بضمن الضرر الأكثر ، وقد تعرف علم الطب إلى أضرار الدخان ، مما يوحش الإنسان من عواقب السوء للمتعود به (١).

__________________

(١) منذ سنين عدة وقد تزايد السرطان في المجتمع البشري ، أخذ العلماء الأوروبيين والأمريكيين يحققون بحثا عن عوامل تزايد السرطان.

ففي سنة ١٩٥٢ جماعة من أطباء الأمريكيين فحصوا بصور موسعة عن السرطان ، فابتدءوا بمعتادي الدخان ، وكانت من نتائج تحقيقاتهم ما فجر العالم من نبأه ، إنهم حققوا في ولايات تسعة أمريكية ، وفحصوا عن أمزجة أناس بين خمسين وسبعين وحصلوا بعد سنة من فحصهم أن أكثرية المبتلين بالسرطان هم المعتادين بالدخان ، وقد يقدر ب ٤٠ / ١٠٠ أكثر من غيرهم ، حيث يموتون إثر الحملة القلبية والسرطان الرثوي ، وعلى إعلان هذه المزرئة ترك ٥ / ١ مليونا الدخان عن بكرته. ثم أخذت هذه الغوغائية من أخطار الجيگارة السرطانية انجلترا ، وهنا مقالة لجريدة انجليزية طبّية باسم «لانست» :

ليست اليوم من أيام المقالات الحدسية ، إنه يوم الجد الواقع ، فقد ابتلي بالسرطان واحد من (١١) شخصا كانوا يشربون الجيگارة يوميا ٢٥ ـ ٥٠.

هذه الجريدة وسائر الجرائد الأنجليزية كان تستند إلى تحقيقات الدكتور هانري كوهن ، فقد أثبت هذا الطبيب أنه يموت في انجلترا سنويا / ٠٠٠ ، ٢٠ شخصا على أثر السرطان الرئوي ، والشخص المتعود على الجيگارة بعدد (٢٥) يوميا يبتلى بالسرطان الرئوي أكثر من غيره ٥ / ١٠٠ ـ ٦ / ١٠٠ الى ٣٠ / ١٠٠.

والجريدة الطبية الانجلترية طلبت من جميع الأطباء أن يحرموا التتن والتنباك ، وأخيرا قدم اقتراح إلى المجلس النيابي البريطاني في أن يمنع بيع الجيگارة للشباب الأقل عمرا من (١٨) سنة.

٨٦

فلأن الإسراف في كل حقوله محرم ف «من سأل الناس شيئا وعنده ما يقوته يومه فهو من المسرفين» (١).

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٣٢).

«زينة الله» هي التي خلقها الله لعباده لكي ينتفعوا بها وفق شرعة الله ، والضابطة العامة ـ إذا ـ فيها هي الحلّ ، إلّا ما أخرجه قاطع النص ، ف (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩) ، كضابطة الحل العامة ، وهنا (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) استنكار شديد على من حرم زينة الله كأصل تقشفا ورهبانية جاهلة قاحلة كما حصل من جمع من المسلمين ، فنزلت الآية تنديدا بهم (٢) ، وعلى حد تعبير الرسول (صلى الله عليه وآله

__________________

ومثل هذه التحقيقات أخذت دورها الفعال في فرنسا وسائر البلاد الأوروبية وفي اليابان مثل ذلك ، فقد حقق طبيب ياباني باسم «الدكتور بنجويم ووج» أن في تتن الجيگارة مادة سامة باسم (دايبنزن) إن زرقت جرذ أبتلي بالسرطان ، ويضيف الدكتور (ووج) أن هذه المادة هي حصيلة احتراق التتن.

وقد جرّب ذلك الزرق في / ٤٠٠٠ جرذا وبعد ٤٢ يوما ابتليت كلها بالسرطان. وعلى أثر هذه التجربات الغوغائية ترك جمع كثير من الناس المعتادين بالدخان في كل أنحاء العالم ولا سيما في أمريكا وانجلترا ، تركوا الجيگارة لحد سبب خسارة على سوق الجيگارة ، لحد بعث أصحاب معامل الجيگارة مبعوثا باسم (الكساندر ماكسويل) إلى المقامات المعنية دفاعا عن منافعهم.

(١) راجع إلى ص ٨٥ حاشية (٢)

(٢) في تفسير الفخر الرازي ١٤ : ٦٣ روى عن عثمان بن مظعون انه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : غلبني حديث النفس ، عزمت على أن أختصي فقال : مهلا يا عثمان إن خصاء أمتي الصيام ، قال : فإن نفسي تحدثني بالترهب ، قال : إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة ، فقال : تحدثني نفسي بالسياحة ، فقال : سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة ، فقال : إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك ، فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك ، فقال : إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة ، فقال : إن الهجرة في أمتي هجرة ما ـ

٨٧

وسلم) توبيخا لهم : «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء» (١).

ذلك ، والأصل في (زِينَةَ اللهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أنها (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) مهما كانت خليطة غير خليصة في الحياة الدنيا ، ف (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في الحياة الدنيا كأصل مرضي حالكونها (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢).

فالحياة الدنيا برمتها الزينة (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١٨ : ٧) إنها كما يروى عن إمام المتقين علي (عليه السّلام): «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته» فالتذرع بزينة الحياة الدنيا لزينة الحياة الأخرى محبور ، والإقبال عليها والإخلاد إليها محظور.

__________________

ـ حرم الله ، قال : فان نفسي تحدثني أن لا أغشاها ، قال : إن المسلم إذ أغشى أهله أو ما ملكت يمينه فان لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنة وإذا كان له ولد ومات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة وان مات قبل أن يبلغ الخنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة ، قال : فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم ، قال : مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله ، قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب ، قال : مهلا فإن جبرئيل أمرني بالطيب غبا وقال : لا تتركه يوم الجمعة ، ثم قال : يا عثمان! لا ترغب عن سنتي فان من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي.

(١) مفتاح كنوز السنة نقلا عن بخ ـ ك ٦٧ ب ١ و ٨٩ ، ك ٧٨ ب ٨٤ ، مس ـ ك ١٦ ح ٥ ـ ٨ تر ـ ك ٩ ب ٢ ، نس ـ ك ٢٦ ب ٤ مج ـ ك ٩ ب ٢ ، مى ـ ك ١١ ب ٣ عد ـ ج ١ ق ٢ ص ٩٥ ج ٣ ق ١ ص ٢٨٧ ج ٤ ق ٢ ص ٨ حم ـ أول ص ١٧٥ و١٧٦ و١٨٣ ثان ص ١٥٨ و١٨٧ ٣ و١٩٤ و١٩٥ و١٩٧ و١٩٨ و١٩٩ و ٢٠٠ ٣ و ٢١٦ و ٢٤٥ و ٢٨٩ ، ثالث ص ١٥٨ و ٢٤١ و ٢٨٥ خامس ص ١٧ و ٢٨ و ٤٠ و ٤٨ ٢ و ٥٢ و ٤٠٩ سادس ص ٩١ و ٩٧ و١٠٦ ٢ و١١٢ و١٢٥ و١٥٧ و ٢٢٦ و ٢٥٢ و ٢٦٨ ٢ وط ـ ح ٣٢ و ٢١٩.

(٢) فهنا «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» كما هي ظرف ل «لِلَّذِينَ آمَنُوا» كذلك خبر ل «هي».

٨٨

ذلك ولقد وبخ مجاهيل من المتقشفين البعض من أئمة الدين على جميل الثياب فانعكس عليهم الأمر بتوبيخ الله في هذه الآية (١) مما يدل على أن الانتفاع من زينة الله في غير محظور محبور ، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومنكحا.

ف «اعلموا يا عباد الله أن المتقين جازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباحهم الله في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ... سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم طيبات ما يأكلون وشربوا من طيبات ما يشربون ، ولبسوا أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وتزجوا من أفضل ما يتزوجون ، وركبوا من أفضل ما يركبون ، وأصابوا اللذة مع أهل الدنيا وهم غدا جيران الله ، يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون ، لا ترد لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة ، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل» (٢).

ذلك ، ولما يسئل الإمام علي (عليه السّلام) : فعلى ما اقتصرت

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢١ عن الكافي علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال : مر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله (عليه السّلام) وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان ، فقال : والله لآتينه ولأوبخنّه فدنا منه فقال : يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس ولا علي (عليه السّلام) ولا أحد من آبائك ، فقال له أبو عبد الله (عليه السّلام) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمان قتر مقتر وكان يأخذ لقتره وقتاره وان الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها فأحق أهلها بها أبرارها ثم تلا (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله ، غير أني يا ثوري على ما ترى عليّ من ثياب إنما لبسته للناس ، ثم اجتذب يد سفيان فجرها ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا فقال : هذا لبسته لنفسي غليظا وما أريته للناس ، ثم اجتذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ خشن وداخل الثوب لين فقال : لبست هذا الأعلى للناس ولبست هذا لنفسك تسترها.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٣ في آمالي الشيخ الطوسي باسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) حديث طويل يقول فيه : ..

٨٩

في مطمعك على الجشوبة ، وفي ملبسك على الخشونة؟ يقول : ويحك إن الله عزّ وجلّ فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره .. (١).

ويقول عن نفسه : ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياكم بطهريه ـ ثوبيه الباليين ـ ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفة وسداد ، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبي طهرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دبرة ، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة ... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل

__________________

(١) المصدر ٢٤ عن الكافي في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السّلام) على عاصم بن زياد حين لبس العبا وترك الملا وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) انه قد غم أهله وأحزن ولده بذلك ، فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) عليّ بعاصم بن زياد فجيء به فلما رآه عبس في وجهه فقال له : أما استحييت من أهلك ، أما رحمت ولدك ، أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك ، أو ليس الله يقول : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ. فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أو ليس يقول : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) إلى قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال وقد قال عزّ وجلّ : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فقال عاصم : ... وفي نهج البلاغة مثله بزيادة : يا عديّ نفسه لقد استهان بك الخبيث ...

٩٠

الطيبات ، كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عما يراد بها ، أو أترك سدى وأهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة .. (٢٨٤) ـ

ذلك ، وفيما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» حيث شبه الدنيا بالسجن للمؤمن إذ قصر فيها خطوة عن اللذات المرسلة ، وكبح لجامه عن الشهوات المقبلة ، وحصر نفسه عن التسرع إلى ما تدعو إليه الدواعي ، والأهواء المردية ، وكان زمام نفسه وخطامها وهاويها وإمامها خائفا خوف الجاني المرعوب ، والطريد المطلوب ، في عصبته عملوا للمعاد ، وقطفوا للزاد ، تحسبهم من طول سجودهم أمواتا ، ومن طول قيامهم نباتا.

وشبهها (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة للكافر من حيث استوعب فيها شهواته ، واستفرغ لذاته ، وقضى فيها الأوطار ، وتعجّل المسارّ ، واستهواه عاجل حطامها ، وريق جماعها ، فنسي العاقبة ، واستهان بالمغبة ، فكان ميّت الأحياء ، كما كان المؤمن حي الأموات (١).

وإليكم من زهادة المرسلين (عليهم السّلام) برواية علي أمير المؤمنين (عليه السّلام):

«وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» والله ما سأله إلّا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشدّب لحمه (الخطبة ١٥٨) ـ

__________________

(١) يقول السيد الشريف الرضي في المجازات النبوية (٣٦) بعد هذا التفسير للحديث : من أحسن ما سمعته في هذا المعنى أن بعض الزهاد المنقطعين طلب القوت من بعض الراغبين المفتونين ، فقيل له في ذلك ، فقال : أنا مسجون وهو مطلق ، وهل يأكل المسجون إلّا من يد المطلق.

٩١

«ولقد دخل موسى بن عمران ـ ومعه أخوه هارون (عليهما السلام) على فرعون وعليما مدارع الصوف وبأيديهما العصي ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل؟ فهلا ألقي عليهما أساور من ذهب ، إعظاما للذهب وجمعه واحتقارا للصوف ولبسه» (١٩٠) ـ

«وإن شئت ثلثت بداود ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل سفاسف الخصو بيده ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها؟ ويأكل قرص الشعير من ثمنها» (١٥٨) ـ

«وإن شئت قلت في عيسى بن مريم (عليهما السلام) ، فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخشن ويأكل الجشب ، وكان إدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانته ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه» (١٥٨) ـ

ومن ثم نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ف «قد حقر الدنيا وصغرها ، وأهون بها وهونها ، وعلم أن الله زواها عنه اختيارا ، وبسطها لغيره احتقارا ، فأعرض عن الدنيا بقلبه ، وأمات ذكرها عن نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشا ، أدير جوفيها مقاما بلغ عن ربه معذرا ، ونصح لأمته منذرا ، ودعا إلى الجنة مبشرا ، وخوف من النار محذرا» (١٠٧) ـ

«.. خرج من الدنيا خميصا ، وورد الآخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه ..» (١٥٨) ـ «ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة ، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ، ووطئت لغيره أكنافها ، وفطم عن رضاعها ، وزوي عن زخارفها» (١٥٨) ـ

٩٢

«قضم الدنيا قضما ، ولم يعيرها طرفا ، أهضم أهل الدنيا كشحا ، وأخمصهم من الدنيا بطنا ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره ، وصغر شيئا فصغره .. ولقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرفع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ، فأعرض عن الدنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ..» (٨٨ ح) ـ

ذلك ، وهذه سنة الأنبياء مصلحية صالح الدعوة المستقيمة «ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العيقان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها ـ

ولكن الله سبحانه جعل رسله أولى قوة في عزائمهم ، وضعفا فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى ـ ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال ، وتشد إليه عقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الإعتبار ، وأبعد لهم من الاستكبار ، ولأمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستطانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أمورا له خاصة لا تشوبها من غيرها شائبة ، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل» (الخطبة القاصعة ٢٣٤).

٩٣

ذلك! وجمعا بين الأمرين ، انتفاعا من زينة الله ، وإنفاقا منها على عباد الله «كان علي بن الحسين عليهما السلام يلبس الثوب بخمسمائة دينار والمطرف بخمسين دينارا يشتو فيه فإذا ذهب الشتاء باعه وتصدق بثمنه» (١).

إذا فلا محظور في أصل الزينة ما لم يكن هناك محظور آخر ، بل هي محبورة مشكورة اللهم إلّا لطوارى وملابسات محظورة وكما هي الضابطة في كافة النعم الربانية ، بل هي لهم بأحرى ممن لا يؤمن بالله ، فهم أولاء مغتصبون وهؤلاء الأكارم هم مغتصبون و (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

ذلك ، وإخراج زينة الله يعم الزينة المحاولة بما يسعى لها الإنسان إلى سواها ، حيث الإنسان هو نفسه مخرج من الأرض بمشيئة الله ومنبت منها ، وكذلك كل طاقاته هي كمثله مخرجة الله.

فتلك حضارة إسلامية سامية أن يشجع القرآن على كل زينة محبورة تزين حياة الإنسان وعيشته فرديا وجماعيا ، وعلى (الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٣ في تفسير العياشي عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال : ..

وفيه عن يوسف بن إبراهيم قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعليّ جبة خز وطليسان خز ، ما تقول فيه؟ قال : ولا بأس بالخز ، قلت : وسداه إبريسم فقال : لا بأس به فقد أصيب الحسين بن علي (عليهما السّلام) وعليه جبة خز. وفيه عن الوشا عن الرضا (عليه السّلام) قال : كان علي بن الحسين (عليهما السّلام) يلبس الجبة والمطرف من الخز والقلنسوة ويبيع المطرف ويتصدق بثمنه ويقول : قل من حرم زينة الله .. وفيه عن الكافي عن ابن القداح قال : كان أبو عبد الله (عليه السّلام) متكيا علي ـ أو قال : على أبي ـ فلقيه عباد بن كثير وعليه ثياب مرويّة حسان فقال : يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان؟ فما هذه الثياب المزينة عليك فلو لبست دون هذه الثياب؟ فقال أبو عبد الله (عليه السّلام) : ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وان الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه ، ليس به بأس ويلك يا عباد إنما أنا بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تؤذني وكان عباد يلبس ثوبين قطنين. وفيه عن العياشي عن الحكم بن عيينة قال : رأيت أبا جعفر (عليه السّلام) وعليه إزار أحمر ، قال : فأحددت النظر إليه فقال : يا أبا محمد ان هذا ليست به بأس ثم تلا (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ..).

٩٤

إنسانيا وإيمانيا ، حياة زيّنة طيبة تطيّب الإنسان وتزينه في كافة الحقول الحيوية ، دون رهبنة وتقشف مبتدعين.

لا فحسب أن تلك الحضارة مسموحة ممنوحة للذين آمنوا ، بل و (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) فهم أولاء أصول لهذه الحضارة الراقية المباركة ، وعلى هامشهم سائر الناس ، خلاف ما يزعم أن هذه الحضارة خاصة بالذين كفروا وصالحوا العباد عنه بعاد!.

وهنا «خالصة» قد تعني مع الخلوص لهم عن شركاء ، خلوصا عن الأوشاب والغصص التي تشوب كل زينة وطيبة من الرزق ، فلا خليط لهم هناك من سواهم ولا من ملابسات النعم التي هي من قضايا الحياة الدنيا.

ترى في أغوار التاريخ الإنساني جاهليات مسخت الفطر والفكر والعقول ، بل والحواس الإنسانية من الجاهلية العربية والإغريقية والرومانية والفارسية ، وعلى طول خطوط الجاهليات وخيوطها في كل زمان ومكان حتى الآن.

فهذه الجاهلية المتحضرة التي يعيشها الحضاريون! قد أعارتهم جماعا من الجاهليات عبر التاريخ ، فأعرتهم من ملابسهم كما أعرتهم من كل تقوى ، وأدخلتهم في جموع الطغوى ، وهي تعيّر الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات بأنهن «رجعيات» ـ «تقليديات» ـ «ريفيات».

فالمسخ هو المسخ ، والانتكاسة هي نفس الانتكاسة ، مهما عربدت وأرعدت وأبرقت ببريقات تبرز العورات أكثر ماهية شناعة وفضاحة.

وترى ما هو الفارق بين البهائم العارية بطبيعة الحال ، وهؤلاء البهم في صورة الإنسان بسيرة الحيوان بل هم أضل سبيلا.

إن بيوتات الأزياء الضياع ومصمميها ، وأساتذة التجمل ودكّاتها ، إنها هي التي تكمن وراء هذا الخبل العاهر الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية المتحضرة ولا رجالها المتأنثون.

٩٥

من ذا الذي يقبع وراء هذه الأزياء القاحلة ، ووراء سعار التعري والتكشف ، ووراء الأفلام والصور وما أشبه ، التي تقود هذه الحملة المسعورة المسعرّة.

لقد مسخت الجاهلية المتحضرة التصورات والأذواق والفطر والعقول والقيم والأخلاق الإنسانية ، إذ جعلت العرى الحيواني تقدما ورقيا ، والستر الإنساني تأخرا ورجعية!.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٣).

ترى «إنما حرم» هنا تحصر المحرمات كلها بهذه الخمس؟ وهناك محرمات كثيرة خارجة عنها! أم هي المحرمات الوقتية في ردح من العهد المكي ، ثم تتلوها محرمات أخرى بعدها مكية ومدنية؟.

«إنما» ولا سيما نظرا إلى «ربي» يؤكدان حصر المحرمات في هذه الخمس ، لا سيما وأن محرمات غيرها كانت مبيّنة الحرمة قبل هذه الآية ، ثم وكافة المحرمات في شرعة التوراة المفصلة فيها هي محرمة في شرعة القرآن ولم ينسخ منها حتى الآن ولا واحدة ، فتظل هي محرمة في شرعتنا ، إذا ف «إنما» لا تختص بعديد من محرمات بآيات مكية فحسب.

إنها تشمل بوجه عام كافة المحرمات حالا وقالا وأعمالا ، متجاوزة وسواها ، ف «الفواحش» هي المعاصي المتجاوزة حدها في الحرمة ، والمتجاوزة إلى غير الفاعل ، أو المتجاوزة فيهما ، ثالوث من التجاوزات الشاملة لأمهات المحرمات (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ظهورا كأصل أم لغير الفاعل (١) ، فمما ظهر ، أن تخير غيرك بمعصية ارتكبتها خفية ، فإنه

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٨٠ ـ أخرج عبد الرحمن عن يحيى بن كثير أن رجلا قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني أصبت حدا فأقمه علي فجلده ثم صعد المنبر والغضب يعرق في وجهه فقال : أيها الناس إن الله حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فمن أصاب منها شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يرفع إلينا من ذلك شيئا نعمة عليه.

٩٦

معصية على معصية تجعلهما فاحشة ، وبطونا كأصل أم عن غير الفاعل ، فهي تشمل الفواحش العقيدية والعملية أماهيه.

وهل الفاحشة تعم النية إلى العقيدة والعلمية الخاطئة إلى العملية؟ النية ما لم تصل إلى تحقيق المنوي ليست معصية فضلا عن فاحشة ، وإذا وصلت إليه فهي من الإثم حيث الفاحشة هي المعصية المجاوزة الحد في نفسها أم إلى غير العاصي ، وليست نية الشر معصية حتى تصبح فاحشة ، وإذا وصلت نية الشر إلى الشر فهي ـ إذا ـ من الإثم.

فالفاحشة تعم الفاحشة حدّها في نفسها ، أم المتعدية إلى غير فاعلها ، أو الواصل خبرها إلى غيره وهي خفية.

ثم «الإثم» هو «المبطئ عن الثواب» إبطاء عن وقته أم كمه أو كيفه ، أم إبطاء عن أصله ، و «الثواب» هنا هو الواجب تحصيله لمكان «حرم» ويعم الثواب المفروض فعلا لمحبور وتركا لمحظور ، فكل مقدمات ترك الواجب أو فعل الحرام أم نقص في الواجب وقتا أو كما أو كيفا ، هي من الإثم ، وكما أن ترك الواجبات أو فعل المحرمات التي تستعقب شؤم الحياة أم محظورات أخرى هي كلها من الإثم ، ومن كبير الإثم «الخمر والميسر» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٥ في الكافي عن علي بن يقطين قال سأل المهدي أبا الحسن (عليه السّلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ فان الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن (عليه السّلام) بل هي محرمة في كتاب الله جلّ اسمه يا أمير المؤمنين فقال له في أي موضع محرمة في كتاب الله جلّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال : قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فأما قوله (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) يعني الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية ، وأما قوله عزّ وجلّ : «وَما بَطَنَ» يعني ما نكح من الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان للرجل زوجة ومات تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمة فحرم الله عزّ وجلّ ذلك ، وأما الإثم فانها الخمر بعينها وقد قال الله عزّ وجلّ في موضع آخر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما كبير كما قال الله ، فقال المهدي يا علي بن يقطين هذه والله

٩٧

فمن الإثم ـ إذا ـ نية المحرم الواصلة إلى تحقيقه كسائر مقدماته قريبة أو بعيدة ، آفاقية وأنفسية التي هي مختارة للفاعل ، وكذلك نية ترك الواجب الواصلة إلى تركه أو المبطئة عنه ، فمقدمات الواجبات كلها واجبة ومقدمات المحرمات الموصلة إليها محرمة ، وغير الموصلة غير داخلة في شيء من هذه العناوين الخمس ثم ولا دليل غيرها على حرمتها.

ولأن الإثم يعم القال والحال والفعال بالمآل ، فمثلث الإثم ـ إذا ـ معني منه على أيّة حال ، اللهم إلّا بقرينة معيّنة ، فمن الحال : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٣).

إذا فالإثم يعم عمل الخطيئة ـ كشرب الخمر (١) وما أشبه ـ ومقدماتها وكما قوبلت به : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ..) (٤ : ١١٢).

والإثم المذكور في القرآن كله (٤٨) مرة ، تعني معناها الخاص : ما يبطئ عن الواجب ، إيجابيا ككل الواجبات ، وسلبيا ككل المحرمات لمكان وجوب تركها.

ثم (الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) هو طلب المحظور فطريا أو عقليا أو شرعيا ، أم جمعا منها فأبغى ، وهنا (بِغَيْرِ الْحَقِّ) قد تعني التأكيد المعني من أمثال (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) توصيفا بما هو لزام البغي ، أم هو تقييد للبغي الشامل طلب الحق والباطل.

__________________

(١) يسأل المهدي الخليفة العباسي موسى بن جعفر (عليهما السّلام) هل الخمر محرمة في كتاب الله؟ والناس إنما يعرفون النهي عنها! قال : محرمة ، قال : أين هو؟ قال : «.. وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ ..» حيث حرم الإثم والخمر فيها إثم كبير.

٩٨

ذلك ، لأن «البغي» غير متمحضة لغويا في المحظور ، فالواوي منها متعدية ب «على» تعني التعدي ، وهي متعدية بنفسها تعني النظر إلى المتعدى كيف هو؟ واليائي منها متعدية هي مطلق الطلب محظورا أو محبورا ، وهي لازمة تعني العدول عن الحق.

ف «البغي» طليقة عن كل هذه تحتملها كلها ، فلذلك قيدت هنا ب (بِغَيْرِ الْحَقِّ) إخراجا للبغي غير المحظور ، فهي ـ إذا ـ هنا يائية لازمة ، أو متعدية بعلى ، حيث تعنيان الطلب الباطل.

ثم الباء في (بِغَيْرِ الْحَقِّ) قد تعني كلا السببية والمعية ، فالأولى تعني أي طلب بسبب غير الحق مهما كان طلبا للحق ، والثاني تعني طلبا مصاحبا غير الحق ، مهما كان طلب الباطل ، أم وطلب الحق مصاحبا حالة الباطل ، كالأمر بالمعروف للتارك له ، والنهي عن المنكر للفاعل إياه ، والدعوة إلى الخير دون معرفة صالحة للخير أو الدعوة إليه ، وإلّا لكان بغيا بغير الحق مهما كان دركات حسب دركات غير الحق.

(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ، ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وهي تعم كافة دركات الإشراك بالله ، في ألوهيته وربوبيته وقضاءه وحاكميته الطليقة الربانية وكلما يختص بساحة قدسه تعالى دون سواه ، وهنا (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) مما يزيد الإشراك بالله نحوسة ونكوصة عن الحق المرام.

فلئن كان في الكون سلطان للإشراك ، مهما كان قاصرا نحيفا ، ولن يكن ، لم يكن بذلك البعيد عن العقليات ، ولكن الإشراك الذي لم ينزّل به أي سلطان فطري أو عقلي وما أشبه ، بل وكل سلطان أيّا كان يستنكره ، فهو ـ إذا ـ أنكر المنكرات على الإطلاق!.

٩٩

فهنا «سلطان» المنكر في سياق النفي ، المستغرق ب «من» الجنسية ، كلّ سلطان ، تسلب أي سلطان فطري أو عقلي ـ أنفسيا ـ وأي سلطان من وحي وسواه آفاقيا ، مهما أفاد احتمالا أو شكا أو ظنا أم علما.

فحتى احتمال حق الإشراك بالله غير وارد بين أي سلطان ، فضلا عن العلم ، وذلك مما يعظم عظم الجريمة العقيدية النكراء ، وليس للإشراك بالله أي مثيل في النحوسة والنكوسة عن الحق المرام!.

وقد تعني «من سلطان» هنا ما تنزله الآلهة من براهين ألوهيتها ومنها أن تأتيهم رسلهم ، فلو كان هناك آلهة من دون الله لأتتك رسلها ، إذا فتخيلة الإشراك المختلق فاقده لأي سلطان من هذه الأربع الآفاقية والأنفسية من الله أن نزلها ، أو من شركاءه المزعومة أن تنزلها ، ثم وكل سلطان قاطع دليل لا مرد له على بطلان الإشراك!.

إذا فالإشراك بالله هو قمة المحرمات على الإطلاق إذ لا يملك أي سلطان يحتمله أو يشكك فيه أو يرجحه فضلا عما يثبته علما أو يقينا ، ثم وكل سلطان آفاقي وأنفسي وفي أنفس الشركاء مكرسة معسكرة لسلبية الإشراك على الإطلاق (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) (٣٠ : ٣٥).

لذلك نسمع الله يكرر القول (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) كما هنا وفي غيرها من آيات تعني معناها!.

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) حيث تحصر القول ـ كما الفعل والحال ـ بما يعلم أنه من الله حصرا لكل الأقوال والأحوال والأعمال فيما قال الله ، وحسرا عما لا يعلم أنه من الله.

١٠٠