الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

فقد شملت هذه الخمس المحرمات بأسرها دون إبقاء ، مهما لم تسم كل واحدة باسمها ، إذ سميت برسمها ، ما يحلّق على كل المحرمات في شرعة الله.

لا فحسب أنها تعم كل المحرمات الرسمية ، بل وترك الواجبات فإنه أيضا من المحرمات ، فلم يبق حكم إلزامي فعلا أو تركا إلّا وهو مشمول لهذه الخمس.

فالآيات المبينات لتفاصيل المحرمات ـ كما الروايات ـ هي شارحة لما أجمل في هذه الخمس ، وما أجمله إجمالا ينبع منه كل تفصيل.

فمن المحرمات ما هي مقدمات لمحرمات وهي كافة المقدمات الموصلة إلى محرمات فهي «الفواحش» ومنها ما هي محرمات غير فاحشة ، وثالثة هي فاحشة في نفسها ، ورابعة ما هي فاحشة إلى غيرها ، سواء أكانت محرمة أخرى كالخمر التي تفتح أبواب محرمات أخرى ، أم أشخاصا آخرين كالقتل والسرقة ، وهذه كلها مشمولة للفاحشة ، اللهم إلا الأولى المشمولة للاثم والثانية المشمولة للبغي ، كما المستتبعة لغيرها للإثم مهما كانت ـ أيضا ـ من الفواحش ، ثم المحرمات العقيدية والقولية مشمولة للأخيرين.

وهنا (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) تعم الفتاوى غير المسنودة إلى علم أو إثارة من علم (١).

__________________

(١) المصدر ٢٦ في الفقيه قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في وصية لابنه محمد بن الحنفية يا بني لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كلما تعلم ، وفي نهج البلاغة قال (عليه السّلام): علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وألا يكون في حديثك فضل عن عملك ، وان تتقي الله في حديث غيرك ، وفي عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) عن علي (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

١٠١

فلا يحق القول على الله ، أنه قول الله ، إلا سنادا إلى كتاب الله أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجة بينة ، وطريقة قيمة صالحة حاصلة على حق القول والقول الحق بحق الله ، ثم لا يسند ما وراء ذلك إلى الله ، وإنما يقال : هكذا أفهم والله أعلم ، دون تأكيدة لحجية قوله فضلا عن سناده إلى الله.

وهنا (ما لا تَعْلَمُونَ) تشمل العلم أو القطع الحاصل من غير الطرق الصالحة إلى الوحي ، والوحي لا يعلم إلا بنفسه ، بعلم هو نفسه ، أو أثارة من علم هي نقل رجالات الوحي ، وهو السنة القطعية الصادرة عن مصادر الوحي.

ثم ما وراء ذلك يعبّر عنه في القرآن بالظن ، ف (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤ : ٤٦) تحصر الحجة بها ، ثم ما وراء هما ظن و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨ : ٥٣).

والقول : إن القطع حجة ذاتية فلا يزول إلا بحجة تماثله أم هي أقوى؟ إنه غول من القول : حيث المقطوع كتابا وسنة ألا حجة إلا فيما يقطع به أو يعلم من الكتاب أو السنة.

ثم القاطع بغيرهما ـ على فرضه ـ هل يقطع بانحصار الحق فيه ، انحسارا له عما سواه؟ طبعا لا ، وإلّا كان مكابرا يفضل غير الوحي على الوحي للحصول على أصل الوحي!.

__________________

ـ وسلم): من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض ، وفي الخصال قال عبد الله (عليه السّلام) أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال ، ان تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم ، وفي كتاب التوحيد عن زرارة قال سألت أبا جعفر (عليهما السّلام) ما حجة الله على العباد؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون.

١٠٢

ثم ولا يحصل القطع الخالي عن أية ريبة بالطرق غير القطعية كالرؤيا ودليل العقل في الأحكام الفرعية ، والإجماع والشهرة وحتى الإطباق ، اللهم إلّا لمن هو قطّاع يقطع بأقل لمحة ، فهو ـ إذا ـ من قطاع طريق الحق ، والقرآن يعبر عن كل علم أو قطع وما دونهما من غير طريق الوحي القاطع ، يعبر عن كل ذلك بالظن ، إذا فأين الحجية الذاتية للقطع شرعيا ، مهما كانت حجة عرفية أماهيه؟.

ثم الذاتي لا يتخلف ولا يختلف عن الواقع أبدا ، ونحن نرى تخلفات في قطعيات ـ حتى الحاصلة من الكتاب والسنة ـ فضلا عما سواها ، والفارق بين القطعين حجية الحاصل من دليل الوحي بدليل الوحي ، وعدم حجية ما سواه.

ذلك ، وقد لا نجد آية تعم كافة المحرمات كهذه ، حيث شملت الصغائر إلى الكبائر ، والمتعديات إلى سواها ، في مثلث القال والحال والفعال ، وثالوث ١ المقدمات ٢ والأصول ، متعدية إلى محرمات أخرى ٣ وسواها ، فواجب التقوى يشملها كلها مهما اختلفت درجاتها حسب اختلاف دركات المحرمات.

وبتقسيم آخر للمحرمات نقول الجنايات خمس حسب النواميس الخمسة ، فمنها الجناية على العقول كشرب الخمر وما أشبه من مطعوم أم دعايات تزيل العقل أو تخففه ، وهي مشمولة ل «الفواحش والإثم والبغي بغير الحق».

ومنها الجناية على النفوس كقتل النفس وهي مشمولة لهذه الثلاثة ، أو على الأعراض كالزنا وكذلك الأمر ، أو على الأموال وهكذا الأمر ، أو على الأديان وهي الإشراك بالله والقول بغير علم على الله.

ولأن النواميس الخمس محرمة الضياع ومفروضة الحفاظ في كافة شرائع الله ، فهذه الخمس المسرودة هنا وهي عبارة أخرى عن هذه النواميس ، هي المحرمات الأصلية التي حرمت في كافة شرائع دون أي نسخ أو تحوير.

١٠٣

فقد شملت هذه الآية كافة صنوف المحرمات صغيرة وكبيرة ، ما ظهر منها وما بطن ، بنوعياتها وآثارها ، بأصولها ومقدماتها وغاياتها ، فلم تبق أية محرمة مفصلة في شرعة الله وغير مفصلة إلّا وهي داخلة في هذه الآية الضابطة لها كلها!.

ذلك ، وجملة القول أن طاعة الله الصالحة هي أن يطاع كما يريد ، لا كما تريد وهو يريد أن تحصل على علم الطاعة من وحيه فقط ، وأما غيره فهو من دخول الدار من غير بابها ، فحتى أن حصلت على علم واقع من غير طريق الوحي المقرر له طريقا خاصة ، فذلك مرفوض.

وترى إن أمرك المولى أن تدخل داره من مدخل خاص وحذّرك أن تدخله من سائر المداخل ، فهل لك أن تدخلها من سائرها.

وهكذا الله أمرنا بما أمرنا ، ثم أمرنا أن نحصل على معرفة أوامره من طريق وحيه لا سواه ، إذا فلا حجة في هذه السبيل إلّا وحيه لا سواه.

فكما أن من فسر القرآن برأيه أخطأ أو أصاب ، ومن أفتى بغير علم أخطأ أو أصاب ، ومن حكم بحكم له هو ليس بأهله أخطأ أو أصاب ، كان طريقه إلى النار.

كذلك من حكم بحكم أنه من الله وهو ليس من أهله ، أم هو من أهله ولكنه يحكم بغير الوحي ، فهو أخطأ أو أصاب كان طريقه إلى النار.

فليس فقط على المكلفين أن يطبقوا ما يعلمون من أحكام الله ، بل وعليهم أن يعلموها مما قرره الله ، وهو علم أو إثارة من علم ، فالعلم هو كتاب الوحي ، وأثارة من علم هو السنة القطعية الرسالية على هامشه ، ثم لا علم صالحا من غير هذين الطريقين الصالحين.

ذلك ، وحين يختص علم النبي بطريق الوحي دون عقليته البارعة أم سواها ، فكيف يعم علم من سواه في حقل الشرعة طريق الوحي إلى سواه.

فقد والله قال الله ما يحتاجه المكلفون إلى يوم الدين في إذا عتي الكتاب والسنة.

١٠٤

فالضوابط العامة وقسم من الفروع الهامة مذكور ـ ولا بد ـ في الإذاعة القرآنية المستمرة مع الأبد ، وسائر الأحكام الهامشية تتكفلها السنة القطعية ، ولو أن حكما من الأحكام أصلية أو فرعية كان في علم الله انه لا يصل صالح الوصول إلى الأمة من طريق السنة لكان يذكره في كتابه لكيلا يفلت بأسره ، حفاظا على تمام الدين وكمال النعمة ، ولأنها الشريعة الأخيرة التي لا بديل عنها إلى يوم القيامة ، فلتكن مبينة بين الكتاب والسنة.

وأما أن يحول الله بعض الأحكام إلى اجتهادات المجتهدين فلا يبينها أم يعلم أنها تخفى عن السنة ، فذلك نقص في الشرعة ونقض للغاية المشرعة لها الشرعة.

فا العلم والعلم فقط من طريق الوحي هو الحجة الشرعية في الأحكام وما أشبه من أمور الدين ، ولا يحصل القطع من غير طريق الوحي حيث الطرق كلها دون الوحي جائزة الخطأ ، فكيف يحصل القطع من طريقة جائزة الخطاء؟.

ف «ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم ، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات .. ألا وأن الخطايا خيل شمس ، حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ، ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة» (١) و «لا يهلك على التقوى سنخ أصل ، ولا يظمأ عليها زرع قوم ، فاستتروا في بيوتكم وأصلحوا ذات بينكم والتوبة من ورائكم ، ولا يحمد حامد إلا ربه ، ولا يلم لائم إلا نفسه» (خ ١٦).

و «ان في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعاما وخاصا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، ولقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتى قام خطيبا فقال : «من كذب على متعمدا فليتبوء مقعده من النار ـ

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٦ / ٥٥.

١٠٥

وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس :

رجل منافق مظهر للإيمان ، متصنّع بالإسلام ، ولا يتأثّم ولا يتحرّج ، يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله ، ولكنهم قالوا : صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رآه وسمع منه ويقصّ عنه فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس ، فأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة ـ

ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا لم يحفظه على وجهه ، فوهم فيه ولم يتعمد كذبا ، فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول : أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوا منه ، ولو علم هو انه كذلك لرفضه ـ

ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا يأمر به ثم إنه نهى وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه ـ

وآخر رابع لم يكذب على الله وعلى رسوله ، مبغض للكذب خوفا من الله ، وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يهم ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فحفظ الناسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنب عنه ، وعرف الخاص والعام ، فوضع كل شيء موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه ـ

وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام له

١٠٦

وجهان : فكلام خاص وكلام عام ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ، ولا ما عنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه ، وما قصد به وما خرج من أجله ، وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان يسأله ويستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله (عليه السّلام) حتى يسمعوا ، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته ، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم» (الخطبة ٢٠١).

ذلك ، فكيف نثق بحديث المعروف بالثقة وعلّه ١ منافق أو فاسق ، ٢ أم إن كان في الحق ثقة علّه تقبّله ممن عرفه بالوثوق وليس ثقة ، ٣ أم إنه وارد مورد التقية وهو لا يعرف ، ٤ أم هو منقول بالمعنى الذي لم يعن منه ، ٥ أو تقطّع أن سقط عنه ما يدل على صالح معناه ، ٦ أو منسوخ بحديث آخر أم آية ، وما أشبه من كوارث الحوادث في الحديث.

فما ذا تفيد صحة السند حين يحتمل الحديث مختلف الاحتمالات ، وإنما تسد صحة السند ثغر التعمد على الكذب بواقع الثقة.

وإنما الوثوق مرتكن على سلامة المتن من التهافت والتبعثر ، وموافقة الكتاب والسنة ، أو عدم مخالفتهما ، وعدم المعارض الذي يجعله غير معلوم الصدور ، وكون أحد السندين أوثق من الآخر لا يجعله معلوم الصدور ، فهو داخل في النهي : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)!.

إذا فلا دور لصحة السند إلا ضمانا لعدم تعمد الكذب ، دون ضمان لصدوره دون تقية ولا نسخ ولا سلامة عن النقل بالمعنى ولا تقطع وما أشبه.

ذلك ، ولأن العلم ثلاثة ، علم يحلّق على الواقع كله وهو مختص بالله سبحانه أو ومن علّمه بوحيه ما علّمه ، وهذا لا يقبل الخطأ ، وعلم هو أضيق من الواقع وهو الحاصل من غير الوحي ، وهذان قسمان اثنان : علم يحصل من طريق الكتاب والسنة بشروطه ، وآخر يحصل من غيرهما أو

١٠٧

منهما دون شروطه ، فالعلم الأول غير مفروض علينا ولا ميسور ، والثالث مرفوض محظور ، والثاني محبور ، فإذا صادف الواقع ـ وقليلا ما يخطأ لمكان عدم العصمة ـ ففيه أجران ، وإذا لم يصادف الواقع ففيه أجر واحد لمكان القصور الذاتي لغير المعصومين (عليهم السّلام) ، ولا حجة في العلم الحاصل بالأحكام الشرعية من غير الطرق المقررة الشرعية ، لقصور سائر الطرق ذاتيا إضافة إلى قصورين يعلم بها ، وأما الحاصل من الطرق المقررة الشرعية فهو حجة شرعية لمكان عدم التقصير في الحصول عليه وانه لا تكلف نفس إلا وسعها.

وما دغدغة ذاتية الحجية للقطع إلا خرافة ، فإن كان القصد حجيته العقلية بمعنى الانطباق على الواقع مائة بالمائة فهذا زلل من القول وزور ، وإن كان بمعنى الانطباق الأحياني الذي جعل الشارع حجة فكذلك الأمر ، حيث الحجة المنحصرة في الكتاب والسنة بدليل الكتاب والسنة تسلب أية حجية لأي دليل أو علم!.

وفيما يلي ـ على ضوء الآيات البينات التي تحصر الإتباع بالعلم في الكتاب والسنة ـ روايات نموذجية عن الرسول والأئمة من عترته (عليهم السّلام) :

١ : في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). حين أتاه عمر فقال : «إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا ، فترى أن نكتب بعضها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أفتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها نقية ، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي»! (١)

٢ : في حديث علي (عليه السّلام): «.. أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعذرون بجهالته ، فإن العلم الذي هبط به آدم (عليه السلام) وجميع ما فضلت به النبيون إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين ، في عترة نبيكم محمد (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) عوالم العلوم (٢ ـ ٣) : ٣٨٦.

١٠٨

وسلم) ، فأين يتاه بكم؟ بل أين تذهبون؟ يا من نجى من أصلاب أصحاب السفينة فهذه مثلها فيكم فاركبوها ، فكما نجا في هاتيك من نجا فكذلك ينجو في هذي من دخلها ، أنا رهين بذلك قسما حقا وما أنا من المتكلفين ، الويل لمن تخلف ثم الويل لمن تخلف ..(١).

٣ : في حديث الباقر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : شرقا أو غربا لن تجدا علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت» (٢).

٤ : في حديث الصادق (عليه السّلام): من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه ، ومن دخل فيه بالكتاب والسنة زالت الجبال قبل أن يزول (٣).

٥ : في حديثه الآخر «لا تحل الفتيا لمن لا يستفتي من الله عز وجل بصفاء سره ، وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كل حال ، لأن من أفتى فقد حكم ، والحكم لا يصح إلا بإذن من الله عز وجل وبرهانه ، ومن حكم بالخبر بلا معاينة فهو جاهل مأخوذ بجهله ، مأثوم بحكمه ، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أجرءكم بالفتيا أجرءكم على الله عز وجل ، أو لا يعلم المفتي أنه هو الذي يدخل بين الله تعالى وبين عباده وهو الحاجز بين الجنة والنار» (٤).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا تكذيب الله ، قيل : يا رسول الله وكيف ذاك؟ قال : يقول أحدكم : قال الله ، فيقول الله عزّ وجلّ : كذبت لم أقله ، ويقول : لم يقل الله ، فيقول الله عزّ وجلّ : كذبت قد قلته (٥)

وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السّلام): .. وأن أبتدأك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه ، لا

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر ٣٩٣.

(٣) المصدر ٤٠٠ عن غيبة النعماني.

(٤) المصدر ٤٢٣ عن مصباح الشريعة.

(٥) المصدر ٤٢٧ عن معاني الأخبار.

١٠٩

أجاوز ذلك بك إلى غيره (١).

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها

__________________

(١) العوالم (٢ ـ ٣) : ٢٣٦ نهج البلاغة.

١١٠

جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ

١١١

تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)(٤٦)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٣٤).

هناك آجال شخصية بين محتومة ومعلقة ، وهنا أجال جماعية ، فهل هي كماهيه آجال الأعمار بقسميها؟ ولا نجد أمة بكاملها تنقضي بموت لأجل محتوم أو معلق على أية حال!.

أم هي آجال في كيانها دون كونها كالأمم الرسالية الخمس حيث يقضى على شرعة كل بمجيء الأخرى ، ثم الأمة الإسلامية أجلها القيامة الكبرى إذ لا أمة رسالية بعدها ، وقد يتأيد أجل الكيان بآيات يونس : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٧ فيه عدة روايات تشابه ما نقلناه عن الدر المنثور في تفسير الآية أنها تشمل آجال الأعمار ، وفيه عن كتاب التوحيد بسند متصل عن ابن حيان التميمي عن أبيه : وكان علي (عليه السّلام) يفنى الكتاب يوم صفين ومعاوية مستقبله على فرس له يتأكل تحته تأكلا وعلي (عليه السّلام) على فرس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ

١١٢

ذلك ، بعد ما يتأيد بما احتفت به من آيات تخاطب بني آدم ككل : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ... وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ... يا بَنِي آدَمَ) إذا فكل الأمم الرسالية الخمس مؤجلة بأجل محتوم دون تعلّق ، حيث ينقضي دورها الرسالي بأمة رسالية أخرى تليها ، ومجيء الأجل هنا هو مجيء قضاء ، لا نفسه ، حتى ينافي لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

وهنالك أجل ثالث هو أجل كل الأمم عن بكرتهم كما في يونس (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ٦١ و «كل أمة» هنا تعني كل الأمم ، ولكنه احتمال بعيد عن ساحة الدلالة القرآنية.

ثم ومجيء الأجل في هذه الآجال لا يعني هنا واقعها إذ لا معنى ـ إذا ـ لاستقدامها وقد قضيت ، بل هو مجيء تقدير الآجال فلا مؤخر لها إذا ولا مقدّم عما عجلت أم أجّلت لها من آجال ، أم إنه واقع الأجل بفارق أنه في «يستقدمون» مستحيل ذاتيا ، وفي يستأخرون وقوعيا ، فقد عني ـ إذا ـ تلحيق «يستأخرون» ب «يستقدمون» في الإحالة مهما اختلفت فيها ذاتيا وسواها ، حيث القصد هنا أصل الاستحالة لا وكيفيتها.

ذلك ، وترى كيف «لا يستأخرون» مهما هم «لا يستقدمون»؟ (لا

__________________

ـ المرتجز وبيده حربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متقلد سيفه ذا الفقار ، فقال رجل من أصحابه : احترس يا أمير المؤمنين فانا نخشى أن يغتالك هذا فقال علي (عليه السلام) : لئن قلت ذلك أنه غير مأمون على دينه وانه لأشقى القاسطين وألعن الخارجين على الائمة المهتدين ، ولكن كفى بالأجل حارسا ، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه وكذلك إذا حان أجلي انبعت أشقاها فخضب هذه من هذا ـ وأشار بيده إلى لحيته ورأسه ـ عهدا معهودا ووعدا غير مكذوب.

أقول : فالمفروض على المكلفين التحرز عن بواعث الموت إلا فيما أمر الله بالجهاد ، ثم ليس عليهم الحفاظ على أنفسهم أكثر من ذلك التحرز حيث الأجل ضمان رباني.

١١٣

يَسْتَأْخِرُونَ) حيث يرون عندئذ ألّا مجال لتأخير لأنه أجل محتوم ، ثم «لا يستقدمون» قد تعني ـ مع ما عنت ـ أن ليس لهم تقدم الأجل المحتوم مهما حاولوا ، اللهم إلّا المعلق ولكنه أيضا غير بعيد عن مشيئة الله.

وقد تعني «كل أمة» كل الأمم رسالية وسواها بكياناتها الجماعية قيادية روحية أو زمنية أمّاهيه من كيانات جماعية.

أو تعني (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) ـ مع ما عنت ـ أجل الموت المحتوم قبل القيامة ، والأمة ـ إذا ـ هي أمة الموت ، فإن لكل آن أمواتا بين كل الأحياء ، ف (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الأجل المحتوم لا فرديا ولا جماعيا (١) وما علينا أن نتحرز عن الآجال المحتومة فإنه غير مستطاع لنا إذ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٨١ عن أبي الدرداء قال تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلنا : من وصل رحمه أنسئ في أجله؟ فقال : انه ليس بزائد في عمره قال الله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة فيدعون الله له من بعده فيبلغه ذلك فذلك الذي يلحقه دعاءهم في قبره فذلك زيادة العمر.

أقول : يعني (صلى الله عليه وآله وسلم) من زيادة العمر المنفية بصلة الرحم وما أشبه ، الزيادة على الأجل المحتوم ، وما ألطفه زيادة حكمية وهو في قبره حتى يصله دعاء الصالحين من ذريته ، فلا ينافي «ليس بزائد في عمره» دفع الآجال المعلقة بمبرات ، فطالما الزيادة الواقعية في العمر مسلوبة فالزيادة الحكمية وكذلك دفع الآجال المعلقة ، هما قائمان ، فالمبرات مانعة عن النقص في الأعمار دون زيادة عليها وكما قال الله : «وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ».

فالمعني من النسأ في العمر هو النسأ عن الأجل المعلق لا المحتوم وكما في المصدر أخرج أحمد عن ثوبان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من سره النسأ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه.

وفيه أخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ولي من أمر أمتي شيئا فحسنت سريرته رزق الهيبة من قلوبهم وإذا بسط يده لهم بالمعروف رزق المحبة منهم وإذا وفر عليهم أموالهم وفر الله عليه ماله وإذا أنصف الضعيف من القوي قوى الله سلطانه وإذا عدل مد في عمره.

١١٤

نجهلها ، فإنما لنا وعلينا التحرز عن أسباب الموت ـ غير المحبورة ـ حيث الأجل المحتوم مجهول بين الآجال المعلقة.

ففي مسارح القتال المفروضة علينا أو الراجحة لنا ليس التعرض للموت محظورا ، بل هو محبور قضية الأمر ، وفي سائر المسارح هو محظور حيث نجهل محتوم الأجل عن معلّقة(١).

فالمفروض علينا الفرار من الموت ، فرارا «من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل» (٢) ، فإنه قاض بالموت إذا تعرضنا لأسبابه المحتومة ، ولكنه مقدر للموت المحتوم أضيق من قضاءه فنستسلم لقدره كما أمر ، ونفرّ من قضاءه كما أمر ، اللهم إلّا في معترضات الموت المأمور بها كجبهات الحرب ، بل وفيها أيضا ليس لنا الإقدام على الموت ، بل

__________________

(١). راجع إلى حاشية (١) ص ١١٢

(٢) المصدر عن التوحيد باسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال : ان أمير المؤمنين (عليه السّلام) عدل من عند حائط مايل إلى حائط آخر فقيل يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ ، وفيه باسناده إلى عمرو بن جميع عن جعفر بن محمد قال حدثني أبي عن أبيه عن جده (عليهم السّلام) قال : دخل الحسين بن علي (عليه السّلام) على معاوية فقال له : ما حمل أباك على أن قتل أهل البصرة ثم دار عشيا في طرفهم في ثوبين؟ فقال (عليه السّلام) : حمله على ذلك علمه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، قال : صدقت.

وفيه وقيل لأمير المؤمنين (عليه السّلام) لما أراد قتال الخوارج : لو احترزت يا أمير المؤمنين فقال:

أي يومين من الموت أخر

وم ما قدر أو يوم قدر

ييوم لم يقدر لا أخشى الردى

وإذا قدر لم يغن الحذر

وفي كتاب المناقب لابن شهر آشوب : وكان مكتوبا على درع علي (عليه السّلام):

وكان مكتوبا على علم أمير المؤمنين (عليه السّلام) :

الحرب إن باشرتها

فلا يكن منك الفشل

واصبر على أهوالها

لا موت إلا بالأجل

وفيه عن الحسن بن علي (عليه السّلام) كلام طويل وفيه : إن عليا (عليه السّلام) في المحيى والممات والمبعث عاش بقدر ومات بأجل.

١١٥

(خُذُوا حِذْرَكُمْ) ثم إذا حضر الموت على حذركم فلكم الحسنى إذ كان بأمر الله.

ذلك ، فإذ توافق القضاء والقدر للموت فلا فرار كما قدر للإمام علي (عليه السّلام) قبله حيث قدم إلى مضجعه إلى المحراب ، وقدر للإمام الحسن المجتبي وللإمام الرضا وغيرهما من أئمة الدين قدر الموت بقضاء السم.

فإنما جهلنا بتوافق القضاء والقدر أو علمنا باختلافهما يفرض علينا الفرار من القضاء إلى القدر ، فأما إذا علمنا التوافق بينهما ، أم أمرنا بالتعرض لقضائه كمسرح القتال وما أشبه فلا.

فقد «قدر لكم أعمارا سترها عنكم» (١) «فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه» (٣٨) حيث «خلق الآجال فأطالها وقصرها ، وقدمها وأخرها» (٨٩) «وإن الفار لغير مزيد في عمره ، ولا محجوز بينه وبين يومه» (١٢٢).

ف «إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتصل فيه المنايا ، مع كل جريمة شرق ، وفي كل أكلة غصص ، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه» (١٤٣) و «إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حصينة» (٢٠١ ح).

وحصيلة البحث عن آية الأجل ، أن الأجل هنا بين محتوم ومعلق ، وهما بين أجل الموت عن أصل الحياة ، أو انتقال إلى شرعة أخرى ، أم انتقال كيان حيوي آخر روحيا أم ماديا من أمة إلى آخرين.

ثم «لا يستأخرون ولا يستقدمون» هما بين مجيء وقت الأجل إعلاما ، أم واقعا في وقته ، أم على أشرافه.

__________________

(١). نهج البلاغة الخطبة ٨٢ / ٢ / ١٤١.

١١٦

ف (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) في آجال الأمم الرسالية ، هما قضية أنهم مخبرون بأن أجلهم سوف ينقضي بما قضاه الله ، فليس لهم فيه تطّلبّ لتأخر إلى أمد ، أم تقدم على أمد ، لأنه مشاقة الله في قضاءه المحتوم حسب الحكمة العالية.

فلا يعني مجيء الأجل هنا واقعه إلّا في «لا يستأخرون» حيث لا مجال ـ إذا ـ ل «لا يستقدمون» فإن استقدام الزمن الماضي مستحيل.

وهكذا نمشي ونمضي بنور الله على ضوء القضية الدلالية للآية فاصحة واضحة ، بين محتملات الأجل والأمة ولا يستأخرون ولا يستقدمون ، ما ناسبت الواقع غير المستحيل ، والدلالة الصالحة.

ذلك ، والأجل المقدر عند الله مجهول عن كل الخليقة حتى المعصومين وكما قال علي أمير المؤمنين (عليه السّلام):

«أيها الناس كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره ، والأجل مساق النفس ، والهرب منه موافاته ، كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله إلا إخفاءه هيهات! علم مخزون ..» (الخطبة ١٤٩) و «إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وان الأجل جنة حصينة» (الحكمة ١٩٠).

أجل ، وكما أن أجل القيامة من العلم المخزون المكتوم قضية الابتلاء الشامل ، فكذلك أجل الموت فإنه لا يعلمه لوقته ومكانه الخاص إلّا الله ، ولم يكن ليعلم الإمام أمير المؤمنين إلّا كيف يقتل ، وإمامتى وأين فقد كان مجهولا لديه بنفس القضية الحكيمة الشاملة ، أم كان يعلم بتوافق أجلي المقدر والمحتوم فأقدم على ما أقدم.

ذلك ، وعلى أن الآجال محددة بإذن الله وعلمه ، ولكنه من ناحية أخرى لا يمنع من التحسر على بلوغ آجال الأجلاء الذين هم هداة الناس دون بديل عنهم.

وهنا من كلام لعلي أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو يلي غسل

١١٧

رسول الله وتجهيزه :

«بأبي أنت وأمي يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأبناء وأخبار السماء ، خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء ، ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفذن عليك ماء الشؤن ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا وقلا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه ، بأبي أنت وأمي ، اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك» (الكلام ٢٢٦).

ذلك ، وأجال الرسل هي مقدرة مقررة لا تستقدم ولا تستأخر ، قضية الحكمة العالية الربانية في الحفاظ على وحيه الرسالي لإتمامه في أيامه ، ولا سيما خاتم المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد «كتب آجالكم ، وأنزل عليكم الكتاب تبيانا لكل شيء ، وعمر فيكم نبيه أزمانا حتى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه ، وأنهى إليكم على لسانه محابه من الأعمال ومكارهه ، ونواهيه وأوامره ، فألقى إليكم المعذرة ، واتخذ عليكم الحجة ، وقدم إليكم بالوعيد ، وأنذركم بين يدي عذاب شديد ...» (الخطبة ٨٥).

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٥).

ذلك ، حيث (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٣٩) ـ

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً (١) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٢٤) ففي هاتين «هدى» حيث تشملان آدم وهو أول الرسل ، وهنا «رسل» إذ ما أتى آدم نفسه رسول ، نصوص ثلاثة تتحدث عن مسرح الرسالات الربانية على مدار

١١٨

الزمن الرسالي للمكلفين ، فالتمسك بآية «بني آدم» زعما أنهم ـ فقط ـ الأمة الإسلامية ، ف (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) بشارة لرسالات بعد الرسالة الإسلامية؟ إنه تمسك هباء وخواء ـ بعيد عن بني آدم ـ اللهم إلّا أن تخرج بقية الأمم الرسالية عن بني آدم ومنهم هؤلاء المدعون استمرارية الرسالة لما بعد الرسالة الإسلامية.

كلّا! فإنه خطاب يعم كل بني آدم على مدار الزمن الرسالي دونما استثناء ، منذ آدم حتى خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

ف (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ..) تأكيد لإتيان الرسل بصورة الشرطية ، تدليلا على أن (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) بشارة ونذارة عامة تحلق على كل بني آدم المكلفين دونما استثناء.

وهنا (رُسُلٌ مِنْكُمْ) كما (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ..) (٦ : ١٣٠) حيث تعني «منكم» المجانسة بين الرسل والمرسل إليهم ، لا انهم المنتخبون من قبلهم ، فهكذا أيضا «أولوا الأمر منكم» دون فارق.

ولأن «ما» تخفف عن تردد «إن» الشرطية ، ثم الشرطية غير متمحضة في واقع التردد ، بل هي تعلّق أمرا على آخر حاصلا أم سوف يحصل ، أم حصل قبل أو لن يحصل ، لذلك كله فلا تناحر بين «إن» الشرطية والتأكيد المستفاد من التأكيدية الثقيلة في «يأتين» ، ولأن القص هو تتبع الأثر ، وهو القص التأريخي بمعنى عرض النخبة اللامعة ، إذا ف (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يعنى تتبع الآثار الربانية فطرية وعقلية وشرعية أماهيه من آفاقية وأنفسية ، وقص التاريخ الرسالي لأنه سلسلة موصولة مع الزمن الرسالي.

ذلك وقد «اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن

١١٩

معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم الآيات المقدرة ، من سقف مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، واحداث تتابع عليهم ، ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة ، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ، ولا كثرة المكذبين لهم ، من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله ـ

على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الأبناء ، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لإنجاز عدته ، وتمام نبوته ، مأخوذا على النبيين ميثاقه ، مشهورة سماته ، كريما ميلاده ..» (الخطبة ١).

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٦).

والخلود ـ كما مر مرارا ويمر ـ هو البقاء مدة طائلة ، دون غائلة الأبدية اللانهائية التي افتريت على الله بتعليلات عليلة ، وهل العقوبة اللانهائية هي جزاء وفاق للعصيان المحدود لزمن محدود بأثر محدود؟ : ـ

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)(٣٧).

فممن افترى على الله كذبا وكذب بآياته هؤلاء الذين يؤبّدون المكذبين بآيات الله المستكبرين عنها ، أبد اللّانهاية ، فهم ـ إذا ـ معهم فيما يزعمون ، اللهم إلّا القاصرين منهم التابعين للقائلين به الغائلين.

(أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) قبل الموت ، لمكان (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ..) فما هو ذلك الكتاب؟ إنه بطبيعة الحال كتاب

١٢٠