تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

العقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة : إنه لا بأس بذلك إذا كان أوله لله (أي القصد الأول من العمل لله). وقال ابن رشد في موضع آخر من «شرحه» قال الله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، وقال : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤]. وقال الشاطبي في «الموافقات» : «عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة ، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سرّه مرأى الناس له على الخير فيقول لك: إنك لمراء. وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك» اه.

وفي «المعيار» عن كتاب «سراج المريدين» لأبي بكر بن العربي قال : سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) [البقرة : ١٦٠] ما بيّنوا؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات.

قال الشاطبي : وهذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة. وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل أخفّ عليه بسبب هذه الأغراض. وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأنّ مجال النظر يلتفت إلى انفكاك القصدين ، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه لما جاء من الأدلة على ذلك ، إلى آخره.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَزْواجِنا) للابتداء ، أي اجعل لنا قرّة أعين تنشأ من أزواجنا وذرّياتنا.

وقرأ الجمهور : (وَذُرِّيَّاتِنا) جمع ذرية ، والجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك ، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و (ذُرِّيَّتِنا) بدون ألف بعد التحتية ، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير (الَّذِينَ يَقُولُونَ) ، أي ذرية كل واحد.

والأعين : هي أعين الداعين ، أي قرة أعين لنا. وإذ قد كان الدعاء صادرا منهم جميعا اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم.

وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرّياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قدوة يقتدي بهم المتّقون. وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغا أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمّون به الكمال فيه. وهذا يقتضي أيضا أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول

١٠١

في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم.

والإمام أصله : المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله ، قال النابغة:

أبوه قبله وأبو أبيه

بنوا مجد الحياة على إمام

وأطلق الإمام على القدوة تشبيها بالمثال والقالب ، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة. وقد تقدم في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) في سورة البقرة [١٢٤]. ووقع الإخبار ب (إِماماً) وهو مفرد عن ضمير جماعة المتكلمين لأن المقصود أن يكون كل واحد منهم إماما يقتدى به ، فالكلام على التوزيع ، أو أريد من إمام معناه الحقيقي وجرى الكلام على التشبيه البليغ. وقيل إمام جمع ، مثل هجان وصيام ومفرده : إمّ.

[٧٥ ، ٧٦] (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))

التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة. وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي : التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف ، وترك الإقتار ، والتنزه عن الشرك ، وترك الزنا ، وترك قتل النفس ، والتوبة ، وترك الكذب ، والعفو عن المسيء ، وقبول دعوة الحق ، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء. واسم الإشارة هو الخبر عن قوله (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٣] كما تقدم على أرجح الوجهين.

و (الْغُرْفَةَ) : البيت المعتلي يصعد إليه بدرج وهو أعزّ منزلا من البيت الأرضي. والتعريف في الغرفة تعريف الجنس فيستوي فيه المفرد والجمع مثل قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) [الحديد : ٢٥] فالمعنى : يجزون الغرف ، أي من الجنة ، قال تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ : ٣٧].

والباء للسببية. و (ما) مصدرية في قوله : (بِما صَبَرُوا) ، أي بصبرهم وهو صبرهم على ما لقوا من المشركين من أذى ، وصبرهم على كبح شهواتهم لأجل إقامة شرائع الإسلام ، وصبرهم على مشقة الطاعات.

وقرأ الجمهور : (وَيُلَقَّوْنَ) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة مضارع

١٠٢

لقّاه إذا جعله لاقيا. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف (وَيُلَقَّوْنَ) بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف المفتوحة مضارع لقي. واللّقيّ واللّقاء : استقبال شيء ومصادفته ، وتقدم في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣] ، وفي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) في سورة الأنفال [١٥] ، وتقدم قريبا قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨].

وقد استعير اللّقيّ لسماع التحية والسلام ، أي أنهم يسمعون ذلك في الجنة من غير أن يدخلوا على بأس أو يدخل عليهم بأس بل هم مصادفون تحية إكرام وثناء مثل تحيات العظماء والملوك التي يرتلها الشعراء والمنشدون.

ويجوز أن يكون إطلاق اللّقيّ لسماع ألفاظ التحية والسلام لأجل الإيماء إلى أنهم يسمعون التحية من الملائكة يلقونهم بها ، فهو مجاز بالحذف قال تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في سورة الأنبياء [١٠٣].

وقوله : (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) هو ضدّ ما قيل في المشركين (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦]. والتحية تقدمت في قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) في سورة النساء [٨٦] ، وفي قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) في سورة يونس [١٠] ، وقوله : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) في آخر النور [٦١].

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن ، وما تضمنته من توحيد الله ، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعلّلاتهم ، وأحوال المؤمنين ، وأقيمت الحجج الدامغة للمعرضين ، ختمت بأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتورّكهم في مجادلته ؛ فبيّن لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمة منه بهم لإصلاح حالهم وقطعا لعذرهم فإذ كذّبوا فسوف يحلّ بهم العذاب.

و (ما) من قوله : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ) نافية. وتركيب : ما يعبأ به ، يدل على التحقير ، وضده عبأ به يفيد الحفاوة.

١٠٣

ومعنى (ما يَعْبَؤُا) : ما يبالي وما يهتمّ ، وهو مضارع عبأ مثل : ملأ يملأ مشتقّ من العبء بكسر العين وهو الحمل بكسر الحاء وسكون الميم ، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العبء على العدل بكسر فسكون ، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة. فأصل (ما يَعْبَؤُا) : ما يحمل عبئا ، تمثيلا بحالة المتعب من الشيء ، فصار المقصود : ما يهتمّ وما يكترث ، وهو كناية عن قلة العناية.

والباء فيه للسببية ، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام. فالتقدير هنا : ما يعبأ بخطابكم.

والدعاء : الدعوة إلى شيء ، وهو هنا مضاف إلى مفعوله ، والفاعل يدل عليه (رَبِّي) أي لو لا دعاؤه إياكم ، أي لو لا أنه يدعوكم. وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) ، أي الداعي وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام. والمعنى : أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم. وهذا كقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٦ ، ٥٧].

وضمير الخطاب في قوله : (دُعاؤُكُمْ) موجّه إلى المشركين بدليل تفريع (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) عليه وهو تهديد لهم ، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى ، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء. وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجها إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتماد المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها.

وتفريع (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) على قوله : (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) ، والتقدير : فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه.

والضمير في (يَكُونُ) عائد إلى التكذيب المأخوذ من (كَذَّبْتُمْ) ، أي سوف يكون تكذيبهم لزاما لكم ، أي لازما لكم لا انفكاك لكم منه. وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديدا مهولا بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني : قد فعلت كذا فسوف تتحمل ما فعلت. ودخل في هذا الوعيد ما يحلّ بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب.

واللّزام : مصدر لازم ، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم ، أي عدم المفارقة ،

١٠٤

قال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) في سورة طه [١٢٩]. والضمير المستتر في (كان) عائد إلى عذاب الآخرة في قوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه: ١٢٧] ، فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة. وقد اجتمع فيه مبالغتان : مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه ، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف.

وعن ابن مسعود وأبيّ بن كعب : اللّزام : عذاب يوم بدر. ومرادهما بذلك أنه جزئيّ من جزئيات اللّزام الموعود لهم. ولعلّ ذلك شاع حتى صار اللزام كالعلم بالغلبة على يوم بدر. وفي الصحيح عن ابن مسعود : خمس قد مضين : الدخان والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام ، يعني أن اللّزام غير عذاب الآخرة.

١٠٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٦ ـ سورة الشعراء

اشتهرت عند السلف بسورة الشعراء ؛ لأنها تفردت من بين سورة القرآن بذكر كلمة الشعراء. وكذلك جاءت تسميتها في كتب السنة. وتسمى أيضا سورة طسم.

وفي «أحكام ابن العربي» أنها تسمى أيضا الجامعة ، ونسبه ابن كثير والسيوطي في «الإتقان» إلى تفسير مالك المروي عنه (١). ولم يظهر وجه وصفها بهذا الوصف. ولعلها أول سورة جمعت ذكر الرسل أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية.

وهي مكية ، فقيل جميعها مكي ، وهو المروي عن ابن الزبير. ورواية عن ابن عباس ونسبه ابن عطية إلى الجمهور. وروي عن ابن عباس أن قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [الشعراء : ٢٢٤] إلى آخر السورة نزل بالمدينة لذكر شعراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسّان بن ثابت وابن رواحة وكعب بن مالك وهم المعنيّ بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الشعراء : ٢٢٧] الآية. ولعل هذه الآية هي التي أقدمت هؤلاء على القول بأن تلك الآيات مدنية. وعن الداني قال : نزلت (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [الشعراء : ٢٢٤] في شاعرين تهاجيا في الجاهلية.

وأقول : كان شعراء بمكة يهجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم النضر بن الحارث ، والعوراء بنت حرب زوج أبي لهب ونحوهما ، وهم المراد بآيات (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ). وكان شعراء المدينة قد أسلموا قبل الهجرة ، وكان في مكة شعراء مسلمون من الذين هاجروا إلى الحبشة كما سيأتي.

وعن مقاتل : أن قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)

__________________

(١) تفسير مالك بن أنس ، ذكره عياض في «المدارك» والداودي في «طبقات المفسرين».

١٠٦

[الشعراء : ١٩٧] نزل بالمدينة. وكان الذي دعاه إلى ذلك أن مخالطة علماء بني إسرائيل كانت بعد الهجرة. ولا يخفى أن الحجة لا تتوقف على وقوع مخالطة علماء بني إسرائيل ؛ فقد ذكر القرآن مثل هذه الحجة في آيات نزلت بمكة ، من ذلك قوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) في سورة الرعد [٤٣] وهي مكية ، وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) في سورة القصص [٥٢] وهي مكية ، وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) في سورة العنكبوت [٤٧] وهي مكية. وشأن علماء بني إسرائيل مشهور بمكة وكان لأهل مكة صلات مع اليهود بالمدينة ومراجعة بينهم في شأن بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم عند قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) في سورة الإسراء [٨٥] ، ولذا فالذي نوقن به أن السورة كلها مكية.

وهي السورة السابعة والأربعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الواقعة وقبل سورة النمل. وسيأتي في تفسير قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ما يقتضي أن تلك الآية نزلت قبل نزول سورة أبي لهب وتعرضنا لإمكان الجمع بين الأقوال.

وقد جعل أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة عدد آيها مائتين وستا وعشرين ، وجعله أهل الشام وأهل الكوفة مائتين وسبعا وعشرين.

الأغراض التي اشتملت عليها

أولها التنويه بالقرآن ، والتعريض بعجزهم عن معارضته ، وتسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلاقيه من إعراض قومه عن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن.

وفي ضمنه تهديدهم على تعرضهم لغضب الله تعالى ، وضرب المثل لهم بما حل بالأمم المكذبة رسلها والمعرضة عن آيات الله.

وأحسب أنها نزلت إثر طلب المشركين أن يأتيهم الرسول بخوارق ، فافتتحت بتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت له ورباطة لجأشه بأن ما يلاقيه من قومه هو سنة الرسل من قبله مع أقوامهم مثل موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ؛ ولذلك ختم كل استدلال جيء به على المشركين المكذّبين بتذييل واحد هو قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء : ١٩٠ ، ١٩١] تسجيلا عليهم بأن آيات الوحدانية وصدق الرسل عديدة كافية لمن يتطلب الحق ولكن أكثر المشركين لا يؤمنون وأن الله عزيز قادر على أن ينزل بهم العذاب وأنه رحيم برسله فناصرهم على أعدائهم.

١٠٧

قال في «الكشاف» : كل قصة من القصص المذكورة في هذه السورة كتنزيل برأسه.

وفيها من الاعتبار ما في غيرها ، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تختم بما اختتمت به صاحبتها ، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وكلّما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأبعد من النسيان ، ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقرت عن الإنصات للحق فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا اه.

ثم التنويه بالقرآن ، وشهادة أهل الكتاب له ، والرد على مطاعنهم في القرآن وجعله عضين ، وأنه منزه عن أن يكون شعرا ومن أقوال الشياطين ، وأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار عشيرته ، وأن الرسول ما عليه إلا البلاغ ، وما تخلل ذلك من دلائل.

(طسم (١))

يأتي في تفسيره من التأويلات ما سبق ذكره في جميع الحروف المقطعة في أوائل السور في معان متماثلة. وأظهر تلك المعاني أن المقصود التعريض بإلهاب نفوس المنكرين لمعارضة بعض سور القرآن بالإتيان بمثله في بلاغته وفصاحته وتحدّيهم بذلك والتورك عليهم بعجزهم عن ذلك.

وعن ابن عباس : أن (طسم) قسم ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ، والمقسم عليه قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) [الشعراء : ٤]. فقال القرظي : أقسم الله بطوله وسنائه وملكه. وقيل الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى ذي الطّول ، القدوس ، الملك. وقد علمت في أول سورة البقرة أنها حروف للتهجّي واستقصاء في التحدّي يعجزهم عن معارضة القرآن ، وعليه تظهر مناسبة تعقيبه بآية (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء : ٢].

والجمهور قرءوا : (طسم) كلمة واحدة ، وأدغموا النون من سين في الميم وقرأ حمزة بإظهار النون. وقرأ أبو جعفر حروفا مفككة ، قالوا وكذلك هي مرسومة في مصحف ابن مسعود حروفا مفككة (ط س م).

والقول في عدم مدّ اسم (طا) مع أن أصله مهموز الآخر لأنه لما كان قد عرض له سكون السكت حذفت همزته كما تحذف للوقف ، كما تقدم في عدم مدّ (را) في (الر) في سورة يونس [١].

١٠٨

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢))

الإشارة إلى الحاضر في الأذهان من آيات القرآن المنزّل من قبل ، وبيّنه الإخبار عن اسم الإشارة بأنها آيات الكتاب.

ومعنى الإشارة إلى آيات القرآن قصد التحدّي بأجزائه تفصيلا كما قصد التحدي بجميعه إجمالا. والمعنى : هذه آيات القرآن تقرأ عليكم وهي بلغتكم وحروف هجائها فأتوا بسورة من مثلها ودونكموها. والكاف المتصلة باسم الإشارة للخطاب وهو خطاب لغير معيّن من كل متأهل لهذا التحدي من بلغائهم.

و (الْمُبِينِ) الظاهر ، وهو من أبان مرادف بان ، أي تلك آيات الكتاب الواضح كونه من عند الله لما فيه من المعاني العظيمة والنظم المعجز ، وإذا كان الكتاب مبينا كانت آياته المشتمل عليها آيات مبينة على صدق الرسل بها.

ويجوز أن يكون (الْمُبِينِ) من أبان المتعدي ، أي الذي يبيّن ما فيه من معاني الهدى والحق وهذا من استعمال اللفظ في معنييه كالمشترك.

والمعنى : أن ما بلغكم وتلي عليكم هو آيات القرآن المبين ، أي البيّن صدقه ودلالته على صدق ما جاء به ما لا يجحده إلا مكابر.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣))

حوّل الخطاب من توجيهه إلى المعاندين إلى توجيهه للرسول عليه الصلاة والسلام. والكلام استئناف بياني جوابا عما يثيره مضمون قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء : ٢] من تساؤل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه عن استمرار إعراض المشركين عن الإيمان وتصديق القرآن كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر: ٨].

و (لعلّ) إذا جاءت في ترجّي الشيء المخوف سميت إشفاقا وتوقعا. وأظهر الأقوال أن الترجي من قبيل الخبر ، وأنه ليس بإنشاء مثل التمني.

والترجي مستعمل في الطلب ، والأظهر أنه حثّ على ترك الأسف من ضلالهم على طريقة تمثيل شأن المتكلم الحاثّ على الإقلاع بحال من يستقرب حصول هلاك المخاطب إذا استمر على ما هو فيه من الغم.

١٠٩

والباخع : القاتل. وحقيقة البخع إعماق الذبح. يقال : بخع الشاة ، قال الزمخشري : إذا بلغ بالسكين البخاع بالموحدة المكسورة وهو عرق مستبطن الفقار ، كذا قال في «الكشاف» هنا وذكره أيضا في «الفائق». وقد تقدم ما فيه عند قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) في سورة الكهف [٦]. وهو هنا مستعار للموت السريع ، والإخبار عنه ب (باخِعٌ) تشبيه بليغ. وفي (باخِعٌ) ضمير المخاطب هو الفاعل.

و (أَلَّا يَكُونُوا) في موضع نصب على نزع الخافض بعد (أن) والخافض لام التعليل ، والتقدير : لأن لا يكونوا مؤمنين ، أي لانتفاء إيمانهم في المستقبل ، لأنّ (أن) تخلص المضارع للاستقبال. والمعنى : أنّ غمك من عدم إيمانهم فيما مضى يوشك أن يوقعك في الهلاك في المستقبل بتكرر الغم والحزن ، كقول إخوة يوسف لأبيهم لما قال (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] فقالوا : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) [يوسف : ٨٥] ؛ فوزان هذا المعنى وزان معنى قوله في سورة الكهف [٦] (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) ، فإن (إن) الشرطية تتعلق بالمستقبل. ويجوز أن يجعل (أَلَّا يَكُونُوا) في موضع الفاعل ل (باخِعٌ) والجملة خبر (لعلّ). وإسناد (باخِعٌ) إلى (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) مجاز عقلي لأن عدم إيمانهم جعل سببا للبخع.

وجيء بمضارع الكون للإشارة إلى أنه لا يأسف على عدم إيمانهم ولو استمر ذلك في المستقبل فيكون انتفاؤه فيما مضى أولى بأن لا يؤسف له.

وحذف متعلق (مُؤْمِنِينَ) ؛ إما لأن المراد مؤمنين بما جئت به من التوحيد والبعث وتصديق القرآن وتصديق الرسول ، وإما لأنه أريد بمؤمنين المعنى اللّقبي ، أي أن لا يكونوا في عداد الفريق المعروف بالمؤمنين وهم أمة الإسلام. وضمير (أَلَّا يَكُونُوا) عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعدل عن : أن لا يؤمنوا ، إلى (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لأن في فعل الكون دلالة على الاستمرار زيادة على ما أفادته صيغة المضارع ، فتأكّد استمرار عدم إيمانهم الذي هو مورد الإقلاع عن الحزن له. وقد جاء في سورة الكهف [٦] (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) بحرف نفي الماضي وهو (لم) لأن سورة الكهف متأخرة النزول عن سورة الشعراء فعدم إيمانهم قد تقرر حينئذ وبلغ حدّ المأيوس منه.

وضمير (يَكُونُوا) عائد إلى معلوم من مقام التحدّي الحاصل بقوله : (طسم تِلْكَ

١١٠

آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء : ١ ، ٢] للعلم بأن المتحدّين هم الكافرون المكذبون.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤))

استئناف بياني ناشئ عن قوله : (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالا عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا ، كما قال موسى (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] ، فأجيب بأن الله قادر على ذلك ، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى.

ومفعول (نَشَأْ) محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة. والتقدير : إن نشأ تنزيل آية ملجئة ننزلها.

وجيء بحرف (إِنْ) الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاؤه.

ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره. فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديدا محسوسا بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب. وهذا من معنى قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) [الأنعام : ٣٥] ، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن.

وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفا لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه. فإن قلت : لما ذا لم يرهم آية كما أري بنو إسرائيل نتق الجبل فوقهم كأنه ظلّة؟ قلت : كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠].

وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) بفاء التعقيب.

١١١

وعطف (فَظَلَّتْ) وهو ماض على المضارع قوله : (نُنَزِّلْ) لأن المعطوف عليه جواب شرط ، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال ؛ ألا ترى أنه لو قيل : إن شئنا نزّلنا أو إن نشأ نزّلنا ، لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارعيّة والماضوية ، على أن المعطوفات يتّسع فيها ما لا يتّسع في المعطوف عليها لقاعدة : أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من «مغني اللبيب» ، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز ، وهي هنا أمران : التفنّن بين الصيغتين ، وتقريب زمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتمّ ذلك سريعا حتى يخيّل لهم من سرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال : (فَظَلَّتْ) ولم يقل : فتظل. وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وكلاهما للتهديد ، ونظيره لقصد التشويق : قد قامت الصلاة.

والخضوع : التطامن والتواضع. ويستعمل في الانقياد مجازا لأن الانقياد من أسباب الخضوع. وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي ، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رءوسهم فهم يطأطئون رءوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم.

والأعناق : جمع عنق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة ، وهو مؤنث. وقيل : المضموم النون مؤنث ، والساكن النون مذكر.

ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه : ١٠٨] أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى :

(كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا)

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

فأسند الفرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخيفة. ومنه قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] وإنما سحروا الناس سحرا ناشئا عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم ، مع ما يزيد به قوله : «ظلت أعناقهم لها خاضعين» من الإشارة إلى تمثيل حالهم ، ومقتضى الظاهر فظلوا لها خاضعين بأعناقهم.

١١٢

وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله : (خاضِعِينَ) على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد (خاضِعِينَ) إلى (أَعْناقُهُمْ) لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها : خاضعة ، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل. وعن مجاهد : أن الأعناق هنا جمع عنق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم ، أي فظلت سادتهم ، يعني الذين أغروهم بالكفر خاضعين ، فيكون الكلام تهديدا لزعمائهم الذين زيّنوا لهم الاستمرار على الكفر ، وهو تفسير ضعيف. وعن ابن زيد والأخفش : الأعناق الجماعات واحدها عنق بضمتين جماعة الناس ، أي فظلّوا خاضعين جماعات جماعات ، وهذا أضعف من سابقه.

ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزّة ، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي‌الله‌عنه أن يقوله وهو الذي دعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلّمه التأويل. وهذا من موضوعات دعاة المسوّدة مثل أبي مسلم الخراساني وكم لهم في الموضوعات من اختلاق ، والقرآن أجلّ من أن يتعرض لهذه السفاسف.

وقرأ الجمهور : (نُنَزِّلْ) بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم النون الثانية وتخفيف الزاي.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥))

عطف على جملة : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] أي هذه شنشنتهم فلا تأسف لعدم إيمانهم بآيات الكتاب المبين ، وما يجيئهم منها من بعد فسيعرضون عنه لأنهم عرفوا بالإعراض.

والمضارع هنا لإفادة التجدد والاستمرار. فالذكر هو القرآن لأنه تذكير للناس بالأدلة. وقد تقدم وجه تسميته ذكرا عند قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في سورة الحجر [٦].

والمحدث : الجديد ، أي من ذكر بعد ذكر يذكّرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ). فأفاد الأمران أنه ذكر متجدّد مستمر وأن بعضه يعقب بعضا ويؤيده. وقد تقدم في سورة الأنبياء [٢ ، ٣] قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ

١١٣

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ).

وذكر اسم الرحمن هنا دون وصف الرّب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إعراض قومه فكان في وصف مؤتي الذكر بالرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يعرضوا عمّا هو رحمة لهم ، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تذهب نفسك حسرات على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم ، كما قال المثل : «لا يحزنك دم هراقه أهله» وقال النابغة :

فإن تغلب شقاوتكم عليكم

فإني في صلاحكم سعيت

وفي الإتيان بفعل (كانُوا) وخبره دون أن يقال : إلا أعرضوا ، إفادة أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمرّ إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله : (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، فانتفاء كون إيمانهم واقعا هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ذِكْرٍ) مؤكدة لعموم نفي الأحوال.

و (مِنْ) التي في قوله : (مِنَ الرَّحْمنِ) ابتدائية.

والاستثناء من أحوال عامة ، فجملة : (كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) في موضع الحال من ضمير (يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ). وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة.

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦))

فاء (فَقَدْ كَذَّبُوا) فصيحة ، أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار عنهم بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن. وأما الفاء في قوله : (فَسَيَأْتِيهِمْ) فلتعقيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب.

والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر عن الحدث العظيم ، وتقدم عند قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤].

والأنباء : ظهور صدقها ، وليس المراد من الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [ص : ٢١] لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله :

١١٤

(فَسَيَأْتِيهِمْ).

و (ما) في قوله : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ما صدقها القرآن وذلك كقوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) [البقرة : ٢٣١]. وجيء في صلته بفعل (يَسْتَهْزِؤُنَ) دون (يكذّبون) لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذّبوا به واستهزءوا به ، وتكون الباء في (بِهِ) لتعدية فعل (يَسْتَهْزِؤُنَ) ، والضمير المجرور عائدا إلى (ما) الموصولة ، وأنباؤه أخباره بالوعيد. ويجوز أن يكون ما صدق (ما) جنس ما عرفوا باستهزائهم به وهو التوعّد ، كانوا يقولون : متى هذا الوعد؟ ونحو ذلك.

وإضافة (أَنْبؤُا) إلى (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) على هذا إضافة بيانية ، أي ما كانوا به يستهزءون الذي هو أنباء ما سيحلّ بهم.

وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزءوا بأشياء كثيرة منها البعث ، ومنها العذاب في الدنيا ، ومنها نصر المسلمين عليهم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] ، ومنها فتح مكة ، ومنها عذاب جهنم ، وشجرة الزقوم. وكان أبو جهل يقول : زقّمونا ، استهزاء.

ويجوز كون (ما) مصدرية ، أي أنباء كون استهزائهم ، أي حصوله ، وضمير (بِهِ) عائدا إلى معلوم من المقام ، وهو القرآن أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بأنباء استهزائهم أنباء جزائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية.

والقول في إقحام فعل (كانُوا) هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفا (كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء : ٥] ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو (يَسْتَهْزِؤُنَ) دون اسم الفاعل كالذي في قوله : (كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب ، وأما الإعراض فمتمكّن منهم.

ومعنى (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، أي تحقّق ، أي سوف تتحقّق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزءون به.

وعلى الوجه الثاني سوف تبلغهم أخبار استهزائهم بالقرآن ، أي أخبار العقاب على ذلك. وأوثر إفراد فعل «يأتيهم» مع أن فاعله جمع تكسير لغير مذكر حقيقي يجوز تأنيثه

١١٥

لأن الإفراد أخف في الكلام لكثرة دورانه.

[٧ ـ ٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

الواو عاطفة على جملة : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء : ٥] ؛ فالهمزة الاستفهامية منه مقدمة على واو العطف لفظا لأن للاستفهام الصدارة ، والمقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم لا تغني فيهم الآيات لأن المكابرة تصرفهم عن التأمل في الآيات ، والآيات على صحة ما يدعوهم إليه القرآن من التوحيد والإيمان بالبعث قائمة متظاهرة في السماوات والأرض وهم قد عموا عنها فأشركوا بالله ، فلا عجب أن يضلوا عن آيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكون القرآن منزلا من الله فلو كان هؤلاء متطلعين إلى الحق باحثين عنه لكان لهم في الآيات التي ذكّروا بها مقنع لهم عن الآيات التي يقترحونها قال تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٨٥] ، وقال : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] أي عن قوم لم يعدوا أنفسهم للإيمان.

فالمذكور في هذه الآية أنواع النبات دالة على وحدانية الله لأن هذا الصنع الحكيم لا يصدر إلّا عن واحد لا شريك له. وهذا دليل من طريق العقل ، ودليل أيضا على إمكان البعث لأن الإنبات بعد الجفاف مثيل لإحياء الأموات بعد رفاتهم كما قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣]. وهذا دليل تقريبي للإمكان فكان في آية الإنبات تنبيه على إبطال أصلي عدم إيمانهم وهما : أصل الإشراك بالله ، وأصل إنكار البعث.

والاستفهام إنكار على عدم رؤيتهم ذلك لأن دلالة الإنبات على الصانع الواحد دلالة بينة لكل من يراه ؛ فلما لم ينتفعوا بتلك الرؤية نزلت رؤيتهم منزلة العدم فأنكر عليهم ذلك. والمقصود : إنكار عدم الاستدلال به.

وجملة : (كَمْ أَنْبَتْنا) بدل اشتمال من جملة (يَرَوْا) فهي مصبّ الإنكار. وقوله: (إِلَى الْأَرْضِ) متعلق بفعل (يَرَوْا) ، أي ألم ينظروا إلى الأرض وهي بمرأى منهم.

و (كَمْ) اسم دال على الكثرة ، وهي هنا خبرية منصوبة ب (أَنْبَتْنا). والتقدير: أنبتنا فيها كثيرا من كل زوج كريم.

١١٦

و (مِنْ) تبعيضية. ومورد التكثير الذي أفادته (كَمْ) هو كثرة الإنبات في أمكنة كثيرة ، ومورد الشمول المفاد من (كُلِ) هو أنواع النبات وأصنافه وفي الأمرين دلالة على دقيق الصنع. واستغني بذكر أبعاض كل زوج عن ذكر مميز (كَمْ) لأنه قد علم من التبعيض.

والزوج : النوع ، وشاع إطلاق الزوج على النوع في غير الحيوان قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) على أحد احتمالين تقدما في سورة الرعد [٣] ، وتقدم قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) في طه [٥٣].

والكريم : النفيس من نوعه قال تعالى : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الأنفال [٤] ، وتقدم عند قوله تعالى : (مَرُّوا كِراماً) في سورة الفرقان [٧٢]. وهذا من إدماج الامتنان في ضمن الاستدلال لأن الاستدلال على بديع الصنع يحصل بالنظر في إنبات الكريم وغيره. ففي الاستدلال بإنبات الكريم من ذلك وفاء بغرض الامتنان مع عدم فوات الاستدلال. وأيضا فنظر الناس في الأنواع الكريمة أنفذ وأشهر لأنه يبتدئ بطلب المنفعة منها والإعجاب بها فإذا تطلبها وقع في الاستدلال فيكون الاقتصار على الاستدلال بها في الآية من قبيل التذكير للمشركين بما هم ممارسون له وراغبون فيه.

والمشار إليه ب (ذلِكَ) هو المذكور من الأرض ، وإنبات الله الأزواج فيها ، وما في تلك الأزواج من منافع وبهجة.

والتأكيد بحرف (إِنَ) لتنزيل المتحدّث عنهم منزلة من ينكر دلالة ذلك الإنبات وصفاته على ثبوت الوحدانية التي هي باعث تكذيبهم الرسول لما دعاهم إلى إثباتها ، وإفراد (آية) لإرادة الجنس ، أو لأن في المذكور عدة أشياء في كل واحد منها آية فيكون على التوزيع.

وجملة : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) عطف على جملة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إخبارا عنهم بأنهم مصرّون على الكفر بعد هذا الدليل الواضح ، وضمير (أَكْثَرُهُمْ) عائدإلى معلوم من المقام كما عاد الضمير الذي في قوله : (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وهم مشركو أهل مكة وهذا تحدّ لهم كقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤].

وأسند نفي الإيمان إلى أكثرهم لأن قليلا منهم يؤمنون حينئذ أو بعد ذلك.

و (كانَ) هنا مقحمة للتأكيد على رأي سيبويه والمحققين.

١١٧

وجملة : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تذييل لهذا الخبر : بوصف الله بالعزة ، أي تمام القدرة فتعلمون أنه لو شاء لعجّل لهم العقاب ، وبوصف الرحمة إيماء إلى أن في إمهالهم رحمة بهم لعلهم يشكرون ، ورحيم بك. قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) [الكهف : ٥٨]. وفي وصف الرحمة إيماء إلى أنه يرحم رسله بتأييده ونصره.

واعلم أن هذا الاستدلال لما كان عقليا اقتصر عليه ولم يكرر بغيره من نوع الأدلة العقلية كما كررت الدلائل الحاصلة من العبرة بأحوال الأمم من قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) [الشعراء : ١٠] إلى آخر قصة أصحاب ليكة.

[١٠ ، ١١] (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١))

شروع في عدّ آيات على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر عواقب المكذبين برسلهم ليحذر المخاطبون بالدعوة إلى الإسلام من أن يصيبهم ما أصاب المكذبين. وفي ضمن ذلك تبيين لبعض ما نادى به الرسل من البراهين.

وإذ قد كانت هذه الأدلة من المثلات قصد ذكر كثير اشتهر منها ولم يقتصر على حادثة واحدة لأن الدلالة غير العقلية يتطرقها احتمال عدم الملازمة بأن يكون ما أصاب قوما من أولئك على وجه الصدفة والاتفاق فإذا تبين تكرر أمثالها ضعف احتمال الاتفاقية ، لأن قياس التمثيل لا يفيد القطع إلا بانضمام مقومات له من تواتر وتكرر.

وإنما ابتدئ بذكر قصة موسى ثم قصة إبراهيم على خلاف ترتيب حكاية القصص الغالب في القرآن من جعلها على ترتيب سبقها في الزمان ، لعلّه لأن السورة نزلت للرد على المشركين في إلحاحهم على إظهار آيات من خوارق العادات في الكائنات زاعمين أنهم لا يؤمنون إلا إذا جاءتهم آية ؛ فضرب لهم المثل بمكابرة فرعون وقومه في آيات موسى إذ قالوا : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٢] وعطف (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) عطف جملة على جملة : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) [الشعراء : ٧] بتمامها.

ويكون (إِذْ) اسم زمان منصوبا بفعل محذوف تقديره : واذكر إذ نادى ربّك موسى على طريقة قوله في القصة التي بعدها (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء : ٦٩]. وفي هذا المقدّر تذكير للرسول عليه الصلاة والسلام بما يسلّيه عما يلقاه من قومه.

١١٨

ونداء الله موسى الوحي إليه بكلام سمعه من غير واسطة ملك.

جملة : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تفسير لجملة : (نادى) ، و (أَنِ) تفسيرية. والمقصود من سوق هذه القصة هو الموعظة بعاقبة المكذبين وذلك عند قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) إلى قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء : ٦٣ ـ ٦٨]. وأما ما تقدم ذلك من قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) إلخ فهو تفصيل لأسباب الموعظة بذكر دعوة موسى إلى ما أمر بإبلاغه وإعراض فرعون وقومه وما عقب ذلك إلى الخاتمة.

واستحضار قوم فرعون بوصفهم بالقوم الظالمين إيماء إلى علة الإرسال. وفي هذا الإجمال توجيه نفس موسى لترقب تعيين هؤلاء القوم بما يبينه ، وإثارة لغضب موسى عليهم حتى ينضمّ داعي غضبه عليهم إلى داعي امتثال أمر الله الباعثة إليهم ، وذلك أوقع لكلامه في نفوسهم. وفيه إيماء إلى أنهم اشتهروا بالظلم.

ثم عقب ذلك بذكر وصفهم الذاتي بطريقة البيان من القوم الظالمين وهو قوله : (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، وفي تكرير كلمة (قَوْمَ) موقع من التأكيد فلم يقل : ائت قوم فرعون الظالمين ، كقول جرير :

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم

لا يلفينّكم في سوأة عمر

والظلم يعم أنواعه ، فمنها ظلمهم أنفسهم بعبادة ما لا يستحق العبادة ، ومنها ظلمهم الناس حقوقهم إذ استعبدوا بني إسرائيل واضطهدوهم ، وتقدم استعماله في المعنيين مرارا في ضد العدل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) في البقرة [١١٤] ، وبمعنى الشرك في قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) في الأنعام [٨٢].

واعلم أنه قد عدل هنا عن ذكر ما ابتدئ به نداء موسى مما هو في سورة طه [١٢ ـ ٢٣] بقوله : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إلى قوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) لأن المقام هنا يقتضي الاقتصار على ما هو شرح دعوة قوم فرعون وإعراضهم للاتّعاظ بعاقبتهم. وأما مقام ما في سورة طه فلبيان كرامة موسى عند ربّه ورسالته معا فكان مقام إطناب مع ما في ذلك من اختلاف الأسلوب في حكاية القصة الواحدة كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير.

والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم. وهذا إيجاز يبيّنه قوله : (فَأْتِيا

١١٩

فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] إلى آخره.

وجملة : (أَلا يَتَّقُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لمّا أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ووصفهم بالظالمين كان الكلام مثيرا لسؤال في نفس موسى عن مدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغّلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لموسى على بلوغ الغاية في الدعوة وتهيئة لتلقّيه تكذيبهم بدون مفاجأة ، فيكون (أَلا) من قوله : (أَلا يَتَّقُونَ) مركبا من حرفين همزة الاستفهام و (لا) النافية. والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم ، وتعجيب موسى من ذلك ، فإن موسى كان مطّلعا على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد علم مظالمهم وأعظمها الإشراك وقتل أنبياء بني إسرائيل ....

ويجوز أن يكون ألا كلمة واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة : (أَلا يَتَّقُونَ) بيانا لجملة (ائْتِ). والمعنى : قل لهم : ألا تتقون. فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها. وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧] فإن جملة : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مفسرة لجملة (أَمَرْتَنِي). وإنما أمره الله أن يعبدوا الله ربّ موسى وربهم ، فحكى ما أمره الله به بالمعنى. وهذا العرض نظير قوله في سورة النازعات [١٨] (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى).

والاتّقاء : الخوف والحذر ، وحذف متعلق فعل (يَتَّقُونَ) لظهور أن المراد : ألا يتقون عواقب ظلمهم. وتقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) في سورة الأنفال [٥٦].

ويعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى.

وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) في سورة البقرة [٥١]. وتقدمت ترجمة فرعون عند قوله تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) في الأعراف [١٠٣].

[١٢ ـ ١٤] (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤))

افتتاح مراجعته بنداء الله بوصف الربّ مضافا إليه تحنين واستسلام. وإنما خاف أن

١٢٠