الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

و «من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه» (١).

و «تعلموا القرآن واقرؤه واعلموا أنه كائن لكم ذكرا وذخرا ، وكائن عليكم وزرا ، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم ، فإنه من تبع القرآن تهجم به على رياض الجنة ، ومن تبعه القرآن زج في قفاه حتى يقذفه في جهنم» (٢).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من قرأ ثلث القرآن أوتي ثلث النبوة ، ومن قرأ نصف القرآن أوتي نصف النبوة ، ومن قرأ القرآن كله أوتي النبوة كلها ثم يقال له يوم القيامة : اقرأ وارق ، بكل آية درجة حتى يختم ما معه من القرآن ، ثم يقال له : اقبض فيقبض فيقال له : هل تدري ما في يديك؟ وإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم(٣).

ولا تعني هذه القراءة قراءة فاضية عن المعرفة والتطبيق ، بل هي الفائضة بمعرفة وتطبيق ، (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

و «إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم ، وإن اصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله تعالى» (٤).

فالمأدبة ـ ضما ـ هي الطعام (٥) وهي فتحا مفعلة من

__________________

(١) المصدر ١٧ ـ مجمع البيان ١ : ١٦ عن علي (عليه السّلام) انه قال : ...

(٢) المصدر ١٠ ـ ابن أبي الجمهور في در اللئالي عن أبي موسى قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم: ...

(٣) تفسير الكشف والبيان للثعلبي رواه عن أبي أمامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٤) أمالي الصدوق المرتضى (١ : ٣٥٤) عن نافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذا القرآن ...

(٥) فالمأدبة في كلام العرب هي الطعام يصنعه الرجل ويدعو الناس إليه ، فشبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يكسبه الإنسان من خير القرآن ونفعه وعائدته عليه إذا قرأه ودرس ـ

٢١

الأدب (١) فقد أنزل الله القرآن طعاما للأرواح ، وأدبا لها ربانيا ، لا طعام لها أطعم ، ولا أدب لها أءدب من هذا القرآن ، والتاء في الوجهين هي للمبالغة ، حيث تعني بالغ الطعام والأدب في القرآن للأرواح.

لذلك «وإن أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله تعالى» و «أصفر» هي تفضيل الصفر وهو الخالي.

إذا فأخلى البيوت وأجوفها من الأثاث هو الجوف الأصفر من كتاب الله من الأساس ، مهما امتلأ مما سواه من علوم هي بجنب القرآن خاطئة الحلوم.

والهرطقة الغافلة ، القائلة : إن القرآن لا يفهم إلّا بالرواية ، معروضة عرض ، الحائط لمخالفتها بيان القرآن التبيان ، إضافة إلى كرور الآيات أنه (بَيانٌ لِلنَّاسِ).

فليس باب تفهم القرآن مقفلة على الناس ، وإنما هي مغفلة مغفّلة فمقفلة لمن لا يتدبرون القرآن : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤٧ : ٢٤) بأغفالها وإغفالها ، تحريجا على الذين يحاولون تفهم القرآن ، فتخريجا له عن حوزته.

وما بيان المعصومين (عليهم السّلام) لآيات مسئول عنها ، إلّا للقاصرين عما يسألون إفهاما ، أو المقصرين إفحاما ، دون أهل القرآن العائشين إياه حياتهم.

وليس تفسيرهم (عليهم السّلام) إلّا سنادا إلى لفظية الدلالات المسؤول عنها قصورا أو تقصيرا.

__________________

ـ ما فيه ، بما يناله المدعو من طعام الداعي وانتفاعه به ، يقال : أدّب الرجل يأدب فهو آدب ، إذا دعى الناس إلى طعامه ، ويقال للمأدبة المدعاة.

(١) المأدبة من الأدب فقد أنزل الله القرآن تأديبا للمكلفين بآداب الله ، وتاء المأدبة على الوجهين للمبالغة.

٢٢

إذا فنكران أن القرآن في الأصل بيان وتبيان نكران لمعجزة الفصاحة والبلاغة القرآنية ، بل ونكران لهما عاديا من الناس العاديين!.

ولا يعني الحظر عن تفسير القرآن بالرأي في «من فسر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار» حظره عن كل مناهج التفسير ، تعطيلا له عن صالح التدبر والتفكر فيه ، إنما هو تفسير خاص «بالرأي» أن تعتقد في رأي أنه صالح ، تقليدا أو اجتهادا ، ثم تستند إلى القرآن لتثبيت رأيك ، الذي يخالف نصه أو ظاهره ، أم لا يوافق نصا منه أو ظاهرا ، فإنهما تفسير له بالرأي.

وأما تفسيره بنفسه وبالروايات والنظرات التي توافقه ، وبالفطرة السليمة والعقلية الصالحة ، والحس السليم ، فكل ذلك محبور في حقل التفسير دون أي محظور.

وما تفسير «من فسر القرآن برأيه» بتعطيل القرآن عن التفكير فيه ، إلا تفسيرا لهذا الحديث نفسه بالرأي ، فليتبوء مقعد مفسره هكذا من النار.

وهل يقبل أي تفسير للقرآن إلّا بالعقلية السليمة ، أم هل يقبل الحديث إلا بالعقل الذي يقبله تفسيرا للقرآن؟! وليس العقل بالفطرة السليمة إلّا ذريعة للحصول على مرادات الله من كلامه ، دون تحميل عليه وتوجيه ، إلّا توجيه نفسه بصورة صالحة صادقة للكشف عن معاني القرآن بذريعة اللغة الصالحة والأدب الأديب الأريب ، وتفكير صالح في هذه السبيل.

وكما اللغة لا تحمّل على القرآن ، كذلك العقل ، وإنما هما كاشفان عما يراد من آيات الله البينات.

وكما أن خالص التوحيد هو طليق السلب : «لا إله» ومن ثم صالح الإثبات هو : «إلا الله» براحلة العقل والفطرة ، كذلك خالص التفسير ليس إلّا سلب كافة التقديرات والمحتملات المسبقة ، ومن ثم الإثبات

٢٣

براحلة الفطرة والعقلية السليمتين واللغة والأدب السليمين ، وصالح التدبر في القرآن.

هؤلاء الخارفون الهارفون يقصدون من وراء ذلك التفسير لحديث الرأي نفي روح القرآن عن أمته ، واختصاص تفسير القرآن بآرائهم ، كما عملته الكنائس في القرون الوسطى فحظروا تفسير الإنجيل على الأمة المسيحية حتى يفسح لهم مجالات التحريف والتجديف في تفسيره بآرائهم وشهواتهم.

وهنا المانعون عن تفسير القرآن فريقان اثنان ، فريق يمنع عنه نفيا له من أمته عن بكرته تحت نقاب تقديسه ، وآخرون هم مانعون لكي يفسح لهم مجال ـ دون منازع ـ لتفسيره بآرائهم فقهيا أو فلسفيا أو علميا وما أشبه.

وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية بعيدة عن روح القرآن ، ناحية منحى تفاسير مختلقة مختلفة بآراء خاطئة.

ذلك ، وهذا القرآن مصون عن كل تحريف وتجديف بعصمة ربانية مضمونة طول الزمان وعرض المكان ، فآياته ال / ٦٦٦٠ / وكلماته ال / ٦٦٦٠٠ ، هما نفس العدد طول التاريخ الإسلامي دون زيادة أو نقصان وان في حرف أو نقطة أو إعراب أو مكان كلّ ، وهذه الكلمات لها سير تصاعدي سنوي منذ البعثة حتى ارتحال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك السير منظم منضد نجده في تصاعد / ٥٠٠ كلمة سنويا ، فمثله مثل الشمس في اشراقته التصاعدية ، فقد أشرقت آياته البينات بهذه الصورة على قلوب المكلفين.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ٤.

إن أتعس البأس هو الجائي علي غفلة آمنة «بياتا» في أمن الليل نوما أم رياحة أخرى (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) نوما نصف النهار : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا

٢٤

ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٧ : ٩٨).

و «قرية» ـ خلاف ما يزعم ـ هي المجتمع ، وتسمية مكان الاجتماع ب «قرية» هي من باب المجاز دون العكس ، وهنا «أهلكناها» دون «أهلكناهم» لرعاية أنوثة اللفظ : «قرية» ثم (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) رعاية لذكورة المعنى ، وما أجمله جمعا بين قضية اللفظ والمعنى في عبارة واحدة ، وفيه عناية المعنيّ من القرية ، أنهاهم دون مكانهم ، إلّا مجازيا.

إضافة إلى أن الهلاك يشملهم وأمكنهم (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ..).

وترى كيف (فَجاءَها بَأْسُنا) بعد «أهلكناها» وليس الإهلاك إلّا بالبأس؟ علّ «فجاءها» تفريع بيان لكيفية الإهلاك ، أم وتعني «أهلكناها» ـ مع ما عنت ـ قضاء الإهلاك بما افتعلوا (فَجاءَها بَأْسُنا) أم وثالث هو أمره تعالى بهلاكهم عقيديا وعمليا إذنا تكوينيا ، وعدم التوفيق لإيمانهم من باب (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ «وقيضنا لهم قرناء فزينوا ما بين أيديهم وما خلفهم» ـ و (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).

وعلّ مثلث المعنى معنيّ حيث يوافق أدب اللفظ والمعنى والله أعلم بما يوعون.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٥).

فطالما كانوا هم في رغد العيش والأمن لا يعترفون بظلمهم ، فهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) ليست لهم دعوى أمام بأس الله إلّا الاعتراف : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) علّ الله يعفو أو يخفف عنهم بأسه ، ولكن لا مناص عن بأس الله إذا جاء ، فقد فات يوم خلاص فلات حين مناص ، حيث الإيمان عند رؤية البأس لا يقع موقع القبول إذ لا واقع له إلّا الفرار عن بأس الله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ

٢٥

هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥).

وهكذا تأخذ السنة الإلهية من الظالمين دعواهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) حيث لم يكونوا ليعترفوا بظلمهم في غمرات الشهوات ، ويا له من موقف مذهل مرعب مرجف حيث أقصى الدعاوي فيه هو ذلك الاعتراف بالظلم.

ذلك ، وإن مصارع الغابرين المعروضة في مصارح الذكر الحكيم ، إنها خير منذر ومذكر ، والقرآن يستصحبها في المجالات المؤاتية لها كمؤثرات موحية ومطرقات موقظة للهائمين في ورطات الشهوات والغفلات.

هنا معرض الهلاك في الأولى ، وإذا بالسياق ينتقل وينقل معه السامعين إلى مشهد الآخرة ، شريطة موصولة المشاهد حيث تضم الآخرة إلى الأولى ، متخطية طول الزمان وعرض المكان ، وملحقة عذاب الأخرى إلى الأولى ، ولا ينبئك مثل خبير : تشهيرا بهم على الملإ الحاشد في ذلك اليوم المشهود الشاهد :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)(٦).

فالرسل والمرسل إليهم هناك مسئولون في موقف الاستجواب ، ولكن الرسل يسألون سؤال تقرير وتغرير وتعزير ، والمرسل إليهم يسألون سؤال تأنيب وتبكيت وتنكير ، اللهم إلّا من وفي لرعاية الحق منهم : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٥ : ٩٣) وهو سؤال استفحام دون استفهام.

فقد يسأل المرسلون ـ من الجنة والناس والملائكة ـ ماذا أجبتم : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٥ : ١٠٩) وكما يسألون عن تأدية رسالاتهم (١) ، ويسأل

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٦٨ ـ أخرج أحمد عن معاوية بن حيدة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إن ربي داعيّ وانه سائلي هل بلغت عبادي وإني قائل : رب إني ـ

٢٦

المرسل إليهم ـ وهم كافة المكلفين من الجنة والناس وسواهما ـ عما أجابوا الرسل ، لا جهلا عما كانوا يعملون ، وإنما استحصالا لما في الصدور حتى يقروا بأنفسهم بما كانوا يعملون.

هنا سؤال المرسلين يجمع إلى تغرير لهم وتعزير تقريرا في ذلك المشهد أنهم بلّغوا رسالات ربهم دونما قصور أو تقصير ، فهو لهم احترام زائد ولمن تخلفوا عنهم اخترام بائد.

ثم وفي وجه شمول «المرسلين» كافة الدعاة المسؤولين ، تنديد بمن قصّر منهم في بلاغ الدعوة الربانية ، ثم الله هو الذي يقص كلما حصل :

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧).

قصّ رباني لأعمالهم وأحوالهم «بعلم» سابق سابغ إذ (ما كُنَّا غائِبِينَ) ف : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩).

وذلك القص هو مربعة الجهات والجنبات ، هي ١ : قص رباني دون وسيط ، ٢ وبوسيط الأعضاء ٣ والأرض ٤ وسائر الشهداء من النبيين والملائكة الكرام الكاتبين ، ولكي تكمل الشهادة ويغرق المشهود عليهم في غمراتها فلا يجدوا سبيلا لنكران.

__________________

ـ بلغتهم فليبلغ الشاهد الغائب ، ثم انكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام إنّ أوّل ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه ، وفيه أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن الناس والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده ، وفيه أخرج ابن حبان وأبو نعيم عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ، وفيه أخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فأعدوا للمسائل جوابا قالوا : وما جوابها؟ قال : اعمال البر ، وفيه أخرج الطبراني في الكبير عن المقدام سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه فيسأل عنهم ويسألون عنه.

٢٧

وهنا «عليهم» تعم المرسل إليهم إلى المرسلين ، قصا بعلم لما فعل الرسل وما فعل المرسل إليهم ، قصّ غامر هامر لا يبقي ولا يذر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٩).

ولماذا هنا «قصّ» بديلا عن «إنباء ـ أو ـ إخبار»؟ لأن أخبار الرسل والمرسل إليهم ليست كلها تنبأ ، إنما هي مواضع المسؤولية حيث تقص قصا عن كل ما حصل ، وكما يقص القرآن أنباء ما قد سلف دون عرض لكل ما حصل.

وهنا موازاة بين المسؤول عنه وبين المقصوص ، فكل ما يسأل عنه يقص ، وكلما يقص فهو مسئول عنه ، وقد يشمل السؤال والقص كافة المسؤوليات الفردية والجماعية وكما

في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (١).

ف (الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) يشمل كافة المكلفين ، معروفين لدينا ومجهولين ، من الجنة والناس ومن سواهم من المسؤولين أجمعين ، كما «المرسلين» تشمل إلى رسل الإنس الرسل الملائكية والجنية ، ومن ثم كل المكلفين بالدعوة الرسالية من علماء ربانيين وآمرين وناهين ، وأية داعية راعية ، فقد تشملهم كلهم «المرسلين» ، فلا تجد مكلفا يوم الدنيا إلّا وهو مسئول يوم الدين دون إبقاء ولا إبطاء : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣٧ : ٢٤).

ذلك ، ولأن الحشر يعم كافة ذوات الحياة وكما في آية الأنعام : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨) فمثنى المسؤولية تشملهم يوم الدين ، مهما اختلفت درجاتها.

وهنا السؤال العام لا يناحر هناك عدم السؤال : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (٥٥ : ٣٩) حيث السلب يعني سؤال الاستفهام إذ

__________________

(١) راجع الى ص ٢٦

٢٨

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ثم الإيجاب بين سؤال استجهال أو استفحام أو استعظام ، تقديرا لطالح ما كان ، وتقريرا لصالحه في ذلك الحشد الحشر العام.

وليس هناك ـ فقط ـ تساؤلات ، فإنما يحلقها «الوزن» ، فما هو ذلك الوزن؟ هل هو وزن الأبدان والأموال والتشخصات المدّعاة ، أم ووزن الأنساب والأسباب وسائر الروابط المتخلفة عن الضوابط؟

أمّا هيه من أوزان من موازين الأرض ومقاييس أهليها المخلدين إليها؟ كلّا! :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ

٢٩

الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما

٣٠

وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(٢٦)

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)(٩).

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ).

وهل الوزن هنا الوازن أو الميزان أو الموزون أم نفس الوزن مصدرا؟ ثم الحق هل هو المعني من «حق» أو «الحق» الله ، أم «الحق» المعروف من الله على العباد؟.

هنا احتمالات بضرب مثلث الحق المحتمل على الوزن فهي اثنتا عشرة.

٣١

والصحيح منها أن «الوزن» هنا هو الميزان ، حيث (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (٢١ : ٤٧) ثم الحق أن «الحق» هنا هو الثالث من محتملاته ، حيث هو «القسط» في آية الأنبياء ، كما «الوزن» هنا هو الموازين هناك.

والتعبير عن الميزان بالوزن عناية إلى حق الميزان ، إنه خليصه دون خليطه ، فكأنه هو الوزن بعينه لا يشوبه شائب غير الوزن.

كما وأن «الحق» هو خالص الحق المرغوب غير المشوب ، إذا فالحق الحقيق بالاتباع من الله هو الميزان.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) جمع الموزون ، لا الميزان ، حيث الموازين هذه توزن وتقاس بالوزن الحق القسط.

ثم الحق أن «الحق» خبر لمحذوف معروف هو «هو» والجملة ـ على تنكرها أدبيا ـ خبر ل «الوزن» فلا تصلح «يومئذ» وما أشبه خبرا ل «الوزن» ، ولو كان «الحق» خبرا ل «الوزن» بنفسه لكان الصحيح أدبيا «حق» ثم لا يتم المعنى حيث يعني أن «الوزن حق» ثابت لا حول عنه ، وأما ما هو ذلك الوزن فلا خبر عنه اللهم إلّا «هو الحق» الخالص غير الكالس ، الفالس.

ولأن الخسران في التعارف إنما هو النقص في الأثمان ، وهو يخص الأموال لا النفوس ، فذكر الموازين هنا بثقلها وخفتها ، إنما هو بمناسبة الخسران ليكون الكلام متفقا وقصص الحال متطابقا ، فكأنه تعالى جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون أنفسهم كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم ، وذكر خسرانهم لها لأنهم عرضوها للخسار والبوار فأوجبوا لها عذاب النار جهنم يصلونها وبئس القرا ، فقد تجاوزوا حد الخسران في الأثمان إلى حد الخسران في الأعيان.

٣٢

ووجه آخر هو أن الوزن لا يختص بالأثقال الجسمانية ، بل هو في الروحيات أوزن ، فالخسران فيها أخسر ، والربح أمتن ، فالحق ـ إذا ـ أن (الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ).

وليس «الحق» هنا هو الله ، إذ لو كان هو الميزان للموازين لم يك وزن لأحد حتى يوزن به ، إضافة إلى أن ميزانية الله نفسه لموازين العباد ظلم بهم عظيم ، إذ لا يستطيع أحد أن يشابهه في أيّ شأن من شؤونه!.

ولا هو «حق» حيث القصد تعريف الوزن : ما هو؟ لا تثبيت أصله دون معرفة بكيانه ، ثم (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) تفرعا على «الحق» لا دور له إلّا بعد معرفة الحق بكيانه ، لا التأكّد منه بكونه ، مع أنه حق لا فقط «يومئذ» بل في كل الأيام.

كما وليس «الوزن» هو الوزن مصدريا حيث المصدر ليس هو «الحق» الواقع الموجود ، فإنما يخبر «الحق» عن واقع وهو هنا «الميزان» ، وليس هو الموزون حيث لا يوزن الموزون بالموزون.

فصالح المعنى الوحيد إذا أن «الوزن» : الميزان ـ هو «الحق» المقرر من الله لعباده ، وحيا كأصل ، ورسولا كمصداق واقعي عملي للوحي ، وكما تعنيه (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فالموازين هي الوزن هنا ، كما القسط هو الحق هنا ، ف : «الوزن الموازين» هو «الحق القسط» فلأن الموازين ـ جمع الموزون ـ عدة ، كذلك الموازين ـ جمع الميزان ـ عدة ، عدة بعدة ولا يظلمون نقيرا.

وكما الحق ليس هو صاحب الصالحات الموزونة ، كذلك ليس هو الوزن ، فإنما هو الحق علما وعقيدة ونية وعملا صالحا وحالا وقالا (١).

والوزن الحق هنا وهناك هو كتاب الله وهو رسول الله المتمثل في

__________________

(١) في البحار ٧ : ٢٤٤ : «سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما يوزن يوم القيامة؟ فقال : الصحف» أقول : ولا تعني الصحف إلا الأعمال بأوصافها حيث تقاس بالحق والقسط.

٣٣

أقواله وأفعاله وأحواله كتاب الله (١) ، وقد يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا ميزان العلم وعلي كفتاه» (٢) ، فقد يوزن الرسل بكتب الوحي ، وتوزن الأمم بهما ، دونما تخلّف عن حق الله قيد شعرة (٣).

وليس الأعمال توزن بسائر الموازين روحية وجسمية (٤) إنما هو قسطاس الحق من الله ، فإذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب فانظر في قصد معناك وغور دعواك وغيّرهما بقسطاس من الله عزّ وجلّ كأنك في القيامة قال الله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) فإذا اعتدل معناك بدعواك ثبت لك الصدق (٥).

ذلك و «الموازين» هي جمع الميزان حقا وقسطا في آية الأنبياء : ما يوزن به ، أو الموزون كما في آيتنا ، وهي العلوم الربانية والعقائد والنيات والأقوال والأعمال الصالحة ، فهي في صيغة جامعة «الحسنات» فقد يوزن بها بوزن «الحق» فيها ، فكلّما كانت أقرب إلى الحق المرام فهي أثقل ، وكلما كانت عنه أغرب فهي أخف وأسفل ، حتى تكون خاوية عن الحق عن

__________________

(١) في المعاني باسناده عن المنقري عن هشام بن سالم قال : سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ ..) قال : هم الأنبياء والأوصياء.

(٢) ملحقات إحقاق الحق ٩ : ٢٠٩ و١٨ : ٤١٧ و١٣ : ٧٩ ـ ٨٠.

(٣) تجد تفاصيل البحث حول الوزن والموازين في آيات الأنبياء والمؤمنون والقارعة والكهف ، فراجع إلى مجالاتها في الفرقان.

(٤) نور الثقلين ٢ : ٥ في كتاب الإحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) حديث طويل وفيه : قال السائل : أو ليس توزن الأعمال؟ قال (عليه السّلام) : لا ـ لأن الأعمال ليست بأجسام وإنما هي صفة ما عملوا ، وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفتها وإن الله لا يخفى عليه شيء ، قال : فما معنى الميزان؟ قال : العدل ، قال : فما معناه في كتابه (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)؟ قال : فمن رجح عمله.

(٥) مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السّلام) في كلام طويل : فإذا أردت ، وفي الخصال عن محمد بن موسى قال سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : إن الخير ثقل على أهل الدنيا على قدر ثقله في موازينهم يوم القيامة وان الشر خف على أهل الدنيا على قدر خفته في موازينهم يوم القيامة.

٣٤

بكرته فهنالك خفة الموازين عن بكرتها ، وبينهما عوان كما ولكل ميزان درجات ، وهذه الآية وأضرابها تتحدث عمن محّض الإيمان محصنا أو محّض الكفر محضا ، ثم العوان بينهما عوان في الإفلاح والإفلاج (١).

وأثقل الثقل في الميزان هو التوحيد الحق وحق التوحيد (٢) ، كما أن أسفل السفل هو الإشراك بالله.

ولأن الموازين : الحسنات ، تعم الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر ، فثقلها يعمهما : «فمن كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه يوم القيامة ، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة» (٣) والقصد من الرجحان الثاني ما يترك به الرئاء ، وإلّا فالسماوات بين الظاهر والباطن هي القصد والعدل.

ذلك ، وفي مختلف الموازين بين أصحابها يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء»(٤) ولأن مدادهم هو الذي يمد المناضلين إلى خطوط النار بما وعوا منهم من آماد الإيمان.

__________________

(١) الدر المنثور : ٧١ ـ أخرج أبو الشيخ عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار» أقول : قد ينافيه (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) وان الحسنات هي ثقل الميزان والسيئات هي خفتها ، اللهم بتأويل أن الجامع بين الحسنات والسيئات له الموازنة بينهما دون أن يعني وزن السيئات.

(٢) المصدر أخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرض ومن فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفه الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن.

(٣) الدر المنثور ٣ : ٧١ ـ أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن علي بن أبي طالب (عليه السّلام): ...

(٤) المصدر أخرج المرهبي في فضل العلم عن عمران بن حصين قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ...

٣٥

فالعلماء هنا هم الربانيون بما استحفظوا من كتاب الله ، الذين تمتد علومهم إلى صحائف الصدور وسواها ، ومن حصائلها في ذلك المد المديد معرفة غالية عالية للممدود إليهم الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الله ، إذا فمداد العلماء هو حقا أفضل وأوزن من دماء الشهداء ، فأما إذا اجتمع العلم والشهادة فنور على نور ، ثم العلم غير الممدود والشهادة الخالية عن شروطها المعرفية والشرعية ، أو الجهل وعدم الشهادة ، فهي أضلاع أخرى بعد صالح العلم والشهادة ليست بذلك النمط المرموق.

ولأن (الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) «ونصنع الموازين القسط» إذا فلا وزن للباطل ، وإنما يقام الوزن للحسنات ، ثم لا وزن للسيئات فإنها خفة الميزان (١) : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ومنهم الأخسرون أعمالا : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥).

ثم لكل ميزان وزن يخصه ، فميزان التوحيد هو التوحيد الحق ، وميزان الصلاة هي الصلاة الحقة ، وهكذا كل ميزان بوزنه وكل وزن

__________________

(١) في التوحيد باسناده عن أبي معمر السعداني عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حديث قال : وأما قوله (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) و (خَفَّتْ مَوازِينُهُ) فإنما يعني : الحسنات توزن الحسنات والسيئات ، فالحسنات ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان.

وفي الكافي باسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) فيما كان يعظ به قال : ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال عزّ وجلّ : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فان قلتم أيها الناس إن الله عزّ وجلّ إنما عنى بها أهل الشرك فكيف ذلك؟ وهو يقول : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) فاعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام ـ الخبر.

٣٦

بميزانه ، ويجمع الكل «الحق ـ و ـ القسط».

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) المؤاتية للحق والقسط (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في الآخرة كما أفلحوا في الأولى ، حيث يفلحون عقبات وعقوبات وصعوبات في الأخرى بثقل موازينهم التي هي أثقل من كل ثقل ، فلا تبقى عقبة إلّا وهم يجتازونها ، فقد ربحوا أنفسهم دون خسران.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وهي كل موازينه ، إذ لا موازين له حسنات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بكل موازينها (بِما كانُوا بِآياتِنا) آفاقية وأنفسية «يظلمون» : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٢٣ : ١٠٣).

ولأن الخسران في التعارف المتعوّد هو النقص في أثمان المبيعات وليست منها النفوس ، فالإتيان به لها قد يعني مناسبة «الموازين» في عرصات الحساب ليكون الكلام متفقا ، وقصص الحال متطابقا ، فكأنه تعالى جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة ، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم كما يملكون أموالهم ، وقد عرضوا أنفسهم بكل نفائسهم للخسار ، وأوجبوا لها البوار وعذاب النار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) ، فصارت في حكم العروض المتلفة ، وتجاوزوا حد الخسران في الأثمان إلى حد الخسران في الأعيان.

وبتعبير أعمق هو أليق بحق الكلام لله الملك العلام نقول : كل إنسان يملك نفسه بما ملّكه الله إياه ، وعلى ضوءه يملك ما سواها ، ثم جعل في مختبر الحياة الدنيا ومتجرها لكي يتاجر بكل ما لديه من نفس ونفيس ليحصل على ما هو أنفس من النفس والنفيس ، بثقل الموازين بعد خفتها ، ولكنه باع نفسه بالأركس الأدنى وبقي صفر اليد عن كل نفسه ونفيسه ، خفيفا عن كافة الموازين المعطاة والمكتسبة ، فقد خلق في أحسن تقويم ، وقرر له حسب مستواه أن يضيف تقويم كيانه إلى تقويم كونه ، ولكنه رد نفسه إلى أسفل سائلين (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما

٣٧

كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) ـ (.. فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) وذلك من أخسر الخسران : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٣٩ : ١٥).

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).

«أنفسهم» هنا هي حق «أنفسهم» وهي فطرهم ، وعقولهم التي عليها أن تتبنى فطرهم ، وحواسهم التي هي بطبيعة الحال تتبع عقولهم وفطرهم.

فالخاسر نفسه هو الذي ضل عنها متغافلا متجاهلا ، فهو ـ إذا ـ خاسر ربه ، فإن

«من عرف نفسه فقد عرف ربه» وخاسر ـ كذلك ـ حياته الإنسانية التي خلق لأجلها ، فقد وجد نفسه حيوانا سرشا حرصا على الحيونات والشهوات ، فهو منغمس فيها ، تارك ما تعنيه الفطرة والعقلية السليمة من عنايات إنسانية على ضوء عنايات ربانية.

أجل فالخاسر نفسه خاسر كل موازين الإنسانية عن بكرتها ، والواجد نفسه واجد لموازينها في مجالتها الواسعة الفاسحة ، فاحصة عما يجعلها وزينة متينة ، فخسران النفس هو أساس كل خسران ووجدانها هو أساس كل وجدان.

ذلك ، فلنجدّ المسير إلى مصير الحق ليكون لنا وزنا وإني أحذركم ونفسي هذه المنزلة ، فلينتفع امرء بنفسه ، فإنما البصير من سمع فتفكر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر ، ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه الصرعة في المهاوي ، والضلال في المغاوي ، ولا يعين على نفسه الغواة بتعسّف في حق ، أو تحريف في نطق ، أو تخوف من صدق ـ فأفق أيها السامع من سكرتك ، واستيقظ من غفلتك ، واختصر من عجلتك ، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما لا بد منه ، ولا محيص عنه ، وخالف من خالف ذلك إلى غيره ، ودعه وما رضي لنفسه ، وضع فخرك ، واحطط كبرك ، واذكر

٣٨

قبرك ، فإن عليه ممرّك ، وكما تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وما قدمت اليوم يقدم عليك غدا ، فامهد لقدمك ، وقدّم ليومك ، فالحذر الحذر أيها المستمع ، والجدّ الجدّ أيها الغافل (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ـ إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثب ويعاقب ، ولها يرضى ويسخط ، أنه لا ينفع عبدا ـ وإن أجهد نفسه وأخلص فعله ـ أن تخرج من الدنيا لاقيا ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها : أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته ، أو يشفي غيظه بهلاك نفس ، أو يغرّ بأمر فعلة غيره ، أو يستنجح حاجة بإظهار بدعة في دينه ، أو يلقى الناس بوجهين ، أو يمشي فيهم بلسانين ، أعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه ..(الخطبة ١٥٢).

فيا «عباد الله! زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا ، وتنفسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السياق ، واعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له عن غيرها زاجر ولا واعظ» (الخطبة ٨٩).

وهنا عرض للرحلة الإنسانية الكبرى منذ البداية حتى النهاية ، مزودة برحمات ربانية مفاضة عليها ، دون اختصاص بأمم دون أخرى ، فإنما الإنسانية ككل هي المخاطبة بهذه الخطابات المنونة الحنونة ، المندّدة بها لتخلفها عما فرض الله لصالحها :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(١٠).

.. إنها مقرة صالحة لهذا الجنس البشري بكل ما يصلحه ويصلح له من الحيوية الروحية وسواها إسكانا وتمكينا مكينا متينا أمينا في ذلك المهد المهيد غير الوهيد ، بمعايش كأصلح ما يكون ، ولكن (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ربكم بذلك الإسكان والتمكين وتلكم المعايش ، حيث التمكين يعني إلى الإسكان ـ مكانا ـ مكانة الإقدار والتسليط ، بل هو أمكن من الإسكان ، فكما (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢ : ٣٦) كذلك (هُوَ

٣٩

الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩).

وقد يعني (مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى هذه الأرض وسائر الأرضين السبع ، أرض الجنة التي أسكن فيها آدم وزوجه ، و «كم» اعتبارا بأنهما الأصل الأول ، الحامل لكل الأنسال الإنسانية ، وسائر سكنة سائر الأرضين المكلفين كما لمحت لهم آية الطلاق (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ).

ف (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) في الدور الأول لآدم الأول ، ثم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) لما بعد من أدوار الأنسال في هذه الأرض البلية الاختبار بالاختيار ، كما و (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) لسائر المكلفين الساكنين في سائر الأرضين.

فليس ذلك التمكين ـ فقط ـ تمكين المكان ، بل والمكانة الحيوية المعاشة بتمكين كل الموافقات التي تسمح بحياة الإنسان عليها ، تمكينات متصلة فيها بما أودع الله لها من موافقات وخصائص ، وأخرى منفصلة بفصائل خاصة قاصدة بينها وبين الشمس والقمر وسائر الأنجم ، ودورتها حول الشمس كدوران الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة خاصة لهما في ذلك التداور ، وإلى كافة التمكينات في كرتنا الأرضية التي إن تعدوها لا تحصوها (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)!

لقد مكن الله أبوينا الأولين في الأرض ، ثم مكّن ويمكّن نطفنا في قرار الرحم المكين : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٨١ : ٢٠) ثم التمكين العام رحمانيا لكل الأجنة في قرار الأرض ، ثم تمكينات خاصة رحيميا لعباد بدرجاته على درجاتهم ؛ (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢٨ : ٥٧) وإلى تمكين ومكانة عامة : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) (٢٤ : ٥٥).

وهنا تصورات سخيفة تصوّر الكون عدوا للكائن الإنساني ، وتصوّر

٤٠