تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

وذكر ما يقال للغاوين للإنحاء عليهم وإظهار حقارة أصنامهم ، فقيل لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) وفي الاقتصار على ذكر هذا دون غيره مما يخاطبون به يومئذ مناسبة لمقام طلب الإقلاع عن عبادة تلك الأصنام.

وأسند فعل القول إلى غير معلوم لأن الغرض تعلق بمعرفة القول لا بمعرفة القائل ، فالقائل الملائكة بإذن من الله تعالى لأن المشركين أحقر من أن يوجه الله إليهم خطابه مباشرة.

والاستفهام في قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) استفهام عن تعيين مكان الأصنام إن لم تكن حاضرة ، أو عن عملها إن كانت حاضرة في ذلك الموقف ، تنزيلا لعدم جدواها فيما كانوا يأملونه منها منزلة العدم تهكّما وتوبيخا وتوقيفا على الخطأ.

والاستفهام في (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) كذلك مع الإنكار أن تكون الأصنام نصراء. والانتصار طلب النصير.

وكتب (أَيْنَ ما) في المصاحف موصولة نون (أين) بميم (ما) والمتعارف في الرسم القياسي أن مثله يكتب مفصولا لأن (ما) هنا اسم موصول وليست المزيدة بعد (أين) التي تصير (أين) بزيادتها اسم شرط لعموم الأمكنة ، ورسم المصحف سنة متبعة.

و (أَوْ) للتخيير في التوبيخ والتخطئة ، أي هل أخطأتم في رجاء نصرها إياكم ، أو في الأقل هل تستطيع نصر أنفسها وذلك حين يلقى بالأصنام في النار بمرأى من عبدتها ولذلك قال : (فَكُبْكِبُوا فِيها) ، أي كبكبت الأصنام في جهنم.

ومعنى (فَكُبْكِبُوا) كبّوا فيها كبا بعد كبّ فإنّ كبكبوا مضاعف كبّوا بالتكرير وتكرير اللفظ مفيد تكرير المعنى مثل : كفكف الدمع ، ونظيره في الأسماء : جيش لملم ، أي كثير ، مبالغة في اللّم ، وذلك لأن له فعلا مرادفا له مشتملا على حروفه ولا تضعيف فيه فكان التضعيف في مرادفه لأجل الدلالة على الزيادة في معنى الفعل.

وضمائر (يَنْصُرُونَكُمْ) ـ و ـ (يَنْتَصِرُونَ) ـ و ـ (فَكُبْكِبُوا) عائدة إلى (ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) بتنزيلها منزلة العقلاء. وجنود إبليس : هم أولياؤه وأصناف أهل الضلالات التي هي من وسوسة إبليس. وتقدم الكلام على إبليس في سورة البقرة.

[٩٦ ـ ١٠٢] (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ

١٦١

نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) َلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢))

يجوز أن يكون هذا من حكاية كلام إبراهيم عليه‌السلام أطنب به الموعظة لتصوير هول ذلك اليوم فتكون الجملة حالا ، أو تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كما سيأتي.

ويجوز أن يكون حكاية كلام إبراهيم انتهت عند قوله : (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) [الشعراء : ٩٥] أو عند قوله تعالى : (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧] على ما استظهر ابن عطية. ويكون هذا الكلام موعظة من الله للسامعين من المشركين وتعليما منه للمؤمنين فتكون الجملة استئنافا معترضا بين ذكر القصة والتي بعدها وهو استئناف بياني ناشئ عن قوله :(فَكُبْكِبُوا فِيها) [الشعراء : ٩٤] لأن السامع بحيث يسأل عن فائدة إيقاع الأصنام في النار مع أنها لا تفقه ولا تحسّ فبيّن له ذلك ، فحكاية مخاصمة عبدتها بينهم لأن رؤيتهم أصنامهم هو مثار الخصومة بينهم إذ رأى الأتباع كذب مضلّليهم معاينة ولا يجد المضلّلون تنصّلا ولا تفصّيا ، فإن مذلة الأصنام وحضورها معهم وهم في ذلك العذاب أقوى شاهد على أنها لا تملك شيئا لهم ولا لأنفسها.

وأما جملة : (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) فهي في موضع الحال ، وجملة (تَاللهِ) مقول القول ، وجملة : (إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) جواب القسم. و (إِنْ) مخففة من (إنّ) الثقيلة وقد أهملت عن العمل بسبب التخفيف فإنه مجوز للإهمال. والجملة بعدها سادّة مسد اسمها وخبرها. واقتران خبر (كان) باللام في الجملة التي بعدها للفرق بين (إِنْ) المخففة المؤكدة وبين (إن) النافية ، والغالب أن لا تخلو الجملة التي بعد (إِنْ) المخففة عن فعل من باب (كان).

وجيء في القسم بالتاء دون الواو والباء لأن التاء تختص بالقسم في شيء متعجب منه كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) في سورة يوسف [٧٣] ، وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) في سورة الأنبياء [٥٧] ، فهم يعجبون من ضلالهم إذ ناطوا آمالهم المعونة والنصر بحجارة لا تغني عنهم شيئا. ولذلك أفادوا تمكن الضلال منهم باجتلاب حرف الظرفية المستعار لمعنى الملابسة لأن المظروف شديد الملابسة لظرفه ، وأكدوا ذلك بوصفهم الضلال بالمبين ، أي الواضح البيّن. وفي هذا تسفيه منهم لأنفسهم إذ تمشّى عليها هذا الضلال الذي ما كان له أن يروج على ذي مسكة من عقل.

١٦٢

و (إِذْ نُسَوِّيكُمْ) ظرف متعلق ب (كُنَّا) أي كنا في ضلال في وقت إنا نسوّيكم برب العالمين. وليست (إِذْ) بموضوعة للتعليل كما توهمه الشيخ أحمد بن علوان التونسي الشهير بالمصري فيما حكاه عنه المقري في «نفح الطيب» في ترجمة أبي جعفر اللّبلي في الباب الخامس من القسم الأول ، وإنما غشي عليه حاصل المعنى المجازي فتوهمه معنى من معاني (إِذْ) ومنه قول النابغة :

فعدّ عما ترى إذ

لا ارتجاع له

أي حين لا ارتجاع له.

والتسوية : المعادلة والمماثلة ، أي إذ نجعلكم مثل ربّ العالمين ، فالظاهر أنهم جعلوهم مثله مع الاعتراف بالإلهية وهو ظاهر حال إشراكهم كما تقدم في قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] ، ويحتمل أنهم جعلوه مثله فيما تبين لهم من إلهيته يومئذ إذ كانوا لا يؤمنون بالله أصلا في الدنيا فهي تسوية بالمآل وقد آبوا إلى الاعتراف بما تضمنته كلمة إبراهيم لهم في الدنيا إذ قال لهم (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء:٧٧].

وضمير الخطاب في (نُسَوِّيكُمْ) موجه إلى الأصنام ، وهو من توجيه المتندم الخطاب إلى الشيء الذي لا يعقل وكان سببا في الأمر الذي جرّ إليه الندامة بتنزيله منزلة من يعقل ويسمع. والمقصود من ذلك المبالغة في توبيخ نفسه. ومنه ما روى الغزالي في «الإحياء» : أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق فوجده ممسكا بلسانه بأصبعيه وهو يقول : أنت أوردتني الموارد. وعن ابن مسعود أنه وقف على الصفا يلبّي ويقول : يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم. وهذا أسلوب متّبع في الكلام نثرا ونظما قال أبو تمام :

فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

وصيغ (نُسَوِّيكُمْ) في صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة حين يتوجهون إلى الأصنام بالدعاء والنعوت الإلهية.

وقولهم : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) خطاب بعض العامة لبعض. وعنوا بالمجرمين أئمة الكفر الذين ابتدعوا لهم الشرك واختلقوا لهم دينا.

والمناسب أن يكون التعريف في (الْمُجْرِمُونَ) مستعملا في كمال الإجرام فإن من

١٦٣

معاني اللام أن تدل على معنى الكمال.

ورتبوا بالفاء انتفاء الشافعين على جملة : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) حيث أطمعوهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله مثل المشركين من العرب (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] فتبيّن لهم أن لا شفاعة لها ، وهذا الخبر مستعمل في التحسر والتوجع.

والشافع : الذي يكون واسطة جلب نفع لغيره أو دفع ضر عنه. وتقدم ذكر الشفاعة في قوله : (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) في البقرة [١٢٣] ، والشفيع في أول سورة يونس.

وأما قولهم : (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) فهو تتميم أثاره ما يلقونه من سوء المعاملة من كل من يمرون به أو يتصلون ، ومن الحرمان الذي يعاملهم كل من يسألونه الرفق بهم حتى علموا أن جميع الخلق تتبرأ منهم كما قال تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) فإن الصديق هو الذي يواسيك أو يسليك أو يتوجع ويومئذ حقّت كلمة الله (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] وتقدم الكلام على الصديق في قوله تعالى : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) في سورة النور [٦١].

والحميم : القريب ، فعيل من حمّ (بفتح الحاء) إذا دنا وقرب فهو أخص من الصديق.

والمراد نفي جنس الشفيع وجنس الصديق لوقوع الاسمين في سياق النفي المؤكّد ب (مِنْ) الزائدة ، وفي ذلك السياق يستوي المفرد والجمع في الدلالة على الجنس. وإنما خولف بين اسمي هذين الجنسين في حكاية كلامهم إذ جيء ب (شافِعِينَ) جمعا ، وب (صَدِيقٍ) مفردا ، لأنهم أرادوا بالشافعين الآلهة الباطلة وكانوا يعهدونهم عديدين فجرى على كلامهم ما هو مرتسم في تصورهم. وأما الصديق فإنه مفروض جنسه دون عدد أفراده إذ لم يعنوا عددا معيّنا فبقي على أصل نفي الجنس ، وعلى الأصل في الألفاظ إذ لم يكن داع لغير الإفراد. والذي يبدو لي أنه أوثر جمع (شافِعِينَ) لأنه أنسب بصورة ما في أذهانهم كما تقدم. وأما إفراد (صَدِيقٍ) فلأنه أريد أن يجرى عليه وصف (حَمِيمٍ) فلو جيء بالموصوف جمعا لاقتضى جمع وصفه ، وجمع (حَمِيمٍ) فيه ثقل لا يناسب منتهى الفصاحة ولا يليق بصورة الفاصلة مع ما حصل في ذلك من التفنن الذي هو من مقاصد البلغاء.

ثم فرعوا على هذا التحسر والندامة تمنّي أن يعادوا إلى الدنيا ليتداركوا أمرهم في

١٦٤

الإيمان بالله وحده.

و (لو) هذه للتمنّي ، وأصلها (لو) الشرطية لكنها تنوسي منها معنى الشرط. وأصلها : لو أرجعنا إلى الدنيا لآمنّا ، لكنه إذا لم يقصد تعليق الامتناع على امتناع تمحّضت (لو) للتمنّي لما بين الشيء الممتنع وبين كونه متمنّى من المناسبة. والكرة : مرة من الكرّ وهو الرجوع.

وانتصب (فَنَكُونَ) في جواب التمنّي.

[١٠٣ ، ١٠٤] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

تكرير ثالث لهاته الجملة تعدادا على المشركين وتسجيلا لتصميمهم. واسم الإشارة إشارة إلى كلام إبراهيم عليه‌السلام فإن فيه دليلا بيّنا على الوحدانية لله تعالى وبطلان إلهية الأصنام ، فكما لم يهتد بها قوم إبراهيم فما كان أكثر المشركين بمكة بمؤمنين بها بعد سماعها ، ولكن التبليغ حق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تقدم الكلام على نظير هذه الآية.

[١٠٥ ـ ١١٠] (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠))

استئناف لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناشئ عن قوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٠٣] أي لا تأس عليهم ولا يعظم عليك أنهم كذّبوك فقد كذبت قوم نوح المرسلين ؛ وقد علم العرب رسالة نوح ، وكذلك شأن أهل العقول الضالّة أنهم يعرفون الأحوال وينسون أسبابها.

وأنث الفعل المسند إلى قوم نوح لتأويل (قَوْمُ) بمعنى الأمة أو الجماعة كما يقال : قالت قريش (١) ، وقالت بنو عامر (٢) ، وذلك قياس في كل اسم جمع لا واحد له من لفظه

__________________

(١) أشرت إلى قول الشاعر :

إذا قتلنا ولم يثأر لنا أحد

قالت قريش ألا تلك المقادير

(٢) أشرت إلى قول النابغة :

قالت بنو عامر خانوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام

١٦٥

إذا كان للآدمي مثل نفر ورهط ، فأما إذا كان لغير الآدميين نحو إبل فمؤنث لا غير. قاله الجوهري وتبعه صاحب «اللسان» و «المصباح».

ووقع في «الكشاف» هذه العبارة «القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة» فظاهر عبارته أن هذا اللفظ مؤنث المعنى في الاستعمال لا غير ، وهذا لم يقله غيره وسكت شراحه عليه ولم يعرج الزمخشري عليه في «الأساس» فإن حمل على ظاهر العبارة فهو مخالف لكلام الجوهري وابن سيده. ويحتمل أنه أراد جواز تأنيث (قوم) وأنه يجوز أن يصغر على قويمة فيجمع بين كلامه وكلام الجوهري وابن سيده ، وهو احتمال بعيد من ظاهر كلامه الموكّد بقوله : وتصغيره قويمة ، لما هو مقرر من أن التصغير يرد الأسماء إلى أصولها. وأيّا ما كان فهو صريح في أن تأنيثه ليس بتأويله بمعنى الأمة لأن التأويل اعتبار للمتكلم فلا يكون له أثر في إجراء الصيغ مثل التصغير ، فإن الصيغ من آثار الوضع دون الاستعمال ، ألا ترى أنه لا تجعل للمعاني المجازية صيغ خاصة بالمجاز.

وجمع (الْمُرْسَلِينَ) وإنما كذّبوا رسولا واحدا أول الرسل ولم يكن قبله رسول وهم أول المكذّبين ، فإنما جمع لأن تكذيبهم لم يكن لأجل ذاته ولكنه كان لإحالتهم أن يرسل الله بشرا ، وأن تكون عبادة أصنامهم ضلالا فكان تكذيبهم إياه مقتضيا تكذيب كل رسول لأن كل رسول يقول مثل ما قاله نوح عليه‌السلام ، ولذلك تكرر في قوله : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣] وما بعده. وقد حكي تكذيبهم أن يكون الرسول بشرا في قوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) في الأعراف [٦٣].

وسيأتي حكاية تكذيب عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة على هذا النمط فيما تكرر من قوله : (كَذَّبَتْ) وقوله : (الْمُرْسَلِينَ).

و (إِذْ قالَ) ظرف ، أي كذبوه حين قال لهم (أَلا تَتَّقُونَ) فقالوا : (أَنُؤْمِنُ لَكَ) [الشعراء : ١١١]. ويظهر أن قوله : (أَلا تَتَّقُونَ) صدر بعد أن دعاهم من قبل وكرّر دعوتهم إذ رآهم مصرّين على الكفر ويدل لذلك قولهم في مجاوبته (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١].

وخص بالذكر في هذه السورة هذا الموقف من مواقفه لأنه أنسب بغرض السورة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر مماثل حاله مع قومه. والأخ مستعمل في معنى القريب من القبيلة. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) في سورة الأعراف [٦٥].

وقوله : (أَلا تَتَّقُونَ) يجوز أن يكون لفظ (أَلا) مركبا من حرفين همزة استفهام دخلت على (لا) النافية ، فهو استفهام عن انتفاء تقواهم مستعمل في الإنكار وهو يقتضي

١٦٦

امتناعهم من الامتثال لدعوته.

ويجوز أن يكون ألا حرفا واحدا هو حرف التحضيض مثل قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) [التوبة : ١٣] وهو يقتضي تباطؤهم عن تصديقه.

والمراد بالتقوى : خشية الله من عقابه إياهم على أن جعلوا معه شركاء.

وجملة : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل للإنكار أو للتحضيض ، أي كيف تستمرون على الشرك وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم أمين عندكم.

وكان نوح موسوما بالأمانة لا يتهم في قومه كما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقب الأمين في قريش. قال النابغة :

كذلك كان نوح لا يخون

وتأكيده بحرف التأكيد مع عدم سبق إنكارهم أمانته لأنه توقّع حدوث الإنكار فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة ، فإن الأمانة دليل على صدقه فيما بلّغهم من رسالة الله ، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله : هل جربتم عليه (يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم) كذبا ، فقال أبو سفيان : لا ونحن منه في مدة لا ندري ما فعل فيها. فقال له هرقل بعد ذلك : فقد علمت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله. ففي حكاية استدلال نوح بأمانته بين قومه في هذه القصة المسوقة مثلا للمشركين في تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريض بهم إذ كذبوه بعد أن كانوا يدعونه الأمين ، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها. والتأكيد أيضا لتوقع الإنكار منهم.

وجملة : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) عطف على جملة : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي علمتم أني أمين لكم وتعلمون أني لا أطلب من دعوتكم إلى الإيمان نفعا لنفسي. وضمير (عَلَيْهِ) عائد إلى معلوم من مقام الدعوة.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) تأكيد لقوله : (أَلا تَتَّقُونَ) وهو اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين. وكرر جملة : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لزيادة التأكيد فيكون قد افتتح دعوته بالنهي عن ترك التقوى ثم علل ذلك ثم أعاد ما تقتضيه جملة الاستفتاح ، ثم علل ذلك بقوله : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ، ثم أعاد جملة الدعوة في آخر كلامه إذ قال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) مرة ثانية بمنزلة النتيجة للدعوة ولتعليلها.

١٦٧

وحذفت الياء من (أَطِيعُونِ) في الموضعين كما حذفت في قوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] في أوائل السورة.

وفي قوله : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى يوم الجزاء وكانوا ينكرون البعث كما دل عليه قوله في سورة نوح [١٧ ، ١٨] (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً). وتقدم ذكر نوح عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في آل عمران [٣٣].

[١١١ ـ ١١٥] (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥))

جملة : (قالُوا) استئناف بياني لما يثيره قوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] من استشراف السامع لمعرفة ما دار بينهم وبين نوح من حوار ، ولذلك حكيت مجادلتهم بطريقة : قالوا ، وقال. والقائلون : هم كبراء القوم الذين تصدّوا لمحاورة نوح.

والاستفهام في (أَنُؤْمِنُ) استفهام إنكاري ، أي لا نؤمن لك وقد اتّبعك الأرذلون فجملة : (وَاتَّبَعَكَ) حالية.

و (الْأَرْذَلُونَ) : سقط القوم موصوفون بالرذالة وهي الخسّة والحقارة ، أرادوا بهم ضعفاء القوم وفقراءهم فتكبروا وتعاظموا أن يكونوا والضعفاء سواء في اتّباع نوح. وهذا كما قال عظماء المشركين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان من المؤمنين عمّار وبلال وزيد بن حارثة : أنحن نكون تبعا لهؤلاء أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل الله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الآيات من سورة الأنعام [٥٢].

وقرأ الجمهور : (وَاتَّبَعَكَ) بهمزة وصل وتشديد التاء الفوقية على أنه فعل مضي من صيغة الافتعال. والمعنى : أنهم كانوا من أتباعه أو كانوا أكثر أتباعه. وقرأ يعقوب وأتباعك بهمزة قطع وسكون الفوقية وألف بعد الموحدة على أنه جمع تابع. والمعنى : أنهم أتباعه لا غيرهم فالصيغة صيغة قصر.

وجواب نوح عن كلام قومه يحتاج إلى تدقيق في لفظه ومعناه. فأما لفظه فاقتران

١٦٨

أوله بالواو يجعله في حكم المعطوف على كلام قومه تنبيها على اتصاله بكلامهم. وذلك كناية عن مبادرته بالجواب كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] بعد قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤]. ويسمى عطف تلقين مراعاة لوقوعه في تلك الآية والأولى أن يسمى عطف تكميل.

وأما معناه فهو استفهام مؤذن بأن قومه فصّلوا إجمال وصفهم أتباعه بالأرذلين بأن بينوا أوصافا من أحوال أهل الحاجة الذين لا يعبأ الناس بهم فأتى بالاستفهام عن علمه استفهاما مستعملا في قلة الاعتناء بالمستفهم عنه ، وهو كناية عن قلة جدواه لأن الاستفهام عن الشيء يؤذن بالجهل به ، والجهل تلازمه قلة العناية بالمجهول وضعف شأنه ، كما يقال لك : يهدّدك فلان ، فتقول : وما فلان ، أي لا يعبأ به. وفي خبر وهب بن كيسان عن جابر ابن عبد الله أن أبا عبيدة كان يقوتنا كلّ يوم تمرة فقال وهب : قلت وما تغني عنكم تمرة.

والمعنى : أي شيء علمي بما كانوا يعملون حتى اشتغل بتحصيل علم ما كانوا يعملون وأعمالهم بما يناسب مراتبهم فأنا لا أهتم بما قبل إيمانهم.

وضمن (عِلْمِي) معنى اشتغالي واهتمامي فعدّي بالباء.

و (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) موصول ما صدقه الحالة لأن الحالة لا تخلو من عمل. فالمعنى: وما علمي بأعمالهم. وهذا كما يقال في السؤال عن أحد : ما ذا فعل فلان؟ أي ما خبره وما حاله؟ ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصبي الأنصاري : «يا أبا عمير ما فعل النغير» لطائر يسمى النغر (بوزن صرد) وهو من نوع البلبل كان عند الصبي يلعب به ، ومنه قوله لمن سأله عن الذين ماتوا من صبيان المشركين : «الله أعلم بما كانوا عاملين» أي الله أعلم بحالهم ، فهو إمساك عن الجواب. وقريب منه قول العرب : ما باله ، أي ما حاله؟.

وفعل (كانُوا) مزيد بين (ما) الموصولة وصلتها لإفادة التأكيد ، أي تأكيد مدلول «ما علمي بما يعملون». والمعنى : أي شيء علمي بما يعملون. وليس المراد بما كانوا عملوه من قبل. والواو في قوله : (بِما كانُوا) فاعل وليست اسما ل (كان) لأن (كان) الزائدة لا تنصب الخبر.

وشمل قوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جميع أحوالهم في دينهم ودنياهم في الماضي والحال والمستقبل والظاهر والباطن.

والحساب حقيقته : العدّ ، واستعمل في معنى تمحيض الأعمال وتحقيق ظواهرها وبواطنها بحيث لا يفوت منها شيء أو يشتبه.

١٦٩

والمعنى : أن الله هو الذي يتولّى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم. وهذا المقال اقتضاه قوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرّع ، فلذلك لما قال : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أتبعه بقوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فرصته. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا قالوها (أي لا إله إلا الله) عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ، أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله.

وزاد نوح قوله بيانا بقوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وبيّن هذا المعنى قوله في الآية الأخرى (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) في سورة هود [٣١].

والقصر في قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) قصر موصوف على الصفة ، والموصوف هو (حِسابُهُمْ) والصفة هي (عَلى رَبِّي) ، لأن المجرور الخبر في قوة الوصف ، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخبارا تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقر كما بيّنه علماء النحو. والتقدير : حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول (عَلى رَبِّي). وكذلك قدّره السكاكي في «المفتاح» ، وهو قصر إفراد إضافي ، أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه عليّ. وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه.

وقوله : (لَوْ تَشْعُرُونَ) تجهيل لهم ورغم لغرورهم وإعجابهم الباطل. وجواب (لَوْ) محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير : لو تشعرون لشعرتم بأن حسابهم على الله لا عليّ فلما سألتمونيه. ودل على أنه جهّلهم قوله في سورة هود [٢٩] (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(١). هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض.

والمفسرون نحوا منحى تأويل (الْأَرْذَلُونَ) أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية ، أي الطعن في صدق إيمان من آمن به ، وجعلوا قوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) تبرّءوا من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم. ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) ، فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر.

__________________

(١) في المطبوعة : (ولكنكم قوم تجهلون) وهو خطأ ، والمثبت هو الصواب والله أعلم.

١٧٠

وعطف قوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) على قوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فبعد أن أبطل مقتضى طردهم صرح بأنه لا يفعله.

وجملة : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) استئناف في معنى التعليل ، أي لأن وصفي يصرفني عن موافقتكم.

والمبين : من أبان المتعدي بمعنى بيّن ووضّح. والقصر إضافي وهو قصر موصوف على صفة.

وقد تقدم في سورة هود حكاية موقف لنوح عليه‌السلام مع قومه شبيه بما حكي هنا وبين الحكايتين اختلاف ما ، فلعلهما موقفان أو هما كلامان في موقف واحد حكي أحدهما هنالك والآخر هنا على عادة قصص القرآن ، فما في إحدى الآيتين من زيادة يحمل على أنه مكمل لما في الأخرى.

[١١٦ ـ ١٢٠] (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠))

لما أعياهم الاستدلال صاروا إلى سلاح المبطلين وهو المناضلة بالأذى.

والرجم : الرمي بالحجارة ، وقد غلب استعماله في القتل به ، و (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) يفيد من بين الذين يعاقبون بالرجم ، أي من فئة الدعّار الذين يستحقون الرجم ، كما تقدم في قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].

وقوله : (إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) تمهيد للدعاء عليهم وهو خبر مستعمل في إنشاء التحسر واليأس من إقلاعهم عن التكذيب.

والفتح : الحكم ، وتأكيده ب (فَتْحاً) لإرادة حكم شديد ، وهو الاستئصال ولذلك أعقبه بالاحتراس بقوله : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

و (الْمَشْحُونِ) : المملوء.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي في الإخبار لأن إغراق أمة كاملة أعظم دلالة على عظيم القدرة من إنجاء طائفة من الناس.

١٧١

وحذف الياء من قوله : (كَذَّبُونِ) للفاصلة كما تقدم في قوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤].

[١٢١ ، ١٢٢] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))

الآية في قصة نوح دلالتها على أن الله لا يقرّ الذين يكذّبون رسله ، ففي هذه القصة آية للمشركين من قريش وهم يعلمون قصة نوح والطوفان.

[١٢٣ ـ ١٢٧] (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧))

جملة مستأنفة استئناف تعداد لأخبار التسلية للرسول وتكرير الموعظة للمكذبين بعد جملة : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥].

والقول في هذه الآيات كالقول في نظيرتها في أول قصة نوح سواء ، سوى أن قوله تعالى : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) يفيد أنهم كذبوا رسولهم هودا وكذبوا رسالة نوح لأن هودا وعظهم بمصير قوم نوح في آية : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) في سورة الأعراف [٦٩].

واقتران فعل (كَذَّبَتْ) بتاء التأنيث لان اسم عاد علم على أمة فهو مؤوّل بمعنى الأمة.

والقول في (أَلا تَتَّقُونَ) مثل القول في نظيره المتقدم في قصة قوم نوح. وقوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) هو كقول نوح لقومه ، فإن الرسول لا يبعث إلا وقد كان معروفا بالأمانة وحسن الخلق قبل الرسالة. ويدل لكون هود قد كان كذلك في قومه قول قومه له (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) في سورة هود [٥٤] الدال على أنهم زعموا أن تغير حاله عما كان معروفا به من قبل بسبب سوء اعتقاده في آلهتهم.

وتفريع (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) عليه كما تقدم في قصة نوح. وحذف ياء (وَأَطِيعُونِ) للفاصلة كحذفها في قصة نوح وإبراهيم آنفا.

١٧٢

وتقدم ذكر عاد وهود عند قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) في سورة الأعراف [٦٥].

[١٢٨ ـ ١٣٠] (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠))

رأى من قومه تمحّضا للشغل بأمور دنياهم ، وإعراضا عن الفكر في الآخرة والعمل لها والنظر في العاقبة ، وإشراكا مع الله في إلهيته ، وانصرافا عن عبادة الله وحده الذي خلقهم وأعمرهم في الأرض وزادهم قوة على الأمم ، فانصرفت همّاتهم إلى التعاظم والتفاخر واللهو واللعب.

وكانت عاد قد بلغوا مبلغا عظيما من البأس وعظم السلطان والتغلب على البلاد مما أثار قولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] فقد كانت قبائل العرب تصف الشيء العظيم في نوعه بأنه «عادي» وكانوا أهل رأي سديد ورجاحة أحلام ، قال ودّاك بن ثميل المازني :

وأحلام عاد لا يخاف جليسهم

ولو نطق العوّار غرب لسان

وقال النابغة يمدح غسان :

أحلام عاد وأجساد مطهرة

من المعقّة والآفات والإثم

فطال عليهم الأمد ، وتفننوا في إرضاء الهوى ، وأقبلوا على الملذّات واشتد الغرور بأنفسهم فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس ، وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة ، فعبدوا الأصنام ، واستخفوا بجانب الله تعالى ، واستحمقوا الناصحين ، وأرسل الله إليهم هودا ففاتحهم بالتوبيخ على ما فتنوا بالإعجاب به وبذمه إذ ألهاهم التنافس فيه عن معرفة الله فنبذوا اتّباع الشرائع وكذّبوا الرسول. فمن سابق أعمال عاد أنهم كانوا بنوا في طرق أسفارهم أعلاما ومنارات تدل على الطريق كيلا يضلّ السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين واحتفروا وشيّدوا مصانع للمياه وهي الصهاريج تجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار ، وبنوا حصونا وقصورا على أشراف من الأرض ، وهذا من الأعمال النافعة في ذاتها لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق ، ومن الهلكة عطشا إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه ، فمتى أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده كانت جديرة بالثناء عاجلا والثواب آجلا.

١٧٣

فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها واتّخذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا معرضين عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها وقصاراها التمدح بما وجدوه منها. فصار وجودها شبيها بالعبث لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطاعته. وكانوا أيضا في الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا.

والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى اختلفت مشارب عامليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة ، فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري على سنة المواعظ فإنها تبنى على مراعاة ما في الأعمال من الضر الراجح على النفع ، فلا يلفت الواعظ إلى ما عسى أن يكون في الأعمال من مرجوح إذا كان ذلك النفع مرغوبا للناس ، فإن باعث الرغبة المنبثّ في الناس مغن عن ترغيبهم فيه ، وتصدي الواعظ لذلك فضول وخروج عن المقصد بتحذيرهم أو تحريضهم فيما عدا ذلك ، إذا كان الباعث على الخير مفقودا أو ضئيلا. وقد كان هذا المقام مقام موعظة كما دلّ عليه قوله تعالى عنهم (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء : ١٣٦]. ومقام الموعظة أوسع من مقام تغيير المنكر ، فموعظة هود عليه‌السلام متوجهة إلى ما في نفوسهم من الأدواء الروحية ، وليس في موعظته أمر بتغيير ما بنوه من العلامات ولا ما اتخذوه من المصانع.

ولما صار أثر البناء شاغلا عن المقصد النافع للحياة في الآخرة نزّل فعلهم المفضي إلى العبث منزلة الفعل الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه فأنكر عليهم البناء بإدخال همزة الإنكار على فعل (تَبْنُونَ) ، وقيّد بجملة : (تَعْبَثُونَ) التي هي في موضع الحال من فاعل (تَبْنُونَ) ، مع أنهم لما بنوا ذلك ما أرادوا بفعلهم عبثا ، فمناط الإنكار من الاستفهام الإنكاري هو البناء المقيّد بالعبث ، لأن الحكم إذا دخل على مقيّد بقيد انصرف إلى ذلك القيد.

وكذلك المعطوف على الفعل المستفهم عنه وهو جملة : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) هو داخل في حيّز الإنكار ومقيّد بجملة الحال المقيّد بها المعطوف عليه بناء على أن الحال المتوسطة بين الجملتين ترجع إلى كلتيهما على رأي كثير من علماء أصول الفقه لا سيما إذا قامت القرينة على ذلك.

١٧٤

وقد اختلفت أقوال المفسّرين في تعيين البناء والآيات والمصانع كما سيأتي. وفي بعض ما قالوه ما هو متمحّض للهو والعبث والفساد ، وفي بعضه ما الأصل فيه الإباحة ، وفي بعضه ما هو صلاح ونفع كما سيأتي.

وموقع جملة : (أَتَبْنُونَ) في موضع بدل الاشتمال لجملة : (أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٢٤] فإن مضمونها مما يشتمل عليه عدم التقوى الذي تسلط عليه الإنكار وهو في معنى النفي.

والرّيع بكسر الراء : الشّرف ، أي المكان المرتفع ، كذا عن ابن عباس ، والطريق والفج بين الجبلين ، كذا قال مجاهد وقتادة.

والآية : العلامة الدلالة على الطريق ، وتطلق الآية على المصنوع المعجب لأنه يكون علامة على إتقان صانعه أو عظمة صاحبه.

و (كل) مستعمل في الكثرة ، أي في الأرياع المشرفة على الطرق المسلوكة ، والعبث:العمل الذي لا فائدة نفع فيه.

والمصانع : جمع مصنع وأصله مفعل مشتق من صنع فهو مصدر ميمي وصف به للمبالغة ، فقيل : هو الجابية المحفورة في الأرض. وروي عن قتادة : مبنية بالجير يخزن بها الماء ويسمّى صهريجا وماجلا ، وقيل : قصور وهو عن مجاهد.

وكانت بلاد عاد ما بين عمان وحضرموت شرقا وغربا ومتغلغلة في الشمال إلى الرمال وهي الأحقاف.

وجملة : (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) مستأنفة. و (لعل) للترجي ، وهو طلب المتكلم شيئا مستقرب الحصول ، والكلام تهكّم بهم ، أي أرجو لكم الخلود بسبب تلك المصانع. وقيل : جعلت عاد بنايات على المرتفعات على الطرق يعبثون فيها ويسخرون بالمارة. وقد يفسر هذا القول بأن الأمة في حال انحطاطها حولت ما كان موضوعا للمصالح إلى مفاسد فعمدوا إلى ما كان مبنيا لقصد تيسير السير والأمن على السابلة من الضلال في الفيافي المهلكة فجعلوه مكامن لهو وسخرية ، كما اتخذت بعض أديرة النصارى في بلاد العرب مجالس خمر ، وكما أدركنا الصهاريج التي في قرطاجنة كانت خزّانا لمياه زغوان المنسابة إليها على الحنايا فرأيناها مكامن للّصوص ومخازن للدواب إلى أول هذا القرن سنة ١٣٠٣ ه‍.

١٧٥

وقيل : إن المصانع قصور عظيمة اتّخذوها فيكون الإنكار عليهم متوجها إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية راسخة مكينة كأنها تمنعهم من الموت ، فيكون الكلام مسوقا مساق الموعظة من التوغّل في الترف والتعاظم. هذا ما استخلصناه من كلمات انتثرت في أقوال عن المفسرين وهي تدل على حيرة من خلال كلامهم في توجيه إنكار هود على قومه عملين كانا معدودين في النافع من أعمال الأمم ، وأحسب أن قد أزلنا تلك الحيرة.

وقوله : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أعقب به موعظتهم على اللهو واللعب والحرص على الدنيا بأن وعظهم على الشدة على الخلق في العقوبة ، وهذا من عدم التوازن في العقول فهم يبنون العلامات لإرشاد السابلة ويصطنعون المصانع لإغاثة العطاش فكيف يلاقي هذا التفكير تفكيرا بالإفراط في الشدة على الناس في البطش بهم ، أي عقوبتهم.

والبطش : الضرب عند الغضب بسوط أو سيف ، وتقدم في قوله : (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) في آخر الأعراف [١٩٥].

و (جَبَّارِينَ) حال من ضمير (بَطَشْتُمْ) وهو جمع جبّار ، والجبار : الشديد في غير الحق ، فالمعنى : إذا بطشتم كان بطشكم في حالة التجبر ، أي الإفراط في الأذى وهو ظلم ، قال تعالى : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [القصص : ١٩]. وشأن العقاب أن يكون له حد مناسب للذنب المعاقب عليه بلا إفراط ولا تفريط ، فالإفراط في البطش استخفاف بحقوق الخلق.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريا ....» الحديث. ووقع فعل (بَطَشْتُمْ) الثاني جوابا ل (إِذا) وهو مرادف لفعل شرطها ، لحصول الاختلاف بين فعل الشرط وفعل الجواب بالعموم والخصوص كما تقدم في قوله تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) في سورة الفرقان [٧٢] وإنما يقصد مثل هذا النظم لإفادة الاهتمام بالفعل إذ يحصل من تكريره تأكيد مدلوله.

[١٣١ ـ ١٣٥] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥))

١٧٦

لما أفاد الاستفهام في قوله : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) [الشعراء : ١٢٨] معنى الإنكار على ما قارن بناءهم الآيات واتخاذهم المصانع وعلى شدتهم على الناس عند الغضب فرع عليه أمرهم باتقاء الله ، وحصل مع ذلك التفريع تكرير جملة الأمر بالتقوى والطاعة.

وحذف ياء المتكلم من (أَطِيعُونِ) كحذفها في نظيرها المتقدم. وأعيد فعل (وَاتَّقُوا) وهو مستغنى عنه لو اقتصر على الموصول وصفا لاسم الجلالة لأن ظاهر النظم أن يقال : فاتقوا الله الذي أمدّكم بما تعلمون ، فعدل عن مقتضى الظاهر وبني الكلام على عطف الأمر بالتقوى على الأمر الذي قبله تأكيدا له واهتماما بالأمر بالتقوى مع أن ما عرض من الفصل بين الصفة والموصوف بجملة (وَأَطِيعُونِ) قضى بأن يعاد اتصال النظم بإعادة فعل (اتَّقُوا).

وإنما أتي بفعل (اتَّقُوا) معطوفا ولم يؤت به مفصولا لما في الجملة الثانية من الزيادة على ما في الجملة الأولى من التذكير بإنعام الله عليهم ، فعلق بفعل التقوى في الجملة الأولى اسم الذات المقدسة للإشارة إلى استحقاقه التقوى لذاته ، ثم علق بفعل التقوى في الجملة الثانية اسم الموصول بصلته الدالة على إنعامه للإشارة إلى استحقاقه التقوى لاستحقاقه الشكر على ما أنعم به.

وقد جاء في ذكر النعمة بالإجمال الذي يهيّئ السامعين لتلقّي ما يرد بعده فقال : (الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) ثم فصّل بقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وأعيد فعل (أَمَدَّكُمْ) في جملة التفصيل لزيادة الاهتمام بذلك الإمداد فهو للتوكيد اللفظي. وهذه الجملة بمنزلة بدل البعض من جملة (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) فإن فعل (أَمَدَّكُمْ) الثاني وإن كان مساويا ل (أَمَدَّكُمْ) الأول فإنما صار بدلا منه باعتبار ما تعلق به من قوله :(بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) إلخ الذي هو بعض ممّا تعلمون. وكلا الاعتبارين التوكيد والبدل يقتضي الفصل ، فلأجله لم تعطف الجملة.

وابتدأ في تعداد النعم بذكر الأنعام لأنها أجلّ نعمة على أهل ذلك البلد ، لأن منها أقواتهم ولباسهم وعليها أسفارهم وكانوا أهل نجعة فهي سبب بقائهم ، وعطف عليها البنين لأنهم نعمة عظيمة بأنها أنسهم وعونهم على أسباب الحياة وبقاء ذكرهم بعدهم وكثرة أمتهم ، وعطف الجنات والعيون لأنها بها رفاهية حالهم واتساع رزقهم وعيش أنعامهم.

وجملة : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تعليل لإنكار عدم تقواهم وللأمر بالتقوى ، أي أخاف عليكم عذابا إن لم تتقوا ، فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.

١٧٧

والعذاب يجوز أن يريد به عذابا في الدنيا توعدهم الله به على لسانه ، ويجوز أن يريد به عذاب يوم القيامة.

ووصف (يَوْمٍ) ب (عَظِيمٍ) على طريقة المجاز العقلي ، أي عظيم ما يحصل فيه من الأهوال.

[١٣٦ ـ ١٤٠] (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))

أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشاده فجعلوا وعظه وعدمه سواء ، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم.

والهمزة للتسوية. وتقدم بيانها عند قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة البقرة [٦].

والوعظ : التخويف والتحذير من شيء فيه ضر ، والاسم الموعظة. وتقدم في قوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) في سورة العقود [٤٦].

ومعنى : (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين ، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء ، وهو أشدّ في نفي الصفة عنه من أن لو قيل : أم لم تعظ ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧] ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦] ، وتقدم آنفا قوله في قصة نوح (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦].

وجملة : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) تعليل لمضمون جملة : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) ، أي كان سواء علينا فلا نتّبع وعظك لأن هذا خلق الأولين. والإشارة ب (هذا) إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إياهم ، وسيأتي بيانه.

وقوله : (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم وخلف بضم الخاء وضم اللام. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بفتح الخاء وسكون اللام.

١٧٨

فعلى قراءة الفريق الأول (خُلُقُ) بضمتين ، فهو السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر وقد فسّر بالقوى النفسية ، وهو تفسير قاصر فيشمل طبائع الخير وطبائع الشر ، ولذلك لا يعرف أحد النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال: خلق حسن ، ويقال في ضده : سوء خلق ، أو خلق ذميم ، قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤]. وفي الحديث : «وخالق الناس بخلق حسن».

فإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخلق الحسن ، كما قال الحريري في «المقامة التاسعة» «وخلقي نعم العون ، وبيني وبين جاراتي بون» أي في حسن الخلق.

والخلق في اصطلاح الحكماء : ملكة (أي كيفية راسخة في النفس أي متمكنة من الفكر) تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل.

فخلق المرء مجموع غرائز (أي طبائع نفسية) مؤتلفة من انطباع فكري : إما جبليّ في أصل خلقته ، وإما كسبي ناشئ عن تمرّن الفكر عليه وتقلّده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد. وينبغي أن يسمى اختيارا من قول أو عمل لذاته ، أو لكونه من سيرة من يحبه ويقتدي به ويسمى تقليدا ، ومحاولته تسمى تخلقا. قال سالم بن وابصة :

عليك بالقصيد فيما أنت فاعله

إن التخلّق يأتي دونه الخلق

فإذا استقر وتمكن من النفس صار سجية له يجري أعماله على ما تمليه عليه وتأمره به نفسه بحيث لا يستطيع ترك العمل بمقتضاها ، ولو رام حمل نفسه على عدم العمل بما تمليه سجيته لاستصغر نفسه وإرادته وحقر رأيه. وقد يتغير الخلق تغييرا تدريجيا بسبب تجربة انجرار مضرة من داعيه ، أو بسبب خوف عاقبة سيئة من جرّائه بتحذير من هو قدوة عنده لاعتقاد نصحه أو لخوف عقابه. وأول ذلك هو المواعظ الدينية.

ومعنى الآية على هذا يجوز أن يكون المحكيّ عنهم أرادوا مدحا لما هم عليه من الأحوال التي أصروا على عدم تغييرها فيكون أرادوا أنها خلق أسلافهم وأسوتهم فلا يقبلوا فيه عذلا ولا ملاما ، كما قال تعالى عن أمثالهم (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) [إبراهيم : ١٠]. فالإشارة تنصرف إلى ما هم عليه الذي نهاهم عنه رسولهم.

ويجوز أن يكونوا أرادوا ما يدعو إليه رسولهم : أي ما هو إلا من خلق أناس قبله ، أي من عقائدهم وما راضوا عليه أنفسهم وأنه عبر عليها وانتحلها ، أي ما هو بإذن من الله

١٧٩

تعالى كما قال مشركو قريش (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] والإشارة إلى ما يدعوهم إليه.

وأما على قراءة الفريق الثاني فالخلق بفتح الخاء وسكون اللام مصدر هو الإنشاء والتكوين ، والخلق أيضا مصدر خلق ، إذا كذب في خبره ، ومنه قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧]. وتقول العرب : حدثنا فلان بأحاديث الخلق وهي الخرافات المفتعلة ، ويقال له : اختلاق بصيغة الافتعال الدالة على التكلف والاختراع ، قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] وذلك أن الكاذب يخلق خبرا لم يقع.

فيجوز أن يكون المعنى أن ما تزعمه من الرسالة عن الله كذب وما تخبرنا من البعث اختلاق ، فالإشارة إلى ما جاء به صالح.

ويجوز أن يكون المعنى أنّ حياتنا كحياة الأولين نحيا ثم نموت ، فالكلام على التشبيه البليغ وهو كناية عن التكذيب بالبعث الذي حذرهم جزاءه في قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٣٥] يقولون : كما مات الأولون ولم يبعث أحد منهم قط فكذلك نحيا نحن ثم نموت ولا نبعث. وهذا كقول المشركين (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجاثية : ٢٥] فالإشارة في قوله : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) إلى الخلق الذي هم عليه كما دل عليه المستثنى. فهذه أربعة معان واحد منها مدح ، واثنان ذم ، وواحد ادعاء.

وجملة : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على المعاني الأول والثاني والثالث عطف على جملة (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) عطف مغاير.

وعلى المعنى الرابع عطف تفسير لقولهم (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) تصريحا بعد الكناية. والقصر قصر إضافي على المعاني كلها.

ولا شك أن قوم صالح نطقوا بلغتهم جملا كثيرة تنحل إلى هذه المعاني فجمعها القرآن في قوله : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) باحتمال اسم الإشارة واختلاف النطق بكلمة خلق فلله إيجازه وإعجازه.

والفاء في (فَكَذَّبُوهُ) فصيحة ، أي فتبيّن أنهم بقولهم : سواء علينا ذلك أوعظت إلخ قد كذبوه فأهلكناهم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى آخره هو مثل نظيره في قصة نوح.

١٨٠