الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

سنة الجدب ونقص من الثمرات ، فعند مجيء الحسنة (قالُوا لَنا هذِهِ) حسنة مستحقة بكل جدارة ولباقة ، ثم عند مجيء السيئة (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أنه هو سبب السيئة «ألا» أيها النابهون (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) يجازيهم به سيئة بسيئة ، وهكذا كانوا يعلّلون مختلف الأحداث «حسنة وسيئة» تعليلا عليلا كليلا خلوا عن الواقعية عقلية وعلمية وعقيدية وطبيعية ، فما هي القاعدة التي تحكم بأن الحسنات في الحياة هي مستحقة للجبارين الطالحين ، ثم السيئات فيها هي من مخلفات دعوات الصالحين ، اللهم إلا هياما مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة ولا تجتمع وفق نظام ، فاللهم إلّا الصدفة العمياء الفوضى الجزاف كما قاله خروشوف صاحب الاشتراكية العلمية عن معاكسات الطبيعة في تعليل نقص الثمرات والغلات ، ومعه كل هؤلاء الذين يمضون مع هذه «العلمية» الجاهلية غابرة وفي القرن العشرين ، المدعاة في تعليل الحوادث بهذه النظرة القاصرة الباسرة : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)!.

هكذا يتطير المجاهيل في تيارات الحوادث والكوارث أنها من نكبات حملة الدعوات الربانية ، فالحسنة التي تجيئهم هي من حسن حظهم المستحق ، والسيئة هي من شؤم من يخالفهم في شهواتهم وحيوناتهم وإباحياتهم الطليقة!.

وهكذا نجد كل طغاة التاريخ على مدار الرسالات الربانية ، ففي صالح لمّا (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٢٧ : ٤٧).

وفي رسل المسيح (عليه السّلام) : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ

٢٦١

ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٣٦ : ١٩).

فالقرآن يبين كلمة واحدة أن طائر كل معه وعند الله ، معه بما عمل ويستحقه ، وعند الله بما يحققه علما وجزاء وفاقا هنا وفي الأخرى (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١٧ : ١٤): (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وأقلهم يعلمون ولكنهم على علمهم يجحدون ، و «لا يعلمون» هنا جهالة عن تقصير يندد بها كما يندد بالعالمين.

فالطائر هو العمل اعتبارا بطيرانه إلى الغير أم إلى الفناء كما يخيّل إلى المجاهيل ، واعتبارا بطيرانه إلى نتائجه هنا وفي الأخرى لأنه لا يفنى ولا يطير إلى غير عامله ، كما يقول الله (١).

فالتطير بالغير هو تخيل أن شؤم الغير بعمله يطير إلى غير عامله ، فلما كانوا يتشأمون بدعاة الحق ، كانوا يحسبون كل سيئة تصلهم أنها من جرّاء شؤم هؤلاء الأكارم ، وكل حسنة هي مستحقة لهم أنفسهم وهكذا (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).

ذلك ، ولم يكتفوا في هذه الخطوة الثانية الخاطئة ـ بعد رمي موسى بالسحر ـ إلّا أن غالوا في عتوهم :

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)(١٣٢).

وهنا يسمون ما يأتي به موسى «آية» هزء ومهانة بها حيث تعقبها (لِتَسْحَرَنا بِها) أم وإيقانا بها حيث (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤) فقد صدوا على أنفسهم كل منافذ النور والإيمان حيث

__________________

(١) واصل التطير ما كان الجاهليون في وثنيتهم يزاولونه فقد كان منهم من إذا أراد أمرا جاء إلى عش طائر فهيجه عنه فإذا طار عن يمينه ـ وهو السانح ـ استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده وإذا طار الطائر عن شماله ـ وهو البارح ـ تشاءم به ورجع عما عزم عليه فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي واصل محله التفكير العلمي الصحيح والعمل ، وقد شرحنا حول الطائر على ضوء آية الأسرى فراجع.

٢٦٢

حلقوا ذلك النكران على كل آية دونما استثناء (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إعلانا جاهرا بكفر طليق على أية حال ، إذا فهنا استحقاق عذاب الاستئصال دون إبقاء لأي مجال ، ولكن الله يمهلهم ـ مع الوصف ـ حتى حين :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(١٣٣).

ففي خضمّ خماسية هذه الآيات المفصلات خماصيتهم استئصالا لعلوائهم أمامها حتى تطلّبوا إلى موسى أن يكشف عنهم الرجز فيؤمنوا ولكنهم ناكثون!.

و «الطوفان» من الطوف ، ففعلانه طوف بالغ لا مرد عنه ، وهو يشمل طوفان الماء كما كان لقوم نوح ، وطوفان الريح الشديدة الحاملة لما تحمل من غبارات وقذارات ، فقد طاف بهم الطوفان فاستأصل كل رياحة عن حياتهم ، وهكذا سائر الخمسة من الرجز.

و (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) قد تعني إلى فصل بعضها عن بعض دون وصل ، تفصيل كون كل واحدة منها آية مستقلة دون أن تكون لزاما من خلفية الأخرى ، كما ولا صلة بين هذه الخمس في مظاهر عللها الطبيعية ، ومفصلات مبينات في الدلالة على كونها آيات الله.

ومن كونها مفصلات أن كلّا كانت تأتي بفصل خاص خطوة خطوة ، من دان إلى عال إلى أعلى ، فقد كان «الدم» أعلاها عذابا و «الطوفان» أدناها ، وبينهما متوسطات ، كما هي طبيعة الحال في البلوى ليذكروا بها.

وما أنسبها خماسية العذابات هذه ، خماسية اللعنات في هؤلاء الأنكاد ، فالطوفان المدمر لأنهم كانوا طوفانا يدمّر الحق وأهله ، والجراد حيث يجرد الثمر ، إذ كانوا يجردون الحياة الإنسانية عن ثمرتها السامية ، والقمل حيث تمتص الدم وتؤذي صاحبه وهي تسكن مساكن القذارات ، وهم يمتصون دماء الحياة ويؤذون ذوي الحياة ، والضفادع إذ ضفدعوا : متقبضين منكمشين أمام الحق ، والدم إذ كانوا دماء يسيلونها في سبيل الباطل : (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) عن السحر ، مبيّنات لإحقاق الحق

٢٦٣

«فاستكبروا» عن الخضوع لها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) يجرمون ثمرة الحياة قبل إيناعها ، نكرانا للآيات على التماعها.

هناك (أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) وهنا «أرسلنا (عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ..) تختصان هذه العذابات الست بهم دون بني إسرائيل على اختلاطهم بهم ، مما يدل على أن هذه لم تكن لهم عذابا وإنما هي لهؤلاء ، فقد تصدق الرواية أن القبطي كان يأخذ الماء من النيل دما أحمر له طعمه ولونه ، والإسرائيلي يأخذه منه ماء فراتا له طعمه ولونه ، وهكذا الطوفان والجراد والقمل والضفادع إذ لم تكن تؤذي الإسرائيليين! ، وكانت تستأصل كل رياحه عن حياتهم أولئك اليومية ، حتى اضطروا على فرعنتهم وغرورهم أن يلتجئوا إلى موسى لما وقع عليهم ذلك الرجز العذاب الأليم (١) :

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٨ علي بن إبراهيم باسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السّلام) ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ قالا : لما آمنت السحرة فرجع فرعون مغلوبا وأبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر قال هامان لفرعون : إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات ثم بعث عليهم الطوفان فخرب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا إلى البرية وضربوا الخيام وامتلأت بيوت القبط ماء ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة وقام الماء على وجه الأرض لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا وقال هامان لفرعون : لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك وأنبت الله لهم في تلك السنة من الكلاء والتمر والزرع والثمر ما أعشبت به بلادهم وأخصبت فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا فأنزل الله عليهم في السنة الثانية ـ أو في الشهر الثاني ـ الجراد فجردت زروعهم وأشجارهم حتى كانت تجرد شعورهم ولحاهم وتأكل الأبواب والثياب والأمتعة وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل ولا يصيبهم من ذلك شيء فعجوا وضجوا وجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا وقال يا موسى أدع لنا ربك أن يكف عن الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل فدعى موسى ربه فكف عنه الجراد بعد ما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت ، فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة ـ أو الشهر الثالث ـ القمل وهو الجراد الصغار لا أجنحة له وهو شر ما يكون وأخبثه فأتى على زروعهم كلها وأفناها من أصلها فذهبت زروعهم ولحس الأرض ـ

٢٦٤

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)(١٣٥).

«الرجز» هنا هو الحياة البئيسة التعيسة النكدة النكبة من جرّاء خماسية العذاب (قالُوا يا مُوسَى) وقضية الجمع أن يكون فرعون بملئه

__________________

ـ كلها ... وأخذت أشعارهم وأبشارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزمت جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعتهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا فقال فرعون لموسى : ادع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى (عليه السّلام) حتى ذهب القمل بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة ـ أو الشهر الرابع ـ الضفادع فكانت يكون في طعامهم وشرابهم وامتلأت منها بيوتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلّا وجد فيه الضفادع وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ويفتح فاه لأكله فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه فلقوا منها أذى شديدا فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى (عليه السّلام) وقالوا : هذه المرة نتوب ولا نعود فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم فلما كانت السنة الخامسة أرسل عليهم الدم فسال ماء النيل عليهم دما فكان القبطي يراه دما والإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء وإذا شربه القبطي كان دما وكان القبطي يقول للإسرائيلي : خذ الماء في فيك وصبه في فيّ فكان إذا صبه في فم القبطي تحول دما وان فرعون اعتراه العطش حتى انه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماءها في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم ولا يشربون إلا الدم ـ قال زيد بن اسلم : الدم الذي سلط عليهم كان كالرعاف ـ فأتوا موسى (عليه السّلام) فقالوا : «أدع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا ولم يخلوا عن بني إسرائيل» أقول : والمقبول من هذه الرواية وأمثالها ما لا تخالف القرآن وان لمحة وإشارة ، فقد كثرت الإسرائيليات في أحاديثنا لحد ما نجى أى كتاب حديث وفقه وتفسير عنها فلنتجرد لما يوحيه لنا القرآن ، ولنجرده عن التفاسير التي تخالفه أم لا توافقه إذ لا تواتر لنا إسلاميا يعلو القرآن أم يساميه ويوازيه ، فليطرح كل حديث يحدثنا بما لا يصدقه القرآن.

٢٦٥

معهم (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) وذلك سوء أدب معه أنه تعالى فقط ربه لا وربهم (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) من إجابة الدعاء خارقة للعادة كما عودتنا «لئن كشفت عنا الرجز ـ بدعاءك ـ لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل» وعدان اثنان هما العصب الحساس ضد ما تعصبوا عليه من الكفر والاستبعاد (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) بدعاء موسى فالكاشف ـ إذا ـ هو الله دون موسى ، وتلك كانت غلطة غليظة ، (لَئِنْ كَشَفْتَ) ك «ربك» ، (كَشَفْنا ... إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) ، وهو المهلة التي بلغوها ولمّا يؤمنوا (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ما عاهدوا ، وهذه المهلة هي بين ما أمهلهم موسى إياها أم هم أمهلوا أنفسهم فيها ، وعلى أية حال كان أجلا هم بالغوه بطبيعة الحال وقبل أن يغرقوا عن آخرهم في تقدير الله.

ذلك وقد تحتمل (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) إلى عهد إجابة الدعاء ، أصل الرسالة التي هي عهد خاص من الله ، والباء بين سببية ف «ادع» بسبب الرسالة التي هي أزلف الزلفى إلى الله ، وقسم. ف : قسما برسالتك من الله إن كنت رسولا ، كما وأن «ما» تحتمل الموصوفة إلى الموصولة ، فلقد كانوا يناقضون في أقوالهم بمختلف حالاتهم ، فتارة ينكرون رسالته وأخرى يتعلقون بها في قضاء حاجاتهم الضرورية!.

فلقد كانوا يلجئون إلى موسى ، يتطلبون بإصرار تحت ضغط البلية الفاضحة الفادحة ، يعدونه الإيمان له وأن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها بدعائه ف (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)!.

ذلك ، فلما انتهى أمر الابتلاء إلى ما لا منفذ فيهم بها من الذكرى فلم يبق مجال إلّا استئصالهم ، تطهيرا للأرض عن هؤلاء الأنكاد البعاد :

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)(١٣٦).

ذلك وليس انتقام الله منهم وممن سواهم عجزا منه وتحسرا ودفاعا عن نفسه ، إنما هو إصلاح للأرض بإزالة المفسدين الذين لا يرجى منهم أي خير إذ صدوا على أنفسهم كل منافذ النور والهدى.

٢٦٦

فقد (كَذَّبُوا بِآياتِنا) كلها رسولية ورسالية ، آفاقية وأنفسية «و» الحال أنهم (كانُوا عَنْها غافِلِينَ) عن عمد وتقصير ، فالغفلة العامدة العاندة ليست بالتي يعفى عنها في شرعة العدل والحكمة ، إنما هي الغفلة القاصرة على قدر القصور فيها ، فهذه هي ضفة الكفر والنكران ، فإلى ضفة الشكر والإيمان :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)(١٣٧).

إن (كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) شملت بني إسرائيل لإيمانهم وأنهم (الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) ثم (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) فمثلث الإيمان المستضعف الصابر هي هندسة تمام كلمة ربك الحسنى ، فلذلك أورثناهم مشارق الأرض المقدسة ومغاربها التي باركنا فيها ، وفي الطرف المقابل اللّاإيمان الاستكبار وعدم الاصطبار (دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من صناعات (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من بنايات وجنات معروشات.

ذلك وبركات الأرض التي باركنا ـ وهي مصر القدس الكبير ، وهو فلسطين الكبير بما فيه سوريا والأردن ولبنان ـ هي من ناحيتي القدسية الروحية والمادية ، فقد بعث أكثر المرسلين منها ودفنوا فيها ، ثم البركات المادية هواء وماء وكلاء وسائر الإخصاب نجدها فيها أكثر من غيرها.

صحيح أن الأرض المباركة والمقدسة هنا في القرآن هي فلسطين الكبير ، ولكن «أورثنا» هنا تشمل مصر حيث كان فيها فرعون وقومه ، فقد سيطرهم الله على مصر وما والاها وفلسطين وما والاها ولا سيما في زمن داود وسليمان.

وقد نحتمل قويا أن يعنى من (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) إلى محال وراثتهم محال استضعافهم.

إذا ف (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) في مشارق الأرض

٢٦٧

ومغاربها «أورثناهم» مشارق الأرض ومغاربها ، فهم أورثوا نفس الأرض التي استضعفوا فيها وهي مصر ، ولأن «الأرض» طليقة هنا من حيث الإيراث مهما كانت مختصة بمصر من حيث الاستضعاف ، إذا فمحل إيراثهم أوسع من محل استضعافهم ، ولكنها ليست كل الأرض لمكان (الَّتِي بارَكْنا فِيها) فهي الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.

و (كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) هي التي قالها لهم موسى ، منها : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) وقال من ذي قبل (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٢٨ : ٦) مهما كانت الأرض هنا لأصحاب المهدي (عج) كل الأرض ، ولذلك أطلقت حتى تشملها ، فقد تمت هذه الكلمة الحسنى عليهم في إيراثهم بمصر أولا ثم في الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، ولكن ليست بجدارة طليقة كيفما كان عملهم ، وإنما (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) وكان عملهم الأول كفرا وكفرانا لهذه الحسنى فقابلهم الله بمثل ما عملوا :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(١٣٨).

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) وهو أليم الذي أغرق فيه آل فرعون إذ ضرب لهم موسى بأمر الله طريقا يبسا حيث انفلق فكان كل فرق كالطّود العظيم ، وعلى أية حال «جاوزنا ..».

(فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) إذ كانوا من المشركين الرسميين (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وهم موحدون حسب الدعوة الموسوية ، ولكنهم منحازون إلى المادة لحد رغبوا في عبادة الأصنام (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تفعلون جهالة عريقة عميقة بعد ما رأيتم آيات الله البينات لكم على قوم فرعون.

٢٦٨

فحين يقول بعض اليهود لعلي أمير المؤمنين (عليه السّلام) : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم؟ يقول له : إنما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون! (١).

وذلك أوّل ما نظر الله كيف يعملون بعد ما تمت كلمة ربك الحسنى عليهم بما صبروا ، وإلى أمثاله المسرودة مفصلا في الذكر الحكيم بطيات آياتها.

لقد تمت مواجهة موسى آل فرعون بما أغرقوا ، فلا يواجه بعد اليوم طاغوت فرعون وملإه ، ولكنه تواجهه معركة أخرى مع أقرباءه بعد أغرباءه هي أشد منها وأقسى وأنكى منها وأشجى وأطول أمدا ، حيث يواجه بني إسرائيل برواسب الذل الذي أفسد سجيتهم من ناحية ، ورواسب الوثنية التي أفسدتها من أخرى ، وكذلك الالتواء والقسوة والضعف والجبن عن حمل التبعات مع الذعر الدائم والتوقع القائم للبلاء.

ذلك رغم أنهم في الأصل على دين التوحيد ، ولكنهم رغم ذلك كانوا قوما ماديين يعيشون أصالة الحس والمادة دون عناية إلى ما وراءها إلّا تشريفيا دون أصالة ، كهالة قدسية؟؟؟ تتبدل إلى حالة عقيدية راسخة ، وكما هو الظاهر من التوراة المحرفة حيث حرفوا لاهوت الألوهية إلى شاكلة إنسان له ما لسائر الإنسان ، ولكنه أقوى ، أم وهو أضعف أحيانا من إنسان ، كما في قصة فنوئيل حيث تقول صارعه يعقوب فصرعه فاقتضى منه بركة النبوة حتى يخلصه فتقبل فنجي.

وتراهم طلبوا إليه أن يجعل لهم إلها بديل الله هو كما الله؟ والإله المجعول لموسى ليس إلّا من خلقه واختلاقه فكيف يكون إله العالمين!.

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) وفي تفسير البرهان عن محمد بن شهر آشوب أن رأس الجالوت قال لعلي (عليه السّلام) : لم تلبثوا بعد نبيكم إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف؟ فقال علي (عليه السّلام): وأنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.

٢٦٩

القصد هنا هو ألوهية المعبودية تقربا بالآلهة إلى الله زلفى كما يقولها سائر المشركين : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فأجيبوا ب (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) المقاييس والموازين أن تعبدوا غير من خلقكم وفضّلكم على العالمين!.

فعملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى (عليه السّلام) منذ الآن بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزهم البحر ، وهذه النفوس البئيسة التعيسة ستواجه الحرية الحقة بكل رواسب الذلة والمسكنة ، وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية بكل خلفياتها ، بل وأنحس منها ، فإن سحرة فرعون آمنوا بعد ما رأوا آية ثعبان العصا واليد البيضاء وهم لم يؤمنوا بعد ما رأوا كل الآيات الموسوية وهي بضع عشرة آية ، اللهم إلا قليل منهم وفى لرعاية الحق.

وها هم ما أن يجاوزا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم يعكفون على أصنام لهم ، وإذا هم يطلبون طلبهم ، ويغلبون أمام الأصنام غلبهم ، حيث يطلبون من موسى رسول التوحيد من رب العالمين أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة .. طبيعة مخلخلة العزيمة ، سريعة الهزيمة ، ضعيفة الروح ، قوية الشكيمة ، ما تكاد تهتدي حتى تضل ، وما ظلت ترتفع وتزيد حتى تنحط وتقل ، فأين الدعوة التوحيدية الموسوية قرابة عشرين سنة أم تزيد ، فقد نسوا آياته الرسولية والرسالية ، وحتى التي أنجتهم في اللحظة الأخيرة إذ جاوز بهم البحر بعد ما أغرق فرعون وملأه! ولو أنهم اتخذوا لأنفسهم إلها لكان أقل غرابة وعتامة من أن يطلبوا إلى رسول التوحيد أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة! وما كان جوابهم المختصر المحتصر عجالة إلّا (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تجهلون كافة المعالم الإنسانية والإيمانية ، ف «تجهلون» من الجهالة ضد المعرفة ، ومن الحماقة ضد العقل ، ومن البلاهة ضد الشعور ، فما ذلك التقوّل التغوّل إلّا من أحمق الحماقة وأعمق الجهالة والبلاهة إلى غير حدود!.

ذلك وحق يقال إنهم أحمق وأعمق جهالة من آل فرعون المشركين إذ صمدوا على باطلهم ولم يهووا ولا مرة واحدة أن يوحدوا الله ، وهم أولاء

٢٧٠

الأنكاد البعاد عشيرة التوحيد وقد عاشرهم رسول التوحيد عشرين وما زاد ، ومن قبل كان منهم رسل التوحيد تترى ، ثم بلحظة مّا عند ما نجوا ، بدلا أن يشكروا الله ويوطدوا توحيدهم تطلبوا إلى رسول التوحيد أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة!.

ولقد استحقوا بذلك التطلب الهراء الخواء ثالثوا من (تَجْهَلُونَ ـ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ ـ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) وقد حفل سلبا لألوهة غير الله بالأوّلين وإثباتا لألوهة الله بالأخير :

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٩).

جملة معترضة اعترضت بين قالتي موسى لهم ، تجمع في تنديدها بني إسرائيل إلى آل فرعون ، ف : يا بني إسرائيل «إن هؤلاء» الفرعونيين وسائر الوثنيين «متبرّ» منقطع (ما هُمْ فِيهِ) من عبادة آلهة دون الله (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وما كل من يسمع إلى هذه القصة «إن هؤلاء» من بني إسرائيل ... فهم قوم بوار تبار حيث تركوا عبادة الله الواحد القهار إلى عبادة خلقه الضعاف النحاف.

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(١٤١).

فيا سبحان الله قوم أنجاهم الله من عبودية الطاغية ، وجاوز بهم البحر وأهلك عدوهم وأراهم الآيات العظام ثم سألوا رسول التوحيد الشرك دون فصل! ولقد جاء من نظراءهم بصورة أخف من هذه الأمة حيث «خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل حنين فمررنا بسدة فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ـ وكانت تعبد من دون الله ـ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ،

٢٧١

إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم» (١).

فيا أغبياء! (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) لكم «وهو» الذي (فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بمكرمات «و» اذكر منها (إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ... وَفِي ذلِكُمْ) السوم من العذاب (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) حيث ابتلاكم به لردح من الزمن ثم تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل لينظر كيف يعملون.

هنا عرض لقصة المواعدة الموسوية وفي طه مثلها باختلاف يسير في التعبير ، وبينهما بعض الميزات الخاصة بكلّ فصلنا التي ل «طه» فيها ، وهنا قول فصل حول آيته ما يخصها.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(١٤٢).

هنا عديد المواعدة مذكور دون «طه» : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ) (٢٠ : ٨٠) ولكنها في البقرة : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٢ : ٥١).

ف «أربعين» هناك هي مجموع المواعدتين المتصلتين ، و «ثلاثين» هنا هي ظاهرة أولى للمواعدة دون حصر حيث «وأتممناها بعشر فتم ميقات

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١١٤ عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا ..

وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده قال : غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله له مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف أرض شجرة دنوا عظيمة سدر كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صرف عنها في يوم طائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنها السنن قلتم ، والذي نفس محمد بيده كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.

٢٧٢

ربه أربعين ليلة» (١) ف «ثلاثين» هي في صيغة التعبير كانت امتحانا لبني إسرائيل دون أن يعلموا (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) ابتلاء بهذه المتممة هل هم بعد على انحرافهم الشركي أم أصلحوا أنفسهم فلا يضلون ، ولكنهم ضلوا إلّا قليل بفتنتي مزيد العشر على الثلاثين (٢) وعجل السامري : (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (٢٠ : ٨٥).

وترى لا يستدل بظاهر العدد ـ إذا ـ على ألّا يعنى أزيد منه كما لا يعنى الأنقص؟ إن الأنقص هو خلاف النص ، والأزيد قد يكون خلاف النص كما إذا كان العدد في مسرح الحصر فهو ـ إذا ـ مصرح الحصر ، كأن تسأل ما عندك من الدراهم؟ فتقول : عندي عشرة ، فإنها ـ إذا ـ نص في العدد ينفي الأزيد كما ينفي الأنقص ، وأخرى ليس خلاف النص ، بل هو لأكثر تقدير ظاهر يقبل التحويل كأن تقول دون سؤال : عندي عشرة ، فليس ينافيها أكثر منها حيث الأقل هو تحت الأكثر ، وهكذا يعني قول الله : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) فقد قال لهم موسى واعدني ربي ثلاثين ليلة ، قبل أن تلحقها المواعدة الثانية ، ومهما كانت الأولى ظاهرة في حصرها ولكن ليست بحيث يستدل بها على سلب مواعدة ثانية حتى إذا جاءت يقال : إن الأولى كاذبة ، فقد تكون الأولى ـ كما هنا ـ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٦١ عن أبي جعفر الباقر (عليهما السّلام) أن موسى قال لقومه : إني أتأخر عنكم ثلاثين يوما ليتسهل عليكم ثم زاد عليهم عشرا وليس في ذلك خلف لأنه إذا تأخر عنهم أربعين ليلة فقد تأخر ثلاثين قبلها ، وفيه عن الفضل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : قلت : لهذا الأمر وقت؟ فقال : كذب الوقاتون كذب الوقاتون كذب الوقاتون أن موسى (عليه السّلام) لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه : قد أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا فإذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله ، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين.

وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : إن موسى (عليه السّلام) لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زادا له على الثلاثين عشرا قال قومه : أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا.

٢٧٣

لمصلحة تقتضيها ، فلا يحتج بها على سلب الأخرى ، مهما لا يحتج أيضا على إيجابها ، فلنسكت عما وراء العدد إيجابا وسلبا ، مهما يلمح بالسلب لما وراءه.

وهنا (ثَلاثِينَ لَيْلَةً) دورها دور السكوت عما وراءها ، فإذا تأخر موسى الرسول كان ذلك دليلا على وعد آخر يتلوها قبل أن يخبرهم موسى ، ولا فرق ـ إذا ـ بين (أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) بعد (ثَلاثِينَ لَيْلَةً) دون فصل بطرح الوحي ، وبين ذلك الإتمام المستفاد من واقع التأخير لقوم موسى ، والوحي الثاني بحمله لموسى نفسه.

ذلك ، وحتى إذا كان العدد نصا في الحصر ثم لحقته زيادة بنص آخر لا يكذّب هذا الآخر فإن للنسخ مجالا واسعا حين نتأكد من النص الثاني ، فضلا عما هنا حيث العدد ليس نصا في الحصر ولا ظاهرا بينا ، وإنما له لمحة الظهور.

وكضابطة في الأعداد وسائر القيود هي بين حالات ثلاث : ١ أن تدل قرائن على الحصر ٢ أم على سلبه ، ٣ أم لا دلالة على الحصر إيجابيا ولا سلبيا ، وهنا (واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) من القبيل الثالث ، مهما كان ظاهرا طهورا مّا في الحصر ، احتمالا راجحا لحصر المواعدة في «ثلاثين» ولكنه ليس حجة على كذب موسى بما (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) أم كذب الله وعوذا بالله ، حيث الأدلة القاطعة على كمال الصدق وتمامه في قول الله وقول رسول الله ، المبرهن على رسالته بآيات من الله ، هذه الأدلة تجعل ذلك الاحتمال اختمالا وفي بوتقة النسيان ، بل وحتى إذا ناقضت المواعدة الثانية الأولى فوجه النسخ موجه لا يدع مجالا لفرية الكذب في الساحة الربانية والرسالية.

ذلك ، فالقول : إن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه لا يصح إلّا عند فقد القرائن على سلب أو إيجاب ، فليست ضابطة تحلق على كل إثبات انه لا ينفي ما عداه ، إنما هو الإثبات غير الحاصر حدّه بعدّه أو مدّه.

٢٧٤

ثم المواعدة الخفية عن قوم موسى هل كانت خفية على موسى نفسه كما هم ، ثم أوحيت إليه بعد كمال الثلاثين ، أم كان يعرفها عند المواعدة الأولى ، دون سماح له أن يخبرهم بها؟ الظاهر أنه ما كان يعلمها كقومه على سواء ، وإلا لم تكن مواعدة ثانية ، إنما هي مواعدة واحدة هي «أربعون ليلة».

إذا ف (أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) بمواعدة ثانية بعد الثلاثين أم ضمنه ، دون أن تكون أوحيت إليه مع الأولى ، اللهم إلا بتأويل أن الله واعده الأولى أن يخبر بها قومه ، ثم بعدها الثانية دون فصل ألا يخبرهم بها ابتلاء لهم بما أثقلوا ببراهين الحق الحقيق بالتصديق ، وهم مكذبوه ، فهي ـ إذا ـ من بلية الشر جزاء وفاقا ، وعدلا بما أوتوا من تلكم البراهين.

هذا ، ولأن المواعدة كانت تشملهم أجمع حسب الجمع في طه : «واعدناكم» و (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) فقد كانت المواعدة الأصيلة هي ثلاثين ليلة ثم (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) إتماما للعدة المعنية بذلك العدد المبارك وعشر ذي الحجة.

ذلك وللأربعين عديدا ومعدودا منزلتها في مختلف الحقول تكوينا وتشريعا ف «ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوما إلا زهده الله في الدنيا وبصره داءها ودواءها وأثبت الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه ..».

وهي هنا كما يروى ثلاثون ذي القعدة ـ حيث اتفقت هكذا حين المواعدة ـ وعشر من ذي الحجة ، وما يروى سنادا إلى ثلاثين هذه أن ذا القعدة هي ثلاثون يوما (١) هي خلاف الواقع المكرور ، كما وأن «ثلاثين»

__________________

(١) ثلاثون يوما لقول الله عزّ وجلّ : «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» ومثله في الكافي عنه (عليه السّلام).

أقول : أمثال هذه التطرفات هي تذوقات غير مسنودة إلى دليل تفترى على المعصومين (عليهم السّلام)!.

٢٧٥

في الآية لا تقرر نفس العدد لذي القعدة على مدار الزمن!.

وإنما اختص ذكر «ليلة» دون «نهارا» أو «أياما» ل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦ : ٧٣) فإن فيه اجتماعا للحواس عن سائر التفرقات الحيوية المعيشية أكثر من النهار.

ويا للأربعين من موقف مشرف تكوينا وتشريعا ، فمن التكوين أن كل رحلة من رحلات الجنين أربعون يوما ، ثم وفي التشريع قد ابتعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأربعين من عمره ، وهكذا ـ كما يروى ـ سائر النبيين (عليهم السّلام) «وليس صاحب هذا الأمر من جاز أربعين» أي في صورة من له أربعون ، و «من شرب الخمر لم تحتسب صلاته أربعين يوما» و «من قرأ الحمد أربعين مرة في الماء ثم يصب على المحموم يشفيه الله» و «إن العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عز وجل إلى ملكيه اني قد عمرت عبدي عمرا فغلظا وشددا وتحفظا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره» و «إذا بلغ العبد ثلاثا وثلاثين سنة فقد بلغ أشده وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه فإذا طعن في إحدى وأربعين فهو في النقصان وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع ..» «وأبناء الأربعين زرع قد دنى حصاده»و «إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب مسح إبليس وجهه وقال : بأبي وجه لا يفلح» و «من حفظ من أمتي أربعين حديثا مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (١) وقد «بكى آدم أربعين صباحا على الجنة» و «أنصب الماء زمن نوح من السماء أربعين صباحا» «واحتبس الوحي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين يوما» «واعتزل (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خديجة أربعين صباحا لحملها بفاطمة (عليها السلام) وولادتها إياها» «وتاه قوم موسى في التيه أربعين سنة» «وأملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى» وإذا مات

__________________

(١) أربعين حديثا يعم القرآن والسنة ، بل والقرآن أحرى أن يكون حديثا : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ـ

٢٧٦

__________________

ـ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ ثم ولا يعني «حفظ» فقط حفظا عن ظهر القلب ، بل هو كامل الحفظ تعلما وتخلقا وتعليما وتطبيقا في الأصول الثلاثة وفي الفروع. عشرة في الفروع العشرة ، وثلاثين في الأصول الثلاثة ، فطالما الحفاظ كثير ولكنما الرعاة قليل.

وقد يروى «من بلغ أربعين ولم يتعص فقد عصى» فقد تعنى مثلث العصى لهندسة كمال الإنسان وهي عصى الفطرة والعقلية والشرعة ، استقامة على هذه العصي ليقوم في دين الله سليما صالحا.

ذلك وقد ورد «على أمتي» بديلا عن «من أمتي» كما في البحار ٢ : ١٥٦ ح ٨ وفي العيون ٢ : ٣٧ ح ٩٩ عن الرضا (عليه السّلام) وابن زهرة في الأربعين ٣٩ بالطريق الأول من السند رقم ٤٠ ورواه الشهيد الأول في مقدمة أربعين بالإسناد رقم ٦٤ وأخرجه كنز العمال ١٠ : ٤٢٥ ح ٢٩١٨٥ ـ أخرجه ابن الجوزي بلفظه عن علي (عليه السّلام) والدار قطني في العلل عن ابن عباس بلفظ «من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله فقيها عالما» ، وأخرجه ابن حبان في الضعفاء عنه وابن عدي وابن عساكر من طرق عن أبي هريرة وابن الجوزي أيضا عن أنس وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة مرفوعا ، وذكر في التخريج عدة من المحدثين المخرجين لهذا الحديث تركناه اختصارا وكما يناسب موسوعتنا التفسيرية.

ومما يشهد على أن الحفظ لا يعني ـ فقط ـ حفظا عن ظهر الغيب ، بل هو الحفاظ لأربعين على العامة في أمر الدين فرديا وجماعيا ، كنماذج من أصول الدين وفروعه ، ما رواه في الخصال بسند عن جعفر بن محمد عن أبيه عن أبيه الحسين بن علي (عليهم السّلام) قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وكان فيما أوصى به أن قال له يا علي! : من حفظ من أمتي أربعين حديثا يطلب بذلك وجه الله عزّ وجلّ والدار الآخرة حشرة الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. فقال علي (عليه السّلام) يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرني ما هذه الأحاديث؟ فقال : أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، وتعبده ولا تعبد غيره ، وتقيم الصلاة بوضوء سابغ في مواقيتها ، ولا تؤخرها فإن في تأخيرها من غير علة غضب الله عزّ وجلّ ، وتؤدي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت إذا كان لك مال وكنت مستطيعا وأن لا تعق والديك ، ولا تأكل مال اليتيم ظلما ، ولا تأكل الربا ، ولا تشرب الخمر ولا شيئا من الأشربة المسكرة ، ولا تزني ، ولا تلوط ، ولا تمشي بالنميمة ، ولا تحلف بالله كاذبا ، ولا تسرق ، ولا تشهد شهادة الزور لأحد قريبا كان أو بعيدا ، وأن تقبل الحق ممن جاء به صغيرا كان أو كبيرا ، وأن لا تركن إلى ظالم وإن كان حميما قريبا ، وأن لا تعمل بالهوى ، ولا تقذف المحضة ، ولا ترائي ـ

٢٧٧

المؤمن فحضر جنازته أربعون رجلا من المؤمنين فقالوا : اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرا وأنت أعلم به منا ، قال الله تبارك وتعالى : «قد أجزت شهادتكم وغفرت له ما علمت مما لا تعلمون» (١).

__________________

ـ فإن أيسر الرياء شرك بالله عزّ وجلّ ، وأن لا تقول لقصير يا قصير ، ولا لطويل يا طويل تريد بذلك عيبه ، وان لا تسخر من أحد من خلق الله ، وأن تصبر على البلاء والمصيبة ، وأن تشكر نعم الله التي أنعم بها عليك ، وأن لا تأمن عقاب الله على ذنب تصيبه ، وان لا تقنط من رحمة الله ، وأن تتوب إلى الله عزّ وجلّ من ذنوبك فإن التائب من ذنوبه كمن لا ذنب له ، وأن لا تصر على الذنوب مع الاستغفار فتكون كالمستهزئين بالله وآياته ورسله ، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن لا تطلب سخط الخالق برضى المخلوق ، وأن لا تؤثر الدنيا على الآخرة ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية ، وأن لا تبخل على إخوانك بما تقدر عليه ، وان تكون سريرتك كعلانيتك ، وأن لا تكون علانيتك وسريرتك قبيحة ، فان فعلت ذلك كنت من المنافقين ، وأن لا تكذب ولا تخالط الكذابين ، وأن لا تغضب إذا سمعت حقا ، وأن تؤدب نفسك وأهلك وولدك وجيرانك على حسب الطاقة ، وأن تعمل بما علمت ، ولا تعاملن أحدا من خلق الله عزّ وجلّ إلا بالحق ، وأن تكون سهلا للقريب والبعيد ، وأن لا تكون جبارا عنيدا ، وأن تكثر من التسبيح والتهليل والدعاء وذكر الموت وما بعده من القيامة والجنة والنار ، وأن تكثر من قراءة القرآن ، وتعمل بما فيه ، وأن تستغنم البر والكرامة بالمؤمنين والمؤمنات ، وأن تنظر إلى كل ما لا ترضى فعله لنفسك فلا تفعله بأحد من المؤمنين ، وأن لا تمل من فعل الخير ، ولا تثقل على أحد ، وأن لا تمن على أحد إذا أنعمت عليه ، وأن تكون الدنيا عندك سجنا حتى يجعل الله لك جنة ـ

فهذه أربعون حديثا من استقام وحفظها عني من أمتي دخل الجنة برحمة الله ، وكان من أفضل الناس وأحبهم إلى الله عزّ وجلّ بعد النبيين والصديقين ، وحشرة الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وفي الخصال عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من حفظ من أمتي أربعين حديثا من السنة كنت له شفيعا يوم القيامة» أقول : وأفضل السنة هو القرآن ، أصلا لسائر السنة.

وفي صحيفة الرضا (عليه السّلام) عن آباءه (عليهم السّلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من حفظ على أمتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله تعالى يوم القيامة فقيها عالما» (العوالم ٢ ـ ٣ : ٤٦٥ ـ ٤٦٨).

(١) هذه كلها مروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته (عليهم السّلام) كما في سفينة البحار ١ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥.

٢٧٨

هنا يقول (مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وهو بطبيعة الحال بأمر الله ، وهكذا علي (عليه السّلام) وبأحرى فأين ضرورة الخلافة في ثلاثين يوما أو أربعين من الخلافة بعد موت خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكما يقول : «واختصني بوصيته واصطفاني بخلافته في أمته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ـ وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغضت بهم المحافل ـ أيها الناس إن عليا مني كهار المؤمنون عن الله نطق الرسول إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأمه كما كان هارون أخاه لأبيه وأمه ، ولا كنت نبيا فأقتضي نبوة ، ولكن كان ذلك منه استخلافا لي كما استخلف موسى هارون صلى الله عليهما حيث يقول : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(٣٥) وهنا نتبين أنه كان في قومه مفسدون يحاولون أن يحولوه عن صالح المجموعة فيوصيه أن يراقب الأوضاع بكل حائطة فلا ينجرف بجارف في خلافته.

وهنا لهارون مثلث من زوايا الخلافة المؤقتة ـ مما تصلح أن تكون نموذجة كاملة عن المستمرة ـ هي قاعدة الخلافة : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ثم زاوية إيجابية هي الإصلاح : «وأصلح» ثم سلبية الإفساد : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) وهذان هما العمادان لكل داعية ربانية على درجاتهم. وعل «قومي» هنا دون «بني إسرائيل» لكون الشجرة المؤمنة أو جمع منهم كانوا فيهم.

ذلك موقف هارون (عليه السّلام) في حقل (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وأين هو من موقف علي (عليه السّلام) من خلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قال له : «أنت الخليفة من بعدي» (١) حيث «في النبوة

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٦٢ عن خطبة الوسيلة يقول فيها بعد ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : واختصني .. وقد أوردنا قسما من متواتر حديث المنزلة في الفرقان ١٦ : ٨١ ـ ٨٧ على ضوء آية الوزارة فلا نعيد.

٢٧٩

وفي علي الخلافة» (١) و «إن عليا خليفة الله وخليفتي» (٢) أجل «هو خليفتي من بعدي» (٣) كما «اثني عشر خليفة» (٤) ف «ان لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخلفاء اثني عشر إماما عدلا لا يضرهم من خذلهم» (٥) و «من نازع عليا الخلافة بعدي فهو كافر» (٦) و «يا عمر هذا وصيي وخليفتي من تقدم عليه كذب بنبوتي» (٧).

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(١٤٣).

هنا (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من المتشابهات التي يخيل إلى جاهليها أنه كلام كسائر الكلام ، أو تكليم كسائر التكليم ، كلا إنه كلام مخلوق كسائر الخلق ، ولكنه متميز كما الخالق ، عن كلام سائر الخلق ، وهو يكلم رسله بالوحي كما يعون ويستطيعون و «له قوة الألسن كلها» (٨).

__________________

(١) المصدر ٤ : ٩٢

(٢) المصدر ٤ : ٢٩٧.

(٣) المصدر ٤ : ٢٩ ، ٥٥ ، ٦١ ـ ٦٩ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٩ ـ ٨٣ ، ١٤٩ ، ١٩٤ ، ٢٧٧ ،

(٤) ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، ٢٩٦ ، ٣٢٧ ، ٣٣٣ ، ٣٣٧ ، ٣٣٩ ، ٣٤٦ ، ٣٥٠ ، ٣٥٢ ، ٣٨٤ ، ٣٨٥ ، و ٥ : ٤٢ و ٢٠ : ٣٣٨ ـ ٣٤٠ ، ٤٥٩ و١٣ : ٦٧ ـ ٦٨ و١٥ : ٢١٣ ـ ٢١٨ ، ١٩٧ ـ ٢١٢ و ٢٠ : ٣٣٨ ـ ٣٤٠.

(٥) المصدر ١٣ : ١ ـ ٧٤.

(٦) المصدر ٨ : ٢١٦.

(٧) المصدر ٧ : ٣٣١. (٨) المصدر ٤ : ٨١.

(٨) الدر المنثور ٣ : ١١٥ ـ أخرج البزار وأبن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى : يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال : يا موسى إنما كلمتك بقوة عشر آلاف لساني ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن ، فقال : لا تستطيعونه ، ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقبل في ـ

٢٨٠