تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

مفعولي (رأيت). و (ثُمَّ جاءَهُمْ) معطوف على جملة الشرط المعترضة ، و (ثُمَ) فيه للترتيب والمهلة ، أي جاءهم بعد سنين. وفيه رمز إلى أن العذاب جائيهم وحالّ بهم لا محالة. و (ما كانُوا يُوعَدُونَ) موصول وصلته. والعائد محذوف تقديره : يوعدونه.

وجملة : (ما أَغْنى عَنْهُمْ) سادة مسدّ مفعولي (رأيت) لأنه معلّق عن العمل بسبب الاستفهام بعده. و (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) موصول وصلته. والعائد محذوف تقديره : يمتعونه.

والمعنى : أعلمت أن تمتيعهم بالسلامة وتأخير العذاب إن فرض امتداده سنين عديدة غير مغن عنهم شيئا إن جاءهم العذاب بعد ذلك. وهذا كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [هود : ٨] ، وذلك أن الأمور بالخواتيم. في «تفسير القرطبي» : روى ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ثم يبكي ويقول :

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم والردى لك لازم

فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم

ولا أنت في النّوّام ناج فسالم

تسرّ بما يفنى وتفرح بالمنى

كما سرّ باللذات في النوم حالم

وتسعى إلى ما سوف تكره غبّه

كذلك في الدنيا تعيش البهائم

ولم أقف على صاحب هذه الأبيات قال ابن عطية : ولأبي جعفر المنصور قصة في هذه الآية. ولعل ما روي عن عمر بن عبد العزيز روي مثيله عن المنصور.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨))

تذكير لقريش بأن القرى التي أهلكها الله والتي تقدم ذكرها في هذه السورة قد كان لها رسل ينذرونها عذاب الله ليقيسوا حالتهم على أحوال الأمم التي قبلهم.

والاستثناء من أحوال محذوفة. والتقدير : وما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون. وعرّيت جملة الحال عن الواو استغناء عن الواو بحرف الاستثناء ، ولو ذكرت الواو لجاز كقوله في سورة الحجر [٤] (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ). وعبّر عن الرسل بصفة الإنذار لأنه المناسب للتهديد بالإهلاك.

(ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩))

٢٠١

أي هذه ذكرى ، فذكرى في موضع رفع على الخبرية لمبتدإ محذوف دلت عليه قرينة السياق كقوله تعالى في سورة الأحقاف [٣٥] (بَلاغٌ) أي هذا بلاغ ، وفي سورة إبراهيم [٥٢] (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) وفي سورة ص [٤٩] (هذا ذِكْرٌ). والمعنى : هذه ذكرى لكم يا معشر قريش. وهذا المعنى هو أحسن الوجوه في موقع قوله : (ذِكْرى) وهو قول أبي إسحاق الزجاج والفراء وإن اختلفا في تقدير المحذوف قال ابن الأنباري : قال بعض المفسرين : ليس في الشعراء وقف تام إلّا قوله : (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء : ٢٠٨].

وقد تردد الزمخشري في موقع قوله : (ذِكْرى) بوجوه جعلها جميعا على اعتبار قوله: (ذِكْرى) تكملة للكلام السابق وهي غير خلية عن تكلف. والذكرى : اسم مصدر ذكّر.

وجملة : (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) يجوز أن تكون معطوفة على (ذِكْرى) أي نذكّركم ولا نظلم ، وأن تكون حالا من الضمير المستتر في (ذِكْرى) لأنه كالمصدر يقتضي مسندا إليه ، وعلى الوجهين فمفاد (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) الإعذار لكفار قريش والإنذار بأنهم سيحلّ بهم هلاك.

وحذف مفعول (ظالِمِينَ) لقصد تعميمه كقوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].

[٢١٠ ـ ٢١٢] (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))

عطف على جملة : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٩٢] وما بينهما اعتراض استدعاه تناسب المعاني وأخذ بعضها بحجز بعض تفننا في الغرض. وهذا رد على قولهم في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو كاهن قال تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] ، وزعمهم أن الذي يأتيه شيطان ؛ فقد قالت العوراء بنت حرب امرأة أبي لهب لما تخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قيام الليل ليلتين لمرض : أرجو أن يكون شيطانك قد تركك. ولذلك كان من جملة ما راجعهم به الوليد بن المغيرة حين شاوره المشركون فيما يصفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نقول : كلامه كلام كاهن ، فقال : والله ما هو بزمزمته. وكلام الكهان في مزاعمهم من إلقاء الجن إليهم وإنما هي خواطر نفوسهم ينسبونها إلى شياطينهم المزعومة. نفي عن القرآن أن يكون من ذلك القبيل ، أي الكهان لا يجيش في نفوسهم

٢٠٢

كلام مثل القرآن فما كان لشياطين الكهان أن يفيضوا على نفوس أوليائهم مثل هذا القرآن. فالكهانة من كذب الكهان وتمويههم ، وأخبار الكهان كلها أقاصيص وسّعها الناقلون.

فالتعريف في (السَّمْعِ) للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع ، أي تتحيّل على الاتصال بعلم ما يجري في الملإ الأعلى. ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدّر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي ، فلذلك نفي هنا تنزّل الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون. وبيان ذلك تقدم في سورة الحجر ويأتي في سورة الصافات.

ومعنى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) ما يستقيم وما يصح ، أي لا يستقيم لهم تلقي كلام الله تعالى الذي الشأن أن يتلقاه الروح الأمين ، وما يستطيعون تلقيه لأن النفوس الشيطانية ظلمانية خبيثة بالذات فلا تقبل الانتقاش بصور ما يجري في عالم الغيب ، فإن قبول فيضان الحق مشروط بالمناسبة بين المبدأ والقابل.

فضمير (يَنْبَغِي) عائد إلى ما عاد عليه ضمير (بِهِ) ، أي ما ينبغي القرآن لهم ، أي ما ينبغي أن ينزلوا به كما زعم المشركون. ومفعول (يَسْتَطِيعُونَ) محذوف ، أي ما يستطيعونه. وأعيدت الضمائر بصيغة العقلاء بعد أن أضمر لهم بضمير غير العقلاء في قوله : (وَما تَنَزَّلَتْ) اعتبارا بملابسة ذلك للكهان. وقد تقدم في سورة الحجر أن صنفا من الشياطين يتهيّأ للتلقي بما يسمّى استراق السمع وأنه يصرف عنه بالشّهب. واستؤنف ب (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) فكان ذلك كالفذلكة لما قبله وهو بعمومه يتنزل منزلة التذييل.

والمعزول : المبعد عن أمر فهو في عزلة عنه. وفي هذا إبطال للكهانة من أصلها وهي وإن كانت فيها شيء من الاتصال بالقوى الروحية في سالف الزمان فقد زال ذلك منذ ظهور الإسلام.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

لما وجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] إلى هنا ، في آيات أشارت بنزول القرآن من عند الله تعالى وحققت صدقه بأنه مذكور في كتب الأنبياء السالفين وشهد به علماء بني إسرائيل ، وأنحى على المشركين

٢٠٣

بإبطال ما ألصقوه بالقرآن من بهتانهم ، لا جرم اقتضى ذلك ثبوت ما جاء به القرآن. وأصل ذلك هو إبطال دين الشرك الذي تقلدته قريش وغيرها وناضلت عليه بالأكاذيب ؛ فناسب أن يتفرع عليه النهي عن الإشراك بالله والتحذير منه.

فقوله : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) خطاب لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام ، ويجوز أن يكون الخطاب موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه المبلغ عن الله تعالى فللاهتمام بهذا النهي وقع توجيهه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع تحقق أنه منته عن ذلك ، فتعين أن يكون النهي للذين هم متلبسون بالإشراك ، ونظير هذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥]. والمقصود من مثل ذلك الخطاب غيره ممن يبلغه الخطاب.

فالمعنى : فلا تدعوا مع الله إلها آخر فتكونوا من المعذبين. وفي هذا تعريض بالمشركين أنهم سيعذبون للعلم بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه غير مشركين.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤))

عطف على قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] ، فهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بهذا الخاص. ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته. ويدل على هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ندائه لهم : «لا أغني عنكم من الله شيئا» ، وأن فيه تعريضا بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصوه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفى من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح ؛ فهذا مما يدخل في النذارة ، ولذلك دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزول هذه الآية قرابته مؤمنين وكافرين.

ففي حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في «صحيحي البخاري ومسلم» يجمعها قولهم : «لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قام رسول الله على الصّفا فدعا قريشا فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عديّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فقال : يا معشر قريش ، فعمّ وخص ، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني

٢٠٤

هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ، غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها» وكانت صفية وفاطمة من المؤمنين وكان إنذارهما إعمالا لفعل الأمر في معانيه كلها من الدعوة إلى الإيمان وإلى صالح الأعمال ؛ فجمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الإنذار من الشرك والإنذار من المعاصي لأنه أنذر صفية وفاطمة وكانتا مسلمتين.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبي [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عديّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟! فنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) [المسد : ١ ، ٢].

وهذا الحديث يقتضي أن سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب مع أن سورة أبي لهب عدّت السادسة في عداد نزول السور ، وسورة الشعراء عدّت السابعة والأربعين. فالظاهر أن قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) نزل قبل سورة الشعراء مفردا ، فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عباس في «صحيح مسلم» : لمّا نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين» وأن ذلك نسخ. فلعل الآية نزلت أول مرة ثم نسخت تلاوتها ثم أعيد نزول بعضها في جملة بسورة الشعراء.

والعشيرة : الأدنون من القبيلة ، فوصف (الْأَقْرَبِينَ) تأكيد لمعنى العشيرة واجتلاب لقلوبهم إلى إجابة ما دعاهم إليه وتعريض بأهل الإدانة منهم.

وظلم ذوي القربى أشدّ مضافة على المرء من وقع الحسام المهنّد.

وإلى هذا يشير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم في آخر الدعوة المتقدمة «غير أن لكم رحما سأبلّها ببلالها» أي ذلك منتهى ما أملك لكم حين لا أملك لكم من الله شيئا ، فيحق عليكم أن تبلّوا لي رحمي مما تملكون ، فإنكم تملكون أن تستجيبوا لي.

٢٠٥

وتقدم ذكر العشيرة في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) في سورة براءة [٢٤].

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥))

معترض بين الجملتين ابتدارا لكرامة المؤمنين قبل الأمر بالتبرؤ من الذين لا يؤمنون ، وبعد الأمر بالإنذار الذي لا يخلو من وقع أليم في النفوس.

وخفض الجناح : مثل للمعاملة باللّين والتواضع. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) في سورة الحجر [٨٨] ، وقوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) في سورة الإسراء [٢٤]. والجناح للطائر بمنزلة اليدين للدواب ، وبالجناحين يكون الطيران.

و (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بيان (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) فإن المراد المتابعة في الدين وهي الإيمان. والغرض من هذا البيان التنويه بشأن الإيمان كأنه قيل : واخفض جناحك لهم لأجل إيمانهم كقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وجبر لخاطر المؤمنين من قرابته. ولذلك لما نادى في دعائه صفية قال : «عمة رسول الله» ولما نادى فاطمة قال : «بنت رسول الله» تأنيسا لهما ، فهذا من خفض الجناح ، ولم يقل مثل ذلك للعباس لأنه كان يومئذ مشركا.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦))

تفريع على جملة : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] أي فإن عصوا أمرك المستفاد من الأمر بالإنذار ، أي فإن عصاك عشيرتك فما عليك إلا أن تتبرأ من عملهم ، وهذا هو مثار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم في دعوته : «غير أن لكم رحما سأبلّها ببلالها» فالتبرؤ إنما هو من كفرهم وذلك لا يمنع من صلتهم لأجل الرحم وإعادة النصح لهم كما قال: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣]. وإنما أمر بأن يقول لهم ذلك لإظهار أنهم أهل للتبرؤ من أعمالهم فلا يقتصر على إضمار ذلك في نفسه.

[٢١٧ ـ ٢٢٠] (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

٢٠٦

وعطف الأمر بالتوكل بفاء التفريع في قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر فيكون تفريعا على : (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [الشعراء : ٢١٦] تنبيها على المبادرة بالعوذ من شر أولئك الأعداء وتنصيصا على اتصال التوكل بقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ).

وقرأ الجمهور : (وَتَوَكَّلْ) بالواو وهو عطف على جواب الشرط ، أي قل : إني بريء وتوكل ، وعطفه على الجواب يقتضي تسببه على الشرط كتسبب الجواب وهو يستلزم البدار به ، فمآل القراءتين واحد وإن اختلف طريق انتزاعه.

والمعنى : فإن عصاك أهل عشيرتك فتبرأ منهم. ولما كان التبرؤ يؤذن بحدوث مجافاة وعداوة بينه وبينهم ثبّت الله جأش رسوله بأن لا يعبأ بهم وأن يتوكل على ربه فهو كافيه كما قال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣]. وعلق التوكل بالاسمين (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) وما تبعهما من الوصف بالموصول وما ذيل به من الإيماء إلى أنه يلاحظ قوله ويعلم نيته ، إشارة إلى أن التوكل على الله يأتي بما أومأت إليه هذه الصفات ومستتبعاتها بوصف (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) للإشارة إلى أنه بعزته قادر على تغلبه على عدوّه الذي هو أقوى منه ، وأنه برحمته يعصمه منهم. وقد لوحظ هذان الاسمان غير مرة في هذه السورة لهذا الاعتبار كما تقدم.

والتوكل : تفويض المرء أمره إلى من يكفيه مهمه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

ووصفه تعالى : ب (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) مقصود به لازم معناه. وهو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمحل العناية منه لأنه يعلم توجهه إلى الله ويقبل ذلك منه ، فالمراد من قوله : (يَراكَ) رؤية خاصة وهي رؤية الإقبال والتقبل كقوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

والقيام : الصلاة في جوف الليل ، غلب هذا الاسم عليه في اصطلاح القرآن ، والتقلب في الساجدين هو صلاته في جماعات المسلمين في مسجده. وهذا يجمع معنى العناية بالمسلمين تبعا للعناية برسولهم ، فهذا من بركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد جمعها هذا التركيب العجيب الإيجاز.

وفي هذه الآية ذكر صلاة الجماعة. قال مقاتل لأبي حنيفة : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال أبو حنيفة : لا يحضرني فتلا مقاتل هذه الآية.

وموقع (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) موقع التعليل للأمر ب (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)

٢٠٧

[الشعراء : ٢١٦] ، وللأمر ب (تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، فصفة (السَّمِيعُ) مناسبة للقول ، وصفة (الْعَلِيمُ) مناسبة للتوكل ، أي أنه يسمع قولك ويعلم عزمك.

وضمير الفصل في قوله : (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) للتقوية.

[٢٢١ ـ ٢٢٣] (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣))

لما سفّه قولهم في القرآن : إنه قول كاهن ، فرد عليهم بقوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) [الشعراء : ٢١٠] وأنه لا ينبغي للشياطين ولا يستطيعون مثله ، وأنهم حيل بينهم وبين أخبار أوليائهم ، عاد الكلام إلى وصف حال كهانهم ليعلم أن الذي رموا به القرآن لا ينبغي أن يلتبس بحال أوليائهم. فالجملة متصلة في المعنى بجملة : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) [الشعراء : ٢١٠] ، أي ما تنزّلت الشياطين بالقرآن على محمد (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ).

وألقي الكلام إليهم في صورة استفهامهم عن أن يعرّفهم بمن تتنزل عليه الشياطين ، استفهاما فيه تعريض بأن المستفهم عنه مما يسوءهم لذلك ويحتاج فيه إلى إذنهم بكشفه.

وهذا الاستفهام صوري مستعمل كناية عن كون الخبر مما يستأذن في الإخبار به. واختير له حرف الاستفهام الدال على التحقيق وهو (هَلْ) لأن هل في الاستفهام بمعنى (قد) والاستفهام مقدّر فيها بهمزة الاستفهام ، فالمعنى : أنبئكم إنباء ثابتا محققا وهو استفهام لا يترقب منه جواب المستفهم لأنه ليس بحقيقي فلذلك يعقبه الإفضاء بما استفهم عنه قبل الإذن من السامع. ونظيره في الجواب قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢] وإن كان بين الاستفهامين فرق.

وفعل (أُنَبِّئُكُمْ) معلق عن العمل بالاستفهام في قوله : (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ). وهو أيضا استفهام صوري معناه الخبر كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يستفهم عنه المتحسّسون ويتطلبونه ، فالاستفهام من لوازم الاهتمام.

والمجرور مقدم على عامله للاهتمام بالمتنزّل عليه ، وأصل التركيب : من تنزّل عليه الشياطين ، فلما قدم المجرور دخل حرف (عَلى) على اسم الاستفهام وهو (مَنْ) لأن ما صدقها هو المتنزّل عليه ، ولا يعكر عليه أن المتعارف أن يكون الاستفهام في صدر

٢٠٨

الكلام ، لأن أسماء الاستفهام تضمنت معنى الاسمية وهو أصلها ، وتضمنت معنى همزة الاستفهام كما تضمنته (هَلْ) ، فإذا لزم مجيء حرف الجر مع أسماء الاستفهام ترجح فيها جانب الاسمية فدخل الحرف عليها ولم تقدّم هي عليه ، فلذلك تقول : أعلى زيد مررت؟ ولا تقول : من على مررت؟ وإنما تقول : على من مررت؟ وكذا في بقية أسماء الاستفهام نحو (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] ، (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٨] ، وقولهم : علام ، وإلام ، وحتّام ، و (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) [النازعات : ٤٣].

وأجيب الاستفهام هنا بقوله : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ).

و (كُلِ) هنا مستعملة في معنى التكثير ، أي على كثير من الأفّاكين وهم الكهان ، قال النابغة :

وكلّ صموت نثلة تبّعيّة

ونسج سليم كلّ قمصاء ذائل

والأفاك كثير الإفك ، أي الكذب ، والأثيم كثير الإثم. وإنما كان الكاهن أثيما لأنه يضم إلى كذبه تضليل الناس بتمويه أنه لا يقول إلا صدقا ، وأنه يتلقى الخبر من الشياطين التي تأتيه بخبر السماء.

وجعل للشياطين (تَنَزَّلُ) لأن اتصالها بنفوس الكهان يكون بتسلسل تموجات في الأجواء العليا كما تقدم في سورة الحجر.

و (يُلْقُونَ السَّمْعَ) صفة ل (كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، أي يظهرون أنهم يلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر ، وذلك من إفكهم وإثمهم.

وإلقاء السمع : هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاء للسمع من موضعه ، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، أي أبلغ في الإصغاء ليعي ما يقال له.

وهذا كما أطلق عليه إصغاء ، أي إمالة السمع إلى المسموع.

وقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئا ، أي وبعضهم يتلقى شيئا قليلا من الشياطين فيكذب عليه أضعافه.

ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الكهان فقال : «ليسوا بشيء» قيل: يا

٢٠٩

رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا. فقال : «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنيّ فيقرّها في أذن وليه قرّ الدّجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة». فهم أفّاكون وهم متفاوتون في الكذب فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن ، ومنهم أفّاكون في أصل تلقي شيء من الجن ، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب ، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادئ النظر. أطنبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبار عن أشياء قليلة قد تصدق فأين هذا من هدي النبي والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات. كما قال : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) [الأنعام : ٥٠] في آيات كثيرة من هذا المعنى.

[٢٢٤ ـ ٢٢٧] (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

كان مما حوته كنانة بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو شاعر ، فلما نثلت الآيات السابقة سهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم : هو كاهن ، لم يبق إلا إبطال قولهم: هو شاعر ، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطانا يملي عليه الشعر وربما سموه الرّئيّ ، فناسب أن يقارن بين تزييف قولهم في القرآن : هو شعر ، وقولهم في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو شاعر ، وبين قولهم : هو قول كاهن ، كما قرن بينهما في قوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة : ٤١ ، ٤٢] ؛ فعطف هنا قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) على جملة : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الشعراء : ٢٢٢].

ولمّا كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفا لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال ما بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب ، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعرا ، وأن يكون القرآن شعرا. دون تعرض إلى أنه تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة.

وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان المشركون يعنون بمجالسهم وسماع أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيهم ، أدمجت

٢١٠

الآية حال من يتّبع الشعراء بحالهم تشويها للفريقين وتنفيرا منهما. ومن هؤلاء : النضر بن الحارث ، وهبيرة بن أبي وهب ومسافع بن عبد مناف ، وأبو عزة الجمحي ، وابن الزّبعرى ، وأمية بن أبي الصّلت ، وأبو سفيان ابن الحارث ، وأمّ جميل العوراء بنت حرب زوج أبي لهب التي لقبها القرآن : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد : ٤] وكانت شاعرة وهي التي قالت :

مذمّما عصينا

وأمره أبينا

ودينه قلينا

فكانت هذه الآية نفيا للشعر أن يكون من خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذما للشعراء الذين تصدوا لهجائه.

فقوله : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) ذمّ لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى. والغاوي : المتصف بالغي والغواية ، وهي الضلالة الشديدة ، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى. فقوله : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) خبر ، وفيه كناية عن تنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين ، فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذمّ أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعرا.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوّي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

وجعله في «الكشاف» للحصر ، أي لا يتبعهم إلّا الغاوون ، لأنه أصرح في نفي اتّباع الشعراء عن المسلمين. وهذه طريقته باطراد في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي أنه يفيد تخصيصه بالخبر ، أي قصر مضمون الخبر عليه ، أي فهو قصر إضافي كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) في سورة البقرة [١٥].

والرؤية في (أَلَمْ تَرَ) قلبية لأن الهيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يعلم لا مما يرى.

والاستفهام تقريري ، وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه كما تقدم في قوله : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء : ١٨] ، والخطاب لغير معين.

وضمائر (أَنَّهُمْ) ـ و ـ (يَهِيمُونَ) ـ و ـ (يَقُولُونَ) ـ و ـ (يَفْعَلُونَ) عائدة إلى الشعراء.

٢١١

فجملة : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب.

ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس ، ومن نسيب وتشبيب بالنساء ، ومدح من يمدحونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح ، وذمّ من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل ، وربما ذمّوا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سبق لهم ذمه.

والهيام : هو الحيرة والتردد في المرعى. والواد : المنخفض بين عدوتين. وإنما ترعى الإبل الأودية إذا أقحلت الربى ، والربا أجود كلأ ، فمثّل حال الشعراء بحال الإبل الراعية في الأودية متحيرة ، لأن الشعراء في حرص على القول لاختلاب النفوس.

و (كُلِ) مستعمل في الكثرة. روي أنه اندسّ بعض المزّاحين في زمرة الشعراء عند بعض الخلفاء فعرف الحاجب الشعراء ، وأنكر هذا الذي اندسّ فيهم ، فقال له : هؤلاء الشعراء وأنت من الشعراء؟ قال : بل أنا من الغاوين ، فاستطرفها.

وشفّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب ، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل : أحسن الشعر أكذبه ، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذبا لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح ، وإن كان عليه قرينة كان كذبا معتذرا عنه فكان غير محمود.

وفي هذا إبداء للبون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان لا يقول إلا حقا ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام.

ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله :

فبتن بجانبيّ مصرّعات

وبتّ أفضّ أغلاق الختام

فقال سليمان : قد وجب عليك الحد. فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ). وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب فقال شعرا :

من مبلغ الحسناء أن حليلها

بميسان يسقى في زجاج وحنتم

٢١٢

إلى أن قال :

لعل أمير المؤمنين يسوءه

تنادمنا بالجوسق المتهدم (١)

فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه وقال له : أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحدّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت وإنما كان فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فقال له عمر : أمّا عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت.

وقد كني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين ، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم ، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق ، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه ، واستثناء (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلخ ... من عموم الشعراء ، أي من حكم ذمّهم. وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام.

ومعنى : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر. (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وهم من أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة ، فقد قالوا شعرا كثيرا في ذم المشركين. وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ومن أسلم بعد من العرب مثل لبيد ، وكعب بن زهير ، وسحيم عبد بني الحسحاس ، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السّورة مدنيّا كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة.

وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة ، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعرا ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة ، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه ، والتي تأوي إلى جانب رفضه. وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله : (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ، وإلى الحالة المأذونة قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). وكيف وقد أثنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصت أصحابه

__________________

(١) الجوسق : القصر ، كان أهل البطالة والخلاعة يأوون إلى القصور المتروكة.

٢١٣

لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة ، على أنه أذن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له : «كلامك أشد عليهم من وقع النبل ..» وقال له : «قل ومعك روح القدس». وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) في سورة يس [٦٩]. وأجاز عليه كما أجاز كعب بن زهير فخلع عليه بردته ، فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمنا.

وقال أبو هريرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «أصدق كلمة ، أو أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»

وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال : «كاد أمية أن يسلم» ، وأمر حسّانا بهجاء المشركين وقال له : «قل ومعك روح القدس». وقال لكعب بن مالك : «لكلامك أشد عليهم من وقع النبل».

روى أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» بسنده إلى خريم بن أوس بن حارثة أنه قال : هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرفه من تبوك فسمعت العباس قال : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك. فقال : قل لا يفضض الله فاك. فقال العباس :

من قبلها طبت في الظلال وفي

مستودع حيث يخصف الورق

الأبيات السبعة. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفضض الله فاك».

وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول :

خلّوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

فقال له عمر : يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر! فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نضح النبل».

وعن الزهري أن كعب بن مالك قال : يا رسول الله ما تقول في الشعر؟ قال : «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل».

ولعلي بن أبي طالب شعر كثير ، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه.

٢١٤

وقد بين القرطبي في «تفسيره» في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر. وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب «دلائل الإعجاز».

ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر ، ولم يزل العلماء يعنون بشعر العرب ومن بعدهم ، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن.

ومعنى : (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم. وجعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك ، وللاعتداء على حقوق الناس. وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده ، والواو اعتراضية للاستئناف.

وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحثّ عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب ، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم ، ومن الإبهام في قوله : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس الموعدين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلب سوء.

والمنقلب : مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآل ، لأن الانقلاب هو الرجوع. وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده. واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه. قال في «الكشاف» : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها.

٢١٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٧ ـ سورة النمل

أشهر أسمائها «سورة النمل». وكذلك سميت في «صحيح البخاري» و «جامع الترمذي». وتسمى أيضا «سورة سليمان» ، وهذان الاسمان اقتصر عليهما في «الإتقان» وغيره.

وذكر أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» أنها تسمى «سورة الهدهد». ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها ، وأما تسميتها «سورة سليمان» فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلا لم يذكر مثله في غيرها.

وهذه السورة مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية والقرطبي والسيوطي وغير واحد. وذكر الخفاجي أن بعضهم ذهب إلى مكيّة بعض آياتها (كذا ولعله سهو صوابه مدنية بعض آياتها) ولم أقف على هذا لغير الخفاجي.

وهي السورة الثامنة والأربعون في عداد نزول السور ، نزلت بعد الشعراء وقبل القصص. كذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير.

وقد عدّت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة خمسا وتسعين ، وعند أهل الشام والبصرة والكوفة أربعا وتسعين.

من أغراض هذه السورة

أول أغراض هذه السورة افتتاحها بما يشير إلى إعجاز القرآن ببلاغة نظمه وعلوّ معانيه ، بما يشير إليه الحرفان المقطّعان في أولها.

٢١٦

والتنويه بشأن القرآن وأنه هدى لمن ييسر الله الاهتداء به دون من جحدوا أنه من عند الله.

والتحدّي بعلم ما فيه من أخبار الأنبياء.

والاعتبار بملك أعظم ملك أوتيه نبيء. وهو ملك داود وملك سليمان عليهما‌السلام ، وما بلغه من العلم بأحوال الطير ، وما بلغ إليه ملكه من عظمة الحضارة.

وأشهر أمة في العرب أوتيت قوة وهي أمة ثمود. والإشارة إلى ملك عظيم من العرب وهو ملك سبأ. وفي ذلك إيماء إلى أن نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسالة تقارنها سياسة الأمة ثم يعقبها ملك ، وهو خلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأن الشريعة المحمدية سيقام بها ملك للأمة عتيد كما أقيم لبني إسرائيل ملك سليمان.

ومحاجّة المشركين في بطلان دينهم وتزييف آلهتهم وإبطال أخبار كهّانهم وعرّافيهم ، وسدنة آلهتهم. وإثبات البعث وما يتقدمه من أهوال القيامة وأشراطها.

وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة. ثم موادعة المشركين وإنباؤهم بأن شأن الرسول الاستمرار على إبلاغ القرآن وإنذارهم بأن آيات الصدق سيشاهدونها والله مطلع على أعمالهم.

قال ابن الفرس : ليس في هذه السورة إحكام ولا نسخ. ونفيه أن يكون فيها إحكام ولا نسخ معناه أنها لم تشتمل على تشريع قار ولا على تشريع منسوخ. وقال القرطبي في تفسير آية (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [النمل : ٩١ ، ٩٢] الآية نسختها آية القتال اه ، يعني الآية النازلة بالقتال في سورة البراءة. وتسمى آية السيف ، والقرطبي معاصر لابن الفرس إلا أنه كان بمصر وابن الفرس بالأندلس ، وقوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) [النمل : ٢١] ويؤخذ منهما حكمان كما سيأتي.

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١))

(طس).

تقدم القول في أن الراجح أن هذه الحروف تعريض بالتحدّي بإعجاز القرآن وأنه مؤتلف من حروف كلامهم. وتقدم ما في أمثالها من المحامل التي حاولها كثير من المتأولين.

٢١٧

ويجيء على اعتبار أن تلك الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى أن يقال في حروف هذه السورة ما روي عن ابن عباس أن : طس مقتضب من طاء اسمه تعالى اللطيف ، ومن سين اسمه تعالى السميع. وأن المقصود القسم بهذين الاسمين ، أي واللطيف والسميع تلك آيات القرآن المبين.

(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ).

القول فيه كالقول في صدر سورة الشعراء وخالفت آية هذه السورة سابقتها بثلاثة أشياء : بذكر اسم القرآن وبعطف (وَكِتابٍ) على (الْقُرْآنِ) وبتنكير (كِتابٍ).

فأما ذكر اسم القرآن فلأنه علم للكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإعجاز والهدي. وهذا العلم يرادف الكتاب المعرّف بلام العهد المجعول علما بالغلبة على القرآن ، إلا أن اسم القرآن أدخل في التعريف لأنه علم منقول. وأما الكتاب فعلم بالغلبة ، فالمراد بقوله : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) القرآن أيضا ولا وجه لتفسيره باللّوح المحفوظ للتفصّي من إشكال عطف الشيء على نفسه لأن التفصي من ذلك حاصل بأنّ عطف إحدى صفتين على أخرى كثير في الكلام. ولما كان في كلّ من (الْقُرْآنِ) و (كِتابٍ مُبِينٍ) شائبة الوصف فالأول باشتقاقه من القراءة ، والثاني بوصفه ب (مُبِينٍ) ، كان عطف أحدهما على الآخر راجعا إلى عطف الصفات بعضها على بعض ، وإنما لم يؤت بالثاني بدلا ، لأن العطف أعلق باستقلال كلا المتعاطفين بأنه مقصود في الكلام بخلاف البدل.

ونظير هذه الآية آية سورة الحجر [١] (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) فإن (قُرْآنٍ) في تلك الآية في معنى عطف البيان من (الْكِتابِ) ولكنه عطف لقصد جمعهما بإضافة (آياتُ) إليهما.

وإنما قدم في هذه الآية (الْقُرْآنِ) وعطف عليه (كِتابٍ مُبِينٍ) على عكس ما في طالعة سورة الحجر لأن المقام هنا مقام التنويه بالقرآن ومتبعيه المؤمنين ، فلذلك وصف بأنه (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ٢] أي بأنهم على هدى في الحال ومبشرون بحسن الاستقبال فكان الأهم هنا للوحي المشتمل على الآيات هو استحضاره باسمه العلم المنقول من مصدر القراءة لأن القراءة تناسب حال المؤمنين به والمتقبلين لآياته فهم يدرسونها ، ولأجل ذلك أدخلت اللام للمح الأصل ، تذكيرا بأنه مقروء مدروس. ثم عطف عليه (كِتابٍ مُبِينٍ) ليكون التنويه به جامعا لعنوانيه ومستكملا للدلالة بالتعريف على معنى

٢١٨

الكمال في نوعه من المقروءات ، والدلالة بالتنكير على معنى تفخيمه بين الكتب كقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨].

وأما ما في أول سورة الحجر فهو مقام التحسير للكافرين من جراء إعراضهم عن الإسلام فناسب أن يبتدءوا باسم الكتاب المشتق من الكتابة دون القرآن لأنهم بمعزل عن قراءته ولكنه مكتوب ، وحجة عليهم باقية على مر الزمان. وقد تقدم تفصيل ذلك في أول سورة الحجر ، ولهذا عقب هنا ذكر (كِتابٍ مُبِينٍ) بالحال (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ٢].

و (مُبِينٍ) اسم فاعل إما من (أبان) القاصر بمعنى (بان) لأن وصفه بأنه بيّن واضح له حظ من التنويه به ما ليس من الوصف بأنه موضّح مبين. فالمبين أفاد معنيين أحدهما : أن شواهد صدقه وإعجازه وهديه لكل متأمل ، وثانيهما : أنه مرشد ومفصّل.

[٢ ، ٣] (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣))

(هُدىً وَبُشْرى) حالان من (كِتابٍ) بعد وصفه ب (مُبِينٍ) [النمل : ١].

وجعل الحال مصدرا للمبالغة بقوة تسببه في الهدى وتبليغه البشرى للمؤمنين.

فالمعنى : أن الهدى للمؤمنين والبشرى حاصلان منه ومستمران من آياته.

والبشرى : اسم للتبشير ، ووصف الكتاب بالهدى والبشرى جار على طريقة المجاز العقلي ، وإنما الهادي والمبشر الله أو الرسول بسبب الكتاب. والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى : أشير ، كقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] ، وقد تقدم ما فيه في سورة إبراهيم.

و (لِلْمُؤْمِنِينَ) يتنازعه (هُدىً وَبُشْرى) لأن المؤمنين هم الذين انتفعوا بهديه كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

ووصف المؤمنين بالموصول لتمييزهم عن غيرهم لأنهم عرفوا يومئذ بإقامة الصلاة وإعطاء الصدقات للفقراء والمساكين ، ألا ترى أن الله عرّف الكفار بقوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] ، ولأن في الصلة إيماء إلى وجه بناء الإخبار عنهم بأنهم على هدى من ربّهم ومفلحون.

٢١٩

و (الزَّكاةَ) : الصدقة لأنها تزكي النفس أو تزكي المال ، أي تزيده بركة. والمراد بالزكاة هنا الصدقة مطلقا أو صدقة واجبة كانت على المسلمين ، وهي مواساة بعضهم بعضا كما دل عليه قوله في صفة المشركين (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ١٧ ، ١٨]. وأما الزكاة المقدرة بالنّصب والمقادير الواجبة على أموال الأغنياء فإنها فرضت بعد الهجرة فليست مرادا هنا لأن هذه السورة مكية.

وجملة : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) عطف على الصلة وليست من الصلة ، ولذلك خولف بين أسلوبها وأسلوب الصلة فأتي له بجملة اسمية اهتماما بمضمونها لأنه باعث على فعل الخيرات ، على أن ضمير (هُمْ) الثاني يجوز أن يعتبر ضمير فصل دالا على القصر ، أي ما يوقن بالآخرة إلا هؤلاء.

والقصر إضافي بالنسبة إلى مجاوريهم من المشركين ، وإلا فإن أهل الكتاب يوقنون بالآخرة ، إلا أنهم غير مقصود حالهم للمخاطبين من الفريقين. وتقديم (بِالْآخِرَةِ) للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بها.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤))

لا محالة يثير كون الكتاب المبين هدى وبشرى للذين يوقنون بالآخرة سؤالا في نفس السامع عن حال أضدادهم الذين لا يوقنون بالآخرة لما ذا لا يهتدون بهدي هذا الكتاب البالغ حدا عظيما في التبين والوضوح. فلا جرم أن يصلح المقام للإخبار عما صرف هؤلاء الأضداد عن الإيمان بالحياة الآخرة فوقع هذا الاستئناف البياني لبيان سبب استمرارهم على ضلالهم. ذلك بأن الله يعلم خبث طواياهم فحرمهم التوفيق ولم يصرف إليهم عناية تنشلهم من كيد الشيطان لحكمة علمها الله من حال ما جبلت عليه نفوسهم ، فوقع هذا الاستئناف بتوابعه موقع الاعتراض بين أخبار التنويه بالقرآن بما سبق ، والتنويه به بمن أنزل عليه بقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) [النمل : ٦].

وتأكيد الخبر بحرف التوكيد للاهتمام به لأنه بحيث يلتبس على الناس سبب افتراق الناس في تلقي الهدى بين مبادر ومتقاعس ومصرّ على الاستمرار في الضلال. ومجيء المسند إليه موصولا يومئ إلى أن الصلة علة في المسند.

وتزيين تلك الأعمال لهم : تصوّرهم إياها في نفوسهم زينا ، وإسناد التزيين إلى الله تعالى يرجع إلى أمر التكوين ، أي خلقت نفوسهم وعقولهم قابلة للانفعال وقبول ما تراه

٢٢٠