الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

كل تعرّف للكون وانتفاع منه تسخيرا له في صراع بينه وبين الإنسان؟ ولكنه صراع بين الإنسان ونفسه ، أو سعي في سبيل الانتفاع مما سخر الله له ، وأما الكون نفسه ف : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٦٧ : ٣).

فلو كانت النواميس الكونية معاكسة للإنسان فيما يمكّنه ، ودون إرادة مدبرة له كما يزعمون ، ما نشأ هذا الإنسان في الأصل ، ولما استطاع أن يمضي قدما في حياة ، لو أنه وجد دون تلك الإرادة الربانية ، أم أوجد دون حكمة عالية ، ولكنه بما أعد الله ومكنّه في الأرض يتعامل مع الكون تعاملا عاقلا عادلا ويشكر الله على ما منحه ومكّنه ولكن (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

ومن هذه القلة القليلة العليلة غير الشاكرة مأساة الوجودية الكبرى في هذه التصورة الجاهلة البائسة اليائسة ، أن الكون بكل ثقله الساحق يسعى إلى سحق هذا الكائن الإنساني ومحقه.

ذلك التصور الخائن الخاطئ عن هذا الكون المكين المتين تجاه الإنسان المخلوق في أحسن تقويم ، الذي ينشئ ـ فيما ينشئ ـ حالة من الانزواء والالتواء والعدمية والانكماش ، أو حالة فردية تمردية تنمردية مستهترة ، نشرا في التيه بما فيه من الهلكة والانهيار!.

كلّا! إن الإنسان هو ابن هذه الأرض المستعمر هو فيها ف : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (١١ : ٦١) و (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢ : ٢٩).

فالأرض بنفسها موطئة مؤاتية مطيعة لاستعمارها العادل ، ولكن المستعمرين الظالمين في صراع الاستعمار الغاشم هم الذين يخلقون جو الصراع والظلم والضيم في تطاولاتهم على الأرض وأهليها ، ف (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تصورا عن الحياة ، وتعاملا مع أرض الحياة وعرضها ،

٤١

بعرضها ، وتعاملا مع أحياء الأرض وإحياءها ، ومواجهة لخالق الأرض ومن عليها.

ذلك ، ومن الذكريات المخجلة ل (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بداية العصيان من أبوينا الأولين الذين مكّنهما جنته ، واسجد له ملائكته ثم نهاهما عن الشجرة فعصياه بإغواء الشيطان :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)(١١).

من الأكيد أن (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) كان قبل «خلقناكم ..» كمجموعة ، فكيف تأخر هنا في هذا العرض العريض؟.

أفكان عرضا مشوشا خلاف واقع الترتيب؟ وهو مشوش من التأويل يمس من كرامة القرآن الرتيب الأديب فوق القمم كلها في الأدب الأريب!.

قد تعني «خلقناكم» بما خلق أبوينا الأولين حيث كنا ذرا هناك ، وكما (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٦ : ٤١) بوجه الذرية الصحيح أنها هناك من إضافة الشيء إلى نفسه باعتبارين : حملناهم وهم ذرية في أصلاب وأرحام الآباء والأمهات المحمّلين في الفلك المشحون ، وكما تشهد له : «وأنا لم طغى الماء حملناكم في الجارية» (٦٩ : ١١).

فهنا «خلقناكم» بما خلقنا في صلب آدم وترائب زوجه «ثم صورناكم» تصويرا بدائيا إنسانيا هو الصورة الأولى الإنسانية ، ثم : «النطفة» وما أشبه من سابقتها.

وعلّ القصد من جمعية الخلق والتصوير هنا هو التلميح بأن سجود الملائكة لآدم بمعناه الصالح لم يكن ـ فقط ـ حرمة لشخصه الشخيص ، ومن ذريته من هم أعلى منه محتدا وأهليه لذلك الاحترام ، كالمعصومين المحمديين (عليهم السلام) الذين لم يكونوا يتركون الأولى بجنب الله فضلا عن عصيان.

٤٢

ذلك ، وبوجه آخر ضمنه يلمح بالترتيب الثلاثي خلقا وتصويرا ومن ثم حرمة السجدة الملائكية لهذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم ، والقصد هنا إلى الصورة الإنسانية الكاملة الواصلة إلى أحسن تقويم كيانا على ضوء شرعة الله بعد ما هو أحسن تقويم كونا بفضل خلق الله إياه.

فالكيان الإنساني المتكامل على ضوء الفطرة والعقلية السليمة والوحي ، هو الكيان المسجود له بملائكة الله ، ولا تعني (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ـ كما فصلناه في آيات البقرة ـ إلّا سجدة الشكر لله بما خلق آدم معلما لهم ومربيا ، وليست سجدة الحرمة لآدم نفسه ، فضلا عن سجدة العبودية ، حيث التسوية بالله محرمة في شرعة الله : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨).

وقد يتأيد كون المسجود له احتراما هو الإنسانية دون شخص خاص هو الأول ، أن إبليس يهددهم أجمع بعد ما دحر بتخلفه عن السجود لآدم : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٦٢) (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(١٥ : ٣٩) وهنا (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ..) ، ولولا أن السجود كان لهم أجمعين بصورة إنسانية كاملة ، لما هددهم بما هددهم أجمعين.

وكما أن خلق آدم كان خلقا لنا أجمعين ، كذلك السجود له هو سجود لنا أجمعين ، اللهم من رد إلى أسفل سافلين ، فانما هو سجود الاحترام بساحة الإنسانية الكبرى ، ولا سيما أهل بيت الرسالة المحمدية كما يقول الإمام علي (عليه السّلام): «وأودعنا في صلبه وأمر الملائكة بالسجود له لكوننا في صلبه» (١).

ولقد جاءت قصة آدم وإبليس بحذافيرها جملة أو تفصيلا في سبعة مواطن : هنا وفي البقرة والحجر وبني إسرائيل والكهف وطه وص ، والقول الفصل حولها آت وقد مضى في البقرة فلا نعيد هنا ، اللهم إلّا ميّزات تختص بها هذه الآيات :

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٥ : ٩٢.

٤٣

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١٢).

«ما منعك» تلمح بأن طبيعة الحال وقضية المجال كانت السجدة دونما فتور ، حيث الآمر هو الله المولى والمأمورون هم ذلك الحشد العظيم بمن فيهم إبليس ، المولّى عليهم ربهم.

فلا بد ـ إذا ـ من مانع هو أقوى من دافع ، كما هو قضية الحال في كل عصيان.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فكيف يسجد «خير منه» لمن هو أدنى؟ إذ (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)! والنار خير من الطين في كافة الفاعليات مهما كان الطين ـ علّه ـ خيرا منها في قابليات ، ولكنها أيضا على ضوء فاعليات النار حيث تفعل آثارها فيه فتنبت منه نباتا وحيوانا وإنسانا.

ذلك ولكنه أخطأ في بعدين بعيدين ، ثانيهما أنه رد على الله بذلك البرهان! وكأنه غافل عما خلق أو جاهل به ، أم هو ظالم في تقديم المفضول على الفاضل ، وكل ذلك إلحاد بل هو أنحس من الإلحاد في الله والإشراك بالله ، ولذلك استحق الدحر أبد الآبدين ، كما وأنه أخطأ في أصل البرهان (١).

__________________

(١) وتقريرا لقياس إبليس يقال : إن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات ـ والنار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس لها إلّا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال ـ

والنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة ، وأما الأرضية والبرد واليبس فهي تناسب الموت والحياة أشرف من الموت ـ

ونضج الثمار متعلق بالحرارة وسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين ، وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس

٤٤

حيث نظر إلى فعليته النارية ولم ينظر إلى نورانية ذلك التراب فعلية وقابلية. «ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فصل ما بين النورين وصفا أحدهما على الآخر» (١) ، وحتى لو كان هو خيرا منه ، فخير منهما ومن كل خير هو إتباع أمر الله ، وكما أمرنا بالسجود نحو الكعبة ولا ريب أن من الساجدين من هم أفضل من الكعبة المباركة.

فقد خلقنا بما خلق آدم من تراب هيكلا ترابيا إنسانيا ، ثم صوّرنا بما صور آدم بالصورة الإنسانية جسمانيا ، ثم بما صوره بالصورة نفسيا.

فلنا خلق وتصوير إجماليان هما في خلق آدم وتصويره ، ثم خلق وتصوير تفصيليان هما في خلقنا أنسالا متتابعة ، والقصد هنا من (خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) هو الأولان ، لمكان (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ..) إذ لم يأت ذلك الأمر إلّا بعد خلق آدم وقبل خلقنا تفصيليا ، وقد يعنيهما (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ..) (٢٣ : ٦٧).

فطليق التسليم لرب العالمين لا يعرف حكمة وبرهنة حاضرة معروفة ، حيث الفرض تخطئة كافة الحكم والعلل المناحرة لأمر الله ونهيه

__________________

ـ المناسب للأرضية ، لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان.

هذه أركان قياس إبليس المرتكنة كلها على الظاهر الحاضر ، ولكنه غفل عن واقع هذا الكائن الطيني انه أشرف من الملائكة فضلا عن الجن.

(١) نور الثقلين ٢ : ٦ في العلل دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السّلام) فقال له يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس؟ قال : نعم أنا أقيس ، قال : لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فقاس ما بين النار والطين ... ، وفيه أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : إن إبليس قاس نفسه بآدم فقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فلو قاس الجوهر الذي خلق منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا وضياء من النار.

وفي الدر المنثور ٣ : ٧٢ ـ أخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم السّلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس .. قال جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه أتبعه بالقياس.

٤٥

إذ نجهل كثيرا وهو يعلمه ، وخير برهان للحق هو أمر الله ونهيه.

وشر عصبية هي التي لا تعني أصلا مهما كان باطلا يعرف له هذا السبب :

ف انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمه نواجم الفخر ، وقدع طوالع الكبر ، ولقد نظرت فاوجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلّا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم ، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة ، أما إبليس فتعصب على آدم لأصله ، وطعن عليه في خلقته فقال : أنا ناري وأنت طيني ـ

وأما الأغنياء من مترفه الأمم ، فتعصبوا لآثار مواقع النعم فقالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فها المجداء والنجداء ، من بيوتات العرب ، ويعاسيب القبائل ، بالأخلاق الرغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجلية ، والآثار المحمودة ، فتعصبوا لخلال الحمد ..(الخطبة : ١٩٠).

هنا (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) وفي «ص» : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)(٧٥) ولم يكن التنديد إلّا بواحدة منهما فكيف التوفيق؟ إضافة إلى أنه لم يمنعه شيء عن عدم السجود حيث المنع عن عدمه واقع لمكان واقعه وهو تاركه!.

«ما منعك» تعني مانع السجود ، ف «أن تسجد» هو الممنوع هنا : عن أن تسجد ، و «ألا تسجد» هي نتيجة المنع عنه دون «عن» فان «أن» هنا مفسّرة وهناك مصدرية ، فهما ـ إذا ـ عبارتان عن معنى واحد إيا كانت العبارة عنه.

ف «ما منعك» هنا يعني عن السجود ، ثم «ألا تسجد» بيان لنتيجة المنع عن السجود ف «ما منعك عن السجود ألا تسجد».

٤٦

ومن الضوابط المستفادة هنا أن الأمر يفيد الوجوب فورا ، فلولا الوجوب هنا لما صح تنديد ، ولولا الفور فلما ذا فور التنديد ، فهذه طبيعة حال أمر المولى أنه يفيد فور الوجوب ، اللهم إلّا أن تدل قرينة قاطعة على خلافه.

ثم وفي نظرة واقعية إلى طبيعة الأمر والنهي ـ بعد الدلالة القرآنية ـ نجد الإيجاب الطليق والمنع الطليق ، اللهم إلّا بقرينة قاطعة تقطع طبيعة الدلالة إلى سواها.

ثم «إذ أمرتك» تصريحة قاطعة أنه كان تحت الأمر بصورة خاصة مع عموم الملائكة ، فلا يرد أنه (كانَ مِنَ الْجِنِّ) فلا يشمله أمر الملائكة ، أو أنه أمر مرتين ثانيتهما في جمع الملائكة اعتبارا بانه كان محسوبا منهم لمشاركته إياهم في مظاهر الأعمال الصالحة في الملإ الأعلى.

فلقد ورطه الاستكبار إلى سحيق العذاب ومحيق المآب ، فهذا إبليس «اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لأصله ، فعدو الله إمام المتعصبين ، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادرع لباس التعزر ، وخلع قناع التذلل ، ألا ترون كيف صغره الله بتكبره ، ووضعه بترفعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعد له في الآخرة سعيرا» (١).

وإن أول معصية ظهرت الأنانية من إبليس اللعين حين أمر الله تعالى ذكره ملائكته بالسجود لآدم وأبى اللعين أن يسجد ، فقال الله عزّ وجلّ : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فطرده الله عزّ وجلّ عن جوار رحمته ولعنه وسماه رجيما وأقسم بعزته لا يقيس أحد في دينه إلا قرنه مع عدوه إبليس في أسفل درك من النار (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٩٠ / ١ / ٣٥٦ ، وفي نور الثقلين ٢ : ٦ في علل الشرائع عن جعفر بن محمد (عليهما السلام).

(٢) نور الثقلين ٢ : ٦ في علل الشرائع.

٤٧

ذلك ، ومن الإبلاس التأويلات القليلة لأحكام الله حسب الأهواء ، كهؤلاء الذين يؤولون أوامر أو نواهي لا يرون تأكيداتها إلى أخلاقيات ، وكأنها كلها من راجحات دون واجبات ، فمن واجبات أخلاقية تحقيق الواجبات ومن محرماتها اقتراف محرمات ، وحتى لو انحصرت الأخلاقيات في غير الملزمات سلبية أو إيجابية ، لم يبرر حمل أوامر ونواهي ـ دون برهان ـ على هذه الراجحات!.

ذلك فلما هبط إبليس بما عصى واستكبر أهبطه الله من دار كرامته إلى دار البلية ف:

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١٣).

(فَاهْبِطْ مِنْها) بما هبطت فأحبطت ما قدّمت (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) : الجنة ، وهي دار الكرامة للمكرمين الصالحين «فاخرج» مع الأبد (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) المخرجين الهابطين الخابطين الذي يستكبرون عليّ إلى يوم الدين. و «الصاغر» هو الدنيء الرذيل.

ك (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٩ : ٢٩) والعالون يقابلونهم : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) فقد استكبر صاغرا ولم يكن من العالين المكرمين ، أم ومن العالين على آدم ولم يكن.

«فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ، كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا ، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٩٠ / ١ / ٣٥٨ ، أقول «ملكا» فيها لإبليس ليس باعتبار جنسه وأصله ، إنما هو باعتبار محتده الملائكي في عباده وكما أدخله الله فيهم فيما أمر إذ قلنا ـ

٤٨

وترى «فيها» تختص حرمة الاستكبار على الله بالجنة؟ فلا تحرم في غيرها! إنها تحرمه إلى المكانة مكانا في الجنة ، أن المحرم ليس ليؤتى به في ذلك المكان مهما كان محظورا ككل ، فإن للمكان دخلا في غلظ التحريم.

ثم ترى ذلك الهبوط هو من جزاء ذلك العصيان؟ فكيف أهبط معه آدم وزوجه وقد تابا! إنه من جزاء العصيان مهما كان آكد جزاء لمن لم يتب ، أم إنه طبيعة الحال لمن عصى تاب أم لم يتب ، قضية مكانة خاصة لهذه الجنة ، والتائبون داخلون جنتي البرزخية والأخرى قضية الامتحان هنا ، والنجاح فيه هناك.

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(١٥).

لقد تطلّب إنظاره (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) لمواصلة إضلاله ، فأنظره الله ، لا إكراما له وإجابة لدعائه ، وإنما إملاء له بمتين كيده ، وإملاء لعباده في دار الإختيار الاختبار.

وتراه أنظر إلى ما نظر واستنظر؟ قد تلمح لعنته إلى يوم الدين إلى تحقق ما نظر ، وهو المعني ـ إذا ـ من يوم الوقت المعلوم : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١٥ : ٣٨) فلعنته إلى يوم الدين قبل استنظاره إليه دليل إنظاره قبله ، فإن مديد اللعنة هو قضية مديد الإنظار على سواء ، وحديث إنظاره إلى يوم المهدي (ع)

__________________

ـ للملائكة ولكنه «كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ».

وفيه «ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضيائه ، ويبهر العقول روائه وطيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل ، ولو فعل لظلت له الأعناق خاضعة ، ولخفت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله ، تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وإبعادا للخيلاء منهم ـ فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة ..» (الخطبة ١٩٠ / / ٣٥٦).

٤٩

مأوّل بختام ثورته وفورته ، قضية حق الدولة ودولة الحق التي لا تفسح له مجالا كما كان ، حيث يضعف ساعده ويقل مساعده.

لكن هنا (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) لا يعني (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) استثناء له عن الموت في قيامة الإماتة ، إنما هو إنظار إلى هذه القيامة الأولى حيث يموت مع كل من يموت ، ثم يبعث مع سائر المبعوثين ، فلم ترد إجابته في إنظاره إلى (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) إنما هو (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو قيامة التدمير قبل قيامة التعمير (١) كما ولعنته إلى يوم الدين تعني حتى قيامة الإماتة ، أم مع قيامة الإحياء حتى الأبد ، اللهم إلا في حالة الصقعة حيث لا يشعر فيها لعنة.

ثم في تبديل (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ب (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وأنه ليس ممن شاء الله من المعنيين ب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). (٣٩ : ٦٨) تلميحة أخرى باهرة أنه لم ينظر إلى يوم الدين الإحياء ، بل هو إلى آخر زمن التكليف ، ولأن الإنظار إلى يوم الإحياء احترام كما لمن شاء الله حيث يبعث حيا ، وهو إلى يوم قيامة الإماتة بلاء واخترام ، ثم الغاية من ذلك الإنظار هو تداوم الإضلال ولا مورد له بين الصقعتين ، فإن من دون المعصومين الأكارم مصقعون ، وهؤلاء المخلصون ليس له عليهم من سلطان ، فما هي الجدوى لإنظاره ـ إذا ـ إلى يوم الدين؟ إلا حياء.

ثم «المنظرين» قد تعم ـ إلى الإنظار المتصل للشيطان حيث يستمر حيا ـ الإنظار المتسلل في حلقات متتالية لسائر شياطين الجن والإنس ، كلما مات منهم شيطان أو شياطين ناب عنه شيطان أو شياطين ، أم هو إنظار جماعي لكل شياطين الجن أو بعضهم وهم حملة مشاكل الشيطنة ، حيث الإنظار المتسلل ينعم شياطين الإنس ، والقصد من «انظرني» و (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) هو الإنظار المتسلسل ، دون المتسلل.

__________________

(١) لواسع الاطلاع على ذلك الإنظار راجع تفسير آية الحجر ج ١٤ ص ١٨٠ من الفرقان.

٥٠

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)).

لقد نلد اللعين حينما نفد جوار الرحمة ، ودخل بوار الزحمة ، فنسب غوايته إلى الله ، أم قد يعني من هذه النسبة أنه تعالى ابتلاه بما أغواه وأهواه ، وهو معترض على الله بما ابتلاه!.

(قالَ ... لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) كحارس على مدخل الصراط ، حارص على الإغواء عن الصراط ، حارث للغواة إلى حزبه ، وهذه الحراسة لعنة ورحمة ، لعنة كما يعنيه إبليس ويحققه من إضلال المتطرقين للصراط المستقيم ، ورحمة لا يعنيها وهي إخلاص الوافدين إلى الله ، أن يغدوا إليه بمطاردة اللعين ، وكافة الأهواء الحاجبة بينهم وبين الله ، إذا «فأعطاه النظرة استحقاقا للسخطة ، واستتماما للبلية ، وإنجازا للعدة فقال : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(١).

وقد تلمح «لهم» لما لم يقصده من الرحمة ، ولما قصده من الزحمة إظهارا لها بمظهر الرحمة ، حيث يزيّن لهم موقفه من «الصراط المستقيم» فإنه يزين لهم الباطل حتى يروه حقا ، وكما وعد : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١٥ : ٢٩) وكأن اللّعين يعني بمكره هذا وإغواءه عذرا جزاء إغواءه من الله ، رغم أن إغواءه عدل وإغواء الشيطان ظلم.

وعلى أية حال فقد كان قعوده على الصراط المستقيم لهم في ظاهر التصميم قصدا حيث يتظاهر به ، ثم هو في الصميم دون قصد ، وهو يخفي عنهم أنه قاعد الصراط المستقيم عليهم ، فلذلك قال «لهم» دون «عليهم».

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة القاصعة للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وقد أوردناها بتفسيرها في ج ١٤ ص ١٧٢ من الفرقان فراجع.

٥١

ومن أخطر ما يقعد لنا الصراط المستقيم ما يخيل إلينا في الصلاة من وجدان ما نفقده حالتها ، حيث يزين لنا التفكر فيها لما هو خارج عنها حتى نحصل على بغية لنا عزيزة فنحظو به زاعمين أن الصلاة هي مجالة صالحة للحصول على ضالاتنا المنشودة ، وكيف نعمل حتى نحصل على هذه الضالات؟ إنه يخليّ بيننا وبينها فترة مترقبة ، فيزول حجابه من هذا البين ، فيتبين لنا ما خفي عنا بحجابه هو ، فإننا نطّلع على كثير من الحقائق لو لا الحجب بيننا وبينها ، ومن أهمها حجاب الشيطان نفسه ، فبزواله ومزاولة التفكير نحصل على البعض من الحقائق المحجوبة ، فيخيّل إلينا أنّ الصلاة هي من أفضل المسارح للحصول على ضالاتنا المنشودة التي لا نحصل عليها في غيرها.

ثم و «أغويتني» ليست لتعني الإغواء البدائي دونما استحقاق ، بل هو إغواء المكر الربّاني عدلا بمكره هو ، أنه أمره على علمه أنه لا يأتمر فيهبط ، وأمره لكي يظهر كفره ، فلذلك هو يمكر عباده كما يمكرون (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

ذلك! «فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزكم بندائه ، وأن يجلب عليهم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأعرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب فقال : رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ، قذفا بغيب بعيد ، ورجما بظن غير مصيب ، صدقه به أبناء الحمية ، وإخوان العصبية ، وفرسان الكبر والجاهلية ، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم ، واستحكمت الطاعية من فيكم ، فنجمت الحال من السير الخفي إلى الأمر الجلي ، استفحل. سلطانه عليكم ، ودلف بجنوده نحوكم ، فأقحموكم ولجات الذل ، وأحلوكم ورطات القتل ، وأوطؤوكم إثخان الجراحة ، طعنا في عيونكم ، وحزا في حلوقكم ، ودقا لمناخركم ، وقصدا لمقاتلكم ، وسوقا بخزائم القهر إلى النار المعدة لكم ، فأصبح أعظم في دينكم حرجا ، وأورى في دنياكم قدحا ، من الذين أصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متألبين ، فاجعلوا عليه حدكم ، وله جدكم ، فلعمر الله لقد فخر

٥٢

على أصلكم ، ووقع في حسبكم ، ودفع في نسبكم ، وأجلب بخيله عليكم ، وقصد برجله سبيلكم ، يقتنصونكم بكل مكان ، ويضربون منكم كل بنان ، لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة ، في حومة ذل ، وحلقة ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء ، فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية ، وأحقاد الجاهلية ، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ، ونزعاته ونفثاته ، واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم ، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم ، وخلع التكبر من أعناقكم ، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده ، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا ، ورجلاء فرسانا ، ..» (١).

هنا (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) قد تعني الصراط المحيط بالإنسان حيث

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة (١٩٠) وفيه تحذيرا عن الكبر «ألا وقد أمعنتم في البغي ، وأفسدتم في الأرض ، مصارحة لله بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة ، فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية ، فانه ملاقح الشنآن ، ومنافخ الشيطان ، التي خدع بها الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، حتى أعنقوا في حنادس جهالته ، ومهاوي ضلالته ، ذللا عن سياقه ، سلسا في قياده ، أمرا تشابهت القلوب فيه ، وتتابعت القرون عليه ، وكبرا تضايقت الصدور به» (١٩٠).

«ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم ، الذين تكبروا عن حسبهم ، وترفعوا فوق نسبهم ، والقوا الهجينة على ربهم ، وجاحدوا الله على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه ، فإنهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهلية .. ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحتكم مرضهم ، وأدخلتم في حقكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، واحلاس العقوق ، اتخذهم إبليس مطايا ضلال ، وجندا بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم ، استراقا لعقولكم ، ودخولا في عيونكم ، ونفثا في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، وموطئ قدمه ، ومأخذ يده ..» (الخطبة ١٩٠).

وأستأدي الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم وعهد وصيته إليهم في الإذعان بالسجود له والخشوع لتكرمته فقال سبحانه (اسْجُدُوا لِآدَمَ) فسجدوا إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقه النار واستهون خلق الصلصال فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة واستتماما للبلية وإنجازا للعدة ..(الخطبة ١).

٥٣

يبتلعه أو يبتلعه السالك ، دون صراط الرب المخصوص به (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١١ : ٥٦) فانما هو صراطه الذي قدره للسالكين إلى مرضاته.

إذا فإتيان السالك لصده عن سلوكه بحاجة إلى حصر مربعة الجهات ، وهي بطبيعة حال الصراط روحيا ، وأن الإضلال ليس يتوجه إلا إلى الأرواح ، ثم الجهات المحيطة بالجسم ست وليست أربعا ، فهي الجهات الروحية : صراط العلم والمعرفة به ، وصراط الإيمان ، والتصديق له ، وصراط العبودية الخالصة ، وبتعبير آخر صراطي المعرفة والعبودية فإنهما واحد حيث يشكلان الهدي إليه والزلفى دونما تفلّت أو تلفت عنه.

ف (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) بكل ما يستقبله السالك ويستقبل السالك من الآخرة والأولى وما بينهما ، من أعمال وآمال وسائر الآماد المستقبلة ، استخداما لها كلها لتضليله ، صدا عن حاضره ومستقبله من صراط الله ، ولكيلا يستقبل خيرا.

(وَمِنْ خَلْفِهِمْ) مما يستدبره السالك من دنياه بأعماله المسلوكة سلك الصراط ، هدما له وحبطا إياه ، تزيينا لقبحه وتقبيحا لصالحه.

(وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) وهي أيمان الدين حيث يأتي بنقاب القدسية الشرعية ويصد عنها ، إلى أيمان الفطر والعقول والأفكار والصدور والقلوب ، فتشل الأيمان التي هي ذرائع إلى الصراط المستقيم.

(وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) وهي شهواتهم حيث يزينها لهم فيحسبون أنهم يحسنون صنعا (١) وإلى أنفسهم الأمارة بالسوء وأعمالهم السيئة ، فالعقلية الإيمانية والشهوة الشيطانية هما من المداخل الأنفسية للشيطان ، ثم الآخرة

__________________

(١) عن مجمع البيان روي عن أبي جعفر (عليه السّلام) (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) معناه أهوّن عليهم أمر الآخرة (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم.

٥٤

والأولى هما من المداخل الآفاقية إلى إضلال الإنسان ، وحينئذ تنسد عليه كل منافذ الصراط المستقيم.

فقد يقعد لهم الشيطان (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) قعدة شيطانية تحلّق على هذه الجهات الأربع ، حصرا في الشهوات وحسرا عن العقليات ، والنتيجة الحاسمة : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) حيث يتلفتون إلى الشيطان ويتفلّتون عن الرحمن ، ثم يبقى أقلهم وهم المخلصون : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٣٨ : ٨٢).

أجل ، ولأن (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ليس طريقا حسيا ، فالجهات الأربع في قعدة الصراط ـ الإبلسية ـ كذلك ليست هي الجهات الحسية الجغرافية ـ وهي ستة ـ بل هي الجهات المعنوية التي تعني الحياة الإنسانية ، الناحية منحى الصراط المستقيم من تعمير مثلث زمان التكليف بإحكام العقلية الإنسانية وأحكامها على ضوء الفطرة والوحي ، وحصر الأهواء الطائشة وأسرها عما لا يحل.

ذلك ، وفي نظرة أوسع نرى (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) تحلقان على كافة الآيات الآفاقية ، ثم (عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) تشملان كل الآيات الأنفسية ، ثم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) تعم كافة الآمال والأحوال المستقبلة ، مقبولة لديك أو محتملة ، واقعة أو متخيلة ، فمنها الحياة البرزخية والحياة الأخرى حيث يأتينا منهما نكرانا لهما أم تزييفا لموقفهما حتى لا تؤثرا في صالح الأعمال.

و «من خلفهم» تشمل كل خلف للكون ، ومنها هل له من خالق؟ حيث يتفلسف ماديا لاثبات أزلية المادة ، أم في تفلسف آخر يقرر أصول الفلسفة المنحرفة كالأزلية الزمانية للعالم ، ووحدة حقيقة الوجود بين الخالق والمخلوق ، ومسانختهما لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وغل يدي الخالق حيث الواحد لا يصدر منه إلا واحد ، وما أشبه من خلاف العقل والنص كتابا وسنة.

أم القول بالتعدد اللاهوتي ثنويا أو ثالوثيا وما أشبه من الخرافات

٥٥

المحلقة على فكرة «الله».

ثم (عَنْ أَيْمانِهِمْ) تعم العقل بجنوده (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) تشمل الجهل وجنوده ، إظهارا للعقل بجنوده جهلا ، وللجهل بجنوده عقلا ، وخلطا بين كل حق وباطل للبسطاء الذين لا يعقلون ، بل والخلط على العلماء ، اللهم إلا المخلصون والمخلصون.

وكما أن (مِنْ خَلْفِهِمْ) تشمل كل خلف قريب أو بعيد ، كذلك (بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) بل وهي أشمل منها حيث تشمل الحاضر إلى المستقبل.

فقد يحلق الشيطان في إغوائه على كل الآيات الآفاقية والأنفسية (١).

وبصيغة أخرى الصراط هو الدين ، ف «صراطك» هو دين الله ، جعله الله طريقا للنجاة والمفاز ، وإنما قال : «صراطك» حيث الدين هو الطريق المؤدية إلى مرضاته ، إلى قربه وزلفاه ومثوبته ، فكان إبليس لعنه الله إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ـ الشاملة على الجهات الأربع ـ ليضل عنه كل قاصد ، ويرد عنه كل وارد بمكره وخدائعه وتلبيساته ،

__________________

(١) وهنا إجابة عن شطحات إبليسية سبع كلمة واحدة «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» بالمعترفون بالله مشركين أو موحدين ليس لهم سؤال الاعتراض على الله حيث المسؤول إنما هو الظالم ـ الجاهل ـ القاصر أو المقصر ، ولأننا لا نحيط علما وهو بكل شيء محيط فلا سؤال إذا اللهم ألا تفهما.

والأمور أمامنا ثلاثة : منها ما نعرف حكمة لها ، وأخرى لا نعرف ، وثالثة يخيل إلينا أنها خلاف الحكمة ، فلأن الله تعالى حكيم عليم لا يخطأ ونحن نخطأ فقضية العقل أن نتهم عقولنا المحدودة دون الحكمة الربانية الحكيمة العليمة.

فمهما جاز لنا أن نخطئ من هو أعلم منا بما علمناه خلافه ، لا يجوز لنا أن نخطئ ربنا إذ لا يمكن منه الخطأ ، فحتى إذا وصلنا بعقولنا أم علومنا أم حواسنا إلى خطأ في خلق. فما لا ريب فيه جواز الخطأ لنا دون الله فلنخطئ آراءنا دون الله.

ثم الملحدون في الله الناكرون إياه لا مورد لهم لسؤال ، اللهم إلا قولهم : إن كان الله هو الذي خلق ما خلق فلما ذا ..؟ والجواب انه لأنه الله الخالق المحيط بكل شيء ، الغني عن كل شيء. فقد يجب عليكم أن تخطئوا حلومكم وعلومكم أمام علمه المحيط.

٥٦

كالقاعد على مدرجة بعض السبل ليخوف السالكين منها ، ويعدل بالقاصدين عنها ، فهو «يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستنب غرته»(١).

ولماذا «من» في الأولين و «عن» في الآخرين ، علّه لأن «بين أيديهم وخلفهم» هما جهات منفصلة عنا فهو يأتينا منهما إلينا حتى يضلنا عنهما ، ولكن «أيمانهم وشمائلهم» هما فينا ، فليأتنا تجاوزا عنهما ، فالأيمان هي الفطر والعقول والأديان. والشمائل هي الأنفس الأمارة بالسوء والشهوات.

ثم وذلك الإتيان المربعة الجهات هو بوعده وتمنيّه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٤ : ١٢٠) وتخويفه عن سلوك الصراط : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (٣ : ١٧٥) كما (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢ : ٢٦٨).

وعلى الجملة كلّ خطواته المحلّقة على مربعة الجهات : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (٢ : ١٦٨) وذلك هو احتناكه لهم كما وعد : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٦٢).

وقد تعني «شاكرين» ما يعم المخلصين إلى المخلصين ، ويؤيده : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢) والمخلصون ـ كما المخلصون ـ ليسوا من الغاوين مهما اختلفت الدرجات ، فإتيان الشيطان عن اليمين : الدين ، يعم الدينين وغير الدينين ، فالأولون يؤتون بتشكيكات حول الدين ، أو تأويلات بتسويلات ،

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٠ في نهج البلاغة من كتاب له (عليه السّلام) إلى زياد بن أبيه ـ وقد بلغه أن معاوية قد كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه ـ وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستنزل لبك ويستفلّ غربك فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرء ..

٥٧

وتسهيلات في الدين تلائم كافة التخلفات والتحذلقات كالصوفية العارمة التي لا تبقي للدين إلّا صورة خيالية لا واقع لها في واقع الحياة.

والآخرون يؤتون بما يبعّدهم عن التحرّي عن الدين ، مهما كان صورة له بلا سيرة. وهكذا «شمائلهم» و (بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) و «خلفهم» فإن له خطوات للتضليل حسب القابليات ، من ضيّقة إلى واسعة وإلى أوسع حتى يورد السالكين موارد الهالكين فضلا عمن سواهم ، وكما قال أبو جعفر عليهما السّلام : «يا زرارة إنما عمد لك ولأصحابك فأما الآخرون فقد فرغ منهم» (١).

فقد يأتينا الشيطان بخيله ورجله من كافة المداخل الآفاقية والأنفسية ، صدا عنهما خلاف ما أراده الله منا (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ف (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) تعم الحاضر إلى المستقبل وهما النشآت الثلاث بما فيها. و «ما خلفهم» تعم في الغابر كلما حصل منه وممن سواه ومن الله ، وهما مشركان في الانفصالية الآفاقية.

ثم «عن أيمانهم» تعم أيمان الفطر والعقول والعقيدة في مثلث الزمان ، و «عن شمائلهم» تعم شمائل النفس الأمارة بالسوء ومخلفاتها ، وهما العقل والجهل بجنودها ، ويشتركان في الاتصالية الأنفسية ، وهذا هو الفارق بين المعبر فيها ب «من» وأخرى ب «عن» حيث يختلف مجيئه «من» آفاقيا ، عن مجيئه «عن» أنفسيا ، هنا تجاوزا عنها إلى الأنفس ، وهناك صدورا من آفاقها إليها.

وهؤلاء الذين يحيط بهم الشيطان من هذه الجهات الأربع فيضلهم هم الذين : اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا ، واتخذهم له أشراكا ، فباض وفرخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في حجورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٠ في روضة الكافي ابن محبوب عن حنان وعلي بن رئاب عن زرارة قال : قلت له قوله عزّ وجلّ «لأقعدن ..» فقال : ..

٥٨

بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه (الخطبة ٧).

ذلك ، وفي توسع ل (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) وهو شرعة الله ، قد يعني إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الدال على أعلى الصراط ، آل محمد عليهم السّلام الدالون إلى الصراط المحمدي المستقيم. وذلك تأويل جميل بأصدق مصاديق (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)(١).

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٨).

«مذؤما» من الذام : العيب ، أخرج معيوبا بأنحسه ، استكبارا على ربك ، «مدحورا» مطرودا عن ساحة قربه وجنته (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) لحد يحسب بحسابك ، ويدخل في حزبك (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) تابعين ومتبوعين «أجمعين».

وهنا «أخرج» تعني أمرا تشريعيا فلإبليس ألا يأتمره وكما لم يخرج وقد تخلف عنه (١ ، ٢١).

__________________

(١) ملحقات احقاق الحق ١٤ : ٦٤٢ روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٦١ بسند عن علي عن سعد عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : آل محمد الصراط الذي دل الله عليه ، ورواه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) مثله. وفيه ٤ : ١٧٠ و١٤ : ٣٧٨ ـ ٣٧٩ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السّلام): أنت الطريق الواضح والصراط المستقيم والصراط المستقيم ولاية أمير المؤمنين (عليه السّلام) (١٤ : ٤٨٧) و «نحن الطريق الواضح والصراط المستقيم» (١٣ : ٨٣ ـ ٨٤) و «نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علم الله» (١٣ : ٨٢) و «من اقتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم» (٤ : ٥٩) ويا علي أنت صراط الحمية (٤ : ١٠٣ و ٧ : ١٢٥) و «حب آل محمد جواز على الصراط» (٩ : ٤٩٤ ـ ٤٩٦ و١٨ : ٤٩٦ ـ ٤٩٧) و «يا علي الصراط صراطك» (٧ : ١٢٤) و «علي يقعد على الصراط» (٦ : ٢١٢) و «لا يجوز أحد الصراط إلا بولاء علي (عليه السلام)» (٧ : ١١٥ ـ ١٢١ و١٧ : ١٥٨ ـ ١٦٢ و ٢١ : ٥١٧ ـ ٥٢١).

٥٩

ولكن ذلك الخروج بالأمرين كان بعد فترة الابتلاء لآدم وزوجه وكما فصلناه في آية البقرة :

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(١٩).

وهذا السكون والسكن المسموح بصيغة الأمر هو دوامته ما قاما بشرطها أن : لا تقربا هذه الشجرة فتكونا ـ إذا ـ من الظالمين شرعة الله ، والظالمين أنفسكما ، وقد مضى القول الفصل في البقرة أنه نهي باتّ تشريعي كان اقترافه ظلما وعصيانا وغواية وشقوة وضلالة وزلة وما أشبه ، المسرودة بطيات آياتها.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)(٢٠).

(فَوَسْوَسَ ... لِيُبْدِيَ) كغاية من غاياته الشيطانية المحلّقة على كل شيطناته المعنيّة من تلك الوسوسة ، و «لهما» هنا كما (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) تعني ظاهرة النفع في وسوسته وكما قال : «ما نهاكما ..».

وترى ما هي «سوآتهما» الموارى عنهما قبل الوسوسة البادية؟ إنها عوراتهما المواراة بلباس هذه الجنة ـ منذ خلقا ـ حيث هما بعد ظهورها بنزع لباس الجنة (طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)(٢٤) أم وسوآت أرواحهما إضافة إلى هذه السوآت وهي أحرى بهذا الكيد اللعين حيث عرفا أنهما عاصيان ربهما بعد ما خيّل إليهما العصمة بما أسجد الله له ملائكته وكرمه عليهم ، ولكن ورق الجنة لا يخصف سوآت الروح ، اللهم إلّا أن بوسع ورق الجنة بمطلق سترها عن عورات!.

وليست من هذه السوآت عدم معرفة الحسن والقبيح لمكان المناهي المؤكدة المشددة عن هذه الشجرة ، ولا موقع لها إلّا للعارف الحسن والقبيح ، فتفسير السوآت بهذه المعرفة أمّا يشملها هي من سوآت التفسير

٦٠