الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

في حقل المعرفة.

وليس من البعيد خفاء عورات الجسم عمن هو في بداية خلقه ولمّا يفتش عن جسمه وهو موارى بلباس الجنة الذي لا داعي لأهلها أن ينزعه ليكشف ما تحته المجهول لديه ، أم والمجهول أن تحته عورات ، حيث انشغلا بنعيم الجنة وجوار الرب والرحمة عما سواه ، حتى شغلهما الشيطان بما وسوس لهما وقاسمهما (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما).

وووري مجهول وارى ، فقد فاعلت رحمة الله واتجاههما إلى نعيم الجنة في ستر عوراتهما فلم يفتشا عنها.

«وقال» في وسوسته لهما (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) لأن فيها مضرة بكما ، أو معرّة عليكما (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) بذوقها تحولا بها عن الحالة البشرية إلى حالة الملكية (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) فيها.

وترى هذا (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) مادّة هي مادة لهما تمدّهما إلى ذلك الغرور من الغرور؟ فكيف مدهما إليه (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) وآدم هو فوق الملائكة إذ أسجدهم الله له ، وعرفه كما عرفهم بتلك الفضيلة الكبرى وقمة المنزلة؟.

علّهما لم ينغرّا إلّا بالغرور الثاني ، أم ـ فقط ـ بغرور المقاسمة بين ثالوثه كما تلمح له (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) بعد «وقاسمهما» أم ـ لو انغرا بغرور (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) فذلك لأن الملك خالد في الجنة مهما كان له تردد إليها في ذلك الخلود ، فمادة الغرور الأول هي «الخلود» سواء أكان ب (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أو بأن (تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) غير ملكين.

وبوجه آخر إن «ملكين» هنا مضمّنة معنى الملك إلى الملكية ، وقد يدل عليه (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (٢٠ : ١٢٠).

ف (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) عبارة أخرى عن (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ف (مُلْكٍ لا يَبْلى) عبارة عن (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) فلم يكن القصد ـ إذا ـ

٦١

مجرد الملكية ، بل والسلطة الملكية ، أن تكونا قادة في الجنة.

ثم وللملكية ميّزة عدم زحام النفس مع العقل إضافة إلى الخلود فقد يعني ب (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) زيادة هاتين الميّزتين إلى ميزة الإنسانية.

ومهما يكن من شيء فظاهر الغرور الذي مدهما إلى عصيان هو ثالث ثلاثة ، فإن ساحة آدم (عليه السّلام) بريئة عن تصديق الشيطان في تكذيب الرحمن ، فإن في تصديقه الأوّل والثاني تكذيبا لله حيث نهى وهدّد ، بخلاف الخلود عصيانا فغواية وزلة وضلالة وشقاء وعناء ، فلذلك :

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ)(٢١).

ولو كان لهذين الغرورين تأثير لما كان بحاجة إلى المقاسمة ، إذ لا مجال لها إلّا عند فقدان البرهان ، فلم يكن ـ إذا ـ في هذين برهان يقنعهما بغروره إياهما ، مهما كان لهما تأثير ما لذلك المد المديد المنتهي دوره فيها بما قاسمهما.

هنا «قاسمهما» مفاعلة ، دون «أقسم لهما» فعلا ، دليل تعاطي الإقسام بينه وبينهما ، بادئا منه كما هي قضية المفاعلة.

فقد بدء بالإقسام بالله لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فطلبا منه مؤكّد الإقسام ، فخيّل إليهما ـ بعد تمام المقاسمة بشروطها المرضية ـ كأن الله نسخ ما نهى إذ لم يكونا يظنان أن أحدا من خلق الله يقسم بالله كاذبا ، ولكن كان عليهما ألّا يصدقا الشيطان الذي استكبر على الله في تركه السجود له ، وكما الله عرّفه إيّاه مرارا وتكرارا (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) وكيف يعتمد على قيلة النسخ بغيلة الشيطان وهو عدوّ لله وعدو له ، وبالمآل (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢٠ : ١٢٣).

وقد يبقى هنا أن نتساءل جدنا الأوّل ، هب إنك ما غرّك (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) فكيف غرك بعد (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ)؟ فهل اعتبرت عصيان ربك نصيحة من الشيطان فالله نهاك ـ إذا ـ بخلاف النصح؟ وذلك كفر قاطع!.

٦٢

علّه في تلك المقاسمة المكيدة حاول ليثبت أن ذلك النهي منسوخ حيث فلّ حرّاس الشجرة عما حولها بعد ما احتفوا بها ـ كما في الخبر ـ فقاسمهما أنني ناصح لكما بما نصح الله حيث نسخ النهي ، ودليلا عليه تفرق الحرّاس!

ولكن كيف يعتمد آدم على ذلك التفرق ولا ينسخ قاطع النص إلّا بقاطع النص وليس فليس ، فالقادر المعلوم في هذا المسرح أن آدم انغر بغرور الغرور حيث لم يكن يحسب أن أحدا من خلق الله يقسم كاذبا بالله ، إضافة إلى انجذابه إلى الشجرة إذ قد تخلده في دار الكرامة ، فعلّ ربه نهاه عنها سلبا عنه هذه الكرامة إذ لا يليق لها ، فقد اقترف عصيانا ، لا كفرا كما يغل ، ولا ترك الأولى كما قيل فيما غيل دون أي دليل.

إذا فاحتمال أن آدم إنما انغر بغرور الغرور ، قضية المقاسمة واحتمال أن نهيه عن الشجرة يعني نفيه عن الخلود في دار القرب والكرامة ، فرجح القرب رغم النهي عن البعد إذا انتهى ، فهي معصية غير كبيرة إذ لم تضمن تكبرا على الله ، ولا تعمدا في اقتراف نهي الله ، وإلّا لكان مصيره مصير الشيطان ، إنما هو عصيان ـ فقط ـ للتخلف عن النهي ، ويصغره أنه كان بين مقاسمة وأمل للبقاء في دار القرب والكرامة.

ذلك الاحتمال وارد لا مردّ له ، كما لا مردّ لأصل عصيانه تخلفا عن النهي الصارم الحارم إياه عن هذه الشجرة.

فلا إفراط ـ إذا ـ بحقه أنه أتى بعصيان كبير يقارب عصيان الشيطان ، ولا تفريط أنه ترك الأولى ، بل هو عوان بينهما لا حول عنه إلى أحدهما.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٢٢).

فيا ويلاه من ذلك الأوان ببداية العصيان من أبوينا الأولين ، حيث «أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه ، وآمن فيها محلته ، وحذره

٦٣

إبليس وعدواته ، فاغتره عدوه نفاسة عليه بدار المقام ، ومرافقة الأبرار ، فباع اليقين بشكه ، والعزيمة بوهنه ، واستبدل بالجذل وجلا ، وبالاغترار ندما ، ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقاه كلمة رحمته ، ووعده المرد إلى جنته ، وأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية» (١).

«فدلاهما» أنفسهما الغرور بدلائه الثلاثة «بغرور» فأصبحا دلوين دلاهما بحبل الغرور كالأرشية في هذه الطوى البعيدة! بما وعدهما وقاسمهما (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) المنهية (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ـ الخفية ـ (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) حيث نزع عنهما لباسهما بما غرهما (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ..).

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢٣).

__________________

(١) نهج البلاغة (الخطبة ١ / ٢٨) وفيه «فلما مهد أرضه وأنفذ أمره اختار آدم (عليه السلام) خيرة من خلقه وجعله أول جبلته ، واسكنه جنته ، وأرغد فيها أكله ، وأوعز إليه فيما نهاه عنه ، وأعلمه أن في الإقدام عليه التعرض لمعصيته ، والمخاطرة بمنزلته ، فأقدم على ما نهاه عنه ـ موافاة لسابق علمه ـ فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجة به على عباده» (الخطبة ٨٩ / ٣ / ١٧٤).

وفي نور الثقلين ٢ : ١١ عن عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) من حديثه حول عصيان آدم وزوجه ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) «فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار ، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم ، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة» قال الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وقال عزّ وجلّ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

وفيه عن تفسير القمي روي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : لما أخرج الله آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل (عليه السّلام) فقال : يا آدم أليس الله خلقك بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وزوجك أمته حواء وأسكنك الجنة وأباحها لك ونهاك مشافهة أن لا تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم : يا جبرئيل ان إبليس حلف لي بالله انه لي ناصح فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كاذبا.

أقول : لمزيد الاطلاع على تفاصيل القصة راجع تفسير الآيات في البقرة.

٦٤

اعتراف بالظلم العصيان ، وتطلّب للغفران ، وإلا فورد الخسران ، وقد غفر لهما واجتبى آدم بعد ما تاب عليه وهدى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢١) ولكنه لم يرجعهما إلى جنته بتوبته :

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢٤).

هبوط جمعي يضم إبليس إليهما ويضمهما إلى إبليس ، فله هبوط حابط خابط ، ولهما هبوط عن الجنة إلى دار المحنة والبلية : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٣٨).

وهنا (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) دليل أن الهبوط كان من عل فوق الأرض ، فهو هبوط في المكان كما المكانة ، وأما (اهْبِطُوا مِصْراً) في أخرى ، فهو هبوط عن مكانة الدعة والراحة ، ولا يدل هذا الهبوط بقرينته القاطعة على أنه من أرض إلى أرض ، على أن «اهبطوا» أيضا هكذا وقرينته مضادة لتلك!.

والقدر المعلوم من العداوة في (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) هو المعلوم بين الشيطان والإنسان ، عداوة لا تزول فانها لا تزال بينهما قائمة طول زمن التكليف ، فلا تعني العداء بين الناس أنفسهم ، فانها مرفوضة وأحيانية ، وتلك العداء مفروضة وفي كل الأحيان ، اللهم إلا عداء ضمن عداء ، بما هو قضية ذلك العداء ، حيث «قل لعبادي يقول التي هي أحسن إن الشيطان ينزع بينهم» (١٧ : ٥٣).

وأما (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (٢٠ : ٢٣) فقد يعني هبوط قبيلي الشيطان والإنسان ، أم قبيل الإنسان ، والمحصور إذا فيهما قضية دار البلية والامتحان ، و «إن الشيطان ينزع بينهم» (١٧ : ٥٣).

وعلى أية حال (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٣٨) وهي بعد (قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١).

٦٥

فالهبوط الجمعي بعد ذكر الشيطان وآدم وزوجه ، إنه نصّ في هبوطهم جميعا دون ريب.

وهنا (مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) يعني حين الموت وحين قيامة الإماتة ، وهذه لمحة أخرى إلى مديد إنظار الشيطان أنه كان إلى هذه القيامة ، دون (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) خلافا لما تطلّبه ألا يموت مع الموتى.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥).

فأرض التكليف البلية ، والاختبار الإختيار ، هي المحيى والممات والمخرج إلى القيامة الكبرى ، سفرة مثلثة الجهات فيها.

وإلى هنا انتهت التجربة الأولى في حق الإنسان الأوّل بحقل الجنة ، وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى ، واستعد ـ إذا ـ لخصائصه الكامنة لمزاولة خلافته الأرضية عن الغابرين ، وللدخول في معركته المصيرية مع عدوه المعلن في بداية القضية ، فالعداوة مستمرة بينه وبين الشيطان ، ثم وبين بني الإنسان أنفسهم بنوازع شيطانية.

فلقد هبطوا إلى الأرض ، أرض الصراع الدائم والنزاع القائم ، بين محض الشر ، ومزدوج الاستعداد لكلا الخير والشر ، فانتهت الجولة الأولى تتبعها جولات وجولات على مدى هذه الحياة.

وإليكم على ضوء هذه الآيات الناصعة القاصعة الخطبة القاصعة لعلي أمير المؤمنين (عليه السّلام) حيث يعرض فيها مداخل الشيطان ومخارجه من الإنسان :

«الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء ، واختارها لنفسه دون خلقه ، وجعلها حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على

٦٦

من نازعه فيهما من عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) اعترضته الحمية ، فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لأصله ، فعدو الله إمام المتعصبين ، وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وأدرع لباس التعزز ، وخلع قناع التذلل.

ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره ، ووضعه الله بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعدّ له في الآخرة سعيرا ، ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياءه ، ويبهر العقول رواءه ، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل ، ولو فعل لظّلت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن الله سبحانه ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وإبعادا للخيلاء منهم ـ

فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وقد كان عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كبر ساعة ـ فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلّا! ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا ، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين.

فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب وقال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قذفا بغيب بعيد ، ورجما بظن غير مصيب ، صدّقه به أبناء الحمية ، وإخوان العصبية ، وفرسان الكبر والجاهلية ، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم ، واستحكمت الطاعية منه فيكم ، فنجمت الحال من السر الخفي إلى الأمر

٦٧

الجلي ، استفحل سلطانه عليكم ، ودلف بجنوده نحوكم ، فأقحموكم ولجات الذل ، وأحلّوكم ورطات القتل ، وأوطأوكم إثخان الجراحة ، طعنا في عيونكم ، وحزّا في حلوقكم ، ودقّا لمناخركم ، وقصدا لمقاتلكم ، وسوقا بخرائم القهر إلى النار المعدة لكم ، فأصبح أعظم في دينكم جرحا ، وأورى في دنياكم قدحا ، من الذين أصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متألبين ، فاجعلوا عليه حدّكم ، وله جدكم ، فلعمر الله لقد فخر على أصلكم ، ووقع في حسبكم ، ودفع في نسبكم ، وأجلب بخيله عليكم ، وقصد برجله سبيلكم ، يقتنصونكم بكل مكان ، ويضربون منكم كل بنان ، لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة في حومة ذل ، وحلقة ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء ، فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية ، وأحقاد الجاهلية ، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزعاته ونفثاته ، واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم ، وإبقاء التعزز تحت أقدامكم ، وخلع التكبر من أعناقكم ، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده ، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا ورجلا وفرسانا ، ولا تكونوا كالمتكبر على ابن امه من غير ما فضل جعله الله فيه ، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشيطان في أنفه من ربح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة ..(الخطبة ٢٣٤).

ذلك ، وقد يعني «ملكا» تعبيرا عن إبليس عبادته الملائكية وكونه فيهم آلافا من السنين لحد شمله أمر الملائكة : (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فلا ينافي ـ إذا ـ (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨ : ١٥).

(يا بَنِي آدَمَ قَد انَزَلنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُواري سَواتِكُمْ وَريشاً ولبَاسُ التَقْوى ذلِكَ خَيرُ ذلٍكَ مِن آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذّكَرَّوُنَ

٦٨

يَا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً

٦٩

يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

خطابات ل «بني آدم» ككل ، دون اختصاص بالأمة الأخيرة ، حيث المسرح مسرح حياة الإنسان ككلّ منذ البداية حتى النهاية ، فالتعلق بمثل (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ..) بمواصلة الرسالة بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم الدين ، تعلّق قاحل وتعلّل جاهل من غرقى الأهواء الطائشة ، فلا تعني (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) هنا إلّا ما عنته فيما خوطب به الأبوان الأولان : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٣٨) خطابات أربع كأركان أربعة لهندسة البنيان الإنساني بسلبيات وإيجابيات تختصر وتحتصر في كلمة التوحيد : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

ففتنة الشيطان بمختلف مظاهرها تنفيها «لا إله» في كل حقول الفتن ، ثم (يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ) كأصل ، و (لِباسُ التَّقْوى) و «القسط» و (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وما أشبه ، يثبتها «إلا الله» فقد رفع صرح الإنسانية أصولا وفروعا ب (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

هذه الآيات هي معرض لوقفة طائلة هائلة بين بني الإنسان والشيطان ، التي بانت طلائعها بينه وبين أبوينا الأولين ، وقفة تحذير من أساليب الشيطان ومداخله ومخارجه. وكشف خطط له وخطوات يخطو بها إلى دركات الإلحاد والإشراك.

وهنا عرض لواقع من الجاهلية الجهلاء أنهم كانوا ينسبون فاحشتهم

٧٠

إلى الله ، كطوافهم بالبيت مكاء وتصدية ، وبنساء عاريات كأن عراهن من شعار الطواف الذي أمر به الله وما أشبه من شعارات جاهلية خالية عن شعورات وآداب إنسانية فضلا عن إيمانية :

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(٢٦).

هنا ذكر نعمة جسدانية هو ذكرى لأخرى روحانية هي التقوى ، حيث تستر كل عصيان وطغوى عن كيان الإنسان ككلّ ، تحذيرا حذيرا نذيرا عما تورط فيه أبوانا الأولان من التعري من لباسي الجسم والروح حيث الشيطان بإغوائه إياهما (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ..).

وترى (إِنَّا أَنْزَلْنا ..) تعني نازل السماء؟ وليس (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) من نازل السماء! ولا أنه تعالى كائن السماء حتى تصبح عطيته نازلة السماء!.

إنه إنزال من سماء الرحمة الربانية مكانة ، لا مكانا ، وإن كان بالإمكان ـ أيضا ـ قصد المكان حيث اللباس والريش هما من نابتات الأرض بما ينبتها ماء السماء ، كما «أنزل لكم ثمانية أزواج» (٣١ : ٦) (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٥٧ : ٢٥) وما أشبه ، ولكن عدم ذكر السماء فيها وفي أضرابها قد يختص معناه بسماء الرحمة ، وإن ضمن هذه السماء ، فكل الرحمات نازلة من خزائنه كما يريد من أرضيات أم سماويات : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١) فقد أنزل (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) بسائر ما أنزل من غيبه العالي إلى الدنو الداني ، وهذا هو معنى الإنزال.

ثم (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) هو الملابس مواضع السوآت ، الملاصق لها ، وأمّا ريشا» فلباس فوق ذلك اللباس هو زينة لنا.

ولأن الروح هو أفضل جزئي الإنسان كونا وكيانا ، فلباس الروح خير من لباس الجسم : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) كما وهو أشمل من لباس

٧١

الجسم حيث يشمله إلى الروح ، فمظاهر التقوى في ملابس وسواها ، كبواطنها ـ كلها ـ يشملها (لِباسُ التَّقْوى).

و «التقوى» الطليقة هي الاتقاء عن كلما يدنس الإنسان جسما أو روحا ، فلباسها يشملهما دون إبقاء كما تشمل القوى كل كيان الإنسان.

لذلك ف «ذلك خير» إشارة إلى بعد المحتد وعلوّه في (لِباسُ التَّقْوى) فأين ـ إذا ـ لباس من لباس؟.

«ذلك» اللباس والريش (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالات على واجب الستر عن السوءة (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) واجب ستر عن السوآت الروحية ، ومن الفارق بين سوآت الجسم والروح أن لباس الجسم وريشه يستران واقع سوآته عن الأنظار دون إزالة ، ولباس التقوى يزيل كل سوآت الروح ورذائله العلمية والعقيدية والخلقية والعملية أماهيه ، كما وأن اللباس الساتر لعورات الجسم هو أيضا من لباس التقوى ، وقد أبدى سوآت أبوينا الأولين ترك التقوى ، فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عرى الجسد والحياء منه ، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه ولا يهمه أن يتعرى أو أن يدعو إلى العرى ، والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس الساتر صيانة لإنسانيتهم من التدهور إلى عرف البهائم العارية العورات (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أنهم خارجون عن حياة الحيوان إلى حياة سامقة عالية إنسانية.

وعبارة أخرى عن لباس التقوى «العفاف ، إن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عاريا من الثياب ، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسيا من الثياب» (١).

وإنما سمى لباس الزينة ريشا تشبيها بريش الطائر حيث يستر جملته

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٥ في تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الآية «فأما اللباس فالثياب التي تلبسون واما الرياش فالمتاع والمال ، واما لباس التقوى ..».

أقول : هنا بدل «الريش» وهو لباس الزينة «الرياش» وهو المتاع ولعله سهو من الراوي ـ

٧٢

ويزيّنه ، ولأن الإنسان هو أيضا طائر في حياة التكليف بلباس التقوى وريشها ، عارجا معارج الكمال ، وقد «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لبس ثوبا جديدا قال الحمد لله الذي كساني من الرياش ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس» (١).

وقد تلمح «وريشا» في مقام الامتنان لاستحباب ملابس الزينة ، اللهم إلّا ما استثني من تزين الرجال بالذهب والحرير أو تزين النساء لغير المحارم ، وبأحرى ريش التقوى وهو التقوى عن المرجوحات ، فالتقوى المفروضة للروح كاللباس المفروض للبدن ، ثم التقوى المحبورة للروح هي كريش البدن.

ذلك ، ويعاكسه الجاهلية المتحضرة! عفاف الستر إلى تبرج العرى ، وهي من الحضارات الحيوانية التي تعرض في معرض هذه الجاهلية باسم الزينة والحضارة والمودة ، حملة فاجرة داعرة إلى العرى البدني كما النفسي يصبح الإنسان مكشوف العورتين ، بادي السوأتين ، تدعو إليه أقلام سامّة وسائر أجهزة الإعلام العاملة أو العملية لشياطين

__________________

ـ أو مضروب عرض الحائط لمخالفة الآية لفظا ومعنى ، وما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قرء «رياشا» موقفة كموقفه كما في الدر المنثور ٣ : ٧٦ عن عثمان سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرء «ورياشا» ولم يقل «وريشا» أقول : ولا يناسب رياشا اللباس.

(١) الدر المنثور ٣ : ٧٦ ـ أخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... وفيه أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد عمل خيرا أو شرا إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه وتصديق ذلك في كتاب الله (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ).

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال رأيت عثمان على المنبر قال : يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : والذي نفسي محمد بيده ما عمل أحد عملا قط سرا إلا ألبسه الله رداءه علانية إن خيرا فخير وان شرا فشر ثم تلا هذه الآية «ورياشا» ولم يقل «وريشا» أقول : هذا كسابقه في موقفه من «رياشا» ، وحين يعني الرياش جمع الريش فذلك تفسير بجمع المعنى وليس نقلا للفظ الآية.

٧٣

الصهيون! ف :

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧).

ذلك ، فمن فتن الشيطان في بني الإنسان نزع اللباس الساتر لعورات الجسم والروح ، إسقاطا لمحتدهم الإنساني إلى هوّات ساحقة ماحقة لكيلا يبقي على أثر من حالتهم الإنسانية وهالتها المتميزة في أرواحهم وأجسامهم كما البهائم وأضل سبيلا.

وهنا «لا يفتننكم» نهي باتّ مؤكد من تلك الفتنة الهاجمة على بني آدم ، الناجمة منه على آدم ، كتجربة مرة مرّت لمرة سابقة ، يجب أن تكون درسا لانسيال آدم إلى يوم الدين.

ذلك وإن هذه الفتنة لبني آدم أبلى منها لآدم ف (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) ولكنه كان يراه بشخصه حيث عرفه الله إياه : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (٢٠ : ١١٧) فو الله إن عدوا يراك من حيث لا تراه لشديد المؤنة إلّا من عصم الله ، فلو أن الصيد يرى الصائد لما كان يصاد كما يصاد ، فبنوا آدم هم كلهم مصائد الشيطان الخفي بمكائده من حيث لا يرونه رأي العين البصر ، وإن كانوا يرونه رأى البصيرة فطرة وعقلية ومواصفة على ضوء الوحي.

ذلك ، وفي «لا يفتننكم» تحريض على معرفة الشيطان بأحواله وأحباله ، بأفكاره وأفعاله ، لكي نعرفه ببصائرنا جبرا لما نجهله بأبصارنا ، فالذين يؤمنون هم يعرفونه فلا يفتنون : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

وكما أن كلمة التوحيد تفرض في سبلها : «لا إله» معرفة كل إله باطل لنرفضه ، ثم معرفة الله لنفرضه ، كذلك في دار الاختبار الإختيار علينا أن نعرف الشيطان بشيطناته حتى لا نوقع في فخاخه ، ومن ثم الطاعة الخالصة غير الكالسة ولا الفالسة لله وحده.

٧٤

أجل (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) حيث «اجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتم عن عبادته» (الخطبة ١) فقد «أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله ، بهم سارت أعلامه ، وقام لواءه» و «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا ، واتخذهم له أشراكا ، فباض وفرخ في صدورهم ، ودب ودرج في حجورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزين لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه».

فالبصيرة الحاصلة على ضوء الفطرة والعقلية السليمة والوحي هي التي تطرد الشيطان ، «ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ورجله ، وإن معي لبصيرتي ما لبست على نفسي ولا لبس علي» (١٠).

فلقد «حذركم ـ الله ـ عدوا نفذ في الصدور خفيا ، ونفث في الآذان نجيا ، فأضل وأردى ، ووعد فمنى ، وزين سيئات الجرائم ، وهون موبقات العظائم ، حتى إذا استدرج قرينته ـ النفس الأمارة ـ واستغلق رهينته ، أنكر ما زين ، واستعظم ما هون ، وحذر ما أمن» (٨١) «إن الشيطان يسني لكم طرقه ، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزعاته ونفثاته» (١١٩).

ذلك و (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١٦ : ٩٩).

وليس الإنسان أيا كان ـ ومعه أي كائن كان ـ ليعيش دون أية ولاية ، فهو بين ولاية الشيطان ، وولاية الرحمن ، فالخالط بينهما مشرك ، وولي الشيطان ـ فقط ـ ملحد ، وولي الرحمن موحد.

ذلك ، وكيف بإمكان الشيطان أن (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) وقد ألبسهما الله إياه؟ إنه بما ولّاهما بغرور فاغترابه ، بذلك قد سبب تلك العقوبة من الله لهما أن نزع عنهما لباسهما وأخرجهما من الجنة ، فنزع اللباس والخروج من الجنة بين زوايا ثلاث ، من الشيطان حيث أزلهما ، ومنهما حيث زلا ، ومن الله إذ عاقبهما بما زلّا وضلّا فلم يحل بينه وبينهما

٧٥

فيما زلّا ، وترى إن رؤية الشياطين وسائر الجن مستحيلة لقبيل الإنسان؟ وقد يرون منهم من نفذت بصيرته ، أم كان منهم في مسالكهم!.

هنا (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) لا تنفي أصل الرؤية ، فإنما تنفي حيث الضلالة ككل ، حيث يأتيكم شياطين الجن والإنس من حيث النصح وكما قال : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) مهما عرفوا حيث شخصه مهما قلت.

فالأكثرية المطلقة ممن يستنزله ويستضله الشياطين هم الأغفال الذين يستغفلون ، فيؤتون من حيث «لا يرونهم» قصورا عن تقصير ، ف «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو أن الحق خلص لم يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الله سبقت لهم من الله الحسنى» (١).

إذا ف «الشياطين» هنا يعم شياطين الإنس إلى شياطين الجن ، مهما كان عدم الرؤية في الآخرين يعم حيث الضلالة إلى رؤية أشخاصهم وهذا أضل وأشجى ، وترى (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ ..) يجعله تعالى سببا للإضلال؟ كلّا ، فإنه جعل تكويني وترك للحاجز بينهم وبين الذين لا يؤمنون ، دون دفع أو تحريض ، وهكذا (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣) (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (٤١ : ٢٥) واختيار المكلفين في دار البلية والاختبار من قضاياه هدى النجدين ، وفسح المجال لهما أمام العالمين : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) بفارق أن الله هادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤٧ : ١٧).

وأما الذين ضلوا فيذرهم في طغيانهم يعمهون ، ويخلي بينهم وبين الشياطين يفعلون بهم ما يشاءون : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السّلام).

٧٦

ذلك ، ومن ولاية الشياطين للذين لا يؤمنون معاكسة الحقائق ، إراءة للفاحشة الطائشة أنها بأمر الله ، وللطاعة الربانية أنها بأمر الشيطان :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢٨).

هنا تبرير أول لافتعال الفاحشة : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) وسنة الآباء القدامى حجة على الأولاد ، وتبرير ثان زعم أنه يؤكّد صالح ذلك التقليد الأعمى : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وذلك كمثل طوافهم ـ ولا سيما النساء (١) عراة ، وصلاتهم عند البيت مكاء وتصدية وما أشبه ، حيث كانوا يعتبرونها من العبادات المأمور بها!.

وكيف؟ (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٦ : ١٤٨) ـ (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) (١٦ : ٣٥).

تأويل عليل لمشيئة الله خلطا لتكوينيتها بتشريعيتها ، أن عقائدنا وأعمالنا الشركية ليست لتتخلف عن مشيئة الله ، فإن الله غالب على أمره؟ رغم أنه يشاء تكوينا ما لا يشاءه تشريعا قضية الابتلاء بالاختيار ، ولو أنه يشاء كلما يحصل من عباده تشريعا ، كما يشاءه تكوينا ، لتناقضت المشيئتان التشريعيتان! بحق الصالحين والطالحين.

«قل» لهؤلاء الأوغاد المناكيد : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) في شرعته ، مهما لا يمنع عنها تكوينا في محنته ، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) سواء بصبغة علمية فلسفية في صيغة الجبر ، أم جاهلية فوضى جزاف دون أي سناد مهما كان بصيغة علمية مرفوضة كهذه.

وقد يتعلق أمثال هؤلاء المجاهيل ـ كافرين أو مسلمين ـ بأمثال (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٧ : ١٦) بتخيّل أن (فَفَسَقُوا فِيها) هو فسق تحت الأمر ، غفلة أو تغافلا عن أن الفسق عن الأمر هو التخلف عنه ، إذا ف (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بما نأمر (فَفَسَقُوا فِيها) عن أمرنا تخلفا عنه ، كما و (إِنَّ اللهَ لا

__________________

(١) وقد كن ينشدن قولهن في طوافهن : اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فما أحله.

٧٧

يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ).

وتراهم كانوا ينسبون كل فاحشة يفعلونها إلى الله؟ نعم ، في تأويلهم العليل للمشيئة الربانية ، ولا ، في غير ذلك التأويل (١) ، و «فاحشة» دون «فواحش» أم «كل فاحشة» علّها لشمول الأمرين.

وتراهم يعتبرون ما يفعلونه من «فاحشة» فاحشة ، ثم يبرّرون موقفهم منها بذلك نعم ، في التأويل الأول ، أم لأنها بأمر الله فليست ـ إذا ـ فاحشة ، ولا ، في التأويل الثاني اللهم إلّا من أرذلهم.

ثم هؤلاء الناكرون للوحي كيف يقولون (وَاللهُ أَمَرَنا بِها)؟ إنه في التأويل الأول قولة فلسفية خيّلت إلى أهليها ، وفي الثاني فرية جاهلة على الله يجمعها القول على الله بغير علم : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(٢٩).

«القسط» هنا هو العدل إلى الفضل ، فإن منه فضلا ومنه ظلما ، إعطاء لقسط فاضل أم أخذا لقسط ، فالقسط العدل مأمور به فرضا والقسط الفضل ندبا ، ومن المجموع (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وهو السجدة بزمانها ومكانها واتجاهها (٢) ، وإقامة الوجوه هي لله عند كل

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٧ في أصول الكافي عن محمد بن منصور قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ..) قال فقال : هل رأيت أحدا زعم أن الله أمرنا بالزنا وشرب الخمر وشيء من هذه المحارم؟ فقلت : لا ، قال : ما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرهم بها؟ قلت : الله اعلم ووليه ، فقال : فإن هذا في أئمة الجور ادعوا ان الله أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله بالايتمام بهم فرد الله ذلك عليهم فأخبر انهم قد قالوا عليهم الكذب وسمى ذلك منهم فاحشة ، أقول : هذا من باب بيان مصداق مختلف فيه حينذاك بين مصاديق الوجه الثاني من (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).

(٢) المصدر في تهذيب الأحكام من أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال : هذه القبلة.

٧٨

مسجد بكل الوجوه ، ظاهرة وباطنة ، ثم «وادعوه» : الله ـ عند كل مسجد (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : الطاعة والعبادة ، دون إشراك به في وجه من الوجوه ومنها الرئاء ، فإنه تعالى (كَما بَدَأَكُمْ) لا سواه «تعودون» إليه لا سواه ، ويا لها من لقطة واحدة عجيبة ، قفزة تجمع بين نقطة البدء في الرحلة الكبرى ، ونقطة الانطلاق والنهاية.

ثم لأن «كل مسجد» تشمل مربع : السجدة ، بزمانها ، ومكانها واتجاهها ، فالأمر ـ إذا ـ يحلق عليها كلها ، مما يلمح صارحة برجاحة أم فرض الصلاة في المساجد ، ومكية الآية ـ زعم أن الكعبة في العهد المكي لم يكن قبله بعد ، ولم تكن في مكة مساجد آنذاك ـ لا تمنع عن الأمر لأداء الصلاة في المساجد ، حيث الكعبة المباركة كانت هي القبلة في العهد المكي كما المدني إلّا شطرا قليلا في ثاني العهدين (١) ثم كلّ مكان متخذ للصلاة مسجد لمتخذه وإن لم يكن مسجدا عاما ، وكما أمرنا أن نخصص أمكنة خاصة في بيوتنا للصلاة ، وذلك عند إعواز المساجد الرسمية أم عسر الوصول إليها ، ثم الآية المكية ليست لتحصر حكمها بالعهد المكي ، كما المدنية لا تخص المدنيين ، فالقرآن ككلّ شرعة عالمية تتخطى حواجز الزمان والمكان ، مهما كان المخاطبون الأولون المكيين والمدنيين : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

وفي رجعة تفصيلية إلى ذلك المقطع اللّامع من لوامع الآية نتساءل : هل المشابهة هنا بين البدء والعود واقع؟ والبدء ولادة من الأرحام ابتداء (بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) والعود لا يعرف صلبا ولا رحما ولا أية ولادة!.

إنه في وجه المشابهة تشابه بين بدء الإنسان الأول حيث بدأنا به ، وبين العود ككلّ ، فكما خلقنا الله أول مرة من تراب ، كذلك يعيدنا من تراب (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) مرة أخرى.

وبوجه ثان «كما بدأكم» إنشاء من تراب كالإنسان الأوّل ، أم انتشاء الأنسال كسائر الإنسان ، ولم يعي بذلك الخلق الأول ، كذلك «تعودون»

__________________

(١) لمعرفة التفصيل راجع البقرة على ضوء آيات القبلة.

٧٩

بنفس القدرة ، و (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). وقد يعني التشبيه كلا الأمرين ، تشبيها في القدرة بأولوية ، وتشبيها في المنشأ بين البدء والعود ، ف (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٢١ : ١٠٤) ، (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١٠ : ٣٤) (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢٩ : ١٩)؟.

فالقادر على البدء ـ وهو واقع لا مرد له ـ هو قادر ـ بأحرى ـ على الإعادة ، كما هي الموعودة المتوقعة ، وهما متماثلان في جذور الخلق الإنشاء ، مهما اختلفا فيما يختص بكلّ واحد قضية نشأته.

إذا فلكلّ منا ترابه المخصوص به دون الزائد الملحق المدسوس من أجزاء آخرين ، أم أجزاء غير أصيلة في تكوّنه ، فكما أن كلّا منا خلق من خاصة نطفته أول مرة ، فهو العائد بها مرة أخرى مهما التحق بها ما يعيش كلّ معها طول عمره دون فصال ، ولكن الأجزاء الأخرى العائشة معنا ردحا ومع الآخرين ردحا آخر أم على طول الخط ، إنها ليست هي عائدة مع كلّ ، بل هي عائدة لأشخاصها ، أم بأشخاصها عن أصول الأبدان العائشة دوما معها.

وبوجه ثالث كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يحشر الناس حفاة عراة غرلا (١) وقال علي (عليه السّلام): فجاءوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة ، والدار الباقية كما قال سبحانه : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (الخطبة ١١٠).

ذلك ، وقد تعني ـ فيما عنت ـ أن الآخرة هي مثال الدنيا ، فكما بدأكم فريقين بما عملتم مهتدين وضالين ، كذلك تعودون مهتدين وضالين دونما خلط ولا فوضى جزاف ، ويؤيده :

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نقلا عن : بخ ـ ك ٨١ ب ٤٥ ، مس ـ ك ٥١ ح ٥٦ ـ ٥٨ قا ، تر ـ ك ٣٥ ب ٣ ، ل ٤٤ سورة ١٧ ح ٧ وسورة ٢١ ح ٤ وسورة ٨٠ ح ٢ ، نس ـ ك ٢١ ب ١١٧ و١١٨ ، مج ـ ك ٣٧ ب ٣٣ ، مى ـ ك ٢٠ ب ٨٢ ، حم ـ أول ص ٢٢٠ و ٢٢٣ و ٢٢٩ و ٢٣٥ و ٢٥٣ و ٣٩٨ قا ، ثالث ص ٤٩٥ ، سادس ص ٥٣ و ٨٩ ، ط ـ ح ٢٦٣٨.

٨٠