الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

المستحيل زواله وهو حجاب الذات وحقيقة الأفعال والصفات ، فلم يبق في الدور إلّا ذلك المثلث الذي ليس ليزول على أية حال!.

ذلك ، ثم (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) تفصيلا يزيل كافة الغشاوات عن وجه الحق المرام ، فلا خفاء لما فصله ، حيث فصله «على علم» بتفصيله ، وعلم بالمكلفين ، وعلم بتصاريف الكلام ، وعلم بالحق المرام وما يحتاجه الأنام (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!.

فهل يفترى بعد على الله أنه أغمض في كتابه ، وأعضل فيه لحد لا يفهم إلّا بالحديث ، (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ف «قوم يؤمنون» هم الذين يعرفون تفصيله ، استنباطا لمرادات الله ، من منشور ولاية الله كما أمر الله ، فانه السبب الوحيد الوطيد ، الوتيد على أعماق الفطر والعقول والقلوب ، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد.

فكما أن معادن كتاب التكوين مختلفة الوصول إليها والحصول عليها حسب اختلاف المساعي ، كذلك كتاب التدوين ، فإن لكلّ من حقائقه المخزونة قدر سعيه ووعيه ، دونما بخل وعضل في دلالة الكتاب نفسه على ما يرام.

فالبخيل ـ إذا ـ هو الذي جعله مهجورا فمحجوزا ، يتكلم ضده أنه ليس ليفهم إلا بوسائل هي مغيّبة في زمن التكليف إلّا قليلا!.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣).

«هل ينظرون» هؤلاء الكفار وينتظرون بعد كتاب مفصل على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، ينتظرون حجة أخرى بعده وهو الحجة البالغة الربانية بنوره وهداه ورحمته ، وفيه الكفاءة لمن يتحرى عن الهدى ، فاتحا منافذ إدراكه لتلقى الحق المرام.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) إذ لم يبق انتظار بعد كامل حجته وشاملها

١٦١

إلّا تأويله ، وليس العلم بتأويل القرآن شرطا لبالغ حجته ، فإن فيه الكفاءة التامة الطامة : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٠ : ٥٢).

ذلك ، والتأويل في الأصل هو الإرجاع إلى مبدء أو منتهى خارجين عن نص المأوّل وظاهره ، وللقرآن تأويلان اثنان ، تأويل المبدء وتأويل المعاد ، وهو بين المبدء والمعاد حجة بظاهره وباطنه في إشارات ولطائف وحقائق يمكن الحصول عليها بحجته الظاهرة الباهرة ، فتأويل المبدء هو المأخذ في أصل القرآن وفصله أحكاما وإنباءات أخرى ، وتأويل المعاد هو واقع الأنباء المسرودة فيه ، والتأويل المنتظر هنا هو الآتي في البرزخ برزخا وفي المعاد واقعا مفصلا دون إبقاء ، أم وتأويل علمي مبدء حيث يظهر بعد الموت ما يمكن أن يظهر ، وكذلك تأويل الأعمال ظهورا بحقائقها ، ثم تأوّلا إلى جزاءها الوفاق.

وفي رجعة أخرى إلى الآيتين «هل ينظرون» تجتث كافة الانتظارات من كافة المنتظرات في حقل الحجج الربانية بعد نزول الحجة البالغة القرآنية ، اللهم إلا انتظار المستحيل بحقهم وهو «تأويله» حيث ينقسم إلى مستحيل بحق الكلّ كالتأويل الخاص بالله ، والمستحيل بحق غير الراسخين في العلم كمبادئ الأحكام ، فإن العلم بها يخصهم ، وهم المستنبطون منها السنة على هامش الكتاب.

ذلك ، فكما من المنتظرات المستحيلة الذاتية (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (٢ : ٢١٠) ـ والمستحيلة بحقهم (أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٦ : ١٥٨) قبل أجلهم.

كذلك (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) حيث المنتظر لهم بين مستحيل ذاتي كالتأويل الخاص بالله حيث يحرم عن علمه الأقربون فضلا عنهم ، ومستحيل نسبي وقتي كالتأويل الخاص بأقرب المقربين في دور التكليف.

١٦٢

فانتظار معرفة التأويل مبدء ومعادا كواقع الحجة الطليقة ، بعد حجة القرآن البالغة ، هو انتظار قاحل جاهل ، فواقع التأويل للقرآن وعلمه قبل الموت ، ليس واقعا لهم أولاء إذ تمت الحجة البالغة الدامغة بالقرآن ف (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ..)؟.

ولم يأت التأويل في القرآن إلا بمعنى الأول الرجوع لمتوسط الحق قرآنا وسواه ، إلى مبدءه ومنتهاه ، وكيف ينظرون تأويله وهم ـ بعد ـ لم يبلغوا إلى متوسط من تفهم ذلك الوسيط بين تأويليه؟!.

ثم للتأويل إجمال وتفصيل ، فإجماله معروف من ظاهره الحاضر لمن ألقي السمع وهو شهيد ، فقد يعرف من القرآن نفسه مبدءه وهو الله ، ومعاده وهو يوم الله ، وكما يعرف منه كافة الحقائق المقصودة في نشأة التكليف.

وتفصيله غير معروف إلّا لمن يحيط به علما ومعرفة يقينية بعين اليقين وحقه ، اللهم إلا ما اختص به الله من معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وسائر العلم المخصوص بساحته القدسية المتعالية ، وحجته البالغة الكافية هي وراء تأويله علميا وعينيا ، فإن دورهما آت بعد الموت ، اللهم إلا للمعصومين قدر ما قدره الله.

وقد يكفي للتصديق بأمر ، علم به ، دون حيطة شاملة كما نعرف الله ولا نحيط به علما (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (١٠ : ٣٩).

ف (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) تنديد بهم شديد أنهم ناظرون واقع نباء القرآن حتى يؤمنوا به وهو نبأ عظيم يدل على صدقه نفسه بكل بيناته الصادقة للذين يؤمنون.

و «هل ينظرون» هنا لمن ينتظر التأويل هو نظرة الانتظار ، ثم لمن لا ينتظر بشأنه أي شيء لا حاضرا ولا تأويلا هو واقع الانتظار ، حيث ينتظرهم تأويله مهما كانوا هم غير ناظريه ، وذلك كالذي كان لآل فرعون (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢٨ : ٨) فنظر الانتظار لهم

١٦٣

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وواقعه الذي ينتظرهم وهو غير ناظرين له (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).

ذلك ، وتنديد آخر بتهديد (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) نسيان التناسي لأصله المفصل وتأويله المجمل حيث تعني «نسوه» كليهما ، أم هو يوم التأويل لكافة المكلفين ، ويوم القرآن بتأويله لأهله الخصوص ، ومن الشاهد على طليق التأويل (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فقد نسوا من ذي قبل لقاء يومهم هذا ، سواء أكانوا في زمن الشرعة القرآنية أم سواه من زمن الرسالات.

إذا ف (نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) تعني نسيان يومهم هذا المدلول عليه بكافة البراهين الآفاقية والأنفسية ، تكوينية وتشريعية ، ولا سيما المدلول عليه بالقرآن العظيم الذي هو مهيمن على كتابات الوحي ورسالاته كلها.

يقولون هذه القولة الخاسرة الحاسرة ثم يتساءلون عما قد ينجيهم من عذاب يومئذ : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) كما كنا نظن من ذي قبل أن «هؤلاء شفعاءنا عند الله ـ (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

«أو نرد» إلى حياة التكليف (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) عمل العقيدة الصالحة والعمل الصالح ، فإن طليق العمل يشمل كل عمل بجانحة أم جارحة ، والأولى أولى بكونها عملا لأنها منشأ سائر العمل ، ثم ولا يفيدهم عمل دون إيمان فكيف يترجونه في رجوعهم المستدعى؟!.

أجل (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) تعني غيارا كاملا فيها ، كافلا للفلاح يوم التأويل : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧) (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢٣ : ٩٩) ، (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (٣٢ : ١٢).

ولكنهم (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بما نسوا لقاء يومهم هذا (وَضَلَّ عَنْهُمْ

١٦٤

ما كانُوا يَفْتَرُونَ) على الله من شركاء وشفعاء وما أشبه من فرية على الله أو على رسل الله ورسالاته.

ذلك ، وقد تدل هذه الآية بعشرات من أمثالها على واقع الإختيار للمكلفين ، وإلّا فلما ذا يتطلبون الرجوع إلى الحياة الدنيا ، وإلى عدم التكليف يوم الدين ، وإلّا لكانوا يجبرون ما فاتهم فيعملون غير الذي كانوا يعملون في الأخرى ، دون تكلّف للارتجاع إلى الحياة الأولى.

ذلك ، ومن تأويل المبدء : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (١٨ : ٧٨) ومن المرجع : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) (١٢ : ٣٧) ثم لم يأت التأويل لذلك المعنى الشهير العليل ، أنه تفسير لنص أو ظاهر مستقر بخلافه نقيضا أو ضدا ، لا في القرآن ولا في اللغة حيث هو من الأول الرجوع ، ولا يرجع أي كائن في مثلث الزمان إلّا إلى مبدءه أو منتهاه حتى يتبين أصله وفصله دون خفاء.

ذلك هو التأويل ، وأما التفصيل في «فصلناه» وهو (عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنما هو التفصيل البيان التبيان دون أي خفاء ذاتي دلالي للقرآن في أبعاد العبارة والإشارة واللطائف ، ولكلّ نصيب مما كسبوا في ميادين المعرفة القرآنية (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

أجل إنه تفصيل فيه تحصيل لكل المحاصيل المعنية بالقرآن دون أي خفاء مهما كان فيه من العناء ، دون عزل ولا عضل لطائر الفكر الإنساني ، الجائل في مجالات الذكر الحكيم.

ذلك ، فليس فيه شك ولا ريب ولا عضال وصدود (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠ : ٣٧) ـ (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٢ : ١١١) (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً ..) (٦ : ١١٤).

فكما أن سائر الآيات المعجزات هي مفصلات غير مبهمات ك (الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) (٧ : ١٣٣).

١٦٥

كذلك وبأحرى القرآن هو آيات مفصلات ، مهما بانت مفصلات عن مفصلات بين الأرض والسماء ، حيث المفصلات القرآنية خالدات تعيش مع الزمن دونما فتور أو قصور ، وسائر الآيات فاترات عمن يعيشون بعدها ، قاصرات الوصول إليهم ، مستحيلات الوصول إليها بعد تقضّيها.

ذلك! و (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) وهو نسيان القرآن ، دراسة ومراسة وحراسة ، ثم نسيان تأويل القرآن إيمانا أن له تأويلا ككل ، ثم نسيان تأويله الخاص بيوم القيامة ، والكل معني بعناية الإطلاق.

وترى «نسوه» لا تشمل هؤلاء الذين (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) فهل نسيت «نسوه» قسما ممن نسوه لأنهم مسلمون؟ ومحور التنديد ليس إلّا «نسوه»!.

فكما يندّد بالذين نسوا الله قدر ما نسوه ، كذلك التنديد بالذين نسوا القرآن قدر ما نسوه ، بل التنديد بهم أشد ، والاستنكار عليهم آكد! حيث لا يرجى ممن آمن بالقرآن ذلك النسيان!.

فالناسون القرآن ككل ، هم (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٨ : ١٩) ـ (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (٢٥ : ١٨).

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

١٦٦

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(٥٨)

١٦٧

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٥٤).

هنا تعريف بتأويل المبدء للقرآن وإلى معاده وكما القرآن كله تعريف عريف بالمبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد والله على كل شيء شهيد (١).

و «إن ربكم» تعريف به تعالى بكامل ربوبيته ، رغم الزعم أنها مختصة بأصل الخلق دون التدبير ، ولقد فصلنا القول حول خلق السماوات والأرض في ستة أيام بطيات آياتها ولا سيما في «فصلت والنازعات والبقرة» وهنا الإستواء على العرش هو الإحاطة على عرش القدرة والتدبير بعد خلقهما ، وإن كان الله على كل شيء قديرا ولكن فعلة فعلته القدرة والتدبير ليست إلّا بعد فعلية المقدور والمدبّر ، وحاقة البحث عن العرش تجدها في عرش الحاقة وما أشبه كآية الكرسي وسواها.

وهنا (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يعني إغشاء الليل النهار قصدا إلى الظلمة الطارئة على الجو ، يطلبه حثيثا في هذه الدورة الدائبة الدائرة ، فدور الليل تطلب النهار في هذا الفلك الدوار.

فالنهار هنا هو الجو ـ المظلم بطبيعة الحال ـ الذي طرءه الضوء ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٩٠ ـ أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء والخطيب في تاريخه عن الحسن بن علي (عليه السّلام) قال : انا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم ومن كل شيطان مريد ومن كل سبع ضار ومن كل لص عاد ، آية الكرسي وثلاث آيات من الأعراف (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ ...) وعشرا من أول الصافات وثلاث آيات من الرحمن : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) .. وخاتمة سورة الحشر.

١٦٨

فإغشاء الليل النهار هو طريان الظلمة على جو النور ، ومما تشبهها (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) فإن سلخ النهار من الليل هو سلخ الضوء من أفقه الخاص الذي هو مظلم لولا الضوء ، فالليل والنهار هما عارضان على الجو ، ولولا الجو فلا ليل ولا نهار ، كما لولا الوجود فلا أزلية ولا حدوث ، ثم الليل الظلمة مخلوق مع الجو ذاتيا والنهار النور مخلوق بعد الجو عرضيا ، فسلخ النهار من الليل لمحة إلى عرضية النهار على الجو المظلم بطبيعة الحال ، وإغشاء الليل النهار إشارة إلى زوال النهار بزوال الشمس ، ف (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) هو رجوع الجو إلى حالته الأصلية الطبيعية.

ثم و (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) لمحة صارحة لاختلاف الآفاق الأرضية ، فهي ـ إذا ـ مدوّرة غير مسطحة ، وإلّا لم يكن معنى ولا واقع ل (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أن يطلب الليل النهار حثيثا تدريجيا سريعا مجدا ـ حيث الحث هو الطلب بجد وسرعة ـ بل ليكن الأرض كلها ليلا أم كلها نهارا لو كانت مسطحة أو شبه مسطحة ، وهذا الطلب ليس إلّا من حصائل حركة الأرض وكرويتها ، أم وحركة الشمس.

ذلك ، فلولا أن الظلمة أصل للجو المظلم ، مخلوق معه دون غيار لم يكن لسلخ النهار منه معنى صالح ، حيث السلخ ليس إلا لقشر عارض ، وأما (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) فإنه اغشاء ، لذلك الجلد العارض بغشاء الظلمة الذاتية.

ثم (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) لا يصدق إلّا باختلاف الآفاق ، وإلا لم يكن يطلبه لا حثيثا ولا غير حثيث لمكان المفارقة البائنة بينهما ، إذا فلتكن الأرض منحنية السطح كروية أو بيضوية أماهيه حتى يصدق (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) : سريعا.

ذلك ، فهذه الآية المغشية الليل النهار ، ومعها آية التكوير : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩ : ٥) وهكذا آيات الإيلاج بينهما ك (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي

١٦٩

اللَّيْلِ) (٢٢ : ٦١) وآية السلخ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٦ : ٣٧).

هذه كلها إشارات متقنة لكروية الأرض ودورانها ، ولم تكن الظروف النازلة فيها القرآن تسمح للتصريح بذلك إذ كان يواجه بالتكذيب سنادا إلى الحس ، والعلم حينذاك.

فهذه وأضرابها من الإشارات اللطيفة القرآنية المعبر عنها بالبطون ، كانت لا بد منها في ذلك الكتاب المحلق على كافة المكلفين منذ نزوله إلى يوم الدين.

فقد يعبر عن حركات الأرض ب «الراجفة» و «الكفات» و «الذلول» تدليلا واضحا على أن الأرض محكومة بحركات متداخلة فهي «راجفة» وانها مسرعة في الطيران متقبضة على سطحها وفضاءها الكائنين فيها : أحياء وأمواتا «كفاتا» وأنها على حركاتها معدّلة لحد لا تحس (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) وما أشبه.

وهنا يقول الإمام علي (عليه السّلام): «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الصم .. فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو أن تسيخ بحملها». ذلك ، وأمامنا اليوم صورة رائعة للأرض بواسطة الأقمار الصناعية تبين لنا كيف يدخل الليل في النهار تدريجيا ويتكور عليه ، وكلها أدلة علمية فلكية قرآنية على كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس.

ثم وخلق (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) حالكونها مسخرات ككل «بأمره» حيث سخرها للخلق انتفاعا لهم منها ، دون تدبير رباني لها بأصولها : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (١٤ : ٣٣) وذلك يختلف اختلافا ما عما سبقها في الآية نفسها : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) فان لنا تأثيرات في الفلك والأنهار دون الشمس والقمر والليل والنهار.

هذا ، وكما أن (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) في ظاهر التكوين ، كذلك ـ وبأحرى ـ شمس الرسالة القدسية وقمرها ونجومها في

١٧٠

باطن التشريع ، إذ يحمله حملته من الله وكما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمتي» (١).

__________________

(١) كما في ينابيع المودة (٢٠) من طريق الحاكم ، وابن بطريق في العمدة من طريق مسند أحمد عن علي (عليه السّلام) وأحمد بن حنبل في فضائله : ١٨٩ ح ٢٦٧ عنه (عليه السّلام) والحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٩ عن ابن عباس وج ٢ : ٤٤٨ باسناده عن جابر وج ٣ : ٤٥٧ باسناده عن محمد بن المنكدر عن أبيه ، وكذا الذهبي في تلخيص المستدرك ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير ٥ : ٢٥ باسناده عن إياس بن سلمة عن أبيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) والسيوطي في إحياء الميت من طريق الحاكم عن ابن عباس ومن طريق ابن أبي شيبة ومسدد في مسنديهما ، والترمذي في نوادر الأصول ، وأبو يعلى والطبراني جميعا عن سلمة ، ورواه في الجامع الصغير ٥٨٧ عن سلمة بن الأكوع وفي ص ٧ من طريق الحفاظ : أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة النخعي والمسدد في مسنديهما ، والترمذي في نوادر الأصول ، وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير ، وابن عساكر باسنادهم جميعا عن إياس بن سلمة وعن جابر ، وأخرجه من طريق الحاكم عن ابن عباس الحزاوي في مشارق الأنوار ٩٠ والنقشبندي في راموز الأحاديث ٢٣٨ والصنعاني في مشارق الأنوار ١٠٩ والحضرمي في رشفة الصادي ١٧ و ٣٧ و ٧٨ من طريق الحاكم عن ابن عباس وأحمد في المناقب عن علي (عليه السّلام) ، وفي وسيلة المآل ٥٩ عنه (عليه السّلام) والسهمودي في الإشراف على فضل الإشراق ٤٠ والأمر تسري في أرجح المطالب ٣٢٩ ، والنبهاني في الشرف المؤبد ٢٩ عنه (عليه السّلام) وفي جواهر البحار في فضائل النبي المختار ١ / ٣٦١ ، والنبهاني في الفتح الكبير ٣ : ٢٦٧ سلمة ، والحمويني في فرائد السمطين ٢ : ٢٤١ و ٢ و ٥٢١ والطبري في ذخائر القبي ١٧ والزرندي في نظم درر السمطين ٢٣٤ والقدوس الحنفي في سنن الهدى والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ : ١٧٤ والكافي في السيف اليماني المسلول ٦٤ والكازروني في شرف النبي ٢٨٣ والخوارزمي في مقتل الحسين (عليه السّلام) ١ : ١٠٨ عن علي (عليه السّلام) وابن عباس والأنسى اللبناني في الدرر واللآل ٢٠٣ وضيف الله في فيض الغدير ٢ : ٦٢ وسفيان الفسوي في ترجمة ابن عباس من كتابه : المعرفة والتاريخ ١ : ٥٣٨ والصبّان في إسعاف الراغبين ١٤٤ والهيثمي في الصواعق ١٨٥ والقندوزي في الينابيع ٢٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٣ : ٨٨. (عنهم ملحقات احقاق الحق ٩ : ٢٩٤ ـ ٣٨٠ و١٨ : ٣٢٣ ـ ٣٣٠ وغاية المرام ٢٧٤ الباب ٦٦ و ٦٧).

١٧١

وهكذا يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقل الأمر (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٣ : ١٢٨) وكما هنا (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).

فلست ـ أنت أيها الرسول النبي الألمعي ـ لست تملك شيئا من أمر التكوين والتشريع والثواب والعقاب والعفو ، أو الاستئصال والاستصلاح ، أو تدبير المصالح في أوقاتها ، أو تقديم الآجال عن مقراتها أو تأخيرها وما أشبه من الأمور الربانية في حقل التكوين والتشريع ، و (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) و (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(٨٨ : ٢٢).

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) له الخلق وله أمر الخلق استمرارا وتدبيرا وما أشبه من شؤون الخلق لصالحه غاية وبداية وعلى أية حال في كل تكوين وتشريع وما أشبه.

ذلك ، فلا مجال هنا لبعض التفلسفات الفالسة الكالسة أن «الأمر» يعنى إيجاد المجردات ، والخلق هو إيجاد الماديات ، فقد ذكر هنا خلق السماوات والأرض والإستواء على عرش تسخيرهما بسائر النجوم وتدبيرها كلها وهو الأمر بعد الخلق (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) حيث جمع لنفسه الخلق والأمر دون أن يتخذ لنفسه شريكا أو يكون له يد في الأمر كما لا شريك له في الخلق ، والمشركون معترفون بان الله تعالى هو الخالق لا سواه ، ولكنهم يعطون أمر الخلق لغيره كلا أو بعضا.

ثم الأمر هنا ليس ليختص بأمره تعالى بعد خلق الكون ، بل وله الأمر قبله وقبل أمره ، كما وله الخلق قبل الخلق والأمر وبعدهما ، فهو «خالق إذ لا مخلوق وعالم إذ لا معلوم ..» (١) ف من زعم أن الله جعل للعباد من

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠ في الخرائج والجرايح قال أبو همام سئل محمد بن صالح أبا محمد (عليه السّلام) عن قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) فقال : له الأمر من قبل أن يأمر به وله الأمر من بعد أن يأمر به مما يشاء فقلت في نفسي هذا قول الله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فأقبل علي وقال : هو كما أسررت في نفسك : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

١٧٢

الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبياءه لقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(١).

وقد يعني الأمر هنا الهدى الشاملة لكل خلق تكوينيا وتشريعيا : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) هداية تناسب غايته المخلوق لها.

فهنا (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) حصر لهما بساحة الربوبية ، وعبارته الأخرى هو الرب لا سواه ، لا يشاركه أحد في خلق أو هدى ، في تكوين أو تشريع ، ولا تعني الرسالة الإلهية التي هي القمة العالية في مناصب لمن سوى الله إلا رسالة الأحكام التي يشرعها الله سبحانه.

ذلك ، وصيغة الخلق في القرآن تعني ـ دونما استثناء ـ كل الخليقة ، مادية بطاقاتها ومنها الأرواح ، فقد (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦ : ١٠١) ـ (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (٧ : ١٨٥) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢٥ : ٢) (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥١ : ٤٩) (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٢٢ : ٥) (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (٣٧ : ١١).

فهذه الآيات ونظائرها تدل على تحليق الخلق على كلّ شيء ، سواء أكان خلقا متدرجا في تكونه كما السماوات والأرض برمتهما ، أم دون تدرج كما الخلق الأوّل لمكان خلقه لا من شيء ، فالمخلوق من شيء يجوز فيه التدرج ، ولكن الذي يخلق لا من شيء فلا مجال فيه لتدرج ، فغير الخلق

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٩٢ ـ أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط ما عمل ومن زعم ...

١٧٣

الأول بين متدرج التكون وسواه ، والخلق الأول محصور في سواه.

وكما أن (الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (٣ : ١٥٤) كذلك التدريج وسواه كله لله ، والأمر المذكور في القرآن (٧٢) مرة ، لم يأت وإن مرة يتيمة بمعني إنشاء المجردات غير المتدرجة في الانتشاء ، إنما هو بين أمر التكوين والتشريع أمرا فيهما ومطلق الشيء والفعل ، دونما اختصاص بمجرد وما أشبه ، فالأمر الدستور يجمع بالأوامر ، والأمر الفعل أو الشيء بالأمور.

ثم الأمر بعد استواءه على العرش هو كل أمر في حقل الخلق : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣).

وطليق الأمر تدريجيا وسواه لا ينافي في ذكره في سواه ك (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١٦ : ٧٧) رغم أن أمر الساعة ـ وهو مجموع أمري قيامة الإماتة والإحياء ـ ليس ـ فقط ـ في إيجاد مجردات ، إنما هو تدبير الكون بلمحة ، ثم تعميره بلمحة أخرى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) فلا يدل (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١٧ : ٨٥) انه من عالم المجردات لمكان الأمر ، وانما القصد إلى أنه أيا كان ليس إلّا من الله ، سواء أكان روح العصمة الرسالية أم روح القرآن أم سائر الأرواح ، إذ ليس للخلق مدخل فيها أبدا ، وإنما كله من الله وان كل خلق هو من الله.

ولو أن الأمر غير متدرج ، فكيف ـ إذا ـ (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ..)(٦٥ : ١٢).

وأما (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢ : ١١٧) ألّا تدرج في أمره ، فهذا لا يقتضي سلب أي تدرج وان كان بأمر الله ، فمن

١٧٤

نفاذ أمره تعالى دون حاجة إلى تدرج وتمهل انه لا يريد شيئا إلا وهو كائن ، فقد أراد تكوين المادة الأولية فكانت دون تدرج ، ثم خلق منها السماوات والأرض بتدرج ، دون أن يكون ذلك التدرج المقصود فيما فيه التدرج نقصا في قدرته ، بل هو لحكمة عالية ربانية تقتضيه ، فقد يقول لأي من مراحل التكوين التدريجي «كن» فيكون كما يريد دون تمهل ضعفا في القدرة ، وهنا يتجلى معنى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٤ : ٥٠) و (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢).

ذلك ، وباختصار نجد القول بمجرد سوى الله يخالفه العقل والكتاب والسنة ، فالعقل إنما يحكم بحدوث المادة والطاقات المادية ، وليس المجرد عن المادة بحاجة إلى خالق لتجرده عن الحاجة المحوجة إلى الخالق.

والكتاب مصرح بأن الروح منشأ من البدن : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٢٣ : ١٤) وانه منفوخ في البدن (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (٣٢ : ٩).

والسنة كلمة واحدة مصرحة بمعنى : أن الروح جسم خفيف قد ألبس قالبا كثيفا ، أو أنه كالريح لخفته.

وبعد كل ذلك نتساءل القائلين بتجرد الروح ، أليس هو داخلا في البدن ، فمحدودا بحدود البدن ، ولا حد ولا أبعاد ولا مكان للمجرد عن المادة ، اللهم إلّا الطاقة المادية ، وليس النزاع في كيان الروح إلّا في أصل تجرده أو ماديته ، وأما كونه طاقة مادية ـ إن صدقه القائلون بتجرده ـ فموضع وفاق بين الطرفين ، وليس النزاع لفظيا حيث الفلسفة والبحوث الفلسفية ناحية منحى الواقع دون الألفاظ إلا نظرا إلى مدلولاتها الواقعية.

حول العرش :

لقد تحدثنا حول العرش على ضوء آيات تحمله ولا سيما آية حمله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) و (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) وآية الكرسي في قياس بينه وبين العرش ، وما أشبه ، أن

١٧٥

العرش المنسوب إلى الله ، المستوى عليه الله ، هو بطبيعة حال هذه النسبة ليس من العروش المادية التي يتكئ عليها أصحابها السلاطين ، إنما هو إشارة إلى فعلية السلطة الربانية خلقا وتقديرا وتدبيرا ، فقد كان عرشه هذا على الماء قبل خلق الأرض والسماء : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٧ : ١١) فلأن «الماء» هنا هو أوّل ما خلق الله ـ كما يأتي فيه قول فصل على ضوء آيته ـ ثم بعد خلق السماوات والأرض استوى على عرشهما ، ومن ثم بعد خرابهما يستوي على عرش القيامة الكبرى ، فهو ـ إذا ـ ذو العرش في هذه المراحل الثلاث واقعيا ، وقد كان ذا العرش قبل أن يخلق خلقا ، بمعنى حيطته العلمية والقيومية غير الفعلية ، على ما سوف يخلقه ، فإنه عالم إذ لا معلوم وخالق إذ لا مخلوق ، وقادر إذ لا مقدور ، بمعنى انه تعالى لا تحدث له سلطة بعد ما لم تكن ، وإنما تظهر سلطته على ما يحدث بعد كأمنها في علمه وحياته وقدرته ، حيث الصفات الفعلية كلها منشآت من الصفات الذاتية.

ولأن الخلق والتقدير هما مخلوقان ، فالحيطة العلمية والقيومية عليهما أيضا مخلوقتان ، إذا فالعرش كسائر الخلق خلق من خلق الله في كيانه الفعلي ، كما أنه من صفاته الذاتية في كيانه الشأني (١) ، فقد يصح القول

__________________

(١) في التوحيد باسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي (عليه السّلام) الجاثليق فقال علي (عليه السّلام): إن الملائكة تحمل العرش وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ولكنه شيء محدود مخلوق مدبر وربك حامله لا أنه عليه ككون الشيء على الشيء ..» أقول : لأن الخلق والتدبير محدودان فالعرش الذي فيه أزمته أمور الخلق محدود بنفس الحدود ، ولكن صفات الله الذاتية كذاته غير محدودة.

وفي الكافي عن البرقي رفعه قال : سأل الجاثليق عليا (عليه السّلام) فقال : أخبرني عن الله عزّ وجلّ يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال (عليه السّلام) : الله عزّ وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وذلك قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ـ

قال : فأخبرني عن قوله : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، فكيف ذاك وقلت : انه ـ

١٧٦

انه لم يكن لله عرش ولا كرسي قبل أن يخلق خلقا ، إذ «كان الله ولم يكن معه شيء» سواء أكان عرش السلطة التدبيرية والتقديرية الفعلية منه تعالى أو السلطة الملائكية المأذونة لهؤلاء المؤامرين ، حيث يحملون بما يحمّلون كأداة أمور التكوين والتشريع.

فأصل العرش وهو السلطة الربانية ليس إلا لله ، ثم فصله لعباد له خصوص يحملون أوامره إلى الكائنات ، فهم عمال رب العالمين فيما هم به يؤمرون.

فلأن عرش الله هو أمره السلطوي الربوبي ، فحملة عرشه هم

__________________

ـ يحمل العرش والسماوات والأرض؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر اخضرت منه الخضرة ونور أصفر اصفرت منه الصفرة ونور أبيض ابيض منه البياض ، وهو العلم الذي حمّله الله الحملة وذلك نور من نور عظمته فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلقة والأديان المتشتتة ، فكل شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فكل شيء محمول ، والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء ونور كل شيء سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ

قال : فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ،) فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وان تجهر بالقول فانه يعلم السر وأخفى وذلك قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله فقال : «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته ... أقول : للاطلاع على مضامين الحديث الغامضة راجع تفسير آية الكرسي. وهنا أحاديث أخرى سردناها عندها وأهمها حديث حنان بن سدير فراجع.

١٧٧

المحملون أوامره ، وعمّاله الذين يعملون بأمره ، من ملائكة الوحي وسواهم ، وسائر رسل الوحي وسواهم من حملة أوامر الله إلى خلقه.

ومهما كان لعرش الرب حملة يوم القيامة والأولى ، لم تكن له حملة يوم خلق الماء ، قبل أن يخلق الأرض والسماء ، فانما خلق كل الحملة من الماء ، وهو مادة الكائنات بأسرها ، فلم يحمل عرشه بعدئذ حملة لحاجته إليهم ، بل لحاجتهم إلى ذلك الحمل كما المحمل إليهم محتاجون ، تطبيقا لأمر الله لمزيد العناية الربانية إليهم ، كما تزيد لمن حمل إليهم تشاريع الله.

هذا ، فذلك إيقاع بالغ لهم صارم بعبودية الكون كله لله الواحد القهار (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فهنا ، وقد ارتعش الضمير الإنساني منساقا للاستجابة في موكب الكون المستجيب لأمر ربه ، من هنا يخاطب بقية العبودية الفطرية أن يدعو المعبود :

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(٥٥).

«أدعوا» قد تعم دعوة العبودية بمعرفة توحيدية ، ودعوة الدعاء فيما تكل الطاقات المخولة إلينا ، في قال وحال وفعال ، وكما أن يصبح العبد بكل كيانه دعاء الرب.

وكما الدعاء العبودية والعبادة واجبه الركين أن يكون بتضرع وتذلّل ، كذلك وبأحرى دعاء الاستدعاء ، ولئن تبتلى سائر العبادات بإفلاس في غير إخلاص كما في أكثريتها المطلقة ، فعبادة الدعاء هي بطبيعة الحال مخلصة غير مفلسة ، لأنها قضية الحاجة التي لا تزول إلّا برحمة من الله ، ولكن العبادة ـ ما كانت صالحة في شروط لها في الفقه الأصغر ـ تسقط التكليف وإن لم تقع موقع القبول ولم ترفع بصاحبها إلى حضرة الربوبية.

إذا ف (ادْعُوا رَبَّكُمْ) بمثلث الدعوة التوحيدية والعبودية والاستدعاء ، في مثلث القال والحال والفعال ، فالدعوة والدعاء قلبيا هي الأصل ، ثم القال والفعال إذاعتان لها مهما كان في الفعال عضال دون القال.

١٧٨

ذلك ، فقضية العبودية الذليلة المفتاقة الهزيلة ، أمام الربوبية الشاملة الكاملة العزيزة ، أن تختص الدعوة بضراعة وخفية بساحته القدسية دون اعتداء عنها بترك الدعاء أو الدعاء بكبرياء أو صياح وتصدية ، فالتضرع الخفي أنسب بجلال الله وجبروته وبقرب الصلة بينه وبين مواليه وعبيده.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ) الذي رباكم ويربيكم ما دمتم فدامت حاجاتكم : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٢٥ : ٧٧) فترك الدعاء ـ إذا ـ اعتداء على ساحة الربوبية عن صالح العبودية.

إذا فادعوه «تضرعا» لكل قصور أو تقصير ، اعترافا ضريعا بالذل ، فاغترافا من رحمته الغزيرة البارعة ، والضراعة هي الضعف والذلة ، فالتضرع هو إبراز هما ببكاء وغير بكاء.

ثم «وخفية» لأنك فيها أبعد من الرئاء ولأنه سميع الدعاء : «أما إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا ، إنه معكم» (١) فالاعتداء من «خفية» إلى جهار زعم أنه لا يسمع الخفية ، كما الاعتداء من الضراعة إلى سواها من حالات الاستكبار ، أم دون تذلل وتضرع ، إلى الاعتداء في أصل الدعاء ألا تدعوا ربكم ، فضلا عن أن تدعوا غيره أم تشركوا في دعاءه سواه ، أم تدعوه بما لا يليق بساحته ، أو ما هو الخارج عن محور الدعاء اللائق بربوبيته الحكيمة ، هذا المسدس وما أشبه محسوب بحساب (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي يبغضهم.

ثم التضرع هو حالة الضراعة وإن لم تدمع ، وخفية هي من أدب الدعاء «إنه سميع الدعاء» فإن جاهرت بالدعاء تعليما لمن سواك أم خطوة زائدة لسمعك إلى لسانك برنين البكاء والدعاء وحنينه ، اتجاها إلى حنانه

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠ في المجمع روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان في غزاة فأشرف على واد فجعل الناس يهللون ويكبرون ويرفعون أصواتهم فقال : أيها الناس أربعوا على أنفسكم أما إنكم ... وفي تفسير الفخر الرازي ١٤ : ١٣١ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية ، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي.

١٧٩

تعالى ، فذلك غير محظور.

فما دام الداعون (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٣٢ : ١٦) ـ و (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) (٢١ : ٩٠) حاصلين على سائر شروطات الدعاء المسرودة في القرآن والسنة ، فما عليهم إن لم يخفوه عناية إلى مزيد الذل والحظوة في موقف الدعاء ، مهما كان الأصل فيه هو الخفاء.

ذلك ، وقد تعني «وخفية» ما يقابل «تضرعا» حيث التضرع ظاهر لا يخفى ، فإنه بطبيعة الحال جاهر ، فليس إذا من عطف الجمع ، بل هو عطف التخيير ، ولكنه دون الجهر : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (٧ : ٢٠٥) ف (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٣ : ١٠) (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧).

إذا فقضية الدعاء كأصل أن يكون تضرعا وخفية بخفاء دون الجهر من القول ، ورغبا ورهبا ، فباطن الدعاء هو الرغب والرهب على ضراعة ، وظاهره أن يكون خفية ودون الجهر من القول ، اللهم إلا إذا لزم أو رجح الجهر تعليما ، كما كان يفعله المعصومون (عليهم السّلام) أحيان كانوا يعلمون أصحابهم ، أم مزيدا للحظوة الروحية برنة الدعاء وضراعته الظاهرة الجاهرة ما بعد عن الرئاء.

وأما ألا يدعى الرب ، أو يدعى بكبرياء أم دون تضرع ، أم يدعى تضرعا دون رغبة ورهبة ، أم يدعى تضرعا برغبة ورهبة بصراخ زعم أنه غير سميع الدعاء ، أم بغير صراخ وهو يؤكد استجابته بتا أمّاذا من سوء الأدب في حقل الدعاء ، فكل ذلك تشمله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) مهما كانت دركات.

ولأن صالح الدعاء مما يصلح الأرض إضافة إلى سائر الإصلاح منا ، ف :

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَ

١٨٠