تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق ، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام. ففي (ذنوب عباده) عمومان : عموم ذنوبهم كلّها لإفادة الجمع المضاف عموم إفراد المضاف ، وعموم الناس لإضافة (عباد) إلى ضمير الجلالة ، أي جميع عباده ، مع ما في صيغة (خبير) من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث. والكفاية : الإجزاء ، وفي فعل (كَفى) إفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه.

والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل. وقد كثر دخول باء التأكيد بعد فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله ، وتقدم في قوله تعالى : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) في سورة الإسراء [١٤]. و (خَبِيراً) حال من ضمير (بِهِ) أي كفى به من حيث الخبرة.

والعلم بالذنوب كناية عن لازمه وهو أنه يجازيهم على ذنوبهم ، والشرك جامع الذنوب. وفي الكلام أيضا تعريض بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلاقيه من أذاهم.

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩))

أجريت هذه الصلة وصفا ثانيا ل (الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨] لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد ، فصاحبها حقيق بأن يتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه. وهذا تخلّص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق.

وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيّام في سورة البقرة ، وعلى الاستواء في سورة الأعراف.

و (الرَّحْمنُ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن. وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عند ما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها ، ثم يراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه ، فإن وصف الرحمن أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف.

وفرع على وصفه ب (الرَّحْمنُ) قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على

٨١

عليم بتصاريف رحمته مجرب لها متلقّ أحاديثها ممن علمها وجرّبها.

وتنكير (خَبِيراً) للدلالة على العموم ، فلا يظن خبيرا معينا ، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل الأمر اقتضت عموما بدليل أيّ خبير سألته أعلمك.

وهذا يجري مجرى المثل ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب : «على الخبير سقطت» يقولها العارف بالشيء إذا سئل عنه. والمثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثل القرآني أفصح لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في (سقطت). وهو أيضا أشرف لسلامته من معنى السقوط ، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير ، بخلاف قولهم : على الخبير سقطت ، لأنها إنما يقولها الواحد المعيّن. وقريب من معنى (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) قول النابغة :

هلا سألت بني ذبيان ما حسبي

إذا الدخان تغشى الأشمط البرما

إلى قوله :

يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم

وليس جاهل شيء مثل من علما

والباء في (بِهِ) بمعنى (عن) أي فاسأل عنه كقول علقمة :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب (خَبِيراً) وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام ، فله سببان.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))

لما جرى وصف الله تعالى بالرحمن مع صفات أخر استطرد ذكر كفر المشركين بهذا الوصف. وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم (الرحمن) هو من وضع القرآن ولم يكن معهودا للعرب ، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مسيلمة :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة ، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصدا بالتورّك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جاريا على

٨٢

مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء ؛ فكانوا يقولون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن. وفي ذلك نزل قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). وقد تقدم في آخر سورة الإسراء [١١٠] وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء.

والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عنادهم وبهتانهم ، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم.

والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام ، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام ، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مرادا هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يسلموا. ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ثم قال : فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة إلخ. ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها.

وواو العطف في قولهم (وَمَا الرَّحْمنُ) لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمن ، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤]. و (مَا) من قوله (وَمَا الرَّحْمنُ) استفهامية.

والاستفهام مستعمل في الاستغراب ، يعنون تجاهل هذا الاسم ، ولذلك استفهموا عنه بما دون (من) باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم.

والاستفهام في (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) إنكار وامتناع ، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن (مَا) نكرة موصوفة ، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت (مَا) موصولة ، وحذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه ، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره ، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣] ، أي فيأبون ، وقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) [المرسلات : ٤٨]. ويدل على ذلك قوله (وَزادَهُمْ نُفُوراً) فالنفور من السجود سابق قبل سماع

٨٣

اسم الرحمن.

وقرأ الجمهور (تَأْمُرُنا) بتاء الخطاب. وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافهون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والضمير المستتر في (زادَهُمْ) عائد إلى القول المأخوذ من (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ). والنفور : الفرار من الشيء. وأطلق هنا على لازمه وهو البعد. وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمن زادوا بعدا من الإيمان ، وهذا كقوله في سورة نوح [٦] (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً).

وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق. ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمن ، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمن في معرض التعجيب من شأنهم عزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنا مخالفا لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨] الآيات الثلاث. وسنّ الرسول عليه‌السلام السجود في هذا الموضع.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١))

استئناف ابتدائي جعل تمهيدا لقوله (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة ، وافتتحت كل دعامة منها ب (تَبارَكَ الَّذِي ...) إلخ كما تقدم في صدر السورة. وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع. وتقدم (تَبارَكَ) أول السورة [١] وفي قوله (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) في الأعراف [٥٤].

والبروج : منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) في أول سورة الحجر [١٦].

والامتنان بها لأن الناس يوقّتون بها أزمانهم.

وقرأ الجمهور (سِراجاً) بصيغة المفرد. والسراج : الشمس كقوله : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) في سورة نوح [١٦]. ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ

٨٤

اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ...) [الفرقان : ٦٢].

وقرأ حمزة والكسائي سرجا بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم ، فيكون امتنانا بحسن منظرها للناس كقوله (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥]. والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦].

والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج : المصباح الزاهر الضياء. والمقصود : أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج ، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر.

ودلالة خلق البروج وخلق الشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل ، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

الاستدلال هذا بما في الليل والنّهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور ، وبرد وحر ، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر ، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٧] ، فهذه دلالة أخرى ونعمة أخرى والحكم في المخلوقات كثيرة.

والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافيا فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) إلى قوله (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) [الفرقان : ٤٧ ـ ٥٤].

والخلفة بكسر الخاء وسكون اللام : اسم لما يخلف غيره في بعض ما يصلح له. صيغ هذا الاسم على زنة فعلة لأنه في الأصل ذو خلفة ، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسما ، قال زهير :

بها العين والآرام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا. فالمعنى : جعل الليل خلفة

٨٥

والنهار خلفة : أي كلّ واحد منهما خلفة عن الآخر ، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر.

واللام في (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) لام التعليل وهي متعلقة ب (جَعَلَ) ، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذّكر أو أراد شكورا.

والتذكر : تفعّل من الذكر ، أي تكلف الذكر. والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين ، وجاء بمعنى : تذكر فائت أو منسي ، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر.

والشكور : بضم الشين مصدر مرادف الشكر ، والشكر : عرفان إحسان المحسن. والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى.

فتفيد الآية معنى : لينظر في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية ، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٧] فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم ، وتفيد معنى: ليتدارك الناسي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله. روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوما فقيل له : صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال : إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) الآية. ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكرا له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض ، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع.

وجيء في جانب المتذكرين بقوله (أَنْ يَذَّكَّرَ) لدلالة المضارع على التجدد. واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) لأن الشكر يحصل دفعة. ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل (أَرادَ) إذ لا يلتئم عطف (شُكُوراً) على (أَنْ يَذَّكَّرَ).

وقرأ الجمهور (أَنْ يَذَّكَّرَ) بتشديد الذال مفتوحة ، وأصله : يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما. وقرأ حمزة وخلف (أَنْ يَذَّكَّرَ) بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى

٨٦

المشدّد إلّا أن المشدّد أشدّ عملا ، وكلا العملين يستدركان في الليل والنهار.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣))

عطف جملة على جملة ، فالجملة المعطوفة هي (عِبادُ الرَّحْمنِ) إلخ ، فهو مبتدأ وخبره (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) إلخ. وقيل : الخبر (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) [الفرقان : ٧٥]. والجملة المعطوف عليها جملة (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] إلخ. فبمناسبة ذكر من أراد أن يذّكّر تخلّص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها. وهذا من أبدع التخلص إذ كان مفاجئا للسامع مطمعا أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يفاجئه ما يؤذن بالختام وهو (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) [الفرقان : ٧٧] الآية.

والمراد ب (عِبادُ الرَّحْمنِ) بادئ ذي بدء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.

وإذ قد أجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة علم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاء وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عباده ، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسم الرحمن لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم : (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ. قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠]. فإذا جعل المراد من (عِبادُ الرَّحْمنِ) أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الخبر في قوله (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) [الفرقان : ٧٥] استئنافا لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة.

وإذا كان المراد من (عِبادُ الرَّحْمنِ) جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتا ل (عِبادُ الرَّحْمنِ) وكان الخبر اسم الإشارة في قوله (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) [الفرقان : ٧٥] إلخ.

وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمن وزادهم نفورا هم على الضد من تلك المحامد ، تعريضا تشعر به إضافة (عِبادُ) إلى (الرَّحْمنِ).

٨٧

واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على (عِبادُ الرَّحْمنِ) جاءت على أربعة أقسام: قسم هو من التحلّي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدئ بها من قوله تعالى (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) إلى قوله (سَلاماً) [الفرقان : ٧٥].

وقسم هو من التخلّي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨].

وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) [الفرقان : ٦٤] ، وقوله (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) [الفرقان : ٦٧] الآية ، وقوله : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ) إلى قوله (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٢] إلخ.

وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا) إلى قوله : (لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤].

وظاهر قوله (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أنه مدح لمشية بالأرجل وهو الذي حمل عليه جمهور المفسرين.

وجوز الزجاج أن يكون قوله (يَمْشُونَ) عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد ابن أسلم كما سيأتي. فعلى الوجه الأول يكون تقييد المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهون ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختيارا وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل.

والهون : اللين والرفق. ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره (مشيا) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.

والمشي الهون : هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفق النعال فهو مخالف لمشي المتجبرين المعجبين بنفوسهم وقوتهم. وهذا الهون ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلّق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية. وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له «إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله». وقد مدح الله تعالى أقواما بقوله سبحانه (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد في مشيتك ، وحكى الله تعالى عن لقمان قوله لابنه (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء : ٣٧].

٨٨

والتخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمن لأن الرحمة ضد الشدة ، فالهون يناسب ماهيتها وفيه سلامة من صدم المارين.

وعن زيد بن أسلم قال : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي : «هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض». فهذا رأي لزيد بن أسلم ألهمه يجعل معنى (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ) أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) [البقرة : ٢٠٥] وأن الهون مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف.

وقرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هونا بوصف آخر يناسب التواضع وكراهية التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء ، فالجهل هنا ضد الحلم ، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.

وانتصب (سَلاماً) على المفعولية المطلقة. وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمّة مثل الكافرين لأن هذا الوصف يشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة.

و (السلام) يجوز أن يكون مصدرا بمعنى السلامة ، أي لا خير بيننا ولا شرّ فنحن مسلمون منكم. ويجوز أن يكون مرادا به لفظ التحية فيكون مستعملا في لازمه وهو المتاركة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحية أنه يؤذن بالتأمين ، أي عدم لإهاجة ، والتأمين : أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامه ، فتكون الآية في معنى قوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥].

قال ابن عطية : وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال يوما بحضرة المأمون (١) وعنده جماعة : كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له : من أنت؟ فكان يقول : عليّ بن أبي

__________________

(١) لأن المأمون كان متشيعا للعلويين.

٨٩

طالب ، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها فكنت أقول : إنما تدّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك ، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه ، قال المأمون : وبما ذا جاوبك؟ قال : فكان يقول لي : سلاما. قال الراوي : فكأنّ إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت ، فنبه المأمون على الآية من حضره وقال : هو والله يا عمّ عليّ بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب ، فخزي إبراهيم واستحيا. ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى. ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤))

عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حدّ قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وإعادة الموصول لتأكيد أنهم يعرفون بهذه الصلة ، والظاهر أن هذه الموصولات وصلاتها كلها أخبار أو أوصاف لعباد الرحمن. روي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] قال : هذا وصف نهارهم ، ثم إذا قرأ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) قال : هذا وصف ليلهم.

والقيام : جمع قائم كالصحاب ، والسجود والقيام ركنا الصلاة ، فالمعنى : يبيتون يصلّون ، فوقع إطناب في التعبير عن الصلاة بركنيها تنويها بكليهما. وتقديم (سُجَّداً) على (قِياماً) للرعي على الفاصلة مع الإشارة إلى الاهتمام بالسجود وهو ما بيّنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد». وكان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيري التهجد كما أثنى الله عليهم بذلك بقوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦].

[٦٥ ، ٦٦] (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦))

دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربّهم لينجوا من العذاب ، فالمراد بصرف العذاب : إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات.

وجملة (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين. ويجوز أن

٩٠

تكون من كلام الله تعالى معترضة بين اسمي الموصول ، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم.

والغرام : الهلاك الملحّ الدائم ، وغلب إطلاقه على الشر المستمر.

وجملة (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) يجوز أن تكون حكاية لكلام القائلين فتكون تعليلا ثانيا مؤكّدا لتعليلهم الأول ، وأن تكون من جانب الله تعالى دون التي قبلها فتكون تأييدا لتعليل القائلين. وأن تكون من كلام الله مع التي قبلها فتكون تكريرا للاعتراض.

والمستقرّ : مكان الاستقرار. والاستقرار : قوة القرار. والمقام : اسم مكان الإقامة ، أي ساءت موضعا لمن يستقر فيها بدون إقامة مثل عصاة أهل الأديان ولمن يقيم فيها من المكذبين للرسل المبعوثين إليهم.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧))

أفاد قوله (إِذا أَنْفَقُوا) أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال : والذين ينفقون وإذا أنفقوا إلخ. وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذمّ الإسراف فيه ، والإنفاق الحرام لا يحمد مطلقا بله أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله (إِذا أَنْفَقُوا) إشعارا بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجبا عليهم.

والإسراف : تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفق عليه. وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) في سورة النساء [٦] ، وقوله: (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) في سورة الأنعام [١٤١].

والإقتار عكسه ، وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويغلون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر. وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في

معلّقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة ، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك ، قال الشاعر مادحا :

مفيد ومتلاف إذا ما أتيته

تهلّل واهتز اهتزاز المهند

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ولا يقتروا بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقتار وهو مرادف التقتير. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر

٩١

من باب ضرب وهو لغة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصر.

والإقتار والقتر : الإجحاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفق عليه. وكان أهل الجاهلية يقترون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك. وقد تقدم ذلك عند قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠].

والإشارة في قوله : (بَيْنَ ذلِكَ) إلى ما تقدم بتأويل المذكور ، أي الإسراف والإقتار.

والقوام بفتح القاف : العدل والقصد بين الطرفين.

والمعنى : أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه ، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق ، وأما الإقتار فمن شأنه إمساك المال فيحرم من يستأهله.

وقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) خبر (كانَ) و (قَواماً) حال موكّدة لمعنى (بَيْنَ ذلِكَ). وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عوج فيه. ويجوز أن يكون (قَواماً) خبر (كانَ) و (بَيْنَ ذلِكَ) ظرفا متعلقا به. وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس. قال القرطبي : والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك.

[٦٨ ، ٦٩] (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩))

هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمن ، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين ؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم ، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا ، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين.

ووصف النفس ب (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) بيان لحرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما

٩٢

حكى الله من محاورة ولدي آدم بقوله (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) [المائدة : ٢٧] الآيات ، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم ، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ). وكان قتل النفس متفشيا في العرب بالعداوات ، والغارات ، وبالوأد في كثير من القبائل بناتهم ، وبالقتل لفرط الغيرة ، كما قال امرؤ القيس:

تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

وقال عنترة :

علّقتها عرضا وأقتل قومها

زعما لعمر أبيك ليس بمزعم

وقوله (إِلَّا بِالْحَقِ) المراد به يومئذ : قتل قاتل أحدهم ، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة. ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود. ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان.

وقد جمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم ، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يدعوا مع الله إلها آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقا بالشرك وذلك قتل النفس والزنا. فجعل ذلك شبيه خصلة واحدة ، وجعل في صلة موصول واحد.

وقد يكون تكرير (لا) مجزئا عن إعادة اسم الموصول وكافيا في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب ، ويؤيّده ما في «صحيح مسلم» من حديث عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أيّ الذنب أكبر؟ قال : أن تدعو لله ندّا وهو خلقك. قلت : ثم أيّ؟ قال : أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك. قلت : ثم أيّ: قال : أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله تعالى تصديقها (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى (أَثاماً) ، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية.

وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله (غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠] قيل نزلت بالمدينة.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور ، كما تقدم في نظيره آنفا. والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع ، أي من يفعل مجموع الثلاث. ويعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضا عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها ، وأنّ البعض أيضا مراتب ، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلق آثاما لأن لقيّ الآثام بيّن هنا

٩٣

بمضاعفة العذاب والخلود فيه. وقد نهضت أدلة متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود ، مما يقتضي تأويل ظواهر الآية.

ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته ، أي يعذب عذابا شديدا وليست لتكرير عذاب مقدر.

والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوبال والنكال ، وهو أشد من الإثم ، أي يجازى على ذلك سوءا لأنها آثام.

وجملة : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) بدل اشتمال من (يَلْقَ أَثاماً) ، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة فإن كان في الجملة فعل قابل للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل لأنه عماد الجملة. وجعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود.

فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذّب على كل جرم مما ذكر عذابا مناسبا ولا يكتفى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك ، تنبيها على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد ، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها. وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يعنون خطاب المؤاخذة على ما نهوا عن ارتكابه ، وليس المراد أنهم يطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان ، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الاتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله.

وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك.

وقوله : (مُهاناً) حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة ، أي يعذّب ويهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر.

وقرأ الجمهور : (يُضاعَفْ) بألف بعد الضاد وبجزم الفعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب (يُضاعَفْ) بتشديد العين وبالجزم. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم (يُضاعَفْ) بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني.

(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))

الاستثناء من العموم الذي أفادته (مَنْ) الشرطية في قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ)

٩٤

[الفرقان : ٦٨]. والتقدير : إلّا من تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يخلد فيه ، وهذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك ، وإلا فليس في دعوتهم مع الله إلها آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناء زائد.

وفي «صحيح مسلم» : عن ابن عباس «أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨] الآية ، والمعنى : أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها ، ولا يخطر بالبال أنه يعذب عذابا غير مضاعف وغير مخلّد فيه ، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيّد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده ، إلّا بقرينة.

والتوبة : الإقلاع عن الذنب ، والندم على ما فرط ، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب ، وإذ كان فيما سبق ذكر الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان ، والإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخذة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما في الحديث «الإسلام يجبّ ما قبله» ، ولذلك فعطف (وَآمَنَ) على (مَنْ تابَ) للتنويه بالإيمان ، وليبنى عليه قوله : (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) وهو شرائع الإسلام تحريضا على الصالحات وإيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في سورة البلد [١٧] (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وقال في عكسه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩].

وقتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبّه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان ، والإسلام يجبّ ما قبله بلا خلاف ، وإنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمنا متعمدا. ولما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمنين فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من هذه الذنوب المعدودة ومنها قتل النفس بدون حقّ وهو المعروف من عمومات الكتاب والسنة. وقد تقدم ذلك مفصلا في سورة النساء [٩٣] عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية.

وفرع على الاستثناء الذين تابوا وآمنوا وعملوا عملا صالحا أنهم يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وهو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن (مَنْ تابَ) مستثنى من (مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) [الفرقان : ٦٨] فتعيّن أن السيئات المضافة إليهم هي

٩٥

السيئات المعروفة ، أي التي تقدم ذكرها ، الواقعة منهم في زمن شركهم.

والتبديل : جعل شيء بدلا عن شيء آخر ، وتقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) في سورة الأعراف [٩٥] ، أي يجعل الله لهم حسنات كثيرة عوضا عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة وهذا التبديل جاء مجملا وهو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثواب حسنات أضداد تلك السيئات ، وهذا لفضل الإيمان بالنسبة للشرك ولفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين.

وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله : (فَأُوْلئِكَ) المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة ، أي فأولئك التائبون المؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدّل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب. ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله ، ولذلك عقب هذا بقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) المقتضي أنه عظيم المغفرة.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١))

إذا وقع الإخبار عن شيء أو توصيف له أو حالة منه بمرادف لما سبق مثله في المعنى دون زيادة تعيّن أن يكون الخبر الثاني مستعملا في شيء من لوازم معنى الإخبار يبيّنه المقام ، كقول أبي الطّمحان لقيني (١) :

وإني من القوم الذين هم هم

وقول أبي النجم :

أنا أبو النجم وشعري شعري

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني في المنام فقد رآني». فقوله تعالى هنا : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) وقع الإخبار عن التائب بأنه تائب إذ المتاب مصدر ميمي بمعنى التوبة فيتعيّن أن يصرف إلى معنى مفيد ، فيجوز أن يكون المقصود هو قوله : (إِلَى اللهِ) فيكون كناية عن عظيم ثوابه.

ويجوز أن يكون المقصود ما في المضارع من الدلالة على التجدد ، أي فإنه يستمر

__________________

(١) الطحان بطاء مهملة فميم مفتوحة فحاء مهملة ، واسمه حنظلة ، شاعر إسلامي.

٩٦

على توبته ولا يرتد على عقبيه فيكون وعدا من الله تعالى أن يثبّته على القول الثابت إذا كان قد تاب وأيّد توبته بالعمل الصالح.

ويجوز أن يكون المقصود ما للمفعول المطلق من معنى التأكيد ، أي من تاب وعمل صالحا فإن توبته هي التوبة الكاملة الخالصة لله على حد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فيكون كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨]. وذكر المفسرون احتمالات أخرى بعيدة.

والتوكيد ب (إنّ) على التقادير كلها لتحقيق مضمون الخبر.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢))

أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان ، والتخلق بفضائله ، ومجانبة أحوال أهل الشرك. وتلك ثلاث خصال

أولاها أفصح عنه قوله هنا (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) الآية.

وفعل (شهد) يستعمل بمعنى (حضر) وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] ، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦].

والزور : الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب. وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية : أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها ، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم ، فيكون الزور مفعولا به ل (يَشْهَدُونَ). وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم. فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨]. وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام [٦٨] (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ويجوز أن يكون فعل (يَشْهَدُونَ) بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوبا على نزع الخافض ، أي لا يشهدون بالزور ؛ أو مفعولا مطلقا لبيان نوع الشهادة ، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حق.

٩٧

وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) مناسب لكلا الجملتين.

واللغو : الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه. وتقدم في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) في سورة مريم [٦٢]. ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم ، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.

ومعنى : (مَرُّوا كِراماً) أنهم يمرون وهم في حال كرامة ، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنسوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة.

والكرامة : النزاهة ومحاسن الخلال ، وضدها اللؤم والسفالة. وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى : (أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء : ٧]. وقال بعض شعراء حمير في «الحماسة» :

ولا يخيم اللقاء فارسهم

حتى يشقّ الصفوف من كرمه

أي شجاعته ، وقال تعالى : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) [الأحزاب : ٤٤].

وإذا مر أهل المروءة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة ، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) [الأنعام : ٧٠] ، وقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥].

وإعادة فعل (مَرُّوا) لبناء الحال عليه ، وذلك من محاسن الاستعمال ، كقول الأحوص :

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

ومنه قوله تعالى : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] كما ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل أبيات الحماسة» ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧].

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣))

٩٨

أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية ، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذكّروا بآيات الله خرّوا صمّا وعميانا كحال من لا يحبّ أن يرى شيئا فيجعل وجهه على الأرض ، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض ، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول.

ومنه استعارة القعود للتخلف عن القتال ، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به.

ويجوز أن يكون الخرور واقعا منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوسا في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام طأطئوا رءوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار ، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قوما من طيئ ، أنشده المبرد :

إذا ما قيل أيّهم لأيّ

تشابهت المناكب والرءوس

وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكاية في سورة نوح [٧] (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً). وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) في سورة الإسراء [١٠٧] ، وقوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] وقوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) في الأعراف [١٤٣].

و (صُمًّا وَعُمْياناً) حالان من ضمير (يَخِرُّوا) ، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه ، أي يخرّون كالصمّ والعميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصر منها مما يذكّرون به. فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده ، وهو استعمال كثير في الكلام. وهذا الوجه أوجه.

ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالب وهو مختار صاحب «الكشاف» ، فالمعنى : لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سامعين مبصرين فيكون الخرور مستعارا للحرص على العمل بشراشر القلب ، كما يقال : أكبّ على كذا ، أي صرف جهده فيه ، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون

٩٩

عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهرا منهم بالحرص على ذلك. وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرّض بهم منافقين ، وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يعرضون عن تلقي الدعوة علنا ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦]. وقال : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥].

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤))

هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يعنون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدعون الله أن يرزقهم أزواجا وذرّيّات تقرّ بهم أعينهم ، فالأزواج يطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه ؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين ، والذّريات إذا نشئوا نشئوا مؤمنين ، وقد جمع ذلك لهم في صفة (قُرَّةَ أَعْيُنٍ). فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقرّ عيون المؤمنين إلّا بأزواج وأبناء مؤمنين. وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] ، وقال : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) [الأحقاف : ١٧] الآية. فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيه حظ لنفوسهم بقرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم ، كما في قول عبد الله ابن رواحة وهو خارج إلى غزوة مؤتة ، فدعا له المسلمون ولمن معه أن يردّهم الله سالمين فقال :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي

أرشدك الله من غاز وقد رشدا

فإن في قوله : حتى يقولوا ، حظا لنفسه من حسن الذكر وإن كان فيه دعاء له بالرشد وهو حظّ ديني أيضا ، وقوله : وقد رشد ، حسن ذكر محض. وفي كتاب «الجامع» من «جامع العتبية» من أحاديث ابن وهب قال مالك : رأيت رجلا يسأل ربيعة يقول : إني لأحبّ أن أرى رائحا إلى المسجد ، فكأنه كره من قوله ولم يعجبه أن يحبّ أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير. وقال ابن رشد في «شرحه» : وهذا خلاف قول مالك في رسم

١٠٠