تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

يكذبوه لعلمه بأن مثل هذه الرسالة لا يتلقاها المرسل إليهم إلا بالتكذيب ، وجعل نفسه خائفا من التكذيب لأنه لما خلعت عليه الرسالة عن الله وقر في صدره الحرص على نجاح رسالته فكان تكذيبه فيها مخوفا منه.

و (يَضِيقُ صَدْرِي) قرأه الجمهور بالرفع فهو عطف على (أَخافُ) أو تكون الواو للحال فتكون حالا مقدرة ، أي والحال يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم.

والضيق : ضد السعة ، وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر. وقد تقدم عند قوله تعالى : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] وقوله : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) في سورة هود [١٢]. والمعنى : أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه ، وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين ، وفي ذلك الإعداد تكلّف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحا للصدر ، ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه : ٢٥].

والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب. واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام ، أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلال وعطفه على (يَضِيقُ صَدْرِي) ينبئ بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال ، في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحسّ كأن صدره قد امتلأ ، والشأن أن ذلك ينقص شيئا بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين ، فإذا كانت في لسانه حبسة وعيّ بقيت الخواطر متلجلجة في صدره. والمعنى : ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني.

وقرأ الجمهور : (يَضِيقُ) ... (وَلا يَنْطَلِقُ) مرفوعين عطفا على (فَأَخافُ) ولذلك حقّقه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب ، ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة ، وإذ قد كان انحباس لسانه يقينا عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا (يَضِيقُ ... وَلا يَنْطَلِقُ) معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب ، ولم يكونا معطوفين على (يُكَذِّبُونِ) المخوف منه المتوقع على أن كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع.

١٢١

وقرأ يعقوب (وَيَضِيقُ) ... و (لا يَنْطَلِقُ) بنصب الفعلين عطفا على (يُكَذِّبُونِ) ، أي يتوقع أن يضيق صدره ولا ينطلق لسانه. قيل كانت بموسى حبسة في لسانه إذا تكلم. وقد تقدم في سورة طه وسيجيء في سورة الزخرف. وليس القصد من هذا الكلام التنصل من الاضطلاع بهذا التكليف العظيم ولكن القصد تمهيد ما فرعه عليه من طلب تشريك أخيه هارون معه لأنه أقدر منه على الاستدلال والخطابة كما قال في الآية الأخرى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي) [القصص : ٣٤]. فقوله هنا (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) مجمل يبيّنه ما في الآية الأخرى فيعلم أن في الكلام هنا إيجازا. وأنه ليس المراد : فأرسل إلى هارون عوضا عني.

وإنما سأل الله الإرسال إلى هارون ولم يسأله أن يكلّم هارون كما كلّمه هو لأن هارون كان بعيدا عن مكان المناجاة. والمعنى : فأرسل ملكا بالوحي إلى هارون أن يكون معي.

وقوله : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) تعريض بسؤال النصر والتأييد وأن يكفيه شرّ عدوّه حتى يؤدي ما عهد الله إليه على أكمل وجه. وهذا كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : «اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض».

والذنب : الجرم ومخالفة الواجب في قوانينهم. وأطلق الذنب على المؤاخذة فإن الذي لهم عليه هو حقّ المطالبة بدم القتيل الذي وكزه موسى فقضى عليه ، وتوعده القبط إن ظفروا به ليقتلوه فخرج من مصر خائفا ، وكان ذلك سبب توجهه إلى بلاد مدين. وسمّاه ذنبا بحسب ما في شرع القبط ، فإنه لم يكن يومئذ شرع إلهي في أحكام قتل النفس. ويصح أن يكون سمّاه ذنبا لأن قتل أحد في غير قصاص ولا دفاع عن نفس المدافع يعتبر جرما في قوانين جماعات البشر من عهد قتل أحد ابني آدم أخاه ، وقد قال في سورة القصص[١٥ ، ١٦] (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). وأيّا ما كان فهو جعله ذنبا لهم عليه.

وقوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) ليس هلعا وفرقا من الموت فإنه لما أصبح في مقام الرسالة ما كان بالذي يبالي أن يموت في سبيل الله ؛ ولكنه خشي العائق من إتمام ما عهد إليه مما فيه له ثواب جزيل ودرجة عليا.

وحذفت ياء المتكلم من (يَقْتُلُونِ) للرعاية على الفاصلة كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في سورة البقرة [٤٠].

١٢٢

وذكر هارون تقدم عند قوله تعالى : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) في سورة البقرة [٢٤٨].

[١٥ ـ ١٧] (قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))

(كَلَّا) حرف إبطال. وتقدم في قوله تعالى : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) في سورة مريم [٧٩]. والإبطال لقوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] ، أي لا يقتلونك. وفي هذا الإبطال استجابة لما تضمنه التعريض بالدعاء حين قال : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤].

وقوله : (فَاذْهَبا بِآياتِنا) تفريع على مفاد كلمة (كَلَّا). والأمر لموسى أن يذهب هو وهارون يقتضي أن موسى مأمور بإبلاغ هارون ذلك فكان موسى رسولا إلى هارون بالنبوءة. ولذلك جاء في التوراة أن موسى أبلغ أخاه هارون ذلك عند ما تلقّاه في حوريب إذ أوحى الله إلى هارون أن يتلقاه ، والباء للمصاحبة ، أي مصاحبين لآياتنا ، وهو وعد بالتأييد بمعجزات تظهر عند الحاجة. ومن الآيات : العصا التي انقلبت حية عند المناجاة ، وكذلك بياض يده كما في آية سورة طه [١٧] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) الآيات.

وجملة : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن أمرهما بالذهاب إلى فرعون يثير في النفس أن يتعامى فرعون عن الآيات ولا يرعوي عند رؤيتها عن إلحاق أذى بهما فأجيب بأن الله معهما ومستمع لكلامهما وما يجيب فرعون به. وهذا كناية عن عدم إهمال تأييدهما وكفّ فرعون عن أذاهما. فضمير (مَعَكُمْ) عائد إلى موسى وهارون وقوم فرعون. والمعية معية علم كالتي في قوله تعالى : (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧].

و (مُسْتَمِعُونَ) أشدّ مبالغة من (سامعون) لأن أصل الاستماع أنه تكلف السماع والتكلف كناية عن الاعتناء ، فأريد هنا علم خاص بما يجري بينها وبين فرعون وملئه وهو العلم الذي توافقه العناية واللطف.

والجمع بين قوله : (بِآياتِنا) وقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) تأكيد للطمأنة ورباطة لجأشهما.

١٢٣

والرسول : فعول بمعنى مفعل ، أي مرسل. والأصل فيه مطابقة موصوفه ، بخلاف فعول بمعنى فاعل فحقه عدم المطابقة سماعا ، وفعول بمعنى اسم المفعول قليل في كلامهم ومنه : بقرة ذلول ، وقولهم : صبوح ، لما يشرب في الصباح ، وغبوق ، لما يشرب في العشي ، والنّشوق ، لما ينشق من دواء ونحوه. ولكن رسول يجوز فيه أن يجرى مجرى المصدر فلا يطابق ما يجري عليه في تأنيث وما عدا الإفراد ، وورد في كلامهم بالوجهين تارة ملازما الإفراد والتذكير كما في هذه الآية ، وورد مطابقا كما في قوله تعالى : (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) في سورة طه [٤٧] ، فذهب الجوهري إلى أنه مشترك بين كونه اسما بمعنى مفعول وبين كونه اسم مصدر ولم يجعله مصدرا إذ لا يعرف فعول مصدرا لغير الثلاثي ، واحتج بقول الأشعر الجعفي :

ألا أبلغ بني عمرو رسولا

بأني عن فتاحتكم غنيّ

(الفتاحة : الحكم). وتبعه الزمخشري في هذه الآية إذ قال : الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعل ثمّ (أي في قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) في سورة طه [٤٧]) بمعنى المرسل ، وجعل هنا بمعنى الرسالة. وقد قال أبو ذؤيب الهذلي :

ألكني إليها وخير الرسو

ل أعلمهم بنواحي الخبر

فهل من ريبة في أن ضمير الرسول في البيت مراد به المرسلون. وتصريح النحاة بأن فعولا الذي بمعنى المفعول يجوز إجراؤه على حالة المتّصف به من التذكير والتأنيث فيجوز أن تقول : ناقة ركوبة وركوب ، يقتضي أن التثنية والجمع فيه مثل التأنيث. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في سورة طه وأحلنا تحقيقه على ما هنا.

ومبادأة خطابهما فرعون بأن وصفا الله بصفة ربّ العالمين مجابهة لفرعون بأنه مربوب وليس بربّ ، وإثبات ربوبية الله تعالى للعالمين. والنفي يقتضي وحدانية الله تعالى لأن العالمين شامل جميع الكائنات فيشمل معبودات القبط كالشمس وغيرها ، فهذه كلمة جامعة لما يجب اعتقاده يومئذ.

وجملة : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) تفسيرية لما تضمنه (رَسُولُ) من الرسالة التي هي في معنى القول ، أي هذا قول ربّ العالمين لك. و (أَرْسِلْ مَعَنا) أطلق ولا تحبسهم ، فالإرسال هنا ليس بمعنى التوجيه. وهذا الكلام يتضمن أن موسى أمر بإخراج بني إسرائيل من بلاد الفراعنة لقصد تحريرهم من استعباد المصريين كما سيأتي عند قوله تعالى :(أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٢٢] ، وقد تقدم في سورة البقرة بيان أسباب سكنى بني إسرائيل بأرض مصر ومواطنهم بها وعملهم لفرعون.

١٢٤

[١٨ ، ١٩] (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩))

طوي من الكلام ذهاب موسى وهارون إلى فرعون واستئذانهما عليه وإبلاغهما ما أمرهما الله أن يقولا لفرعون إيجازا للكلام. ووجّه فرعون خطابه إلى موسى وحده لأنه علم من تفصيل كلام موسى وهارون أن موسى هو الرسول بالأصالة وأن هارون كان عونا له على التبليغ فلم يشتغل بالكلام مع هارون. وأعرض فرعون عن الاعتناء بإبطال دعوة موسى فعدل إلى تذكيره بنعمة الفراعنة أسلافه على موسى وتخويفه من جنايته حسبانا بأن ذلك يقتلع الدعوة من جذمها ويكف موسى عنها ، وقصده من هذا الخطاب إفحام موسى كي يتلعثم من خشية فرعون حيث أوجد له سببا يتذرع به إلى قتله ويكون معذورا فيه حيث كفر نعمة الولاية بالتربية ، واقترف جرم الجناية على الأنفس.

والاستفهام تقريري ، وجعل التقرير على نفي التربية مع أن المقصود الإقرار بوقوع التربية مجاراة لحال موسى في نظر فرعون إذ رأى في هذا الكلام جرأة عليه لا تناسب حال من هو ممنون لأسرته بالتربية لأنها تقتضي المحبة والبر ، فكأنه يرخي له العنان بتلقين أن يجحد أنه مربّى فيهم حتى إذا أقر ولم ينكر كان الإقرار سالما من التعلل بخوف أو ضغط ، فهذا وجه تسليط الاستفهام التقريري على النفي في حين أن المقرر به ثابت. وهذا كما تقول للرجل الذي طال عهدك برؤيته : ألست فلانا ، ومثله كثير. ومنه قول الحجاج في خطبته يوم دير الجماجم يهدد الخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز».

والتقرير مستعمل في لازمه وهو أن يقابل المقرّر عليه بالبر والطاعة لا بالجفاء ، ويجوز أن يجعل الاستفهام إنكاريا عليه لأن لسان حال موسى في نظر فرعون حال من يجحد أنه مربّى فيهم ومن يظن نسيانهم لفعلته فأنكر فرعون عليه ذلك ، وكلا الوجهين لا يخلو من تنزيل موسى منزلة من يجحد ذلك.

والتربية : كفالة الصبي وتدبير شئونه. ومعنى (فِينا) في عائلتنا ، أي عائلة ملك مصر. والوليد : الطفل من وقت ولادته وما يقاربها فإذا نمى لم يسم وليدا وسمي طفلا ، ويعني بذلك التقاطه من نهر النيل. وذلك أن موسى ربّي عند (رعمسيس الثاني) من ملوك العائلة التاسعة عشرة من عائلات فراعنة مصر حسب ترتيب المحققين من المؤرخين. وخرج موسى من مصر بعد أن قتل القبطيّ وعمره أربعون سنة لقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ

١٢٥

أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) أتيناه حكما إلى قوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) [القصص : ١٤ ، ١٥] الآية وبعث وعمره ثمانون سنة حسبما في التوراة (١). وكان فرعون الذي بعث إليه موسى هو (منفتاح الثاني ابن رعمسيس الثاني) وهو الذي خلفه في الملك بعد وفاته أواسط القرن الخامس عشر قبل المسيح ، فلا جرم كان موسى مربّى والده ، فلذلك قال له : ألم نربّك فينا وليدا ، ولعله ربّي مع فرعون هذا كالأخ.

والسنين التي لبثها موسى فيهم هي نحو أربعين سنة.

والفعلة : المرة الواحدة من الفعل ، وأراد بها الحاصل بالمصدر كما اقتضته إضافتها إلى ضمير المخاطب ، وأراد بالفعلة قتله القبطي ، قيل هو خبّاز فرعون. وعبر عنها بالموصول لعلم موسى بها ، وفي ذلك تهويل للفعلة يكنى به عن تذكيره بما يوجب توبيخه.

وفي العدول عن ذكر فعلة معيّنة إلى ذكرها مبهمة مضافة إلى ضميره ثم وصفها بما لا يزيد على معنى الموصوف تهويل مراد به التفظيع وأنها مشتهرة معلومة مع تحقيق إلصاق تبعتها به حتى لا يجد تنصلا منها.

وجملة : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) حال من ضمير (فَعَلْتَ). والمراد به كفر نعمة فرعون من حيث اعتدى على أحد خاصّته وموالي آله ، وكان ذلك انتصارا لرجل من بني إسرائيل الذين يعدّونهم عبيد فرعون وعبيد قومه ، فجعل فرعون انتصار موسى لرجل من عشيرته كفرانا لنعمة فرعون لأنه يرى واجب موسى أن يعدّ نفسه من قوم فرعون فلا ينتصر لإسرائيلي ، وفي هذا إعمال أحكام التبني وإهمال أحكام النسب وهو قلب حقائق وفساد وضع. قال تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤]. وليس المراد الكفر بديانة فرعون لأن موسى لم يكن يوم قتل القبطي متظاهرا بأنه على خلاف دينهم وإن كان في باطنه كذلك لأن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوءة وبعدها.

ويجوز أن تكون جملة : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) عطفا على الجمل التي قبلها التي هي توبيخ ولوم ، فوبخه على تقدم رعيه تربيتهم إياه فيما مضى ، ثم وبّخه على كونه كافرا بدينهم في الحال ، لأن قوله : (مِنَ الْكافِرِينَ) حقيقة في الحال إذ هو اسم فاعل واسم الفاعل حقيقة في الحال.

__________________

(١) انظر الإصحاح السابع من سفر الخروج.

١٢٦

ويجوز أن يكون المعنى : وأنت حينئذ من الكافرين بديننا ، استنادا منه إلى ما بدا من قرائن دلّته على استخفاف موسى بدينهم فيما مضى لأن دينهم يقتضي الإخلاص لفرعون وإهانة من يهينهم فرعون. ولعل هذا هو السبب في عزم فرعون على أن يقتصّ من موسى للقبطي لأن الاعتداء عليه كان مصحوبا باستخفاف بفرعون وقومه.

ويفيد الكلام بحذافره تعجبا من انتصاب موسى منصب المرشد مع ما اقترفه من النقائص في نظر فرعون المنافية لدعوى كونه رسولا من الربّ.

[٢٠ ـ ٢٢] (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

كانت رباطة جأش موسى وتوكّله على ربّه باعثة له على الاعتراف بالفعلة وذكر ما نشأ عنها من خير له ، ليدل على أنه حمد أثرها وإن كان قد اقترفها غير مقدّر ما جرّته إليه من خير ؛ فابتدأ بالإقرار بفعلته ليعلم فرعون أنه لم يجد لكلامه مدخل تأثير في نفس موسى. وأخر موسى الجواب عن قول فرعون (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨] لأنه علم أن القصد منه الإقصار من مواجهته بأن ربّا أعلى من فرعون أرسل موسى إليه. وابتدأ بالجواب عن الأهم من كلام فرعون وهو (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) [الشعراء : ١٩] لأنه علم أنه أدخل في قصد الإفحام ، وليظهر لفرعون أنه لا يوجل من أن يطالبوه بذحل ذلك القتيل ثقة بأن الله ينجيه من عدوانهم.

وكلمة (إِذاً) هنا حرف جواب وجزاء ، فنونه الساكنة ليست تنوينا بل حرفا أصليا للكلمة ، وقدم (فَعَلْتُها) على (إذن) مبادرة بالإقرار ليكون كناية عن عدم خشيته من هذا الإقرار. ومعنى المجازاة هنا ما بيّنه في «الكشاف» : أن قول فرعون (فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) [الشعراء : ١٩] يتضمن معنى جازيت نعمتنا بما فعلت ؛ فقال له موسى : نعم فعلتها مجازيا لك ، تسليما لقوله ، لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازى بمثل ذلك الجزاء. وهذا أظهر ما قيل في تفسير هذه الآية. وقال القزويني في «حاشية الكشاف» قال بعض المحققين : (إِذاً) ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرا فيه الفتح على الكسر لخفته وكثرة الدوران ، ولعله يعني ببعض المحققين رضي الدّين الاسترابادي في «شرح الكافية الحاجبية» فإنه قال في باب الظروف : والحق أن (إذ) إذا حذف المضاف إليه منه وأبدل منه التنوين في غير نحو يومئذ ، جاز فتحه أيضا ، ومنه قوله تعالى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي فعلتها إذ

١٢٧

ربّيتني ، إذ لا معنى للجزاء هاهنا اه. فيكون متعلقا ب (فَعَلْتُها) مقطوعا عن الإضافة لفظا لدلالة العامل على المضاف إليه. والمعنى : فعلتها زمنا فعلتها ، فتذكيري بها بعد زمن طويل لا جدوى له. وهذا الوجه في (إِذاً) في الآية هو مختار ابن عطية (١) والرضي في «شرح الحاجبية» والدماميني في «المزج على المغني» ، وظاهر كلام القزويني في «الكشف على الكشاف» أنه يختاره.

ومعنى الجزاء في قوله : (فَعَلْتُها إِذاً) أن قول فرعون (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) [الشعراء : ١٩] قصد به إفحام موسى وتهديده ، فجعل موسى الاعتراف بالفعلة جزاء لذلك التهديد على طريقة القول بالموجب ، أي لا أتهيّب ما أردت.

وجعل موسى نفسه من الضالين إن كان مراد كلامه الذي حكت الآية معناه إلى العربية المعنى المشهور للضلال في العربية وهو ضلال الفساد فيكون مراده : أن سورة الغضب أغفلته عن مراعاة حرمة النفس وإن لم يكن يومئذ شريعة (فإن حفظ النفوس مما اتفق عليه شرائع البشر وتوارثوه في الفتر ، ويؤيد هذا قوله في الآية الأخرى (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) [القصص : ١٦]) ؛ وإن كان مراده معنى ضلال الطريق ، أي كنت يومئذ على غير معرفة بالحق لعدم وجود شريعة ، وهو معنى الجهالة كقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] فالأمر ظاهر.

وعلى كلا الوجهين فجواب موسى فيه اعتراف بظاهر التقرير وإبطال لما يستتبعه من جعله حجة لتكذيبه برسالته عن الله ، ولذلك قابل قول فرعون (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) [الشعراء : ١٩] بقوله : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) إبطالا لأن يكون يومئذ كافرا ، ولذلك كان هذا أهم بالإبطال.

وبهذا يظهر وجه الاسترسال في الجواب بقوله : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، أي فكان فراري قد عقبه أن الله أنعم عليّ فأصلح حالي وعلمني وهداني وأرسلني. فليس ذلك من موسى مجرد إطناب بل لأنه يفيد معنى أن الإنسان ابن يومه لا ابن أمسه ، والأحوال بأواخرها فلا عجب فيما قصدت فإن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

وقوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) أي فرارا مبتدئا منكم ، لأنهم سبب فراره ، وهو بتقدير

__________________

(١) إذ قال : «وقوله : إِذاً صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ» يريد أن (إذن) تأكيد دالة على الزمان وقد استفيد الزمان من قوله : فَعَلْتُها أي يومئذ.

١٢٨

مضاف ، أي من خوفكم. والضمير لفرعون وقومه الذين ائتمروا على قتل موسى ، كما قال تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص : ٢٠]. والحكم : الحكمة والعلم ، وأراد بها النبوءة وهي الدرجة الأولى حين كلمه ربّه. ثم قال : (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي بعد أن أظهر له المعجزة وقال له : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] أرسله بقوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤].

ثم عاد إلى أول الكلام فكرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله وأبى أن يسميه نعمة ، فقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة.

ثم إن جعلت جملة (أَنْ عَبَّدْتَ) بيانا لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦] إذ قوله (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) بيان لقوله : (ذلِكَ الْأَمْرَ).

ويجوز أن يكون (أَنْ عَبَّدْتَ) في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير : لأن عبّدت بني إسرائيل.

وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار. ومعنى (عَبَّدْتَ) ذلّلت ، يقال : عبّد كما يقال : أعبد بهمزة التعدية. أنشد أئمة اللغة :

حتّام يعبدني قومي وقد كثرت

فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان

وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أمّ موسى بطفلها في اليمّ حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسمات وجهه ولون جلده ، ولذلك قالت امرأة فرعون (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) [القصص : ٩]. وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحسانا ولا منة.

[٢٣ ، ٢٤] (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤))

١٢٩

لما لم يرج تهويله على موسى عليه‌السلام وعلم أنه غير مقلع عن دعوته ـ تنفيذا لما أمره الله ـ ثنّى عنان جداله إلى تلك الدعوة فاستفهم عن حقيقة ربّ العالمين الذي ذكر موسى وهارون أنهما مرسلان منه إذ قالا : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] وإظهار اسم فرعون مع أن طريقة حكاية المقاولات والمحاورة يكتفى فيها بضمير القائلين بطريقة قال قال ، أو قال فقال ، فعدل عن تلك الطريقة إلى إظهار اسمه لإيضاح صاحب هذه المقالة لبعد ما بين قوله هذا وقوله الآخر.

والواو عاطفة هذا الاستفهام على الاستفهام الأول الذي وقع كلام موسى فاصلا بينه وبين ما عطف عليه.

وحرف ما الغالب فيه أن يكون للسؤال عن حقيقة الاسم بعده التي تميزه عن غيره ، ولذلك يسأل بها عن تعيين القبيلة ، ففي حديث الوفود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «ما أنتم» ، ففرعون سأل موسى عليه‌السلام تبيين حقيقة هذا الذي وصفه بأنه (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] ، فقد كانت عقائد القبط تثبت آلهة متفرقة قد اقتسمت التصرف في عناصر هذا العالم وأجناس الموجودات ، وتلك العناصر هي العالمون ولا يدينون بإله واحد ، فإنّ تعدد الآلهة المتصرفة ينافي وحدانية التصرف ، فلما سمع فرعون من كلام موسى إثبات ربّ العالمين قرع سمعه بما لم يألفه من قبل لاقتضائه إثبات إله واحد وانتفاء الإلهية عن الآلهة المعروفة عندهم ، على أنهم كانوا يزعمون أن فرعون هو المجتبى من الآلهة ليكون ملك مصر. فهو مظهر الآلهة الأخرى في تدبير المملكة (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١]. وبهذا الانتساب إلى الآلهة وتمثيله إرادتهم في الأرض كان فرعون يدعى إلها.

وقد كانت الأمم يومئذ في غفلة عما عدا أنفسها فكانوا لا يفكرون في مختلف أحوال الأمم وعوائد البشر. ولا تشعر كل أمة إلا بنفسها وخصائصها من آلهتها وملوكها فكان الملك لا يشيع في أمته غير قوته وانتصاره على الثائرين ، ويخيل للناس أن العالم منحصر في تلك الرقعة من الأرض. فلا تجد في آثار القبط صورا للأمم غير صور القبائل الذين يغزوهم فرعون ويأتي بأسراهم في الأغلال والسلاسل خاضعين عابدين حتى يخيّل لقومه أنه لما غلب أولئك فقد كان قهار البشر كلهم ، ويخفي أخبار انكساره إلا إذا لحقه غلب عظيم من أمة كبرى بحيث لا يستطيع إخفاءه ، فحينئذ ينتقل أسلوب التاريخ عندهم وتنتحل الدولة الجديدة أساليب الدولة الماضية وتنسى حوادث الماضي وتغلب على

١٣٠

مخيلاتهم الحالة الحاضرة ، وللدعاة والمروجين أثر كبير في ذلك. وبهذا يتضح باعث فرعون على هذا السؤال الذي ألقاه على موسى ، وهو استفهام مشوب بتعجب وإنكار على طريق الكناية.

ومن دقائق هذه المجادلة أن الاستفسار مقدّم في المناظرات ، ولذلك ابتدأ فرعون بالسؤال عن حقيقة الذي أرسل موسى عليه‌السلام.

وكان جواب موسى عليه‌السلام بيانا لحقيقة ربّ العالمين بما يصيّر وصفه بربّ العالمين نصا لا يحتمل غير ما أراده من ظاهره ، فأتى بشرح اللفظ بما هو تفصيل لمعناه ، إذ قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) ، فبذكر السموات والأرض وبعموم ما بينهما حصل بيان حقيقة المسئول عنه ب (ما) ومرجع هذا البيان إلى أنه تعريف لحقيقة الربّ بخصائصها لأن ذلك غاية ما تصل إليه العقول في معرفة الله أن يعرف بآثار خلقه ، فهو تعريف رسمي في الاصطلاح المنطقي.

وانتظم السؤال والجواب على طريقة السؤال بكلمة (ما) عن الجنس. وهو جار على الوجه الأول من وجوه ثلاثة في تقرير السؤال والجواب من كلام «الكشاف» ، وهو أيضا مختار السكاكي في قانون الطلب من كتاب «المفتاح» ، وطابق الجواب السؤال تمام المطابقة.

وأشار صاحب «الكشاف» وصرّح صاحب «المفتاح» بأن جواب موسى بما يبيّن حقيقة (رَبُّ الْعالَمِينَ) تضمن تنبيها على أن الاستدلال على ثبات الخالق الواحد يحصل بالنظر في السماوات والأرض وما بينهما نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقة الربّ الواحد الممتازة عن حقائق المخلوقات.

ولهذا أتبع بيانه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، أي إن كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين. وسمي العلم بذلك إيقانا لأن شأن اليقين بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره.

وضمير الجمع في (كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) مراد به جميع حاضري مجلس فرعون ، أراد موسى تشريكهم في الدعوة تقصيا لكمال الدعوة وأن مؤاخذة القائل لا تقع إلا بعد اتضاح مراده من مقاله إذ لا يؤاخذ بالمجملات. ومن هذا قال سحنون فيمن صدر منه قول أو فعل يستلزم كفرا : إنه يحضر ويوقف على لازم قوله فإن فهمه والتزم ما يلزمه حينئذ يعتبر

١٣١

مرتدّا ويستتاب ثلاثة أيام بعد ذلك.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥))

أعرض فرعون عن خطاب موسى واستثار نفوس الملأ من حوله وهم أهل مجلسه فاستفهمهم استفهام تعجب من حالهم كيف لم يستمعوا ما قاله موسى فنزلهم منزلة من لم يستمعه تهييجا لنفوسهم كيلا تتمكن منهم حجة موسى ، فسلط الاستفهام على نفي استماعهم كما تقدم. وهذا التعجب من حال استماعهم وسكوتهم يقتضي التعجب من كلام موسى بطريق فحوى الخطاب فهو كناية عن تعجب آخر. ومرجع التعجبين أن إثبات ربّ واحد لجميع المخلوقات منكر عند فرعون لأنه كان مشركا فيرى توحيد الإله لا يصح السكوت عليه ، ولكون خطاب فرعون لمن حوله يتضمن جوابا عن كلام موسى حكي كلام فرعون بالصيغة التي اعتيدت في القرآن حكاية المقاولات بها ، كما تقدم غير مرة ، كأنه يجيب موسى عن كلامه.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦))

كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات. ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله ، وجّه موسى خطابه إلى جميعهم ، وإذ رأى موسى أنهم جميعا لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالة على وجود الله تعالى ووحدانيته إذ في كل شيء مما في السموات والأرض وما بينهما آية تدل على أنه واحد ، فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم ؛ لأن أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالا على خالقهم ، فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم ، والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة ، فإن كثيرا من العقلاء توهموا السموات قديمة واجبة الوجود ، فأما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت ، وكفى به دليلا على انتفاء القدم الدالّ على انتفاء الإلهية.

وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأوّلين بعض من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء الملقّبين عندهم بأبناء الشّمس ، والشمس معدودة في الآلهة ويمثلها الصنم «آمون رع».

١٣٢

والربّ : الخالق والسيد بموجب الخالقية.

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧))

احتدّ فرعون لما ذكر موسى ما يشمل آباءه المقدّسين بذكر يخرجهم من صفة الإلهية زاعما أن هذا يخالف العقل بالضرورة فلا يصدر إلا من مختل الإدراك ، وكأنه رأى أن الاستدلال بخالقيتهم وخالقية آبائهم عبث لأن فرعون وملأه يرون تكوين الآدمي بالتولد وهم لا يحسبون التكوين الدال على الخالقية إلا التكوين بالطفرة دون التدريج بناء على أن الأشياء المعتادة لا تتفطن إلى دقائقها العقول الساذجة ، فهم يحسبون تكوين الفرخ من البيضة أقل من تكوين الرعد ، وأن تكوين دودة القز أدل على الخالق من تكوين الآدمي مع أنه ليس كذلك ؛ فلذلك زعم أن ادعاء دلالة تكوين الآباء والأبناء ودلالة فناء الآباء على ثبوت الإله الواحد ربّ الآباء والأبناء ضربا من الجنون إذ هو تكوين لم يشهدوا دقائقه ، والمعروف المألوف ولادة الأجنة وموت الأموات.

وأكد كلامه بحرفي التأكيد لأن حالة موسى لا تؤذن بجنونه فكان وصفه بالمجنون معرّضا للشك فلذلك أكد فرعون أنه مجنون يعني أنه علم من حال موسى ما عسى أن لا يعلمه السامعون.

وقصد بإطلاق وصف الرسول على موسى التهكم به بقرينة رميه بالجنون المحقق عنده.

وأضاف الرسول إلى المخاطبين ربئا بنفسه عن أن يكون مقصودا بالخطاب ، وأكد التهكّم والربء بوصفه بالموصول (الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) فإن مضمون الموصول وصلته هو مضمون (رَسُولَكُمُ) فكان ذكره كالتأكيد ، وتنصيصا على المقصود لزيادة تهييج السامعين كيلا يتأثروا أو يتأثر بعضهم بصدق موسى لأن فرعون يتهيأ لإعداد العدة لمقاومة موسى لعلمه بأن له قوما في مصر ربّما يستنصر بهم.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨))

لما رأى موسى سوء فهمهم وعدم اقتناعهم بالاستدلال على الوحدانية بالتكوين المعتاد إذ التبس عليهم الأمر المعتاد بالأمر الذي لا صانع له انتقل موسى إلى ما لا قبل لهم بجحده ولا التباسه وهو التصرف العجيب المشاهد كل يوم مرتين ، كما انتقل إبراهيم

١٣٣

عليه‌السلام من الاستدلال على وجود الله بالإحياء والإماتة لما تموّه على النمرود حقيقة معنى الإحياء والإماتة فانتقل إبراهيم إلى الاستدلال بطلوع الشمس فيما حكى الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] فكانت حجة موسى حجة خليلية.

والمشرق والمغرب يجوز أن يراد بهما مكان شروق الشمس ومكان غروبها في الأفق ، فيكون تحريكا للاستدلال بما يقع في ذلك المكان من الأفق من شروق الشمس وغروبها ، فيكون المراد بربّ المشرق والمغرب خالق ذلك النظام اليومي على طريقة الإيجاز.

ويجوز أن يراد بالمشرق والمغرب المصدر الميمي ، أي ربّ الشروق والغروب ، فيكون المراد بالربّ الخالق ، أي مكوّن الشروق والغروب ويكون المراد بما بينهما على هاذين الوجهين ما بين الحالين وضمير (بينهما) للمشرق والمغرب فكأنه قيل وما بين المشرق والمغرب وما بين المغرب والمشرق ، أي ما يقع في خلال ذلك من الأحوال ، فأما ما بين الشروق والغروب فالضحى والزوال والعصر والاصفرار ، وأما ما بين الغروب والشروق فالشفق والفجر والإسفار كلها دلائل على تكوين ذلك النظام العجيب المتقن.

وقيل المراد برب المشرق والمغرب مالك الجهتين. وهذا التفسير يفيت مناسبة الكلام لمقام الاستدلال بعظيم ولا يلاقي التذييل الواقع بعده في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

وتانك الجهتان هما منتهى الأرض المعروفة للناس يومئذ فكأنه قيل : ربّ طرفي الأرض ، وهو كناية عن كون جميع الأرض ملكا لله. وهذا استدلال عرفي إذ لم يكونوا يعرفون يومئذ ملكا يملك ما بين المشرق والمغرب ، وما كان ملك فرعون المؤلّه عندهم إلا لبلاد مصر والسودان.

والتذييل بجملة : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) تنبيه لنظرهم العقلي ليعاودوا النظر فيدركوا وجه الاستدلال ، أي إن كنتم تعملون عقولكم ، ومن اللطائف جعل ذلك مقابل قول فرعون : إن رسولكم لمجنون ، لأن الجنون يقابله العقل فكان موسى يقول لهم قولا لينا ابتداء ، فلما رأى منهم المكابرة ووصفوه بالجنون خاشنهم في القول وعارض قول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] فقال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن كنتم أنتم

١٣٤

العقلاء ، أي فلا تكونوا أنتم المجانين ، وهذا كقول أبي تمام للذين قالا له : «لم تقول ما لا يفهم» قال : «لم لا تفهمان ما يقال».

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩))

لمّا لم يجد فرعون لحجاجه نجاحا ورأى شدة شكيمة موسى في الحق عدل عن الحجاج إلى التخويف ليقطع دعوة موسى من أصلها. وهذا شأن من قهرته الحجة ، وفيه كبرياء أن ينصرف عن الجدل إلى التهديد.

واللام في قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً) موطئة للقسم. والمعنى أن فرعون أكد وعيده بما يساوي اليمين المجملة التي تؤذن بها اللام الموطئة في اللغة العربية كأن يكون فرعون قال : عليّ يمين ، أو بالأيمان ، أو أقسم. وفعل (اتَّخَذْتَ) للاستمرار ، أي أصررت على أن لك إلها أرسلك وأن تبقى جاحدا للإله فرعون ، وكان فرعون معدودا إلها للأمة لأنه يمثل الآلهة وهو القائم بإبلاغ مرادها في الأمة ، فهو الواسطة بينها وبين الأمة.

ومعنى : (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لأسجننك ، فسلك فيه طريقة الإطناب لأنه أنسب بمقام التهديد لأنه يفيد معنى لأجعلنك واحدا ممن عرفت أنهم في سجني ، فالمقصود تذكير موسى بهول السجن. وقد تقدم أن مثل هذا التركيب يفيد تمكن الخبر من المخبر عنه عند قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧]. وقد كان السجن عندهم قطعا للمسجون عن التصرف بلا نهاية ، فكان لا يدري متى يخرج منه قال تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [يوسف : ٤٢].

[٣٠ ـ ٣٣] (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))

لما رأى موسى من مكابرة فرعون عن الاعتراف بدلالة النظر ما لا مطمع معه إلى الاسترسال في الاستدلال لأنه متعام عن الحق عدل موسى إلى إظهار آية من خوارق العادة دلالة على صدقه ، وعرض عليه ذلك قبل وقوعه ليسد عليه منافذ ادعاء عدم الرضى بها.

واستفهمه استفهاما مشوبا بإنكار واستغراب على تقدير عدم اجتزاء فرعون بالشيء

١٣٥

المبين ، وأنه ساجنه لا محالة إن لم يعترف بإلهية فرعون ، قطعا لمعذرته من قبل الوقوع. وهذا التقدير دلت عليه (لَوْ) الوصلية التي هي لفرض حالة خاصة. فالواو في قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ) واو الحال ، والمستفهم عنه بالهمزة محذوف دل عليه أن الكلام جواب قول فرعون (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩] والتقدير : أتجعلني من المسجونين والحال لو جئتك بشيء مبين ، إذ القصد الاستفهام عن الحالة التي تضمنها شرط (لَوْ) بأنها أولى الحالات بأن لا يثبت معها الغرض المستفهم عنه على فرض وقوعها وهو غرض الاستمرار على التكذيب ، وهو استفهام حقيقي.

وليست الواو مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن لحرف الاستفهام الصدارة بل هي لعطف الاستفهام.

والعامل في الحال وصاحب الحال مقدّران دل عليهما قوله : (لَأَجْعَلَنَّكَ) [الشعراء: ٢٩] ، أي أتجعلني من المسجونين.

ووصف «شيء» ب (مُبِينٍ) اسم فاعل من أبان المتعدي ، أي مظهر أني رسول من الله.

وأعرض فرعون عن التصريح بالتزام الاعتراف بما سيجيء به موسى فجاء بكلام محتمل إذ قال (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وفي قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) إيماء إلى أن في كلام فرعون ما يقتضي أن فرض صدق موسى فرض ضعيف كما هو الغالب في شرط (إِنْ) مع إيهام أنه جاء بشيء مبين يعتبر صادقا فيما دعا إليه ، فبقي تحقيق أن ما سيجيء به موسى مبين أو غير مبين. وهذا قد استبقاه كلام فرعون إلى ما بعد الوقوع والنزول ليتأتى إنكاره إن احتاج إليه.

والثعبان : الحية الضخمة الطويلة.

ووصف (ثُعْبانٌ) بأنه (مُبِينٌ) الذي هو اسم فاعل من أبان القاصر الذي بمعنى بان بمعنى ظهر ، ف (مُبِينٌ) دال على شدة الظهور من أجل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا لبس فيه ولا تخييل.

وبالاختلاف بين (مُبِينٌ) الأول و (مُبِينٌ) الثاني اختلفت الفاصلتان معنى فكانتا من قبيل الجناس ولم تكونا مما يسمى مثله إيطاء.

والإلقاء : الرمي من اليد إلى الأرض ، وتقدم في سورة الأعراف.

١٣٦

والنزع : سلّ شيء مما يحيط به ، ومنه نزع اللباس ، ونزع الدلو من البئر. ونزع اليد : إخراجها من القميص ، فلذلك استغنى عن ذكر المنزوع منه لظهوره ، أي أخرج يده من جيب قميصه.

ودلت (إذا) المفاجئة على سرعة انقلاب لون يده بياضا.

واللام في قوله : (لِلنَّاظِرِينَ). يجوز أن تكون اللام التي يسميها ابن مالك وابن هشام لام التعدية ، أي اتصال متعلقها بمجرورها. والأظهر أن تكون اللام بمعنى (عند) ويكون الجار والمجرور حالا. وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة الأعراف [١٠٨] (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

ومعنى : (لِلنَّاظِرِينَ) أن بياضها مما يقصده الناظرون لأعجوبته ، وكان لون جلد موسى السمرة. والتعريف في (لِلنَّاظِرِينَ) للاستغراق العرفي ، أي لجميع الناظرين في ذلك المجلس. وهذا يفيد أن بياضها كان واضحا بيّنا مخالفا لون جلده بصورة بعيدة عن لون البرص.

[٣٤ ، ٣٥] (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥))

تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأعراف ، سوى أن في هذه الآية زيادة (بِسِحْرِهِ) وهو واضح ، وفي هذه الآية أن هذا قول فرعون للملإ ، وفي آية الأعراف [١٠٩] (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) والجمع بينهما أن فرعون قاله لمن حوله فأعادوه بلفظه للموافقة التامة بحيث لم يكتفوا بقول : نعم ، بل أعادوا كلام فرعون ليكون قولهم على تمام قوله.

وانتصب (حَوْلَهُ) على الظرفية. والظرف هنا مستقر لأنه متعلق بكون محذوف هو حال من الملأ. وتقدم وجه التعبير عن إشارتهم عليه بقوله : (تَأْمُرُونَ) في سورة الأعراف [١١٠].

[٣٦ ، ٣٧] (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧))

تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف سوى أن في هذه الآية (وَابْعَثْ) بدل (وَأَرْسِلْ) [الأعراف : ١١١] وهما مترادفان ، وفي هذه الآية (سَحَّارٍ) وهنالك (ساحِرٍ)

١٣٧

[الأعراف : ١١٢] والسحار مرادف للساحر في الاستعمال لأن صيغة فعّال هنا للنسب دلالة على الصناعة مثل النجّار والقصّار ولذلك أتبع هنا وهناك بوصف (عَلِيمٍ) ، أي قوي العلم بالسحر.

[٣٨ ـ ٤٠] (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠))

دلت الفاء على أنّ جمع السحرة وقع في أسرع وقت عقب بعث الحاشرين حرصا من الحاشرين والمحشورين على تنفيذ أمر فرعون.

وبني «جمع ـ وقيل» للنائب لعدم تعين جامعين وقائلين ، أي جمع من يجمع ، وقال القائلون.

واللام في (لِمِيقاتِ) بمعنى (عند) كاللام في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨]. واليوم : هو يوم الزينة وهو يوم وفاء النيل. والوقت هو الضحى كما في سورة طه.

والميقات : الوقت ، وأصله اسم آلة التوقيت. سمي به الوقت المعين تشبيها له بالآلة.

والتعريف في (لِلنَّاسِ) للاستغراق العرفي ، وهم ناس بلدة فرعون (منفيس) أو (طيبة).

و (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) استحثاث للناس على الاجتماع ، فالاستفهام مستعمل في طلب الإسراع بالاجتماع بحيث نزلوا منزلة من يسأل سؤال تحقيق عن عزمه على الاجتماع كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) في سورة العقود [٩١] ، وقول تأبط شرا :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق (١)

يريد ابعث إلينا دينارا أو عبد رب سريعا لأجل حاجتنا بأحدهما. ورجوا اتّباع السحرة ، أي اتباع ما يؤيده سحر السحرة وهو إبطال دين ما جاء به موسى ، فكان قولهم

__________________

(١) دينار : اسم رجل وليس المراد المسكوك من الذهب ، وإلا لقال : بدينار رجل أيضا ، وعبد رب بالنصب عطف على محل (دينار) لأنه مفعول (باعث) أضيف إليه عامله ، وأخا عون منادى.

١٣٨

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) كناية عن رجاء تأييدهم في إنكار رسالة موسى فلا يتبعونه. وليس المقصود أن يصير السحرة أئمة لهم لأن فرعون هو المتّبع. وقد جيء في شرط (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) بحرف (إِنْ) لأنها أصل أدوات الشرط ولم يكن لهم شك في أن السحرة غالبون. وهذا شأن المغرورين بهواهم ، العمي عن النظر في تقلبات الأحوال أنهم لا يفرضون من الاحتمالات إلا ما يوافق هواهم ولا يأخذون العدة لاحتمال نقيضه.

[٤١ ، ٤٢] (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))

تقدم نظيرها في سورة الأعراف بقوله : (وَجاءَ السَّحَرَةُ) [الأعراف : ١١٣] وبطرح همزة الاستفهام إذ قال هناك (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) [الأعراف : ١١٣] ، وهو تفنن في حكاية مقالتهم عند إعادتها لئلا تعاد كما هي ، وبدون كلمة (إِذاً) ، فحكى هنا ما في كلام فرعون من دلالة على جزاء مضمون قولهم : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) [الأعراف : ١١٣] زيادة على ما اقتضاه حرف (نعم) من تقرير استفهامهم عن الأجر. فتقدير الكلام : إن كنتم غالبين إذا إنكم لمن المقربين. وهذا وقع الاستغناء عنه في سورة الأعراف فهو زيادة في حكاية القصة هنا. وكذلك شأن القرآن في قصصه أن لا يخلو المعاد منها عن فائدة غير مذكورة في موضع آخر منه تجديدا لنشاط السامع كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير. وسؤالهم عن استحقاق الأجر إدلال بخبرتهم وبالحاجة إليهم إذ علموا أن فرعون شديد الحرص على أن يكونوا غالبين وخافوا أن يسخّرهم فرعون بدون أجر فشرطوا أجرهم من قبل الشروع في العمل ليقيدوه بوعده.

[٤٣ ، ٤٤] (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤))

حكي كلام موسى في ذلك الجمع بإعادة فعل (قالَ) مفصولا بطريقة حكاية المحاورات لأنه كان المقصود بالمحاورة إذ هم حضروا لأجله.

ووقع في سورة الأعراف [١١٥] (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا) ، واختصر هنا تخييرهم موسى في الابتداء بالأعمال ، وقد تقدم بيانه هناك ، فقول موسى لهم (أَلْقُوا) المحكي هنا هو أمر لمجرد كونهم المبتدئين بالإلقاء لتعقبه إبطال سحرهم بما سيلقيه موسى ، كما يقول صاحب الجدل في علم الكلام

١٣٩

للملحد : قرر شبهتك ، وهو يريد أن يدحضها له. وهذا عضد الدين في كتاب «المواقف» يذكر شبه أهل الزيغ والضلال قبل ذكر الأدلة الناقضة لها. وتقدم الإلقاء آنفا. وذكر هنا مفعول (أَلْقُوا) واختصر في سورة الأعراف.

وفي كلام موسى عليه‌السلام استخفاف بما سيلقونه لأنه عبر عنه بصيغة العموم ، أي ما تستطيعون إلقاءه. وتقدم الكلام على الحبال والعصيّ في السحر عند الكلام على مثل هذه القصة في سورة طه.

وقرنت حكاية قول السحرة بالواو خلافا للحكايات التي سبقتها لأن هذا قول لم يقصد به المحاورة وإنما هو قول ابتدءوا به عند الشروع في السحر استعانة وتيمّنا بعزة فرعون. فالباء في قولهم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) كالباء في «بسم الله» أرادوا التيمن بقدرة فرعون ، قاله ابن عطية.

وقيل الباء للقسم : أقسموا بعزة فرعون على أنهم يغلبون ثقة منهم باعتقاد ضلالهم أن إرادة فرعون لا يغلبها أحد لأنها إرادة آلهتهم. وهذا الذي نحاه المفسرون ، والوجه الأول أحسن لأن الجملتين على مقتضاه تفيدان فائدتين.

والعزّة : القدرة ، وتقدم في قوله (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) في سورة البقرة [٢٠٦].

وجملة : (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) استئناف إنشاء عن قولهم : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) : كأن السامع وهو موسى أو غيره يقول في نفسه : ما ذا يؤثر قولهم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ)؟ فيقولون : (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) ، وأرادوا بذلك إلقاء الخوف في نفس موسى ليكون ما سيلقيه في نوبته عن خور نفس لأنهم يعلمون أن العزيمة من أكبر أسباب نجاح السحر وتأثيره على الناظرين. وقد أفادت جملة : (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) بما فيها من المؤكدات مفاد القسم.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥))

تقدم قريب منه في سورة الأعراف وفي سورة طه.

[٤٦ ـ ٤٩] (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩))

١٤٠