الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

تستوجب شكر النعمة والحذر من البطر واتقاء مصير الغابرين ، ولكن لا حياة لمن تنادي!.

وهنا من مكائد المكذبين استجوابهم المؤمنين بصالح ، باستكبار واستنكار تهديدا وتخويفا : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) وهم على استضعافهم يجيبونهم بكل هدوء وجرأة إذ سكب الإيمان بالله قوة في قلوبهم وثقة في نفوسهم واطمئنانا في منطقهم فلا يخافون إلا الله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ثم هم أولاء : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وكأن كفرهم سندا لكذب الرسالة ، متّبع بين المستضعفين ، ومن خلفيّات استكبارهم أمام صالح والمؤمنين تضعيفا لساعد الإيمان ومساعده (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) فعقر الناقة وهو الاستئصال في العمق حيث لا يبقى على أثر إمحاء للناقة عن بكرتها ـ إنه عقر ـ بزعمهم ـ لآية ربانية ، فإذا زالت فقد زال كيان الرسالة بواجب إتباعها ف (عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) استئصالا لرسالته باستئصال وعده بزعمهم فاستأصلوا هم بذلك الاستكبار الاستدبار (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) : ساقطين على وجوههم وركبهم بكل الوجوه ، خامدين خاملين لا حراك لهم ، فإن أصل الجثم هو السكون والخمود ، فقد خمدت نيرانهم وسكنت حركاتهم.

وقد يتبين من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) أن لم يؤمن من مستكبريهم أحد ، وانما آمن البعض من مستضعفيهم ، وكما هو طبيعة الحال في كافة الرسالات الإلهية أن المؤمنين هم من المستضعفين حيث يرونها تكفل حقوقهم وتظل عليهم ظلالها.

ذلك ولم يعقر الناقة إلّا واحد حيث (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها) (٩١ : ٥) وقد نسب عقرها إلى جمع الكافرين حيث شاركوه في البعث والتصميم في الصميم. وقد يجمع في هذه النسبة بين الذين بعثوا أشقاهم ، والذين

٢٠١

رضوا أم لم ينهوه وبين الذي عقرها ، وكما في قصة السبت حيث (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) (٧ : ١٦٥) فبقي الباقون تحت وطأة العذاب ، سواء الذين نهوا الناهين عن السوء أو الذين تزكوا النهي عن السوء ، مهما كانت عذاباتهم مختلفة.

ولقد قرر لهم ولها شرب عادل حيث كان ماءهم : «ثمود» : قليلا : (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١٥٨).

ذلك (.. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) بعد جثومهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).

وتراه كيف خاطبهم وهم جثوم؟ خاطبهم حيث يسمعون بعد موتهم وذلك لهم تحسر بالغ ، وكما خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلى بدر فقيل تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب.

أم وخاطبهم وهم على أشراف جثومهم ، وقد تشهد له (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ولكن الكافر يموت على خصائله ، فكما كان قبل موته لا يحب الناصحين كذلك بعد موته مهما تطلب الرجوع لكي يعمل صالحا غير الذي كان يعمل ، فإنه كاذب على أية حال ، في كل حل وتر حال.

ذلك ، وحب الناصحين دليل على استقامة الفطرة وسلامة السبحية مهما كان صاحبها ضالا ولمّا يجد هاديا يهديه.

لقد «أخذتهم الرجفة» و «الطاغية» و «الصيحة» حسب مثلث التعبير في آيات ثلاث ، والجمع هو أن هذه «الصيحة» كانت «طاغية» لحد خلفت «الرجفة» المدمرة المزمجرة وكما يروى «فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل (عليه السلام) فصرخ عليهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم وقد كانوا في تلك

٢٠٢

الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم فماتوا أجمعين في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ثاغية ولا راغية ولا شيء إلا أهلكه الله فأصبحوا في دارهم جاثمين ، ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقتهم أجمعين» (١).

وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨٥)

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(٨٤).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٩ في روضة الكافي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) حديث طويل يذكر فيه قوم صالح كما سيأتي تفصيله في تفسير سورة هود ، يقول في آخره : فلما كان ..

٢٠٣

يأتي «لوط» في (٣٧) موضعا في (١٤) سورة ، وهنا إجمال عن دعوته بمحورها السلبي : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) مما يدل على أن هذه النكرى لم يسبق لها نظير في زمن أي بشير ونذير أن تصبح عادة متجاهرة متعوّدة كما الزواج ، في غابر الجاهليات والهمجيات ، اللهم إلّا في جاهلية القرن العشرين حيث تمضي كمادة قانون في البارلمان البريطاني!.

ذلك المراس لفاحشة اللواط بكل حراس واكتراس ، المنقطع النظير في تاريخ الإنسان ، مما جعل محور التنديد في هذه الرسالة الفرعية استنكارا لها وحوارا متواصلا بشأنها كما نجدهما بطيات آياتها.

وهنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) يعني الإسراف الذي ينددهم به لوط في اللواط ، تجاوزا حد الفاحشة إلى ما لا حد لها ، حيث يريقون الشهوة ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب (١) ، فهي مجرد شهوة شاذة متخلفة ،

__________________

(١) لقد فصلنا القول حول حرمة إتيان النساء من أدبارهن على ضوء قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٢ : ٢٢٣) وهذا هو الذي أمركم الله سماحا لأنه بعد حظر حيث وعد قبلها : «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ» (٢٢٢) وأوردنا متواتر الأثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان المأتية من دبرها هي اللوطية الصغرى ، ومما ورد في ذلك ما في الدر المنثور ٣ : ١٠٠ ـ أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي (عليه السّلام) انه قال على المنبر : سلوني ، فقال ابن الكوا : تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال علي (عليه السّلام) : سفلت سفل الله بك ألم تسمع إله قوله (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ). ورواه عنه (عليه السّلام) في تفسير العياشي عن يزيد بن ثابت ، أقول : فاحشة إتيان الرجال من أدبارهم لا تعني إلا الإفراغ في غير موضع الإخصاب ، فهي محرمة في النساء كما في الرجال مهما اختلفت دركات الفحشاء فيها ، وهكذا المساحقة لأنها عملية غير مخصبة وكما أخرجه في الدر المنثور عن أبي حمزة قالت قلت لمحمد بن علي (عليهما السّلام) : عذب الله نساء قوم لوط بعمل رجالهم؟ قال : الله أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، أقول : وهكذا العادة السرية فإنها في غير إخصاب ، ولا ينافي في ذلك حل ملاعبة النساء حين تمني لأنها في طريق إتيانهن ، كما وأن الإفراغ منهن ما لم يكن لغرض انقطاع النسل مسموح حيث الباب باب الإخصاب وليس يجب الإخصاب من بابه على الدوام ، ـ

٢٠٤

غريبة عن الفطرة الإنسانية بل والحيوانية.

تلك جاهلية في القرون الغابرة ، وإذا نحن بجاهلية القرن العشرين في أوروبا وأمريكا حيث ينتشر فيهما وما أشبه ذلك الانحراف الانحراف الجنسي الشاذ انتشارا ذريعا دون أي مبرر إلا الإباحية الطليقة المطبقة.

__________________

ـ إنما الممنوع انقطاع النسل كما في عيون الأخبار في باب ما كتب به الرضا (عليه السّلام) إلى محمد بن سنان وعلة تحريم الذكران للذكران والإناث للإناث لما ركب في الإناث وما طبع عليه الذكران ، ولما في إتيان الذكران الذكران والإناث الإناث من انقطاع النسل وفساد التدبير وخراب الدنيا.

وفي الدر المنثور حول حرمة اللواط عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن من أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط ، وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله قيل من هم يا رسول الله؟ قال : المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة والذي يأتي الرجل.

وفيه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لعن الله سبعة من خلقه فوق سبع سماوات فردد لعنته على واحدة منها ثلاثا ولعن بعد كل واحدة لعنة لعنة ، قال : ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط ملعون من أتى شيئا من البهائم ملعون من جمع بين امرأة وابنتها ملعون من عق والديه ملعون من ذبح لغير الله ملعون من غير حدود الله ملعون من تولى غير مواليه ، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل عمل قوم لوط فارجموا الفاعل والمفعول به ، وعن عائشة أنها رأت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حزينا فقالت يا رسول الله وما الذي يحزنك؟ قال : شيء تخوفته على أمتي أن يعملوا بعدي عمل قوم لوط.

٢٠٥

ومن الجاهليات المتحضرة التي تبيح ذلك الشذوذ الجنسي هي دعوى عريضة توجهها الصهيونية العالمية : أن احتجاب المرأة هو الذي ينشره؟ ولكن شهادة الواقع تعكس الأمر أن خلاعة النساء وتعريهن مما يشجع على ذلك الشذوذ ، ففي أوروبا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الطليق بين الجنسين ، يتسافدون كما تسافد البهائم وليس هناك أحد يقول لأحد مه مه.

ثم نرى أن فاحشة اللواط يرتفع معدلهما بارتفاع معدل فاحشة الزنا بحرية الجنسين الطليقة ، لحد تجاوزت إلى حرية الاكتفاء لكل جنس بجنسه ، ذكر مع ذكر وأنثى مع أنثى ، بل ومع الحيوان أيضا ، ومن أراد واسع الاطلاع على تلك الحرية البشعة فليقرأ «السلوك الجنسي عند الرجال» و «السلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي.

ذلك ، ولكن الأجهزة الدعائية المضللة لا تزال تردّد هذه الأكذوبة : أن العادة السرية واللواط وما أشبه مسنودة إلى حجاب المرأة ، لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون ووصايا مؤتمرات للمبشرين من دور دائر مائر للبربرية الجنسية دون حدود.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) وهنا يصبح التطهر سببا لإخراج المتطهرين من قريتهم حتى يخلو جوها للملوثين الدنسين ، وذلك منطلق الجاهلية في كل حين ، من الجاهلية الغابرة إلى جاهلية القرن العشرين ، حيث تطارد المتطهرين كيلا تراهم يخالفونهم في انغماسهم وانطماسهم في خضم الشهوات والمنكرات ، ليتم الجو ويطم ما هو يطلبونه من المستنقعات العفنة.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) من هذه القرية القذرة (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) القذرين ثم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) من العذاب التباب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا ثمرات الحياة وقطعوها قبل

٢٠٦

إيناعها فأفسدوها عن بكرتها ، وهنا تطوى صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين ، جزاء لهم وفاقا وتبصرة للمتبصرين ، ثم :

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ

٢٠٧

لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ

٢٠٨

آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)

٢٠٩

هنا آيات تسع تتحدث عن رسالة شعيب وما واجهه به قومه وما نقم الله به منهم (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ).

يذكر شعيب في إحدى عشر آية بست سور ، وهنا تفصيل أكثر وبيان أوفر لرسالته ببيعته وملابساته ، وشعيب هذا من الرسل الإبراهيميين وقد زوج إحدى ابنته موسى (عليه السّلام) حيث فر إلى مدين وبقي معه عشر سنين ثم (جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى).

والرسالة الشعيبية كانت محصورة في مدين وهي قرية صغيرة يروى أنها «لا تكمل أربعين بيتا» (١). ولكنها قد تنافي (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ)(٨٧) حيث الأربعين ليست كثيرة لأهل قرية ، اللهم إلا أن تعني «البيت» القبيلة التي قد تكون من مآت الأفراد.

ثم في أصحاب الأيكة : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ. قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ... قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١٧٦ ـ ١٩٠).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥١ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) حديث طويل يقول في آخره : وان الأنبياء بعثوا خاصة وعامة ، أما شعيب فإنه أرسل إلى مدين وهي لا تكمل أربعين بيتا.

٢١٠

رسالة محصورة في هذين ، محسورة عن سائر القوى ، إذ لم تكن تحمل ولاية عزم تحلق على كل القرى.

ذلك ولقد بلغ من بالغ دعوته في رسالته أن يقول فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يرادهم به ..» (١).

وهنا بين القريتين مشاركات في دعوته الرسولية هي : الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وإيفاء الكيل والميزان ، وترك الإخسار والبخس والإفساد في الأرض ، ثم ومفارقات هي هنا : القعود بكل صراط إيعادا ، والصد عن سبيل الله ، وهناك الأمر بتقوى الله وطاعته ، وعدم سؤال أجر على رسالته.

فقد كانت مهمة رسالته هنا وهناك الدعوة إلى توحيد الله ، وترك الإفساد اقتصاديا ، وترك الإفساد في الأرض في كل أبعاده ، وهنا إضافة النهي عن القعود بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله ، مما يدل على أن القريتين كانتا مشتركتين في الفساد العقيدي والاقتصادي ، مهما اختلفتا في بنود أخرى من التخلفات عن شرعة الله.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٠٣ ـ أخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال : ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا ذكر شعيبا قال : ذاك .. فلما كذبوه وتوعده بالرجم والنفي من بلاده وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمرو بن حلهاء لما رآها قال :

يا قوم ان شعيبا مرسل فذروا

إنى أرى عينه يا قوم قد طلعت

إنى أرى عينه يا قوم قد طلعت

تدعو بصوت على صمانة الواد

وانه لا يروى فيه ضحى غد

إلا الرقيم يمشي بين أتجاد

وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم.

٢١١

أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨٥).

(أَخاهُمْ شُعَيْباً) مواطنة أم وقرابة ، وهذه الدعوة الرسولية هي كسائر الدعوات بازغة بالتوحيد بنفس الصبغة والصيغة السائغة ، القاعدة التي يعلم أن منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها ، كما أن منها تنبثق كل قواعد السلوك والخلق والتعامل ، فلا تستقيم الحياة بحذافيرها إلا بقاعدة وحيدة غير وهيدة هي قاعدة التوحيد الحق بحق التوحيد.

وترى (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) هي بينة الفطرة والعقلية السليمة على توحيد الله؟ وهي ليست بينات كافية لولا أن تتزود بينات رسالية.

ثم (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ ..) تفريعا عليها تؤكد أنها بينة لهذه الرسالة الشعيبية ، حيث إن أصل التوحيد وما أشبه من أصول الدين ليست قضيتها المستقيمة اللازبة تقبّل الفروع!.

فقد يتبين من ملابسات (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) هذه ، أنها بينة خاصة لهذه الرسالة ، مهما أجمل عن نوعيتها ، كما ولم يتبين من آيات أخرى بشأن شعيب ما هي نوعية بينته الرسولية ، وهنا البينة الحاضرة هي الرسالة اللّامحة من شعيب نفسه وكما قال رسل المسيح (عليه السّلام) : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (٣٦ : ١٦) حيث الرسالة الربانية ظاهرة فيهم ، باهرة في أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم.

ولأنهم كانوا متورطين في إفساد اقتصادي وآخر عقيدي بحذافيره ، لذلك فرع الأمر بإيفاء الكيل والمناهي اللاحقة له ب (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

فقد كانوا يطففون في المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بعد إصلاحها ، فركز التنديد ـ بعد الدعوة إلى التوحيد ـ على ذلك الثالوث السالوس.

وهنا «أشياءهم» المحلقة على كل أشياءهم ، دون «أموالهم» ـ

٢١٢

فقط ـ تلمح أنهم كانوا يبخسون الناس وينقصون كل أشياءهم وهي النواميس الخمس نفسا وعقلا ودينا ومالا وعرضا ، وكما يفسره النصان التاليان : (وَلا تَقْعُدُوا ... وَتَصُدُّونَ ..).

وأما (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فهل يعني حاضر الإيمان كما تلمح له (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؟ وهم لمّا يؤمنوا كلهم كما هو صراح تالية الآيات! أم يعني من آمن منهم؟ ولا يختص التكليف بخيريته بهم!.

قد يعني الإيمان هنا جعل أنفسهم في أمن من زعزعات تطفيف المكيال وبخس الأشياء والإفساد في الأرض ، فإن حياة الأمن مما يهواه كل الأحياء مؤمنين رسميين أم كافرين ، أم وتعني (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بأصل الألوهية مهما كان بإشراك ، حيث الإيمان بالله مهما كان بإشراك ، من قضاياه إتباعه فيما يرجع إلى أمن الحياة ورغد العيش.

أجل (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ..) إنما يوفى حقه بحاضر الإيمان الموحّد بالله وبرسالاته ، فلأن الخطاب هنا يعم أهل مدين كلهم ، وفيهم من آمن رسميا وفيهم من كفر ، فقد تعني (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لكلّ حسب إيمانه ، وهو لأقل تقدير لغوية الإيمان الطليق أن يؤمنوا أنفسهم من زعزعات الحياة فيأمنوا.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(٨٦).

«كل صراط» هنا تشمل كل جادّة جادّة ، ظاهرية وباطنية ، فصراط الفطرة والعقلية السليمة وصراط الشرعة الربانية ، أم صراط العبور للناس إلى حوائجهم ، وكل صراط إلى الحيوية الإنسانية والإيمانية ، كلها معنية من «كل صراط» حيث «توعدون» سالكيها إيعادا ، ومنه الصراط إلى شعيب بدعوته ، ومن جراء ذلك الإيعاد الإبعاد (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) بغي القصد وبغي الظلم ، أن تسلكوها وتسلكوا إياها عوجا ، أم تتخذوها عوجا لكم ولمن يسلكونها «واذكروا» أنتم البغات

٢١٣

الطغاة (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) في عدة وعدة تتخطفون «فكثركم» ربكم فأصبحتم تتخطفون ، فبدّلتم نعمة الله نعمة وكفرا وأحللتم أنفسكم وقومكم دار البوار. جهنم تصلونها وبئس القرار «وانظروا» أنتم ولينظر غيركم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض ، فاعتبروا بالمفسدين قبلكم كقوم نوح وعاد وثمود : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ. وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ. فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢٩ : ٣٨ ـ ٤٠) ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) (٣٢ : ٢٦) (.. فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) (٤٦ : ٢٥) (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٢٨ : ٥٨).

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٧).

وهنا (طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) وهم الملأ المستكبرون ، قد حسبوا أنفسهم سادة وقادة ، فخيّل إلى المؤمنين ما يخرجهم عن الاصطبار أمامهم ، فأمروا وإياهم بالصبر ، صبرا للذين آمنوا لكي يروا وعد الله ، وصبرا للذين لم يؤمنوا حتى يروا وعيده (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) حكما هنا وآخر في الأخرى ، ولكن الطغاة ما صبروا حتى قالوا قولتهم وغالوا غولتهم الهاتكة الفاتكة :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٨٨).

لقد دعاهم شعيب إلى أفضل خطة وأعد لها وهي آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة ، وهي نقطة الانتظار لعاقبة الكفر والإيمان هنا قبل الأخرى ، تريّثا وتعايشا بغير ما أذى وترك كلّ لحاله وقاله حتى يأتي مآله ،

٢١٤

ولكن الطواغيت لا يرضيهم إلّا استئصال الإيمان والمؤمنين حيث يهددون سلطانهم ، ويحددون شهواتهم ، إذا فليخرجوا سراعا.

وترى (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) تعني أنهم كلّهم كانوا في ملة الإشراك بحذافيره ومخلفاته البئيسة؟ والأنبياء بريئون من الإشراك أيا كانوا وأيّان!.

«ملتنا» إن عنت ملة الإشراك فذلك تخيّل منهم أنهم كانوا في ملتهم إذ كان شعيب في تقية لا يظهر إيمانه ، ثم جاراهم في ذلك التخيّل ب (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) ، ولكن القرآن البيان يحيد عن تلك المجاراة دون تأشير إلى باطل ظنهم ، حيث تخيّل أن شعيبا كان في ملتهم كالذين آمنوا معه!.

أم هو حقيقة وتعني «لتعودن» عود المجموع لا الجميع حيث كان شعيب داخل جمعهم ، ف «تعودن» تعني ذلك المجموع وإن ظل شعيب على إيمانه الذي كان حيث اليد الواحدة لا تصفق ، وهذا استعمال متعود أن ينسب فعل البعض أو تركهم إلى المجموعة ، فضلا عن يكون الفاعل أو التارك كلهم إلّا واحدا منهم ، إذا ف «أو لتعودن» صادق تماما في عود الجميع إلّا واحد هو شعيب ، إذ ليست هنا صيغة تستغرق الكل دونما استثناء ، وإنما صيغة الجمع «أو لتعودن» ويكفيه عود جماعة ودون النصف منهم فضلا عن الكل إلّا واحد منهم.

ولكن يبقى سؤال أن (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ) نص على دخول شعيب في ملتهم حيث «لتعودن» تعنيه معهم لذلك النص؟ بل وشعيب نفسه هو رأس الزاوية في «لتعودن» لاختصاصه بالذكر قبلهم.

أم تعني الملة السلطة الزمنية إذ هم خرجوا عنها بسلطان التوحيد الجاهر بعد تقاة ، وهؤلاء يتطلبون منهم العود في تلك السلطة مهما ظلوا مؤمنين أم رجعوا ـ إلّا شعيب ـ كافرين.

وعلى أية حال فلا نص هنا ولا ظاهر أو لمحة أن شعيبا كان في ملة الإشراك قبل رسالته ، ومجرد الاحتمال الصالح حيث تحتمله الآية ، كاف

٢١٥

في تنجزه ، حيث الاصطفاء والاجتباء بحق الرسل ، المذكوران لهم في القرآن ، إنه برهان صارم لا مردّ له ، أنهم يصطفون من جموع الموحدين ، فسابقة الإشراك لهم تناحر واصطفاءهم.

إذا ف «لتعودن» لا تعود بمزرأة على شعيب ما دام احتمال عناية السلطة الزمنية من «ملتنا» قائمة ، أم والملة الروحية بعود الذين آمنوا معه فيها دونه (عليه السّلام) أم وعوده فيها مجاراة لتخيل أنه كان فيها ، ثم وليس القرآن ساكتا عن تزييف ذلك التخيل الزائف الهارف الخارف ، لمكان عساكر الآيات الدالات على سابقة الرسل السابغة بخالص الإيمان.

فالمرفوض ـ إذا ـ بين المحتملات في «لتعودن» أنه (عليه السّلام) كان في ملة الإشراك فيطلب منه العود فيها حتى لا يخرجنّ ، وتبقى سائر المحتملات قائمة على سوقها ، وكلها صالحة للعناية.

ف (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) الزمنية تقية ، لا تمس من كرامة إيمانه من ذي قبل.

وكذلك «في ملتنا» زعما منهم أنه كان مشركا كما هم إذ كان في تقية من دينه ، والجو الرسولي في القرآن بيان لمحتد الرسل قبل ابتعاثهم أنهم مصطفون ، فهو نقض لهذه التخيلة القاحلة.

وهكذا «في ملتنا» واقعا حيث يستثنى شعيب نفسه عن المخاطبين ب «لتعودن» فانه جمع يتحمل الاستثناء ، مهما لم يتحمله (يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ) فإن شعيبا مستثنى بمحتد الرسالة المعنية بالقرآن عن أن يكون قبلها في ملة الإشراك.

ذلك ، وذلك التطلب البعيد القاحل لم يكن ليختص بقوم شعيب ، بل : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤ : ١٤)(١).

__________________

(١) راجع تفسير الفرقان آية ٤١ : ٤٥ ج ١٣ ـ ١٤

٢١٦

(قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) فأنتم تكرهوننا على العود في تلك الملة المشركة زمنيا أم روحيا أم فيهما معا.

و «لو» هنا مجارات تعني حتى على فرض استحالة كراهيتنا للعود في ملتكم رغم زعمكم ، فلتفرضوا أننا لا نكرهه فتفرضوا علينا تلك العودة ، ولكن ماذا إذا كنا كارهين كراهية بساطع البرهان ، فقاطع الإيمان ، ف «لو» هنا تنديد بحتمية ذلك العود.

فالحمل على العود في ملة غير مرضية إبطالا لحرّية الانتخاب ، الحريّة لكل إنسان ، إنه حمل يخالف الفطرة والعقلية والخيرة الإنسانية.

فلو أنكم حملتمونا على ذلك العود ببرهان يقنع لكنا عائدين ، ففي عودنا دون أي برهان ، وهناك ساطع البراهين تمنعنا عنه ، إن فيه افتراء على الله ، حيث القضية الرسالية وعلى هامشها القضية الإيمانية إن ذلك العود إنما هو بأمر الله :

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)(٨٩).

فهذه فرية وقحة على الله (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) على إيماننا ، فإن ضفة الإيمان ـ الصالح غير الكالح ـ وصفته ، تمنعان عن العود إلى اللّاإيمان ، فكما أن قالات الإيمان وحالاته وفعالاته هي من قضايا الإيمان ، فعودنا إلى ملتكم ـ إذا ـ هو أيضا من قضايا الإيمان وذلك افتراء على الله أنه يأمرنا بذلك العود (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) فقد نجانا من ملة الإشراك زمنيا وروحيا فكيف نعود ـ إذا ـ فيها (وَما يَكُونُ لَنا) بصفة الإيمان

٢١٧

(أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) لكي يكون العود أيضا بصفة الإيمان ، على ضوء مشيئة الله ، فها نحن مستسلمون لله خروجا أم عودا.

صحيح أن الله لا يشاء ولن. أن نعود فيها ، ولكن مشيئته الطليقة بعد حاكمة حكيمة ، فلو شاء لنا الإشراك لأشركنا بأمره وهو ـ إذا ـ من التوحيد ، كما شاء لنا التوحيد فوحّدناه بأمره ، فنحن على أية حال تحت أمره وإمرته ورهن إشارته ومشيئته قضية كامل الإيمان وشامله.

وذلك أدب ولي الله مع الله أنه لا يمشي على هواه وإن كانت في عدم العودة إلى ملة الإشراك ، فلذلك يستثني عدم عودته إليها بمشيئة الله! فلأن قضية الإيمان الصادق بالله ومشيئة الله هي التوحيد لله وعدم الانخراط في سلك المشركين بالله (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) اللهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) أن نعود فيها ، فالعودة ـ إذا ـ هي قضية الإيمان بالله ، وهي من توحيد الله في طاعته وعبادته ، كما الخروج عنها قضية الإيمان ، وقضية التسليم السليم لله أن نأتمر بأمر الله خروجا وعودا دونما وقفة لنفكر ما هو المغزى هنا وهناك ، فإنه ـ إذا ـ عبادة العقلية والمصلحية ، دون خالص العبودية لله.

أجل وذلك هو رسم العبودية الوحيدة غير الوهيدة ألا يمنع العبد أي مانع منها مهما كان قاطعا لا حول عنه ، ومن أمثاله الأمثال قصة إبراهيم في ذبح إسماعيل ، حيث البراهين كلها معسكرة على حرمته ، ولكن أمر الله تعالى يغضي كلها ، بارزا وحيدا في الميدان.

ففيما تعلم مصلحة في أمر من الله أو نهي فالطاعة سهلة ، وفيما لا تعلم مصلحة ولا مفسدة ، فهي صعبة ، وأما فيما تكرس الآيات آفاقية وأنفسية أن فيه مفسدة ولكن الله يأمرك به دون ريبة ، فالطاعة صعبة ملتوية ، وهنا لك البلية العظيمة التي ، الساقطون فيها كثير ، والناجحون قليل قليل.

وهنا الجمع بين اسمي الله : (اللهُ رَبُّنا) للتدليل على أن قضية ربوبيته الشاملة التسليم له كما يشاء ، ولو شاء الإشراك أم أيا كان من ملة من الملل ، أو نحلة من النحل.

٢١٨

فألوهيته تقتضي توحيده ، كما هو قضية ربوبيته ، فهو الواحد إلها وهو الواحد ربا ، فلو شاء أن نشرك به وهو الواحد في ربوبيته ، أو أن ندخل في ملة الإشراك زمنيا تقية أماهيه من مبرر ، لكنا داخلين قضية التسليم الطليق لله ربنا.

فنحن المجاهيل و (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فلو يعلم أن في العود في ملتكم خيرا فأمرنا به لعدنا ، ولكنه لا يعلم فيه خيرا إذ ليس فيه إلّا شر : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٤٩ : ١٦) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) (١٣ : ٣٣) ـ (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٠ : ١٨). وعدم علمه بشيء يوازي عدم ذلك الشيء.

ولأن الله لا يشاء أن نعود في ملتكم ولن ، فنحن إذا صامدون في توحيده وفي الابتعاد عن ملتكم روحيا وزمنيا ، فلن ندخل ـ إذا ـ في ملتكم أبدا.

وحين تهددوننا بإخراجنا من قريتكم ـ كأنها هي قريتكم دوننا ـ فليست العقيدة الصالحة تنثلم وتتلعثم أو تتزعزع أمام أي تهديد ووعيد ف (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) لا سواه ، وإليه انقطعنا لا سواه (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

ذلك ، ونفس العود في ملة الإشراك هو افتراء على الله ، كأن لا خير في ملة التوحيد قضية طبيعة الحال في التحيز بين الملتين ، فاختيار ملة الإشراك على ملة التوحيد.

فهاتان ـ إذا ـ فريتان على الله ، إحداهما قضية الإيمان ، وكأنه يأمرنا بتلك العودة ، وأخراهما قضية التحيز المجرد عن الإيمان والإشراك مهما كان حالة الإيمان.

أجل ، وإن تكاليف الخروج عن ملة الطاغوت ـ مهما عظمت

٢١٩

وشقت ـ هي أقل وأهون من تكاليف الدخول في ملته.

فالدخول في حكم الطاغوت خروج عن نواميس الإنسانية كلها حيث يذبح أتباعه على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلاءهم أعلام المجد لذاته ومناه ، ثم يكلفهم عقولهم وعقائدهم وأموالهم وأعراضهم ـ بإعراضهم عن الله ـ لحد لا يملك والد ما ولده ، ولا فتاته عن الدعارات وسائر العارات ، وكل ما يملك بخطواته عن حركاته الصالحة كلها.

ذلك ، وإلى إجابة نكدة من هؤلاء الأنكاد ، لا تحمل إلا تهديدا خاويا :

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٩٠).

وهذه دعاية مستكبرة لعينة ضد الرسالة الشعيبية تهدد أتباعه بالخسران دون بيان أنه ما هي ماهية هذا الخسران ، ليذهب بال المؤمن أي مذهب من ألوان الخسران : دينا ونفسا ومالا وعقلا وعرضا وأرضا أما هو من خسران يبتعد عنه أي إنسان ، ولكن الإيمان الصامد كان قد أخذ موضعه من شغاف قلوبهم فلا يقلّبهم عنه أي كان ، ثم كان عاقبة هؤلاء الأنكاد :

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٩١).

دون حراك حيث خمدت نيرانهم وجمدت ثيرانهم وغيرانهم ، ف :

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)(٩٢).

لقد أرادوا إخراج شعيب والذين آمنوا معه بكل إحراج ، فأخرجهم الله من حياتهم وقريتهم (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) : فلم يعمروا هذه الدار ولم يطل مقامهم فيها (١) ، وكأن لم يكن لهم فيها آثار ، حيث أخذتهم الرجفة بعمارهم وآثارهم مع أنفسهم البئيسة التعيسة ، فلقد انطوت

__________________

(١) غنى في مكان : إذا طال مكوثه فيه مستغنيا به عن غيره مكتفيا به.

٢٢٠