الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

الأعمال لسبق ذكر الأجل ، مما يؤيد أن (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) تشمل أمم الموت مؤمنين وكافرين ، فكما (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) كذلك (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) وكذلك كتاب الأعمال وما كتب الله عليهم بها من العقاب في كتابه حسب كتاب الأعمال ، وقد عبر ـ مرارا ـ عن مثبتة الأعمال في سجلاتها بالكتاب : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) ، (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٤) فالكتابان ـ إذا ـ هما معنيّان بفارق أن نيل نصيب كتاب الأجل يختص بالدنيا بنفسه ، ثم نصيب كتاب العمل يشمل النشآت الثلاث والمعني منها هنا نصيب الدنيا بآثار الأعمال السيئة.

صحيح أن هنا عملا دون حساب وهناك حساب دون عمل ، ولكن «نصيب من الكتاب» هو خليفة حاضرة لا مرد عنها مما لا بد منها ، فان للأعمال آثارا في الحياة الدنيا كمالها في الأخرى مهما كان كمالها في الأخرى.

ثم ومن «الكتاب» ما كتبه الله من أعمار وأرزاق للعباد ، فكما للصالحين نصيب كذلك للطالحين ، إذ (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠).

فكما (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) رزقا في الحياة الدنيا وأجلا فيها فان (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (١٣ : ٣٨) كذلك (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) الذي كتبوه بأعمالهم ، فهم عائشون بين الكتابين ولا يظلمون فتيلا.

ذلك ، وان لهم انصبة من الكتاب أولاها في الأولى ، وأخراها في الأخرى ، وأوسطها بينهما حيث (مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، ومن الوسطى :

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) وهم الرسل الملائكية الغلاظ الشداد : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٨ : ٥٠).

١٢١

والتوفي هو الأخذ وافيا دون تفلّت لشيء من كيان الإنسان ، المفروض حشره للحساب نفسا وبدنا : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(٣٢ : ١١).

ومن مقالهم معهم (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أنهم آلهة مع الله ، دلونا عليهم لنراهم ما هم ومن هم؟ (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) ضلالا عن كيان الألوهية ، لا عن كونها كسائر الكائنات حيث تحشر حاسرة عما تلبّست من كبرياء الألوهية : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ. وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٦ : ٨٨) ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ. قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (٢٥ : ١٨).

ذلك ، وقد تعني «ضلوا عنا» إلى ما عنت ، ضلالا عند الموت ، ثم «إذا رأى» رؤية عند الحشر ، وعلى أية حال (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ)(٣٨).

هنا (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ..) دون فصل عن «يتوفونهم» ـ بقالتهم المؤنبة إياهم ـ دليل أن «النار» هنا هي البرزخية ، ثم (إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) قد تلمح أنها نار الآخرة ، حيث الجمع لأهل النار في النار ليس إلا فيها ، وأما النار البرزخية فهم يدخلونها تباعا حتى قيامة الإماتة الصعقة ، فقد لا يكون للأحياء عندها برزخ؟!.

١٢٢

ولكن الجمع في البرزخ كائن في آخر الأمر ، فالأموات قبل القيامة الأولى أخذوا مواقعهم فيه ، ثم الذين يلونهم في القيامة الأولى يدخلون فيما هم داخلون وهنا (ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً).

وأما الصعقة الشاملة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) في القيامة الأولى ، فلا تنافي حياة برزخية بعدها فيها يثابون أو يعذبون.

وقد تعم «أدخلوا» إلى مدخل البرزخ مدخل القيامة الكبرى (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ..) ف «ادخلوا» للبرزخ أمر حاضر دون فصل ، وللأخرى أمر حاذر للمستقبل ببرزخ الفصل.

ثم «الجن» الداخلون مع «الإنس» في النار هم شياطين من الجن وفسقة يستحقون النار البرزخية ، مما يدل على أن الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم لا يشمل كل شياطين الجن ، فقد يشمل مع الشيطان الأوّل الشياطين الأول من صناديدهم كما هو قضية (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) فهنا شياطين منظرون مع الشيطان الأول ، وهم ـ بطبيعة الحال ـ أضرابه من رؤساء الشيطنة ، أم يشمل كل شياطين الجن لمكان (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) فدون الصالحين منهم هم قدد الشيطنة ، المنظرون مع هذا الشيطان.

وعلى أية حال فهناك منظرون من الشياطين هم كلهم أم بعضهم دون فسقه الجن ، فإنهم كما الإنس غير منظرين.

وترى كيف (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) وأمم النار أصدقاء مرافقون موافقون في أسباب النار واستحقاقاتها؟.

إن الملاعنة هناك هي قضية ظهور الملكوت ، ف (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧) ثم الموادة بينهم كانت قشرية على الأهواء الطائشة ، وقد مضت وأدبرت ، ثم ظهرت فاسدة كاسدة فقضت بما قضت ، فكل تعاون بين هؤلاء الأخلاء في الفسوق تكون هناك مادة العداء الظاهرة ، وقد كانت مستورة أم متغافلا عنها : (لَقَدْ كُنْتَ

١٢٣

فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) ـ (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٢١ : ٩٧).

أجل و (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٣٨ : ٦٤) ثالوث من التخاصم بسالوس الإضلال والضلال والإدغال ، فقد يخاصم المضلّلون مضلّليهم وعكسا ، كما يخاصم كلّ منهم قرينه في الضلال والتضليل ، واللعنة الأممية هي ضابطة اللعنة الثابتة «أمة» بمن فيها من المضلّلين والمضلّلين والقرناء في كل منهما ، فكل لاحقة تلعن أختها السابقة عليها ، ولأنها لحقتها في ضلالها ، إذ كانت تقلدها وتتبع آثارها ، ولعنت أختها اللاحقة بها ، سواء أكانت أختها مضلّلة لها أم مضلّلة بها ، حيث الأخوة فى الكفر لا تعرف دركة دون أخرى ولا زمنا دون آخر.

ثم «أمة» هنا هي أمة الموت ، وقد تعنيها (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) ولكنها أمة الضلالة ، وتقابل أمة الهدى.

ولماذا (ادَّارَكُوا فِيها) دون «دخلوا ـ أو حضروا»؟ حيث القصد إلى تداركهم فيها بحساب واستحقاق ، وإدراكهم بعضهم بعضا ظاهرا وباطنا ، وعندئذ :

(قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) حيث اللاحقة هي تابعة السابقة ، أم ـ كأوضح ـ أخراهم في الضلالة التابعة لأولاهم فيها وهم أئمة الجور (١) ، فالفريقان ـ إذا ـ هما المتعايشان إن في زمن واحد أم عديد ، فهما على أية حال المضلّلون باتّباعهم للمضللين ، سواء أكان في تعايش زمني ، أم في تقليد أخراهم لأولاهم دون تعايش حيث يضلّلون بآثارهم.

وبصيغة أخرى قد تعني «أخراهم» وجاه «أولاهم» كل أخرى لكل أولى ، في سلسلة متواصلة بحقول الإضلال والضلال ، أم «أخراهم» هم المضلّلون و «أولاهم» المضلّلون فإنهم الأولى في حقل الضلال وأولئك هم الأخرى ، مع كون كلّ من الأخرى هي أيضا أولى لمن يضلله.

إذا فالقصد من (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) هو قيلة كل أمة مضلّلة لكل

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ١٤ ـ الطبرسي قال الصادق (عليه السّلام) في الآية يعني أئمة الجور.

١٢٤

أمة مضلّلة ، والأمة هنا كما بينا هي أمة الموت في الكفار الذين هم أهل النار.

ذلك ، ولأن الضلال منه حاضر في تعايش الضلّال والمضلّلين ، ومنه غير حاضر بمضلّليه لمكان ضلالهم الغابر ، العابر مر الزمن ، فقد يشمل الإضلال كلهما ، فان «من سن سنة سيئة كان عليه وزر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أوزارهم» مهما كان الإضلال الحي أقوى وأغوى من الإضلال الميت.

إذا ف (قالَتْ أُخْراهُمْ) تشمل كل مضلّل و «لأولاهم» تشمل كلّ مضلّل حيا وميتا ما دام في ضلاله تأثير الإضلال بأي أثر باق باغ في حقل الضلال ، إذا فليست «أخراهم» هي المتأخرة موتا إذ قد يكون هي المتقدمة إضلالا.

(رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) لضلالهم أنفسهم وإضلالهم إيانا (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) فانكم كما هم ضللتم وأضللتم ، فان في الدخول إلى ربع الضلالة إضلالا للبسطاء ، ثم «لا تعلمون» ضعفكم عن ضعفهم ، فان لكلّ عذابا قدر سعيه في الضلال والإضلال.

ذلك ، فلا تعني «لكلّ ضعف» تماثل الضعفين عدة وعدّة ، بل هو التماثل لبعدي الضلالة مهما اختلفت العدة والعدة ، فقد يقوّى ضعف الأولين ويضعّف ضعف الآخرين ، حسب القوة والضعف في الضلالة والإضلال ، وكما أن كلا من الفريقين دركات في كلا الضلال والإضلال ، ثم والضعف في العدد كما العدد لا ينحصر في اثنين حيث قد يتجاوزهما إلى أضعاف حسب أضعاف الاستحقاقات (١).

__________________

(١) قال الأزهري «الضعف» في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين وجائز في كلام العرب أن تقول : هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله ، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة كما «فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» إذ ليست تعني ـ

١٢٥

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(٣٩).

وترى الفضل المنفي في بعد العذاب هو الفضل في عدّة العذاب وعدّته ، أن الفريقين

يتساويان فيهما؟ وهذا غير وارد في كل فريق بين أفراده فضلا عن الفريقين مع بعضهما البعض! فقد يعني فضل الضعف في العدد ، لا والعدد.

وعلى أية حال (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) فعلى قدر مكاسب السوء نجازى وتجازون.

وقد يعني (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) مدى الضّعف مضلّلين ومضلّلين ، فلذلك ليس (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) إلا جهلا بمدى «لكل ضعف» وهذا الجهل عذاب فوق العذاب.

ثم وقد تكون «فذوقوا ..» من كلام الله دون كلام أولاهم ، كضابطة عامة تعم أولاهم وأخراهم أن ذوق العذاب على أية حال ليس إلا بمكاسب السوء قدرها ، من مضلّل كان أم مضلّل ، على قدر ضلاله وإضلاله أم تقبله للضلال (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).

إذا فهي نقد على (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أم هو كلامهم وكذلك الأمر حيث أجابوا أنفسهم بأنفسهم. وحصيلة الضعف هنا وهناك أن لكلّ كثرة العذاب عددا وعددا حسب عديد العصيان وعدده ، وليس يعني (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) إلا فضلا من الله يختص بالمضلّلين لأنهم أتباع ، فهو العدل المحكّم بين الفريقين ، وقد يربوا المضلّل على المضلّل في ضعف العذاب قدر ضعف العصيان ، وإنما الفضل يختص بكتلة الإيمان ، أن يزدادوا ثوابا عمّا يستحقون ، وأما الكفار فلا زيادة في عذابهم ولا نقصان عن المستحق بقسطاس مستقيم.

ولأن «الضعف» لا يختص بالمثلين كما (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٣٤ : ٣٧) وأقل الضعف هو عشرة

__________________

ـ ضعف المستحق ، بل هو كثرة الثواب حسب كثرة الطاعات وأقل الضعف لهم عشرة أضعاف ف «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها».

١٢٦

لمكان (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وهذا لأدنى المؤمنين ، وهنا (جَزاءُ الضِّعْفِ) لأفاضلهم.

إذا فمطالبة ضعف العذاب للمضلّلين ـ فقط ـ لأنهم أضلوا ، خاوية عن العدل المرام يوم الحساب ، والجواب كلمة واحدة (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) من العذاب وهو كثرته قدر المستحق ، فقد يكون ضعف المضلّل أضعف من ضعف المضلّل ، وآخر يعاكسه ، وضعف كلّ ليس إلا بميزان العدل ، ثم لا ضعف كما يشتهون (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أن لكلّ ضعفا كما (لا تَعْلَمُونَ) قدر الضعف لكلّ حيث الأعمال معروفة عند الله ، مجهولة عند من سواه.

فهنا (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) تعني عذابا لضلاله وعذابا لإضلاله ، وكل ضعف إنما هو قدر المستحق عددا وعددا ولا يظلمون فتيلا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)(٤٠).

هنا (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) قد تعني أبواب سماء الرحمة الرحيمية دنيوية وأخروية وبينهما ومن الأولى ألّا تفتح لهم أبوابا لتصعد أعمالهم وأدعيتهم إليها ، حيث (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٣٥ : ١٠) كما لا تفتح عليهم بركاتها : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٧ : ٩٦) ، ومن الأخرى عدم صعودهم إلى الجنة المأوى عند سدرة المنتهى ، كما أن مما بينهما عدم صعود أرواحهم لدى الموت إلى سماء الرحمة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٨٣ ـ أخرج أحمد والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال : أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان وربّ راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة فإذا كان الرجل السوء قال : ـ

١٢٧

ذلك ، وأما أقفال السماوات فالشرك بالله ، ومفاتيحها قول «لا إله إلا الله» ، إذا فأبواب سماء الرحمة مادية ومعنوية لا تفتح لهم في أية نشأة من النشآت الثلاث.

إذا فللسماء أبواب : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) (٦ : ٣٥) ، (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) (١٥ : ١٤)(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) (٢٢ : ١٥).

و (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) تمثيل بما يستحيل حيث يحيل دخولهم الجنة ، فهل هو الجمل الإبل؟ فضلا عن جمل أصحاب الجمل (١) ولا صلة لذلك الجمل بسم الخياط ، ولا أن أصحاب الجمل من (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) لا سيما وهم بمثل طلحة والزبير كانوا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصالحين عند نزول الآية ، فكيف تنزل آية كفرهم الذي يحيل دخولهم الجنة؟!.

وهنا «بآياتنا» جمعا محلى باللام تحلق على كافة الآيات الأنفسية والآفاقية : رسولية ورسالية ، وهو الكفر المطلق المطبق ، البعيد عنه الذين يكذّبون ببعض ويصدّقون ببعض ، فلهم بعض الإيمان ، فقد يأتي يوم هم

__________________

ـ أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقال فلان فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فانها لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث قبض روح الكافر : فإذا أوتي بروحه إلى السماء الدنيا أغلقت منه أبواب السماء وذلك قوله : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) يقول الله : رددها عليه فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠ تفسير العياشي عن منصور بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية نزلت في طلحة والزبير والجمل جملهم.

١٢٨

يخرجون فيه من النار إلى الجنة قضية إيمان ، بعد ما ذاقوا وبال أمرهم في تكذيب.

فهذه الآية تبين مصير المؤبدين في النار الذين ينخمدون ـ بعد ما ذاقوا وبال أمرهم ـ مع انخماد النار ، فلا نار ـ إذا ـ ولا أهل نار.

ثم «الجمل» أمام «سم الخياط» تناسب القلس الغليظ الذي يجريه الجمل ، ولأنه حبال جمعت وجملت فأصبحت حبلا واحدا يصلح لجر الجمل ، وأين جمل من جمل؟.

فهنا «لا تفتّح» تعم كلّ تفتّح لبركات السماء معنويا وماديا في النشآت الثلاث ، كما تعم التفتح لصعود أعمالهم إليها يوم الدنيا ، وصعود أرواحهم فيها بعد الموت ، وصعود أنفسهم يوم القيامة الكبرى ، حيث تفتح أبواب جنة الخلد عند سدرة المنتهى لأهليها ، وكذلك نزول بركات من السماء مادية ومعنوية عليهم في هذه النشآت ، فهذه الأبواب كلها مغلقة على هؤلاء (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) كما أغلقوا على أنفسهم أبواب الهدى ، جزاء وفاقا.

أجل تفتح لهؤلاء الأنكاد أبواب الزحمة بديلة عن أبواب الرحمة ، حيث السماء تشملهما ماديا ومعنويا ، ولا تعني (بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) لأهل الرحمة في المادية منها ما تصل إلى غير الصالحين من رحماتها ، فانها تبدل عندهم بزحمات حيث يبدلون نعمة الله نعمة ونقمة ، إضافة إلى رحمات خاصة أخرى مادية لهؤلاء دون أولاء.

ذلك ، وأبواب السماء في صعود الأعمال والأدعية ونزول الفرقان والرحمة على أهليها ، هذه هي أبواب سماء الرحمة الروحية ، المتحللة عن العلو المادي ، ف (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) لا تعني إلى مكان عال إلا جنة المأوى ، أم إلى رضوان من الله الذي لا مكان له ، كما ونزول الرحمة المعنوية يعني فيما يعنيه نزولا روحيا دون مكان عال.

والأجمل هنا في «الجمل» الجمع بين جمل الجمل والجمل الذي

١٢٩

يجر به الجمل ، فلو أمكن ولوج الجمل ابتداء بحبله الجمل في سم الحياط لأمكن دخول هؤلاء الجنة ، ومما يناسب ذلك الجمع أن الخيط الغليظ الذي يصعب ولوجه في سم الخياط يربط برقيق سهل الولوج فيلج به صعبه ، وفي ولوج الجمل الإبل بجمله الفتل الغيظ استحالتان اثنتان ، مما يجعل الممثل به تضاعف الاستحالة ، وعلّ من الوجه في صيغة «الجمل» هنا دون الإبل ، جمعها لجملي : الجمل وحبل الجمل ، دون الإبل جمعا بين الاستحالتين ، فدونك قف أمام ذلك المشهد الرائع الشهيد ، مشهد الجمل بحبله تجاه سم الخياط ، فلو انفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير بجمله القطير ، فقد تنفتح الجنة لأولئك المكذبين بآيات الله المستكبرين ، ولكن :

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٤١).

هناك لهم «مهاد» مهدوها في الحياة الدنيا ، حيث الآخرة بحذافيرها هي مثال الدنيا المخلّفة ـ بما وعد الله ـ هي عنها ، ف (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ) من تحتهم فراشا «مهاد» أمهدة مفترشة ممهدة لهم بكل ألوان العذاب التحتية ، ثم (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) جمع الغاشية فهي أغشية مشتملة ، وهي العذابات الساترة لهم ، المحيطة بهم من جوانبهم كلها ، فيكون استظلالهم بحرها كاستقرارهم على جمرها ، ف (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٨٨ : ١ ـ ٨).

فالغاشية هي التي تغشاهم مهادا من تحتهم وسائر الغاشية من فوقهم : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩ : ٥٥) ، وعلى حد المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): عند تلاوته هذه الآية : هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدرى ما فوقه أكثر أو ما تحته غير انه ترفعه الطبقات

١٣٠

السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيّق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح» فقد جعل لهم من النار أمهدة مفترشة تحتهم وأغشية مشتملة عليهم ، فيكون استظلالهم بحرها كاستقرارهم عل جمرها أعاذنا الله منها ، فتلك هي ضفّة التكذيب والاستكبار ، ثم إلى ضفّة التصديق والإقرار :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣).

هنا (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تحدد واجب الإيمان وعمل الصالحات دون إحراج ولا إعسار فيها ، ف «أولئك» على درجاتهم بمساعيهم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) عطاء غير مجذوذ ، دون واجب الاستغراق الظاهر من (عَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إزالة لليأس عن هؤلاء الذين لم يطبقوا كل الصالحات ، فما لم يكن في الوسع من فعل المفروض أو ترك المرفوض فلا يطالب به المكلف ، ثم وما قصر فيه وهو يسعه أن يطبقه فبوسعه أن يجبره فهو مطالب بجبره ، اللهم إلّا السيئات المكفرة بترك الكبائر ، ف (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تبشير بواسع رحمة الله كضابطة ثم هناك مزيد فيما قصر من تكفير وتوبة وشفاعة أماهيه.

ذلك ، ومتصوّرات التكليف المستحيل والممكن والواجب كالتالية :

١ التكليف بالمستحيل ذاتيا ٢ أو حاليا ، ٣ والتكليف المحرج نوعيا أم ٤ شخصيا ٥ والتكليف الشاق المعسر نوعيا أو ٦ شخصيا ، ٧ والتكليف الموسع شخصيا ٨ أو نوعيا.

فالأولان مستحيلان في محكمة العقل والعدل فضلا عن التكليف الفضل ، ثم المحرج بشقيه غير وارد في الشرع لمكان نفي الحرج بآياته ك (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وكذلك الشاق الذي يكلف كافة قوات المكلف بنوعيه ، إلا قليلا لمكان نفي العسر بآياته ك (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ

١٣١

الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فيبقى الثامن وهو واسع التكليف الذي لا يكلف المكلف إلا واسعا في طاقته.

وكما أن واسع التكليف شرط في أصله لكافة المكلفين ، كذلك هو في كلّ منهم ، فإذا كانت الموانع لفعل المفروض أو الجواذب لفعل المرفوض ، كانت أقوى من طاقة المكلف أم يساويها ، أم هي أقل منها بقليل لا يعبأ به ، إذا فهذا التكليف خارج عن وسع المكلف فلا يكلف به ، اللهم إلّا إذا عدم الوسع بسوء اختيار ، وإذا فليس التكليف الخارج عن وسعه إلا بوسعه قضية سوء اختياره في ترك الوسع.

هذا ، فقد يقدر التكليف بالطاقة الموسعة امام المكلف به وإلا فلا تكليف إلا فيما استثني.

فالمفروض تركه أو فعله الذي هو بحاجة إلى عصمة ربانية خارج عن الفرض لمن دون المعصومين ، كما حصل ليوسف (عليه السّلام) في قصة امرأة العزيز ، ف (لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (١٢ : ٢٤) ـ فلو لم يدركه (عليه السّلام) برهان ربه وهو العصمة الربانية لهم بها على عصمته البشرية التي هي فوق العدالة العادية ودون العصمة الربانية ، فإن وقع غير المعصوم في نفس المأزق الذي وقع فيه يوسف (عليه السّلام) لكان في همه بها أم وفعله فيها معذورا إذ لم يكن تركها في ذلك الظرف الحاسم العارم في وسع الطاقة غير المعصومة.

وهكذا الأمر في كل طاقة قاصرة عن مكافئة أو مكافحة العصيان ، إلا إذا كانت قاصرة عن تقصير ، كالذي يسافر إلى بلدة يعلم اضطراره فيها إلى اقتراف محرم أو ترك واجب ، حيث اضطراره المقصر ـ إذا ـ غير عاذر ، فليس الاضطرار أو الإكراه أو سلب الطاقة عاذرا للمضطرين والمكرهين ومسلوبي الطاقة إلا إذا كانت هذه الحالات دون فعلهم القاصد وإرادتهم.

لذلك نجد آيات الاضطرار تعبر عنه بصيغة المجهول ك (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) لا «فمن اضطر» فالاضطرار المباغت هو الموضوع للعذر ، دون أي اضطرار وان كان باختيار.

١٣٢

ذلك ، و «نفسا» هنا هي عبارة أخرى عن «روحا» فلأن الله هو الذي خلق الأرواح بوسعها ، فهو الذي يعرف وسعها ، خلاف ما ظن قوم من الملحدين الغفلة الجهال أن الله لا يعرف النفوس ، فقد يكلفها فوق وسعها ، وكما تقولوه في (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١٧ : ٨٥) أن الجواب لم يحصل عما سئل ، امتناعا منه لفقد العلم به ، ف (ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما ، بل هو على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب ، ولقد فصلنا البحث حول آية الروح ، وأن فيها الإجابة عن كافة الأسئولة حول الأرواح كلها ، فراجع.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) إذ ما كانوا يستطيعون نزعه عنها وهو المستمر فيها نكال في الجنة ، فقد «نزعناه» نزعا لما كان يحدد الإيمان وعمل الصالحات ، وهو في الجنة يكدر طيبة العيشة والعشرة مع الإخوان.

أجل (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١٥ : ٤٧) وكما كانوا يتطلبونه هنا (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٥٩ : ١٠).

فقد يكون غلّ الصدور بما يخيّل إلى ذوات الصدور من تقصير لإخوان وهو قصور أم تقصير منا قاصر بحقهم فنطلب أن يزيل ذلك الغل وألّا يجعله في صدورنا ، أو يكون غلا بحق اعتداء بمثل حيث ظلمك أخ لك في الدين ، فقد يرجح زوال ذلك الغل عن الصدور سماحا عما حصل ، ثم إذا لم يزل الغل في صدورنا فالله هو الذي يزيله عنها في الجنة تحقيقا رفيقا للتعايش السلمي في دار الكرامة والرحمة حتى لا تحول ـ كما في الأولى ـ زحمة.

أم إنه غلّ بحق لا يحق زواله لأنه بغض في الله ، فالله قد يزيله في الآخرة حيث يزيل سببه بعقاب أم غفران بحق ، فلأن غل المؤمن في صدر المؤمن عذاب ، لذلك فلينزع تخفيفا خفيفا عن صدور المؤمنين ، ولكن

١٣٣

بحق لا يزداده غلا بعد غله.

وقد تعني «نزعنا» إلى نزع في الأخرى نزعا في الأولى كما في بعض الصالحين ، وإذا لم ينزعه هنا فقد ينزعه هناك رحمة من الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وفالغل هو العداء والضغن ، لا يخلو عن لمم منه إلا المخلصون ، ونزع الغل هو بطبيعة الحال قبل دخولهم الجنة وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ» (١).

ترى وإذا كان غل بحق فكيف يكون نزعه أيضا حقا وهو ضغط على صاحب الحق؟.

ذلك ، لأن الله لا ينزع الغل المستحق إلا بجزاء وفاق على المستحق عليه قبل الجنة أم بمعاملة تهاترية بين الأخوة المتغلغل بينهم الغل ، ثم ينزع ذلك الغل نزعا بعدل ورحمة ، فحين يجازى المستحق عليه في غلّ أم تجبر مادة الغل بسبب آخر فبقاءه ـ إذا ـ غل آخر دون مبرر ، فنزعه ـ إذا ـ رحمة بعد زحمة ، ثم الغل الخاطئ الذي لم يكن له أصل ، إنه ينزع هناك رحمة للجانبين ، إكراما لهما قضية إيمانهما ، ف (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧).

فقد نزع الله ما في صدورهم من الغل ـ أيا كان من حق أو باطل ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠١ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

وأخرجه مثله ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة قال حدثنا أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا اذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفسي بيده لأحدهم أهدى لمنزله في الجنة من منزله كان في الدنيا.

١٣٤

بإنسائهم إياه ، وإحداث أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم ، وتشفع مواقعه من صدورهم ، فلا يحقد بعضهم بعضا ولا يحسد على علو المنزلة فيها والبلوغ إلى مشارف رتبها ، والغل هو كل ضيق من حسد أو غبطة أو عداوة أماهيه مما يغل ويغلق مفاتح القلوب إلى أهل الجنة.

أجل ، ولأنهم ـ على أية حال ـ بشر ، يعيشون بشرا ، وقد يثور بينهم في العشرة الحيوية غيظ يكظمونه ، أو يغور غل يغالبونه فيغلبونه ولكن تبقى في صدورهم منه آثار وآصار ، أم يبقى دون كظم كضيم أم غلب هضيم ، ثم الله إكراما لهم واراحة إياهم في ساحة الجنة ينزعه عنهم وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين» (١) ، (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) الحق المبين والشرع المتين ، وهدانا لنزع هذا الغل من صدورنا ، ثم لهذه الجنة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) إلى ما اهتدينا (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) وقد هدانا حيث (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) جاء مجيئا (٢)

__________________

(١) القرطبي في تفسيره أحكام القرآن ، وفي الدر المنثور ٣ : ٨٥ ـ أخرج ابن جرير عن أبي نضرة قال : يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يقتص لبعضهم من بعض حتى يدخلوا الجنة يدخلونها ولا يطلب أحد أحدا بقلامة ظفر ظلمها إياه ، ويحبس أهل النار دون النار حتى يقتص لبعضهم من بعض فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحد أحدا بقلامة ظفر إياه.

(٢) مجمع البيان عن عاصم بن حمزة عن علي (عليه السّلام) انه ذكر أهل الجنة فقال : يحيون ويدخلون فإذا أساس بيوتهم من جندل اللؤلؤ وسرر مرفوعة وأكواب موضوعة ... ولولا أن الله تعالى قدرها لهم لا لتمعت أبصارهم لما يرون ويعانقون الأزواج ويقعدون على السرر ويقولون : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ونور الثقلين ٢ : ٣١ في أصول الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية قال : إذا كان يوم القيامة دعي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمير المؤمنين وبالأئمة من ولده (عليهم السّلام) فينصبون للناس فإذا رأتهم شيعتهم قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. يعني هدانا الله في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليهم السّلام) ، وفيه عن الإحتجاج للطبرسي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الغدير : معاشر الناس سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين وقولوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

١٣٥

بالحق ، وجاءت بسبب الحق ومصاحبة الحق وغاية الحق (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إرثا عن أهل النار حيث تركوا أمكنتهم لنا ، وارثا تركه لنا بما قدمناه من صالحات.

فهناك توارث بين أهل الجنة والنار ف «كل أهل النار يرى منزله في الجنة يقول لو هدانا الله فيكون حسرة عليهم ، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول : لولا أن هدانا الله» (١).

أجل و «نودوا أن صحوا فلا تسقموا ، وأنعموا فلا تبأسوا ، وشبوا فلا تهرموا ، واخلدوا فلا تموتوا» (٢).

ذلك ، وفي رجعة أخرى إلى «من غل» نقول : إن الغل في صدور المؤمنين بعضهم على بعض ليس ليكون عداء لذوات المؤمنين ، إنما هو غل ـ فيما هو حق ـ لأعمالهم الكليلة العليلة بالنسبة لبعضهم البعض ، فحين تغل صدور لذوات الآخرين فحق أن ينزع ذلك الغل عن الصدور المغلّلة.

ثم الغل الصالح الذي يعني بغض مؤمن يستحق الغل لعمله ، ذلك لا يفيد إلا كمرتبة من مراتب النهي عن المنكر وهو ليس لينزع يوم الدنيا ، ولكنه مع سائر الغل ينزع يوم الأخرى ، تخليصا لصاحب الغل عن غلّه ، وتقليصا لمورد الغل عن ذلك الغل بعذاب أم تكفير أمّا هو؟ من نزع لسبب الغل ، ولكي يكونوا في الجنة إخوانا على سرر متقابلين.

هذا «وقالوا» هؤلاء الأكارم بعد ما دخلوا الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

__________________

(١) المصدر ٣ : ٨٥ ـ أخرج النسائي وابن أبي الدنيا وابن جرير في ذكر الموت وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وفي المجمع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله في النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فذلك قوله : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(٢) المصدر ٣ : ٨٥ ـ أخرج جماعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : نودوا ...

١٣٦

هَدانا لِهذا) : الدخول والخلود في الجنة ، ولهذا النزع للغل من صدورنا ، ولهذا الجري من تحتنا الأنهار ، والجمع بينها لهذا المصير بذلك المسير حيث «هدانا» تعم هدى الأولى إلى الأخرى ، فإن هدى الأولى هي التي تهدي إلى هدى الأخرى الميراث العظيم (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) بسبب الحق ومصاحبين الحق وحاملين الحق (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وذلك الميراث يعني انهم سكنوا مساكنهم فيها وزيادة هي مساكن الآخرين الذين حرموا الجنة ، فان الله خلق لكل واحد من المكلفين مكانا في الجنة ومكانا في النار ، فكل من فقد مكانه من الجنة إلى النار يرثه أهل الجنة مكانه إلى مكانه نفسه.

ذلك (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) تنظر إلى قلة الطاقة البشرية في سبيل الهدى امام النزعات الشيطانية التي تتغلب عليها لولا أن هدانا الله.

مسرح عظيم من حوار الجنة والنار في مناداة ، وبينهما رجال الأعراف ، فلنعرف من هم أولاء الأكارم وما هو ذلك الحوار المستقبل وكأنه حاضر في المشهد بكل مصارحه وملامحه؟

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)(٤٥).

هنا مناداة بين فريقي الجنة والنار وبعد ما وجد كلّ ما وعدهم الله بما يعدون ، فقد ينعم فريق الجنة بما وجده من الوعد ، جدنا حقا ما وعدنا ربنا حقا ، حيث إن «حقا» ذو تعلقين اثنين ، ثم يستجوبون فريق النار فلا مفلت لهم عن «نعم» (١) ، ثم «أذن (مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) من مذياع الحق بالحق

__________________

(١) المصدر عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف على قليب بدر من المشركين فقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فقال له الناس : أليسوا أمواتا؟ فقال : إنهم يسمعون كما تسمعون.

١٣٧

وقد أصفق الفريقان انه علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) (١)(أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) المستحقين النار ، لا المعفو عنهم المستحقون الجنة ، والظالمون هنا هم (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

فعبارة «الظالمين» هنا قاصدة للعموم الموصوف بالثلاث الآتية مهما كانوا من المسلمين.

وترى كيف المؤذن هناك علي (عليه السّلام) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقه محتدا وصلوحا؟ علّه لأن له (صلى الله عليه وآله وسلم) المقام الأوّل وهو فوق الأذان ، فلثانية بأذنه عن إذن الله أن يكون هو المؤذن ، وكما كان مؤذن هذه الرسالة القدسية على هامشه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما في خطبة له (عليه السّلام): أنا المؤذن في

__________________

(١) في ملحقات أحقاق الحق ٣ : ٣٩٢ ـ ٣٩٤ ـ أورده من حفاظ القوم ونقلة آثارهم عدة ونحن نشير إلى من وقفنا عليه ، فمنهم ابن مردويه في المناقب كما في كشف الغمة (٩٥) روى عن أبي جعفر (عليه السّلام) في (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) قال : هو علي (عليه السّلام) ومثله الترمذي في مناقب مرتضوي (٦٠) عنه ، والآلوسي في روح المعاني ٨ : ١٠٧ عن ابن عباس مثله والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة (١٠١) روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بسنده عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السّلام) قال : أنا ذلك المؤذن ، وروى الحاكم بسنده عن أبي صالح عن ابن عباس انه قال علي (عليه السّلام) : في كتاب الله اسماء لا يعرفها الناس ، منها (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) يقول : «أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقي.

وروى في المناقب عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السّلام) قال : خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) بالكوفة عند انصرافه من النهروان وبلغه أن معاوية بن أبي سفيان يسبه ويقتل أصحابه فقام خطيبا ـ إلى أن قال ـ : وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة قال الله عزّ وجلّ : فأذن مؤذن بينهم ـ يقول ـ إلا لعنة الله على القوم الظالمين ـ أنا ذلك المؤذن ، وقال عزّ وجلّ : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وأنا ذلك الآذان.

وروى عن محمد بن الفضيل عن أحمد بن عمر الحلال عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام) قال : المؤذن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) يؤذن أذانا يسمع الخلائق والدليل على ذلك (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : أنا ذلك الأذان.

وفيه (١٤ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦) مستدركا عما ذكر ، ومنهم الحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ٢٠٢) وابن حسنويه في درر بحر المناقب (٨٥).

١٣٨

الدنيا والآخرة فكما أنه المؤذن يوم الدنيا أذانا رساليا بعد الأذان الرسولي ، كذلك هو المؤذن في الأخرى بإذن منه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو كان المؤذن هناك هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه لجيء باسمه المبارك ، دون مجرد الوصف «مؤذن» غير المعلوم صاحبه إلّا بسناد لمحات من القرآن كآيات الولاية ولا سيما آية شاهد منه : «أفمن كان علي بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى اماما ورحمة ..» (٤٦ : ١٢) فانها شاهدة لكون الإمام (عليه السّلام) هو الشخصية الثانية بعد الأولى الرسولية ، فليكن مؤذنا هناك كما هو المؤذن عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا.

و (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) استمرارية في ذلك الصد طول حياتهم الجهنمية بما يملكون أو يملّكون من قدرات وإمكانيات ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) بغيا عليها ، ابتغاء أنها عوج فلا تسلك ، وابتغاء أنفسهم إياها مسلكا عوجا ، فسبيل الله هو شرعته ونهجه وهم يبتغون عنها المتحاول ويطلبون منها الفسح والمخارج ويوهمون بالشبهات أنها معوجة غير قويمة ، ومضطربة غير مستقيمة!.

ولأن القرآن هو أفضل سبل الله فبغيه عوجا هو أعضل صد عن سبيل الله ، فكما أن من بغيه عوجا الخوض في آياته لنفضها ، كذلك القول : إنه لا يفهم وليس بمتناول الأفهام ، فانه عوج في كتاب الدعوة أن يكون قاصرة الدلالة على مرادات الله تعالى.

كما منه تفسيره بالآراء أن تحمل عليه الآراء السادرة عن الصادرة عن مصادر الوحي والتنزيل.

فكل مواجهة للقرآن خلاف ما يرام منه في حقل الدعوة المستقيمة الخالدة هو بغيه عوجا.

وهنا «الظالمين» في حقل تلك اللعنة التي يدخلون بها النار ، هم الذين يحملون هذه الأوصاف الثلاثة أم بعضها ، ابتداء من «يصدون» وانتهاء إلى (هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) وكل من هذه دركات يستحق أصحاب دركات من العذاب حسبها ولا يظلمون نقيرا.

١٣٩

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) فهم ـ إذا ـ في ثالوث منحوس من عمل مركوس مدسوس : صدا عن سبيل الله ـ وبغيا وابتغاء لها عوجا ـ وكفرا بالآخرة.

وما أظلمه في ثالوثه حيث يجمع كل دركات الظلم والتضليل ، فهم ـ إذا ـ حملة مشاعل الضلالة ، ورؤوس زوايا المتاهة والغواية.

وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ

١٤٠