تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذكر ضلالهم في إنكار البعث على تأويل الجمهور قوله : (إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) [الفرقان : ١٠] كما تقدم.

ويجوز أن يكون إضراب إبطال لما تضمنه قوله : (إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) على تأويل ابن عطية من الوعد بإيتائه ذلك في الآخرة ، أي بل هم لا يقنعون بأن حظ الرسول عند ربه ليس في متاع الدنيا الفاني الحقير ولكنه في خيرات الآخرة الخالدة غير المتناهية ، أي أن هذا رد عليهم ومقنع لهم لو كانوا يصدّقون بالساعة ولكنهم كذبوا بها فهم متمادون على ضلالهم لا تقنعهم الحجج.

والساعة : اسم غلب على عالم الخلود ، تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث. وإنما قصر تكذيبهم على الساعة لأنهم كذبوا بالبعث فهم بما وراءه أحرى تكذيبا.

وجملة : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) معترضة بالوعيد لهم ، وهو لعمومه يشمل المشركين المتحدث عنهم ، فهو تذييل. ومن غرضه مقابلة ما أعد الله للمؤمنين في العاقبة بما أعده للمشركين.

والسعير : الالتهاب ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، أي مسعور ، أي زيد فيها الوقود ، وهو معامل معاملة المذكر لأنه من أحوال اللهب ، وتقدم في قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) في سورة الإسراء [٩٧]. وقد يطلق علما بالغلبة على جهنم وذلك على حذف مضاف ، أي ذات سعير.

[١٢ ـ ١٤] (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم ، وأجري على السعير ضمير (رَأَتْهُمْ) بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم.

وإسناد الرؤية إلى النار استعارة والمعنى : إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظا وزفيرا من مكان بعيد ، ويجوز أن يكون معنى : (رَأَتْهُمْ) رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازا عقليا.

٢١

والتغيظ : شدة الغيظ. والغيظ : الغضب الشديد ، وتقدم عند قوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) في سورة آل عمران [١١٩]. فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازا في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون.

والمراد به هنا صوت المتغيظ ، بقرينة تعلقه بفعل : (سَمِعُوا) فهو تشبيه بليغ.

والزفير : امتداد النفس من شدة الغيظ وضيق الصدر ، أي صوتا كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضا. ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكا للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة ، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا.

وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء» رواه في «الموطأ» : زاد في رواية مسلم : «فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها».

وجعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في الكناية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا.

ووصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) ، وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله : (مَكاناً ضَيِّقاً) وقوله : (مُقَرَّنِينَ) تفننا في أسلوب الكلام.

والإلقاء : الرمي. وهو هنا كناية عن الإهانة.

وانتصب (مَكاناً) على نزع الخافض ، أي في مكان ضيّق.

وقرأ الجمهور (ضَيِّقاً) بتشديد الياء ، وقرأه ابن كثير (ضَيِّقاً) بسكون الياء وكلاهما للمبالغة في الوصف مثل : ميّت وميت ، لأن الضيّق بالتشديد صيغة تمكّن الوصف من الموصوف ، والضيق بالسكون وصف بالمصدر.

٢٢

و (مُقَرَّنِينَ) حال من ضمير (أُلْقُوا) أي مقرّنا بعضهم في بعض كحال الأسرى والمساجين أن يقرن عدد منهم في وثاق واحد ، كما قال تعالى : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص : ٣٨]. والمقرّن : المقرون ، صيغت له مادة التفعيل للإشارة إلى شدة القرن.

والدعاء : النداء بأعلى الصوت ، والثبور : الهلاك ، أي نادوا : يا ثبورنا ، أو وا ثبوراه بصيغة الندبة ، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني ، أي تمنوا حلول الهلاك فنادوه كما ينادى من يطلب حضوره ، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده ، أي تمنوا الهلاك للاستراحة من فظيع العذاب.

وجملة : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) إلى آخرها مقولة لقول محذوف ، أي يقال لهم ، ووصف الثبور بالكثير إما لكثرة ندائه بالتكرير وهو كناية عن عدم حصول الثبور لأن انتهاء النداء يكون بحضور المنادى ، أو هو يأس يقتضي تكرير التمني أو التحسر.

[١٥ ، ١٦] (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

الأمر بالقول يقتضي مخاطبا مقولا له ذلك : فيجوز أن يقصد : قل لهم ، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق : «أذلك خير أم الجنة»؟ فالجمل متصلة السياق ، والاستفهام حينئذ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيرا. ويجوز أن يقصد : قل للمؤمنين ، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين ، والاستفهام حينئذ مستعمل في التلميح والتلطف. وهذا كقوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) في سورة الصافات [٦٢].

والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم.

و (خَيْرٌ) اسم تفضيل ، وأصله (أخير) بوزن اسم التفضيل فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين. وعلى المحمل الثاني مستعمل للتمليح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم.

ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر ، وعلى المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب ، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده (الْمُتَّقُونَ) من العموم للمخاطبين ومن

٢٣

يجيء بعدهم.

وجملة : (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) تذييل لجملة : (جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير (جَزاءً وَمَصِيراً) مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٣١] وقوله : (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) في سورة الكهف [٣١ ـ ٢٩].

وجملة : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ، حال من (جَنَّةُ الْخُلْدِ) أو صفة ثانية. وجملة : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) حال ثانية والرابط محذوف إذ التقدير : وعدا لهم.

والضمير المستتر في : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً) عائد إما إلى الوعد المفهوم من قوله : (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ، أي كان الوعد وعدا مسئولا وأخبر عن الوعد ب (وَعْداً) وهو عينه ليبنى عليه (مَسْؤُلاً).

ويجوز أن يعود الضمير إلى (ما يَشاؤُنَ) والإخبار عنه ب (وَعْداً) من الإخبار بالمصدر والمراد المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.

ويتعلق : (عَلى رَبِّكَ) ب (وَعْداً) لتضمين (وَعْداً) معنى (حقّا) لإفادة أنه (وَعْداً) لا يخلف كقوله تعالى (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤].

والمسئول : الذي يسأله مستحقه ويطالب به ، أي حقّا للمتقين أن يترقبوا حصوله كأنه أجر لهم عن عمل. وهذا مسوق مساق المبالغة في تحقيق الوعد والكرم كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول : ما أتيت إلا واجبا ، إذ لا يتبادر هنا غير هذا المعنى ، إذ لا معنى للوجوب على الله تعالى سوى أنه تفضل وتعهد به ، ولا يختلف في هذا أهل الملة وإنما اختلفوا في جواز إخلاف الوعد.

[١٧ ، ١٨] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨))

عطف ويوم نحشرهم إما على جملة : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ) [الفرقان : ١٥] إن كان المراد : قل للمشركين ، أو عطف على جملة : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) [الفرقان : ١١] على جواز أن المراد : قل للمؤمنين.

٢٤

وعلى كلا الوجهين فانتصاب يوم نحشرهم على المفعولية لفعل محذوف معلوم في سياق أمثاله ، تقديره : اذكر ذلك اليوم لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بيّن لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم. وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرءوها من عبّادها وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن ، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم‌السلام والجن ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات.

وعموم الموصول من قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت (ما) الموصولة لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم. على أن التغليب هنا لغير العقلاء. والخطاب في (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ) للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب.

فجملة : (قالُوا سُبْحانَكَ) جواب عن سؤال الله إياهم : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) ، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به يوم نحشرهم.

وقرأ الجمهور : نحشرهم بالنون ويقول بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة. وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب (يَحْشُرُهُمْ) و (فَيَقُولُ) لهما بالياء. وقرأ ابن عامر نحشرهم ونقول كليهما بالنون.

والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد. والمعنى : أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. ففي الكلام حذف دل عليه المذكور.

وأخبر بفعل : (أَضْلَلْتُمْ) عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل (ضَلُّوا) عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما على الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة. فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو : (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ).

والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم‌السلام.

وقولهم : (سُبْحانَكَ) كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع. كقول الأعشى :

قد قلت لما جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

وتقدم في سورة النور [١٦] : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ). واعلم أن ظاهر ضمير

٢٥

نحشرهم أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) إلى قوله : (مَسْحُوراً) [الفرقان : ٧ ، ٨] ؛ لكن ما يقتضيه وصفهم ب (الظَّالِمُونَ) والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله : (لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ) [الفرقان : ١١] من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة ، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير نحشرهم عائدا إلى (لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ) فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين.

ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها.

والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد.

وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي.

وإسناد القول إلى ما يعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقا يسمعه عبدتها ، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر.

وإعادة فعل (ضَلُّوا) في قوله : (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوّي في نسبة الضلال إليهم. والمعنى : أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. وحق الفعل أن يعدى ب (عن) ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى (أخطئوا) ، أو على نزع الخافض.

و (سُبْحانَكَ) تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدّعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية.

ومعنى : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن (انبغى) مطاوع (بغاه) إذا طلبه. فالمعنى : لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء ، أي عبادا ، قال تعالى : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥]. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) في سورة مريم [٩٢]. وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديدا ، أي نتبرأ من ذلك ، لأن نفي (كان) وجعل المطلوب نفيه خبرا عن (كان) أقوى في النفي ولذلك يسمى جحودا. والخبر مستعمل في لازم فائدته ، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله.

(ومن) في قوله : (مِنْ دُونِكَ) للابتداء لأن أصل (دون) أنه اسم للمكان ، ويقدر

٢٦

مضاف محذوف يضاف إليه (دون) نحو : جلست دون ، أي دون مكانه ، فموقع (من) هنا موقع الحال من (أَوْلِياءَ). وأصلها صفة ل (أَوْلِياءَ) فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالا. والمعنى : لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك ، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية.

وعن ابن جني : أن (من) هنا زائدة. وأجاز زيادة (من) في المفعول.

و (من) في قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) مزيدة لتأكيد عموم النفي ، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي.

والأولياء : جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء ، أي على السيد والعبد ، أو الناصر والمنصور. والمراد هنا : الوليّ التابع كما في قوله : (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) في سورة مريم [٤٥] ، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا.

وقرأ الجمهور (نَتَّخِذَ) بالبناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر (نَتَّخِذَ) بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول ، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك. فموقع (مِنْ دُونِكَ) موقع الحال من ضمير (نَتَّخِذَ). والمعنى عليه : أنهم يتبرّءون من أن يدعوا الناس لعبادتهم ، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم. والمعنى لا نتخذ من يوالينا دونك ، أي من يعبدنا دونك.

والاستدراك الذي أفاده (لكن) ناشئ عن التبري من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين. والمقصود بالاستدراك ما بعد (حتى) وهو (نَسُوا الذِّكْرَ). وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قابلوا رحمة الله ونعمته عليهم وعلى آبائهم بالكفران ، فالخبر عن الله بأنه متّع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة ، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضبا عليهم.

وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجود في أرض سبخة قال تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢].

٢٧

والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر ، أي القرآن ، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة ، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجرّ لهم من آبائهم الذين سنّوا لهم عبادة الأصنام. ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبهذا يظهر أن ضمير (نَسُوا) وضمير (كانُوا) عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر.

والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض يشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة. وتقدم في قوله تعالى : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) في سورة الأنعام [٤١].

والذكر : القرآن لأنه يتذكر به الحق ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في سورة الحجر [٦].

والبور : جمع بائر كالعوذ جمع عائذ ، والبائر : هو الذي أصابه البوار ، أي الهلاك. وتقدم في قوله تعالى : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨] أي الموت. وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة : ٤٢] ، أي سوء حالهم في نفس الأمر وهم عنه غافلون. وقيل : البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر.

واجتلاب فعل (كان) وبناء (بُوراً) على (قَوْماً) دون أن يقال : حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه (كان) من تمكن معنى الخبر ، وما يقتضيه (قوما) من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً).

الفاء فصيحة ، أي إفصاح عن حجة بعد تهيئة ما يقتضيها ، وهو إفصاح رائع وزاده

٢٨

الالتفات في قوله : (كَذَّبُوكُمْ).

وفي الكلام حذف فعل قول يدل عليه المقام. والتقدير : إن قلتم هؤلاء آلهتنا فقد كذبوكم ، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي إن قلتم ذلك فقد جئنا خراسان. وفي حذف فعل القول في هذه الآية استحضار لصورة المقام كأنه مشاهد غير محكي وكأن السامع آخر الآية قد سمع لهذه المحاورة مباشرة دون حكاية فقرع سمعه شهادة الأصنام عليهم ثم قرع سمعه توجه خطاب التكذيب إلى المشهود عليهم ، وهو تفنن بديع في الحكاية يعتمد على تخييل المحكي واقعا ، ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٤٨]. فجملة (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) إلخ مستأنفة ابتدائية هو إقبال على خطاب الحاضرين وهو ضرب من الالتفات مثل قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) بعد قوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩].

والباء في قوله : (بِما تَقُولُونَ) يجوز أن تكون بمعنى (في) للظرفية المجازية ، أي كذبوكم تكذيبا واقعا فيما تقولون ، ويجوز أن تكون للسببية ، أي كذبوكم بسبب ما تقولون.

و (ما) موصولة. والذي قالوه هو ما يستفاد من السؤال والجواب وهو أنهم قالوا إنهم دعوهم إلى أن يعبدوهم.

وفرع على الإعلان بتكذيبهم إياهم تأييسهم من الانتفاع بهم في ذلك الموقف إذ بين لهم أنهم لا يستطيعون صرفا ، أي صرف ضر عنهم ، ولا نصرا ، أي إلحاق ضر بمن يغلبهم. ووجه التفريع ما دل عليه قولهم (سُبْحانَكَ) [الفرقان : ١٨] الذي يقتضي أنهم في موقف العبودية والخضوع.

وقرأ الجمهور : يستطيعون بياء الغائب ، وقرأه حفص بتاء الخطاب على أنه خطاب للمشركين الذين عبدوا الأصنام من دون الله.

(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً).

تذييل للكلام يشمل عمومه جميع الناس ، ويكون خطاب (مِنْكُمْ) لجميع المكلفين. ويفيد ذلك أن المشركين المتحدث عنهم معذبون عذابا كبيرا : والعذاب الكبير هو عذاب جهنم.

٢٩

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ).

هذا رد على قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان: ٧] بعد أن رد عليهم قولهم (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٨] بقوله : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) [الفرقان : ١٠] ، ولكن لما كان قولهم : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) حالة لم تعط للرسل في الحياة الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيرا من ذلك في الآخرة.

وأما قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له ، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر ، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد قالوا :(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] ، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس. وقد قال موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه : ٥٩]. وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو قريشا في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم.

وجملة : (لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال. والتقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال إلا في حال (إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ). والتوكيد ب (إن) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلا للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي : إلّا ، وإنّ ، واللام ، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] ، وقوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء : ٢٠٨].

وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها

٣٠

إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية.

ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثا فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك.

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً).

تذييل ، فضمير الخطاب في قوله : (بَعْضَكُمْ) يعم جميع الناس بقرينة السياق. وكلا البعضين مبهم يبينه المقام. وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف ، فبعضها فتنة في العقيدة ، وبعضها فتنة في الأمن ، وبعضها فتنة في الأبدان.

والإخبار عنه ب (فِتْنَةً) مجازي لأنه سبب الفتنة ، وشمل أحد البعضين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه ، والبعض الآخر المشركين ؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم ، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأضرابهم يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة. وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذين آمنوا بك فقال : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ* وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [هود : ٢٩ ، ٣٠].

وقال تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٢ ، ٥٣].

والكلام تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام ، ولذلك عقب بقوله : (أَتَصْبِرُونَ) ، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١].

وموقع (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) موقع الحث على الصبر المأمور به ، أي هو عليم بالصابرين ، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم.

وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافا إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن

٣١

الرب لا يضيع أولياءه كقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٧ ـ ٩٩] أي النصر المحقق.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١))

حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) وعنون عليهم في المقالات السابقة ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) [الفرقان : ٤] وب (الظَّالِمُونَ) [الفرقان : ٨] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض ، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكة ، وطلبوا رؤية الله في الدنيا ، ونزول الملائكة عليهم في الدنيا ، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة ، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم.

واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل ، فمن أجل ذلك أيضا جعل قولهم ذلك طريقا لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) في سورة يونس [١٥].

و (لَوْ لا) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة ، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به ، يعنون أنه إن كان صادقا فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم.

ومعنى : (لا يَرْجُونَ) لا يظنون ظنّا قريبا ، أي يعدّون لقاء الله محالا. ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ، ولذلك عقب بقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل.

والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم. والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كلاب أو بني نمير أنشده ثعلب في «مجالسه» والقالي في «أماليه» :

ألا يا سنا برق على قلل الحمى

لهنّك من برق علي كريم

٣٢

فإن قوله : من برق ، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب.

والاستكبار : مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب.

و (فِي) للظرفية المجازية ؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها ، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

ويجوز أن تكون (فِي) للتعليل كما في الحديث «دخلت امرأة النار في هرّة حبستها» الحديث ، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم. وليست الظرفية حقيقية لقلّة جدوى ذلك ؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية.

والعتوّ : تجاوز الحد في الظلم ، وتقدم في قوله تعالى : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) في الأعراف [٧٧]. وإنما كان هذا ظلما لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية.

وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤].

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢))

استئناف ثان جواب عن مقالتهم ، فبعد إبداء التعجيب منها عقّب بوعيد لهم ، فيه حصول بعض ما طلبوا حصوله الآن ، أي هم سيرون الملائكة ولكنها رؤية تسوؤهم حين يرون زبانية العذاب يسوقونهم إلى النار ، ففي هذا الاستئناف تلميح وتهكم بهم لأن ابتداءه مطمع بالاستجابة وآخره مؤيس بالوعيد ، فالكلام جرى على طريقة الغيبة لأنه حكاية عن تورّكهم ، والمقصود إبلاغه لهم حين يسمعونه. وانتصب (يَوْمَ يَرَوْنَ) على الظرفية ل (لا بُشْرى). وتقديم الظرف للاهتمام به لإثارة الطمع وللتشويق إلى تعيين إبانه حتى إذا ورد ما فيه خيبة طمعهم كان له وقع الكآبة على نفوسهم حينما يسمعونه. وإعادة (يَوْمَئِذٍ) تأكيد.

وذكر وصف المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بأنهم مجرمون بعد أن وصفوا بالكفر والظلم واليأس من لقاء الله. وانتفاء البشرى مستعمل في إثبات ضده وهو الحزن.

و (حجر) ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ، ويقال بفتح الحاء وضمها على الندرة ـ فهي

٣٣

كلمة يقولونها عند رؤية ما يخاف من إصابته بمنزلة الاستعاذة. قال الخليل وأبو عبيدة : كان الرجل إذا رأى الرجل الذي يخاف منه أن يقتله في الأشهر الحرم يقول له : (حِجْراً مَحْجُوراً) ، أي حرام قتلي ، وهي عوذة.

و (حجر) مصدر : حجره ، إذا منعه ، قال تعالى (وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام : ١٣٨] ، وهو في هذا الاستعمال لازم النصب على المفعول المطلق المنصوب بفعل مضمر مثل : معاذ الله ، وأمّا رفعه في قول الرّاجز :

قالت فيها حيدة وذعر

عوذ بربي منكم وحجر

فهو تصرف فيه ، ولعله عند سيبويه ضرورة لأنه لم يذكر الرفع في استعمال هذه الكلمات في هذا الغرض وهو الذي حكاه الراجز. وأمّا رفع (حجر) في غير حالة استعماله للتعوذ فلا مانع منه لأنه الأصل ، وقد جاء في القرآن منصوبا لا على المفعولية المطلقة في قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٥٣] ، فإنه معطوف على مفعول (جَعَلَ) وسننبه عليه قريبا.

و (مَحْجُوراً) وصف ل (حِجْراً) مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا : ليل أليل ، وذيل ذائل ، وشعر شاعر.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣))

كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وقد قالت خديجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقال لها : «لقد خشيت على نفسي» ، فقالت : «والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق». فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم : لئن كان البعث حقّا لنجدنّ أعمالا عملناها من البرّ تكون سببا لنجاتنا ، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذ.

والقدوم مستعمل في معنى العمد والإرادة ، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعزم والشروع مثل : قام يفعل ، وذهب يقول ، وأقبل ، ونحوها. وأصل ذلك ناشئ عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يمشي إليه ، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول : وعمدنا أو أردنا إلى ما عملوا.

٣٤

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ عَمَلٍ) بيانية لإبهام (ما) وتنكير (عَمَلٍ) للنوعية ، والمراد به عمل الخير ، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير.

والهباء : كائنات جسمية دقيقة لا ترى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها ، تلوح كأنها سابحة في الهواء وهي أدق من الغبار ، أي فجعلناه كهباء منثور ، وهو تشبيه لأعمالهم ـ في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة ـ بالهباء في عدم إمساكه مع كونه موجودا ، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق. ونظيره قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا* فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ، ٦].

والمنثور : غير المنتظم ، وهو وصف كاشف لأن الهباء لا يكون إلّا منثورا ، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق.

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون ، لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة علم أن لا حظ لهم في الجنّة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون ، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان : مشركون ومؤمنون. فمعنى الكلام : المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

والخير هنا : تفضيل ، وهو تهكم بالمشركين ، وكذلك (أَحْسَنُ).

والمستقر : مكان الاستقرار.

والمقيل : المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين.

[٢٥ ، ٢٦] (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦))

عطف على جملة (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) [الفرقان : ٢٢]. والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وتأكيد وعيدهم. وأدمج في ذلك وصف بعض شئون ذلك اليوم ، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس.

٣٥

وأعيد لفظ (يَوْمَ) على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يوما واحدا لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير.

والتشقق : التفتح بين أجزاء ملتئمة ، ومنه (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق :١]. ولعله انخراق يحصل في كور تلك العوالم ، والذين قالوا : السموات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيّلهم إياها كقباب من معادن صلبة ، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن.

وتشقّق السماء حالة عجيبة تظهر يوم القيامة ، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك ، فاللام في الملائكة للاستغراق ، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال : يوم تفتح أبواب السماء. قال [تعالى] : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ : ١٩] ؛ على أن التشقّق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة :

فانشق عنها عمود الصبح جافلة

عدو النّحوص تخاف القانص اللّحما

وحاصل المعنى : أن هنالك انبثاقا وانتفاقا يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذن للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب.

والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السموات التي تنشقّ عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة.

وقرأ الجمهور (تَشَقَّقُ) بتشديد الشين. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين.

والغمام : السحاب الرقيق. وهو ما يغشى مكان الحساب ، قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تقدم في سورة البقرة [٢١٠].

والباء في قوله : (بِالْغَمامِ) قيل بمعنى (عن) أي تشقق عن غمام يحفّ بالملائكة. وقيل للسببية ، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشقّ بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب. وقيل الباء للملابسة ، أي تشّقّق ملابسة لغمام يظهر حينئذ. وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام الملائكة ، فدع الفهم يذهب في ترتيب ذلك كلّ مذهب ممكن.

٣٦

وأكد (نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال.

وقرأ الجمهور (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع (الْمَلائِكَةُ) مبنيا للنائب. وقرأه ابن كثير (وَنُنَزِّلُ) بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب (الْمَلائِكَةُ).

وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) ، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) [الفرقان: ٢٢] وكذلك القول في تكرير (يَوْمَئِذٍ).

و (الْحَقُ) : الخالص ، كقولك : هذا ذهب حقّا. وهو الملك الظاهر أنه لا يماثله ملك ، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة. والملك الكامل إنما هو لله ، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق ، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئا من التصرف ، وفي الحديث : «ثم يقول الله : أنا الملك أين ملوك الأرض».

ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين.

وتقديم (عَلَى الْكافِرِينَ) للحصر. وهو قصر إضافي ، أي دون المؤمنين.

[٢٧ ـ ٢٩] (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))

هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه ، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية.

والتعريف في (الظَّالِمُ) يجوز أن يكون للاستغراق. والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) ، ويكون قوله : (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) إعلاما بما لا تخلو عنه من صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضا على مناوأة الإسلام.

ويجوز أن يكون للعهد المخصوص. والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من

٣٧

قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبي معيط وما أغراه به أبيّ بن خلف. قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره : كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف ، وكان عقبة لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما ودعا إليه أشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدم من بعض أسفاره فصنع طعاما ودعا رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] فلما قرّبوا الطعام قال رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم]: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ، فأكل رسول الله من طعامه. وكان أبيّ بن خلف غائبا فلما قدم أخبر بقضيته ، فقال : صبأت يا عقبة ، قال : والله ما صبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل من طعامي حتى أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم ، فقال أبيّ : ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلّا أن تأتيه فتبصق في وجهه ، فكفر عقبة وأخذ في امتثال ما أمره به أبيّ بن خلف ، فيكون المراد ب (فلان) الكناية عن أبيّ بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلّتهم في الشرك ولم يتّبعوا سبيل الرسول ، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصدّه عن متابعة الإسلام إذا همّ به ويثبته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه.

والعضّ : الشدّ بالأسنان على الشيء ليؤلمه أو ليمسكه ، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته ب (عَلى) لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضّا شديدا كما في هذه الآية.

والعضّ على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التّشذر ، وهو رفع اليد عند كلام الغضب قال ، لبيد :

غلب تشذّر بالدخول كأنهم

جن البدي رواسيا أقدامها

ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب. قال تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩]. ومنه في الندم قرع السن بالأصبع ، وعضّ السبابة ، وعضّ اليد. ويقال : حرّق أسنانه وحرّق الأرّم (بوزن ركّع) الأضراس أو أطراف الأصابع ، وفي الغيظ عضّ الأنامل قال تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) في سورة آل عمران [١١٩] ، وكانت كنايات بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية ، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف.

والرّسول : هو المعهود وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٨

واتخاذ السبيل : أخذه ، وأصل الأخذ : التناول باليد ، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) [الكهف : ٦٣].

و (مَعَ الرَّسُولِ) أي متابعا للرسول كما يتابع المسافر دليلا يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود. وإنما عدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال : يا ليتني اتبعت الرسول ، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مسايرة الدليل تمثيلا محتويا على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل ، ومتضمنا تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود ، فكان حصول هذه المعاني صائرا بالإطناب إلى إيجاز ، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل. وعلم أن هذا السبيل سبيل نجاح من تمناه لأن التمني طلب الأمر المحبوب العزيز المنال.

و (يا لَيْتَنِي) نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة ، كأنه يقول : هذا مقامك فاحضري ، على نحو قوله : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) في سورة الأنعام [٣١]. وهذا النداء يزيد المتمني استبعادا للحصول.

وكذلك قوله : (يا وَيْلَتى) هو تحسّر بطريق نداء الويل. والويل : سوء الحال ، والألف عوض عن ياء المتكلم ، وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.

وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) في سورة البقرة [٧٩]. وعلى (يا وَيْلَتَنا) في قوله : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ) في سورة الكهف [٤٩].

وأتبع التحسّر بتمني أن لا يكون (أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً).

وجملة (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) بدل من جملة (لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خلّة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني.

وجملة (يا وَيْلَتى) معترضة بين جملة (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) وجملة (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً).

و (فلان) : اسم يكنّى عمّن لا يذكر اسمه العلم ، كما يكنّى ب (فلانة) عمّن لا يراد

٣٩

ذكر اسمها العلم ، سواء كان ذلك في الحكاية أم في غيرها. قاله ابن السكيت وابن مالك خلافا لابن السراج وابن الحاجب في اشتراط وقوعه في حكاية بالقول ، فيعامل (فلان) معاملة العلم المقرون بالنون الزائدة و (فلانة) معاملة العلم المقترن بهاء التأنيث ، وقد جمعهما قول الشاعر :

ألا قاتل الله الوشاة وقولهم

فلانة أضحت خلة لفلان

أراد نفسه وحبيبته.

وقال المرار العبسي :

وإذا فلان مات عن أكرومة

دفعوا معاوز فقده بفلان

أراد : إذا مات من له اسم منهم أخلفوه بغيره في السؤدد ، وكذلك قول معن بن أوس:

وحتى سألت القرض من كل ذي

الغنى وردّ فلان حاجتي وفلان

وقال أبو زيد في «نوادره» : أنشدني المفضل لرجل من ضبة هلك منذ أكثر من مائة سنة ، أي في أواسط القرن الأول للهجرة :

إن لسعد عندنا ديوانا

يخزي فلانا وابنه فلانا

والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به ، أو لعدم الفائدة لذكره ، أو لقصد نوع من له اسم علم. وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حملت على إرادة خصوص عقبة وأبيّ أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صدّه عن اتّباع الإسلام.

وإنّما تمنّى أن لا يكون اتّخذه خليلا دون تمنّي أن يكون عصاه فيما سوّل له قصدا للاشمئزاز من خلّته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها.

وفيه إيماء إلى أن شأن الخلّة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرء خلّته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) [آل عمران : ١١٨] فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خويصّته فإنه سيحمل من يخالّه على ما يسير به لنفسه ، وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي :

٤٠