الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

والاصطفاء هو استخلاص الصفوة الصالحة بين الناس ومن أشبه ، وهكذا يكون كل رسل الله أنهم مصطفون على كل الناس الذين هم أرسلوا إليهم ، من مرسلين ككل مثل خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) أم نبيين إسرائيليين ومن سواهم من المكلفين أجمعين كموسى (عليه السّلام).

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥).

«الألواح» هنا هي ألواح التوراة ، ثم «وكتبنا» هي كتابة ربانية كما الكلام رباني ، فلم يكن هنا وهناك وسيط غير رباني في الكتابة والكلام ، فقد «كلمه ربه» وكتب «في الألواح» وفيه (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تحتاجه الأمة التوراتية من شرعة «موعظة» هي جانب العظة التوراتية (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) من الأحكام وسائر المعارف الربانية لدور الشرعة التوراتية «فخذها» ما كتبناها «بقوة» إيمانية رسولية ورسالية علمية وعقيدية وعملية (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وكلّها الحسنى لردح الزمن الرسالي التوراتي (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) هنا ويوم الدين ، والفاسقون هنا هم المتخلفون عن التوراة ، المستكبرون أمامها ، وترى كيف (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها)؟ وهي كلها الحسنى!.

هنا «أحسنها» قد تعني أحسن قوة ، أن خذوها بأحسن قوة فإنها أقرب مرجعا وأصلح معنى ، وهنا «أحسنها» دون موسى فإنها له «بقوة» فإن قواتهم كانت مادية ناحية منحى الشهوات ، وأما موسى ف «بقوة» رسولية ورسالية عاصمة عن كل زلة وعلة.

__________________

ـ عني وحيك وكلامك لذنوب بني إسرائيل فغفرانك القديم ، قال : فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا موسى بن عمران أتدري لما اصطفيتك لوحيي ولكلامي دون خلقي؟ فقال : لا علم لي يا رب ، فقال : يا موسى اني اطلعت إلى خلقي اطلاعة فلم أجد في خلقي أشد تواضعا لي منك فمن ثم خصصتك بوحيي وكلامي من بين خلقي قال : وكان موسى (عليه السّلام) إذا صلى لم يتنفل حتى يلصق خده الأيمن بالأرض والأيسر.

٣٠١

أم تعني أحسن أخذة ، دون أن يأخذوها علميا ويتركوها بغيره ، أم يأخذوها عقيديا ويتركوها عمليا ، فهي إذا أخذة شاملة كاملة تحلّق على كل واجهات التوراة علميا وعقيديا وتطبيقيا ودعائيا.

هذا ومن «أحسنها» هو أحراها بالأخذ في دوران الأمر ، ففي الواجبات أوجبها ، وفي المندوبات أندبها ، ثم في المحرمات تركا لها أشدها وكذا في المرجوحات ، ومن ثم فيما يتقرب به إلى الله على ضوء شرعة الله يأخذوا بأشقها فإن أفضل الأعمال أحمزها.

وباحتمال خامس القصد من أحسنها كلّها ، لأن كلها هي الحسنى فهي من إضافة الشيء إلى نفسه ، فموعظة التوراة وتفصيلها لكل شيء ، هما أحسن مما في سواها من كتابات الوحي على مدار الرسالات حتى اختتام شرعة التوراة.

ثم الأحسن المطلق هو وحي القرآن : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣٩ : ٥٥).

ومن الفوارق بين التوراة والقرآن أن التوراة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) : بعضا منهما ، والقرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) كما أن رسول القرآن هو شهيد الشهداء رسوليا ورساليا : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ٨٩) ف (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (١٧ : ٩) وكما يذكر بعد التوراة والإنجيل مهيمنا عليها : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٦٨ في كتاب الاحتجاج عن عبد الله بن الوليد السمان قال قال أبو عبد الله (عليه السّلام): ما يقول الناس في أولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين ـ

٣٠٢

ثم اللوح هو صحيفة معدّة لأن يكتب فيها ، لائحة ظاهرة لمن يقرءها ، من لاح البرق إذا لمع ، إذا فألوح الألواح هنا هو لوح قلب موسى (عليه السّلام) له ولمن يقرء الرسالة التوراتية من قاله وحاله وأعماله ، ثم هو لوح التوراة حيث كتبه الله بيده ، ومن ثم ألواح صدور وقلوب المؤمنين بها ، وألواح قالاتهم وفعالاتهم ، فالكتابة هنا ـ إذا ـ تعم أصلها من الله ، وفصلها من أهل الله رسلا ومرسلا إليهم.

ذلك ، وأما ما هي نوعية الألواح المكتوب فيها التوراة؟ فقد أجمل عنها القرآن ، فلا علينا أن نعرف ماهية؟ بعد ما نعرف التوراة التي هي الأصل فيها ، وقد وردت فيها آثار مستغربة وأخرى مستقربة إلى التصديق (١).

ثم (دارَ الْفاسِقِينَ) الموعودة إراءته لهم قد تعني إلى دور الفسوق هنا (٢) والدار الدنيا لأهليها الفسقة وفي الأخرى ، تعني الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، وقد كانت دار الفاسقين من العمالقة المشركين.

__________________

ـ (عليه السّلام)؟ قال قلت : ما يقدمون على أولي العزم أحدا ، قال فقال أبو عبد الله (عليه السّلام) : إن الله تبارك وتعالى قال لموسى (عليه السّلام) : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة .. ولم يقل : كل شيء ، وقال لعيسى (عليه السّلام) : ولأبين لكم بعض الذين تختلفون فيه ولم يقل : كل شيء وقال لصاحبكم أمير المؤمنين (عليه السّلام) : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب وقال الله عزّ وجلّ : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وعلم الكتاب عنده.

(١) كما في الدر المنثور ٣ : ١٣٠ ـ أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح أثنى عشر ذراعا.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٧٠ في تفسير العياشي عن محمد بن سابق بن طلحة الأنصاري قال : كان مما قال هارون لأبي الحسن موسى (عليه السّلام) حين دخل عليه : ما هذه الدار؟ قال : هذه دار الفاسقين ، قال : وقرأ هذه الآية ، فقال له هارون : فدار من هي؟ قال : هي لشيعتنا قرة ولغيرهم فتنة قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ قال : أخذت منهم عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة.

٣٠٣

ذلك ، وفي نظرة أخرى إلى الآية (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لا تعني «كل شيء» على الإطلاق ، ولا كل شيء من دين الله الموزع على الشرائع الخمس ، بل هو (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تصلح للشرعة التوراتية لزمنها ، ف «كل شيء» في حقل شرعة الله تعني الدين كله ، و «من» هنا تعني بعضا منه يختص بالدور التوراتي وكما تعنيه (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا(١) تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..) (٤٢ : ١٣).

ثم «موعظة» تليينا لهم بعد بالغ الحجة التي تحويها هذه الألواح ، ومن ثم (تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) تخص الشرعة التوراتية ، دون كل شيء كما القرآن ، المهيمن على ما بين يديه من كتاب ، الحاوي لزيادة عليه يحتاجها المكلفون إلى يوم الدين.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) في بعدي العصمة البشرية التي حصلت عليها قبل العصمة الرسالية ، وهذه العصمة الرسالية ، تكريسا لكل قواتك لأخذ الألواح علميا وعقيديا وعمليا رسوليا ورساليا.

(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وهنا مفعول «يأخذوا» محذوف معروف من ذي قبل وهو الألواح ، فالباء في «بأحسنها» لا تعني التعدية ، فهي في مثلث العناية : ابتداء ومصاحبة وسببية ، أن يكون بازغ أمرهم «أحسنها» مصاحبين إياه ومتسببين به إلى كل خير.

و «أحسنها» كما أسلفناه هو أحسن أخذة وأحسن قوة ، وأحسن نفسية ونفاسة حيث الألواح كلها أحسن ، ثم وأحسن عند دوران الأمر بين المهم والأهم فيها ، أم والأخذ بالأحسن هو أقل تقدير في تلك الأخذة بالقوة ، دون وخزة.

فيقرب خماسية بأحسنها في مثلث معاني الباء تصبح المحتملات خمسة عشر احتمالا : أخذا بأحسن أخذة ابتداء ومصاحبة وسببية ، وبأحسن قوة كأخذة ، وبأحسنها ككل ، ابتداء بالكل ومصاحبة للكل وتسببا

٣٠٤

بالكل ، وبأحسنها عند دوران الأمر ، ابتداء به ومصاحبة وتسببا ، وبأحسنها نسبيا.

والمحتملات الخمسة عشر كلها صالحة للعناية من «بأحسنها» أدبيا ومعنويا.

وإذا كان الأخذ بأحسنها فريضة توراتية ، فبأحرى الفريضة القرآنية ، يجب أخذها بأحسن أخذة وأحسن قوة وسائر الأحسن دون أي فتور. استقطابا وتكريسا لكافة الطاقات الحاضرة والمستحصلة لتحقيق حقيق بالقرآن بكل حقوله الدراسية والعقيدية والعملية والدعائية.

وأين هذا مما تعيشه الحوزات الإسلامية من رفض القرآن ، مهما خيّل إليها أنه أول الأدلة الشرعية ، ولكنك لا تجده وجدا صالحا في العلوم الحوزوية عن بكرتها!.

وهنا (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) ـ وهي الجحيم بدركاتها ـ تهديد مديد بهؤلاء الذين لا يأخذونها بأحسنها ، تركا لأية أخذة بأية قوة ، أم أخذة بوخزة.

ومن المسائل المستفادة هنا أن الأمر هو برهان الفرض ، فإن تاركي هذه الأخذة التوراتية مهددون بدار الفاسقين ، الذين يفسقون عن أمر الله بلسان رسوله ، وأن الأمر بالأمر كما الأمر من أدلة الفرض.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)(١٤٦).

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) كلها ، رسولية ورسالية ، تكوينية وتشريعية ، صرفا عن نقضها أو النقص منها ، وصرفا عن الإيمان بها قضية استكبارهم في الأرض بغير الحق.

فهنا صرف عن آيات الله حفاظا عليها من دوائر المتكبرين ، وصرف

٣٠٥

لهم عنها ألا يؤمنوا بها حيث عاشوا تكذيبها والتغافل عنها ، جزاء وفاقا.

فالمتكبر في الأرض بغير الحق ـ وكل تكبّر في الأرض هو بغير الحق وليس التكبر مع المتكبر تكبرا في الأرض بل هو خاص بحقله الخاص ـ هو مصروف عن آيات الله ، ومن منتجات ثاني الصرفين ـ الذي هو من منتجات (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) بعد تكبرهم في الأرض وقضيّته ـ إن منها (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) كرأس الزاوية من ثالوث منتجاتهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) رغم رؤيتهم (إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته ، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها.

إذا فهي جبلة الغي والضلال إذ هي تعاكس الحق إلى الباطل والباطل إلى الحق : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

فهنا سببان اثنان تلو بعض ، ونتيجة بعضها البعض ، هما «يتكبرون ـ كذبوا ..» وهما الموجبان لصرفهم عن آيات الله ، ولثاني الصرفين ثالوث «لا يؤمنوا بها ـ لا يتخذوه ـ يتخذوه».

هذا ، وذلك تهديد شديد مديد بما يحاوله المتكبرون من نقض القرآن ونقصه أو نقده ، ولحد الآن ما استطاعوا على شيء من ذلك ولن ، وكذلك يهدّدون أن يصرفوا عن تفهّم القرآن كما يحق نتيجة تكذيبهم به ، فهم في ريبهم يترددون.

ذلك وهنا لك صروف أخرى «عن آياتي» أن يصبحوا فاضي الأيدي والأبصار عن آيات الله البينات بكل حصائلها ووسائلها ، صرفا عن بيناتها ، وزياداتها ، ونقضها ، والنقص فيها ، والصد عنها ، ثم واجتياحهم واصطلامهم صدا عن كل ما يريدون من دوائر السوء بها ، فتصبح الآيات النافعة لمن يبصرون إليها وبها ، اليافعة لهما في الأولى والأخرى ، تصبح لهم ضارة فيهما.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا

٣٠٦

ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤٧).

أولئك (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الصالحة عن آثارها الأخروية مهما كانوا موحدين فضلا عن المشركين والملحدين حيث الحبط في مقام العقوبة ليس إلّا في حقل الحسنات ، فتتمحض الأعمال في السيئات ، وأصل الحبط من قولهم : حبطت الناقة إذا رعت نباتا سامّا فانتفخ بطنها ثم نفقت ، فهؤلاء الأنكاد يتنفخون ويتنفجون بمظاهر من زخرفات الحياة ، فيحسبهم الجاهل على شيء من القوة والمكانة ، ثم ينفقون كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السامّ ، فالتكذيب بآيات الله يعم مثلث التخلف في حقل الإلحاد ١ تكذيبا بالله ، ٢ والإشراك تكذيبا بتوحيد الله ، ٣ والتوحيد تكذيبا بشرعة الله المحكّمة.

ثم (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) تكذيبا لأصل لقاءها ، أم حق لقاءها إلى باطله كمن يخيّل إليهم أن الله لا يحاسب عباده يوم لقاءها أم يعفو عنهم جميعا ، أماذا من الضلال تصورا خاطئا عن لقاء الآخرة.

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن حبط أعمالهم في الأخرى هو نفسه حبطها في الأولى ، لخبطها بفراغها عن الإيمان الصالح ، إذا فالجزاء هو نفس العمل دون مغايرة بينهما أو زيادة ، وهذه الضابطة برهان لا مردّ له على أن لا جزاء بمجرد النية في حقل العقوبة ، مهما كان الجزاء بصالح النية ، فإنه قضية فضله تعالى ، وذاك قضية عدله ، فلا جزاء في قسطاس العدل لمجرد النية الطالحة إلّا مجرد النية الطالحة دون أية عملية عقوبية ، فالقصد من العمل هو الحالة الفعلية من قالة أو عقيدة أو عملية ، وليست النية بالنسبة لها إلّا حالة شأنية ، إذا فقضية العدل هي فعلية بفعلية وشأنية بشانية ، اللهم إلا في نية الخير فإن فعلية الثواب لها هي من قضايا فضله تعالى.

أجل ، قد يصح القول إن نية السوء محرمة فيما إذا أدت إلى فعل السوء لأنها ـ إذا ـ من الإثم ـ وهو كل ما يبطئ عن الثواب ـ ، ولكن الجزاء هنا يختص بواقع السوء.

٣٠٧

فحتى لو شملت (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) النية الطالحة ف (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تقرر الجزاء بظهور نفس النية مظهر العذاب النفسي دون واقع له آخر خارج عن نفس النية.

فذلك الاستنكار يستنكر القول : إن المخلدين في النار مؤبدون فيها لغير نهاية مهما كانت أعمالهم محدودة ، إذ كان من نيتهم السوء أن لو ظلوا أحياء لغير النهاية لاستمروا في سوء أعمالهم؟ حيث تدلنا هذه الآية وأضرابها أن لا دور للنية الطالحة في حقل العقوبة العملية قضية العدالة مهما كان للنية الصالحة دور في حقل المثوبة بفضل من الله ورحمة!.

وهنا احتمال آخر في (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) هو أن الجزاء حسنا وسيئا ليس إلّا بالعمل ، فلما حبطت حسناتهم فلم تبق لهم إلّا سيئات فهم ـ إذا ـ مجزيون ـ فقط ـ بسيئات حيث (قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٥ : ٢٣).

وترى أن حصر الجزاء فيما كانوا يعملون كما ينفي العقاب عن نية السوء ، كذلك ينفيه عن ترك الواجب لأنه ليس عملا ، فيختص بفعل الواجب والحرام دون تركهما؟.

كلّا حيث العمل يشمل الإيجاب والسلب ، فكما أن فعل الواجب عمل كذلك تركه لأنه باختيار ، وهكذا فعل الحرام وتركه ، فالمعنيّ من العمل في موقف الثواب والعقاب هو الفعل والترك ، اللذان هما بالفعل فعل إذ لا يتحققان إلّا باختيار الواقع فعلا وتركا.

ولو أن العمل يختص بالموجب دون المنفي فقد تكفي الآيات المهدّدة لترك الواجبات والمرغّبة إلى ترك المحرمات ، تكفي توسعة في حقل الجزاء من العمل إلى تركه.

وبوجه ثالث قد تعني هنا «بما تعملون» فقط الحسنات بقرينة الإحباط ، فالذين تحبط حسناتهم فبماذا يثابون وليست لهم حسنات ، فإنما يعاقبون عقابا خالصا بعد فالس الحسنات وكالسها ، بما فعلوا من عصيانات وتركوا من واجبات.

٣٠٨

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)(١٤٨).

قصة العجل الجسد الذي له خوار مفصلة بحذافيرها في «طه» (١) فلا نعيدها ، ولا نعيد هنا إلّا قصة الحلي المذكور هناك بصيغة (زِينَةِ الْقَوْمِ) أنها كانت من حليّهم دون حلي آل فرعون ، لمكان «حليّهم».

وهنا «جسدا» وصفا متميزا ل «عجلا» تخرجه عن كونه حيا ، فإن «عجلا» تكفي لكونه حيا ، فلا دور إذا ل «جسدا» إلا تجسيد العجل الذهبي ذهبيا كما «أخرج لهم السامري» ولأن السامري لم يكن ليخرج لهم إلّا ما أخرج ، دون معجزة تحويله إلى عظام ولحم ، فضلا عن إحياءه كسائر العجل التي يخلقها الله ، فقد نتأكد بهذا أو ذاك أن العجل لم يتحول عن البنية الذهبية إلى غيرها بحياة وغير حياة ، وأما «له خوار» فلأن «خوار» هو صوت العجل الحقيقي فليكن خواره الحقيقي ، إلّا أن «جسدا» يفصل عن ذلك.

ولأن «له خوار» دون «للسامري فيه خوار» أم بجري الريح من دبره إلى فمه خوار ، لذلك فليس ـ إذا ـ خواره إلا بما أخار الله من صوت العجل الحي في العجل الجسد ، وهذه هي أقل فتنة شر لهؤلاء الأنكاد البعاد ، وليعلموا من هم أولاء في حقل المعرفة الربانية ، بعد تواتر الآيات البينات التي رأوها منذ الرسالة الموسوية.

أجل «له خوار» بما الله أخار (٢) فتنة لهم وابتلاء بما يستحقون وكما قاله موسى (عليه السّلام) : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي

__________________

(١) الفرقان ١٦ : ١٦٧ ـ ١٨٥ ، فيه تفصيل مشبع عن تمام القصة بتمامها.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٧٠ في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية فقال موسى : يا رب ومن أخار الصنم؟ فقال الله : يا موسى أنا أخرته فقال موسى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ..) وفيه عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : إن فيما ناجى الله موسى (عليه السّلام) ان قال : يا رب هذا السامري صنع العجل فالخوار من صنعه؟ قال : فأوحى الله إليه يا موسى ان تلك فتنة فلا تفحص عنها.

٣٠٩

مَنْ تَشاءُ) (٧ : ١٥٥).

فهي ـ إذا ـ فتنة شر للشريرين وكما افتتنوا بها وتبلبلوا ، وفتنة خير للخيّرين كما نجحوا فيها حيث تبلور الإيمان ولم يتبلبل ، كما (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) ولو كان إلها لكلّمهم ليهديهم سبيلا (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) فهل هو بعد إله يعبد على كونه ميتا ليس له صوت حتى صوته ، فضلا عن صوت يهدي سبيلا «اتخذوه» إلها (وَكانُوا ظالِمِينَ) أنفسهم إذ ضلوا دونما حجة ، وإنما لجاجا أوقعهم في لجة ، فكانوا صراحا ، إذ لا يقيل الإشراك بالله إلّا أنه ظلم غير قاصر ولا معذور ، فحتى الحشرة تميز بين الفاضل والمفضول في حقل معرفتها ، وهذا الإنسان الذي جعل نفسه في أسفل سافلين انقلب إلى أدنى من الحشرة حيث يترك خالق الكون أجمع ويعبد عجلا جسدا له خوار!.

وإنما ذكر هنا من شؤون الألوهية التكليم والهداية ، دون شؤون أخرى لها كالتجرد واللّامحدودية والحياة وما أشبه؟ لأن حصيلة الألوهية الصالحة للمألوهين هي التكليم بما يسعدهم ، والهدى بما يتبعونه ، فحتى إذا وجد كائن له كافّة ميّزات الألوهية دون هداية فهي ـ إذا ـ ألوهية خاوية غاوية!.

لست أقول : إن كل من كلّم وهدى هو إله ، إنما أقول : من لا يكلم ولا يهدي ليس إلها ، فللألوهية ميّزات أبرزها في حقل الربوبية التكليم بما يرشد ويهدي المألوهية ، فالربوبية لزامها التكليم بالهدى وليس هو لزامه الربوبية لأن لها ميزات أخرى معها ، كان تلون هدى طليقة لا يخلطها خطأ فضلا عن أن تخلص في خطأ ، وترى (قَوْمُ مُوسى) هم كلهم في اتخاذ العجل إلها؟ علّه نعم لإطلاق القوم عليهم كلهم ، وأن دعاءه اختصه وأخاه : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي)! ولكنه لا ، حيث القوم لا يدل على الاستغراق ، وموقف الدعاء هنا خاص بمنزلة الرسول وخليفته ، ثم (مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧ : ١٥٩) تبعّض قومه

٣١٠

إلى صالحين مصلحين وإلى طالحين مفسدين.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١٤٩).

هنا لا نعرف من آية الأعراف كيف (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) إنما هي آية طه : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٢٠ : ٩٧) فقد سقط محروقا أمامهم ثم نسف في أليم نسفا ، إحراقا ونسفا له ولضلالهم المبين ف (رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) بأم أعينهم حسيّا ، بعد ما كانوا يرونهم ضلّالا فطريا وعقليا وشرعيا ، ولكنهم ما أمروا بضلالهم إلّا على ضوء الحس وكما عبدوا العجل الجسد قضية أصالة الحس.

ذلك ، وعند ضلالهم بحاضر الإحساس (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) فغضب علينا بما ضللنا «و» لم «يغفر لنا» خطايانا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم إذ ماتوا عطاشا يمّ اليمّ الزاخر من دلالات آيات ربنا البينات.

ذلك ، فقد سقط كثير من الوجوه المذكورة في المفصلات ل (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) في

أيديهم ، حيث الساقط البين هنا هو العجل الذهبي الإله بزعمهم ، إذ أحرق ونسف في أليم نسفا.

وقد يعنى معه «سقط» ذلك الاتخاذ في أيديهم المحاولة لأخذه إلها بما بينه موسى بلسان الوحي ، وبما أحرق ونسف في أليم نسفا.

وثالثة لما ندموا بأشده وأشده حيث يقال لمن ندم «سقط في يده» إذ نفض يده عما كان يرجوه ، ففند ونفد ما كان يرجوه.

ورابعة بمعنى وقع في يده السقيط كالسّقاطة والنفاية ، فقد كانت ألوهة العجل سقاطة مقيّتة ونفاية منفية في كافة الموازين المعنية ولكنها لما سقطت في أيديهم بحقل الإحساس حين أحرق ونسف رأوا أنهم قد ضلوا.

٣١١

وعلى أية حال «سقط» العجل «في أيديهم» حرقا ونسفا أمامهم ، فسقط ما بأيديهم من زعم ألوهته ورأوا أنهم قد ضلوا.

أجل ، هذا العجل الذهبي الذي عبدوه لأنه له خوار ومن الذهب الذي هو معبود إسرائيل على طول الخط ، هذا العجل سقط في أيديهم فسقط ما اتخذوه إلها عن ألوهته أمامهم.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(١٥٠).

(.. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (٢٠ : ٨٦).

«رجع غضبان» على ما حصل «أسفا» لماذا حصل؟ أم وأسفا مما عنهم أعجل (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) من الخلف دون الخلف حيث الخلف هو الخلف المخالفة أن يجعل خلفه أمامه : وخلفتم إياي إذ أخلفتم موعدي فما تبعتموني إلى الطور ، ثم لما ظللتم في خلفكم ضللتم بخلفي في شرعة التوحيد ، خلفا في تخلّفين إثنين ثانيهما أخلف ، ولماذا أخلفتموني هكذا؟.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) من وعده الذي. وعدكم من إنزال التوراة بمواعدة الثلاثين المتمّمة بعشرة ، ومن وعيده (أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)؟ وهما ينتظمان هكذا في (أَمْرَ رَبِّكُمْ).

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) بما ألغوها فيما خلفوا من بعده وخالفوه ، وقضية الغضب والأسف على ما حصل ، حيث القصد منها هداهم وهم قد عبدوا العجل الجسد!.

٣١٢

(وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) غضبان أسفا من خلفية هذه الخلافة (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (قالَ يَا بْنَ أُمَّ (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٢٠ : ٩٤).

(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) بكثرتهم وقلتي (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) لما ذا أمنعهم ولا أتبعهم فيما ضلوا وظلوا عليه عاكفين (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) الذين (اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أن يرونني مذلّلا بين يديك (وَلا تَجْعَلْنِي) في ذلك التأنيب الشديد (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

هنا «ابن أمّ» وقد كانت «أماه» لمكان الفتح ، وليستجيش في نفس موسى الغضبان الأسف عاطفة الأخوة الرحيمة من ناحية الأم الحنونة ـ مهما كان هناك والد (١) واحد أم اثنان (٢) فهذا النداء الرقيق الرفيق ، وتلك الوشيجة الرحيمة الحميمة يريد التخفيف عن هياجه واندفاعه أمام ذلك الواقع الجلل المرير.

فلقد تهدرت أعصاب موسى (عليه السّلام) بهذه الجيئة الفجيعة إذ

__________________

(١) في خطبة الوسيلة لعلي (عليه السّلام): كان هارون أخاه لأبيه وأمه.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٧٢ في العلل باسناده إلى علي بن سالم أخبرني عن هارون لم قال لموسى : يا ابن أم ..؟ ولم يقل : يا ابن أبي؟ فقال (عليه السّلام) : ان العداوات بين الأخوة أكثرها يكون إذا كانوا بني علات ومتى كانوا بني أم قلت العداوة بينهم إلّا أن ينزغ الشيطان بينهم فيطيعوه فقال هارون لأخيه موسى (عليهما السّلام) يا أخي الذي ولدته أمي ولم تلدني غير أمه لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ولم يقل يا ابن أبي لأن بني الأب إذا كانت أمهاتهم شتى لم تستبعد العداوة بينهم إلا من عصمة الله منهم وإنما تستبعد العداوة بين بني أم واحدة ، قال قلت له : فلم أخذ برأس أخيه يجره إليه وبلحيته ولم يكن في اتخاذهم العجل وعبادته له ذنب؟ فقال : إنما فعل ذلك به لأنه لم يفارقهم لما فعلوا ذلك ولم يلحق بموسى وكان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب ألا ترى أنه قال لهارون : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) قال هارون : لو فعلت ذلك لتفرقوا (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي).

٣١٣

رأى تهدرت كل دعواته الرسالية في قومه ، فلم يتمالك نفسه ، إلّا أن يفعل ما فعل ، وهو قضية الموقف المحتار ، وعلّه هكذا فعل بأخيه المختار من باب إياك أعني واسمعي يا جار ، أنه إذا كان دوره مع خليفته المعصوم العزيز الحفيظ هكذا ، فما هو دوره ـ إذا ـ مع هؤلاء الذين ضلوا واستضعفوه وكادوا يقتلونه ، تعبيدا لجو التأنيب الشديد بهم وأمرهم الإمر أن «اقتلوا أنفسكم ..».

ذلك ، وليعلموا أن شرعة العدل لا تعرف قرابة وآصرة إلّا قرابة الإيمان وآصرته ، وحين يؤنّب أخاه البريء هكذا فما ذا هو فاعل بهم وهم خونة مجرمون؟.

ذلك وقد يعني من أخذه رأس أخيه يجره إليه معذلك التخفيف عن غضب أخيه والتحبب إليه ، ولذا (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) دون أن «يبعده عنه» فلذلك الجر معنيان اثنان ، تأنيب من باب «إياك أعني واسمعي يا جاره» وتجيب أنه ـ فقط ـ «إليه» في هذه المعركة الصاخبة ، فقد هدّموا بعبادتهم العجل الثقلين ، وعلّ من غايات ذلك الإلقاء والأخذ هو بيان ذلك التهدير الحذير.

وقد يضرب الإنسان على وجهه نفسه ورأسه ويعض على يديه عند الغضب والأسف وليس له ذنب فيما حصل ، وهكذا فعل موسى بأخيه اعتبارا له أنه نفسه تحسرا وغضبا على ما حصل ، ولكنه على أية حال لا يخلو من تأنيب بهارون كما يعرف من جوابه.

ذلك وقد يوجه ما فعل موسى (عليه السّلام) بالثقلين : الألواح وأخيه ، بأنه رأى أنهما ألغيا في رأس الزاوية لهما وهو التوحيد ، فألقاهما تأشيرا أنهم ألغوهما ، ثم أخذ الألواح واستغفر لنفسه ولأخيه إعادة لكيانهما استمرارا للدعوة التوحيدية في قومه (١)

ذلك ، وهذه المواجهة المرة في ظاهر الحال مع هارون

__________________

(١) تجد التفصيل على ضوء الآيات في طه من الفرقان ١٦ : ١٧٣ ـ ١٧٨.

٣١٤

(عليه السّلام) كانت : ١ أن ملكه الغضب إذ رأى أن رسالته كلّها تهدرت في تلك الفترة الفتيرة القصيرة وفيهم هارون أخوه وخليفته! ٢ وأن هذه بعناية قاصدة بإياك أعني واسمعي يا جاره لكي يعلم بنو إسرائيل ماذا عليهم من عقوبات بفعلتهم القاصدة الحمقاء العاندة ، حين يواجه هارون بتلك المواجهة المرة وكما يخاطب الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بخطابات قاسية تعني ما تعنيه ك : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) وما أشبه ، والمقصود غيره ، والزاوية الثانية ـ وهي غير معنية ـ أنه هتك أخاه كأنه قصّر فيما حمّل من خلافته الرسالية ، فأعذر نفسه من هذه الزاوية ، لكي يعلموا أنه ليس هو المقصود بالمهانة.

ذلك ، وعلى أية حال ، كما ملكت النبوة موسى (عليه السّلام) بكل كيانه وشراشر كونه ، كذلك يملكه الغضب حين يرى نبوته ودعوته الطائلة ساقطة بين يديه من هؤلاء الذين عبدوا العجل ، إذا فحق له أن يلقي الألواح ـ دون إلغاء ـ وإنما إلقاء لقاء ما رأى نبهة لهم أنكم القيتموها إلغاء ، وحق له أن يأخذ برأس أخيه يجره إليه ـ دون أن يبعده عنه ـ حين لا يرى حاصلا صالحا لكونه فيهم حيث استضعفوه وكادوا يقتلونه.

وحق لهارون أيضا أن يدافع عن نفسه تبيينا لموقفه المرير أمام ذلك الواقع الشرير.

ولما أعذر هارون نفسه من هذه المزرئة المضلّلة : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) فلم يكن لي عليهم من سلطان حتى أمنعهم عما ضلوا ، بل قد أبلغت خلافتي الرسالية لمنتهاها ، وحتى (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) ، عذره موسى ودعا له ولنفسه (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٧١ في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : ان الله تبارك وتعالى لما أخبر موسى (عليه السّلام) أن قومه اتخذوا عجلا له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلما رآهم اشتد غضبه فألقى الألواح من يده وللرؤية فضل على الخبر.

٣١٥

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(١٥١).

«اغفر لي» ما عجلت عن قومي وما صاحبتهم إلى الميعاد فحصل ما حصل ، و «أغفر لي» ما فعلت بأخي حيث لم يستحق ذلك التأنيب الشديد ، واغفر «لأخي» إذ لم يستطع أن يخلفني كما يجب قصورا ولا تقصيرا إذ قدم ما قدم بطوعه وقوته على ضعفه : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٢٠ : ٩٠ ـ ٩١) مما يلمح إلى مدى عذره بدوره خليفة الرسول بغيابه ، (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) الخاصة بعد ما خرجنا منها فترة الابتلاء (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

فقد نرى أن هارون لم يقصّر في خلافته ، اللهم إلا قصورا باستضعافه وخوف قتله ، إلا أن واقع الحال يتطلب تلك الظاهرة الغضبانة الأسفة من موسى (عليه السّلام) بهارون ، ورغم أنهم استضعفوه وعظهم وندد بهم : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ..) حتى كادوا ليقتلوه ، وقتل الداعية قد يسمح له في سبيل الدعوة إن أثر في تحقيقها أم في مزيد الحجة وإنارة المحجة ، ولكن بني إسرائيل المعروفين بقتل النبيين لم يكونوا ليتأثروا بقتل هارون إلّا حظوة لهم في خطوتهم الخاطئة هذه ، إزالة لمن يصدهم عنها ، وتقليلا لساعد الداعية ومساعده ، فتعريض هارون نفسه للقتل ـ إذا ـ لم يكن إلّا تعريضا للرسالة التوراتية إلى الخمول بفقد وزيرها الحزير الحريز العزيز ودونما فائدة وعائدة إلا لعمق الضلال وحمقه لهؤلاء الأنكاد الأوغاد.

ترى ولماذا لم يلق الألواح في الطور إذ قال له ربه (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) ولم يغضب غضبه إلا هناك بعد ما رجع إلى قومه؟ لأنه لم يقع هناك موقع العيان وللرؤية فضل على الخبر (١) ثم وإلقاءه الألواح وأخذه برأس أخيه هما ظاهرتان دعائيتان أمام القوم فلم يكن لهما موقع في الطور

__________________

(١) المصدر عن المجمع روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : .. وفي الدر المنثور ٣ : ١٢٧ عن ابن عباس قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرحم الله ـ

٣١٦

إلّا باطن الغضب.

وفيما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «رحم الله أخي موسى (عليه السّلام) ليس المخبر كالمعاين ، لقد أخبره الله بفتنة قومه وقد علم أن ما أخبره ربه حق وأنه على ذلك لمتمسك بما في يديه فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح (١).

__________________

ـ موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر ، أقول : مثل هذا الإلقاء إلغاء لكتاب الله فلا يصدّق على رسول الله ، فإنما ألقى الألواح بكل حرمة ورعاية تدليلا على أنهم ألغوها في غيابه برأس الزاوية التوحيدية فيها.

وفي المصدر في بصائر الدرجات عن رجل عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : دخل رجل من أهل بلخ عليه فقال له : يا خوزستاني تعرف وادي كذا وكذا؟ قال : نعم قال : من ذلك الصدع يخرج الدجال قال ثم دخل عليه رجل من أهل اليمن فقال : يا يماني تعرف شعب كذا وكذا؟ قال : نعم. قال له : تعرف شجرة في الشعب من صفتها كذا وكذا؟ قال : نعم قال له تعرف صخرة تحت الشجرة؟ قال : نعم قال : تلك الصخرة التي حفظت ألواح موسى على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي آخر عنه (عليه السّلام) قال لي أبو جعفر يا أبا الفضل تلك الصخرة التي حين غضب موسى (عليه السّلام) فألقى الألواح فما ذهب من التورية التقمته الصخرة فلما بعث الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أدته إليه وهي عندنا. أقول : ألم تكن تلك التي التقمته تحمل شرعة توراتية ، فكيف ظلت في الصخرة فما أدته إلى موسى ولا المسيح (عليهما السّلام) وهي تحمل شرعتهما ، ثم أدتها إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تحمل شرعته؟!.

(١) نور الثقلين ٢ : ٧٤ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى سلمان الفارسي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل يقول فيه لعلي (عليه السّلام) : ... وفيه عن روضة الكافي خطبة لعلي (عليه السّلام) وهي الخطبة الطالوتية وفي آخرها : ثم خرج من المسجد فمر بصبرة فيها نحو من ثلاثين شاة فقال : والله لو أن رجالا ينصحون لله عزّ وجلّ ولرسوله بعدد هذه الأشياء لأزلت ابن آكلة الذبان ـ جمع ذباب ـ عن ملكه فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلا على الموت فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : أغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين وحلق أمير المؤمنين (عليه السّلام) فما وافى القوم محلقا إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وجاء سلمان في آخر القوم فرفع يده

٣١٧

أجل فحينما يملك الغضب موسى (عليه السّلام) لحد يلقي ألواح التوراة فهلا يأخذ ـ إذا ـ برأس أخيه ، حيث يرى سحقا ومحقا للرسالة والرسول في تلك الفترة القصيرة الفتيرة ، فأين الرسالة ـ إذا ـ وأين الرسول؟!.

فكما أن إلقاءه الألواح لا يعني إهانة لها ، كذلك أخذه برأس أخيه لا يعني مهانة ، إنما هو هو الغضب الذي لا يتمالك صاحبه نفسه فضلا عمن

__________________

إلى السماء فقال : إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون (عليه السّلام) ، وفيه عن الإحتجاج في رواية سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي حديث طويل وفيه قال قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) لأبي بكر وأصحابه : «أما والله لو أن أولئك الأربعين الرجل الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله حق جهاده ، أما والله لا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم القيامة ثم نادى قبل أن يبايع : يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني».

وفيه باسناده إلى محمد بن علي الباقر (عليهما السّلام) قال : لما حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة وبلغ من حج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألفا الذين أخذ عليهم بيعة هارون (عليه السّلام) فنكثوا واتبعوا العجل والسامري ، وكذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة لعلي (عليه السّلام) بالخلافة على عدد أصحاب موسى (عليه السّلام) فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري سنة بسنة ومثلا بمثل ...

وفيه عن العلل باسناده إلى ابن مسعود قال : احتجوا في مسجد الكوفة فقالوا : ما لأمير المؤمنين (عليه السّلام) لم ينازع الثلاثة كما نازع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؟ فبلغ ذلك عليا (عليه السّلام) فأمر أن ينادى الصلاة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال : معاشر الناس انه بلغني عنكم كذا وكذا؟ قالوا : صدق أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد قلنا ذلك ، قال : إن لي بسنة الأنبياء أسوة فيما فعلت قال اللهتعالى في محكم كتابه (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قالوا : ومن هم يا أمير المؤمنين (عليه السّلام)؟ قال : أولهم إبراهيم (عليه السّلام) ـ إلى أن قال ـ : ولي بأخي هارون (عليه السّلام) أسوة إذ قال لأخيه : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) فان قلتم : لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم ، وان قلتم استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم فالوصي أعذر.

٣١٨

سواه ، ولا سيما الغضب في الله حيث يراه يشرك به! ، وإن كان عن غير تقصير من الداعية الرسولية ، إنما ذلك لواقع الأمر الإمر.

وفي نظرة أخرى إلى مسرح الآيات التي تستعرض قصة موسى وهارون هنا وفي طه لا نجد أية لمحة مركزة إلى تقصير لموسى وأخيه (عليهما السّلام).

ففي طه (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) لا يعني ذلك السؤال إلا كما يعنيه لإبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ..) (٢ : ٦٠) حيث يعني معرفة الجواب من إبراهيم حتى لا يخيل إلى أحد أنه سأل لكونه لم يؤمن.

فقد يسأل موسى أخاه حتى يبين موقفه المعصوم السليم في خلافته لهؤلاء الأنكاد ، ولمن قد يخيّل إليه من أتباعه أنه عصى موسى إذ لم يتبعه ، فجاء الجواب : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٩٤).

فقد تفرقوا في حقل عبادة العجل بين ثلاث ، عابدة له وتاركة للنهي عنه ، وناهية عنه ، وهو من خلفيات الدعوة الهارونية وكما تخلفه كافة الدعوات الرسالية.

فإذا اختلفوا هكذا بغياب موسى وحضور هارون والذين معه ، فقد يتوسع خلافهم بغياب الداعية الرسولية والذين معه ، إكبابا أكثر من رؤوس زوايا الضلال والإضلال ، والتحاقا بهم للمترددين بين الأمرين حيث لا يلتحقون بهارون والذين معه ، وتوانيا قد يحصل للبعض من الذين معه ، فيخلو الجو ـ إذا ـ لتوسع الضلال من السامري بعجله ، والذي عبدوه أو كاد أم يكاد.

وذلك التفريق بين بني إسرائيل ليس إلّا باتباع هارون موسى أن يلتحقه في ذلك الجو المحرج المخرج عن الهدى ، وما كانت وصية موسى لهارون إلّا (أَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) وخروجه عنهم إفساد واتباع

٣١٩

لسبيل المفسدين الذين يحبون تخلية الجو وتصفيته عن الداعية الرسولية والرسالية.

ذلك ، ثم وليس في آيات الأعراف آية مزرءة بموسى وهارون ، إلا بيانا لعصمتهما وبراءة هارون عن أي ، تخلف فان تلك المواجهة الموسوية لهارون أوجبت بيان البراءة التي لم تكن باهرة للكل انهم (اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ..)!.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٥٣).

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) عنوان مشير يشير إلى هؤلاء اليهود ، ورأس زاوية الضلال فيهم هو العنوان الذي يشير إليهم ـ اتخذوا العجل ـ بما لهم من كافة السيئات والنكبات بدء ختم.

إذا ف (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ليست لتنافي توبتهم عما عبدو العجل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢ : ٥٤).

إذ إن توبتهم هذه مهما كانت مقبولة فليست لتردع عن حاضر الغضب والذلة في الحياة الدنيا ، لعمق الجريمة المحتاجة إلى كفارة كمثل (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ولسائر الجرائم المتواصلة منهم من تكذيب آيات الله ، وتقتيل أنبياء الله ، وقلب وتحريف أحكام الله.

إذا فقد (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٢ : ٦١) و (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ) (٣ : ١١٢). كما (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

٣٢٠