تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [النمل : ٨٠].

وعطف (أَوْ يَعْقِلُونَ) على (يَسْمَعُونَ) لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١].

وإنما نفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم ، لأن هذا حال دهمائهم ومقلّديهم ، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حبّ الرئاسة وأنفوا من أن يعودوا أتباعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مثل عمار ، وبلال.

وجملة (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالا عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم ، فكان تشبيههم بالأنعام تبيينا للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوة آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها ، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير (يَسْمَعُونَ).

وانتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشدّ من حال الأنعام بأنهم أضلّ سبيلا من الأنعام. وضلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كقوله تعالى (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) [البقرة : ٧٤] الآية.

[٤٥ ، ٤٦] (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦))

استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله ، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار

٦١

متصل بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] الآية.

وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) [الفرقان : ٣] الآية.

وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ٦]. وما عطف عليه (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ) [الفرقان : ١٥] (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الفرقان : ٢٠] (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) [الفرقان : ٣١] فكلها مخاطبات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جعل مدّ الظل وقبضه تمثيلا لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطفرة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرى القياس للتدليل على أن تنزيل القرآن منجّما جار على حكمة التدرجلأنه أمكن في حصول المقصود ، وذلك ما دل عليه قوله سابقا (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢]. فكان في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ...) الآية زيادة في التعليل على ما في قوله (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢].

ويستتبع هذا إيماء إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلّلة إذ قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبّه بحال امتداد ظلمة الظل ، وصار ما كان مظلّلا ضاحيا بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجا حتى ينعدم الفيء.

فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجّما بهيئة مدّ الظل مدرّجا ولو شاء لجعله ساكنا.

وكان نظمها بحمله على حقيقة تركيبه مفيدا العبرة بعد الظل وقبضه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى ، وهذان المفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة. وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس ، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديدا قبل طلوع الشمس. وبهذه النكتة عطف قوله (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) إلى قوله (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٧].

والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين : من غافل يسأل عن غفلته ليقرّ بها

٦٢

تحريضا على النظر ، ومن جاحد ينكر عليه إهماله النظر ، ومن موفق يحثّ على زيادة النظر.

والرؤية بصرية ، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرئي بحرف (إلى). والمدّ : بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال : مد الحبل ومد يده ، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة ، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل.

ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالة من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [نوح : ١٥] ، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة : ٢٥٨] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا) لنبي (لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) [البقرة : ٢٤٦].

والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها ، فالمقصود من آية سورة الفيل : الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتها من الاستئصال ، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لما تشتمل عليه من عجيب المنافع ، وكذلك الآيتان الأخيرتان. وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى ، أوثر تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئا كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدل منه.

وأما قوله في سورة نوح [١٥] (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ) دون أن يقال : ألم تروا ربّكم كيف خلق ، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غير مرة فعلم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق.

وعلى كل فإن (كَيْفَ) هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من (رَبِّكَ) ، والتقدير : ألم تر إلى ربك إلى هيئة مده الظل. وقد تقدم ذكر خروج (كيف) عن الاستفهام عند قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) في سورة آل عمران [٦] ، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل.

وفي وجود الظل دقائق من أحوال النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة

٦٣

يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاع فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدّر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة ، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيّفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتا على حسب تفاوت بعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفا باستواء المكان وتحدّبه ، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمدّ في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيّفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل. فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة.

وقد أفاد هذا المعنى كاملا فعل (مَدَّ).

وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلّما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهة كان الظل أوسع ، وإذا اتجهت إليه مرتفعة عنه تقلّص ظلّه رويدا رويدا إلى أن تصير الأشعة مسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظله تماما أو يكاد يزول ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي غير متزايد لأنه لما كان مدّ الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتداد اسم السكون بأن يلازم مقدارا واحدا لا ينقص ولا يزيد ، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سمت واحد تجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة.

ودلت مقابلة قوله : (مَدَّ الظِّلَ) بقوله (لَجَعَلَهُ ساكِناً) على حالة مطوية من الكلام ، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض ، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس إلى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة «وكانت الأرض خالية ، وعلى وجه القمر ظلمة» ثم قال «وقال الله ليكن نور فكان نور ...» وفصل الله بين النور والظلمة (إصحاح واحد من سفر الخروج) ، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة.

وجملة (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) معترضة للتذكير بأن في الظل منّة.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) عطف على جملة (مَدَّ الظِّلَ) وأفادت (ثُمَ) أن مدلول المعطوف بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن (ثُمَ) إذا عطفت الجملة. ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتبارا ، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظّل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبّب ، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلا على مقادير امتداده. ولم

٦٤

يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحا شافيا.

والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا) لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله [تعالى] : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ارتقاء في المنّة.

والدليل : المرشد إلى الطريق والهادي إليه ، فجعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثل صوى الطريق ، وجعلت الشمس من حيث كانت سببا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مراحل ، بطريقة التشبيه البليغ ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق ، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.

وتعدية (دَلِيلاً) بحرف (على) تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر :

«إلا عليّ دليل» (١)

وشمل هذا حالتي المد والقبض.

وجملة (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) إلخ عطف على جملة (مَدَّ الظِّلَ) ، أو على جملة (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلا على الظل.

و (ثُمَ) الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي ، لأن مضمون جملة (قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) إذ في قبض الظل دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عمل ضدّ للعمل الأول ، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.

والقبض : ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص ، أي نقصنا امتداده ، والقبض هنا استعارة للنقص. وتعديته بقوله : (إِلَيْنا) تخييل ، شبّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية ، وحرف (إلى) ومجروره تخييل.

__________________

(١) أوله :

إلى الله أشكو أنني لست ماشيا

ولا جائيا إلا عليّ دليل

أي : رقيب يدل عليّ.

٦٥

وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة ، فإن في التريث تسهيلا لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبا ، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفا ، وهو التدريج ببطء ، على طريقة الكناية ، ليكون صالحا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا.

وتعدية القبض ب (إِلَيْنا) لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله : (مَدَّ الظِّلَ). وقد علم من معنى (قَبَضْناهُ) أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه.

وفي مدّ الظل وقبضه نعمة معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس ، ونعمة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه.

هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم. ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركة الأرض حول الشمس وظهور الظلمة والضياء ، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.

ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدما ، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها ، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم ، فذلك مما يشير إليه (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن ، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيرا لا إحالة فيه ولا بعد ، كما يزعمون ، فلما صار قبض الظل مثلا لمصير الناس إلى الله بالبعث وصف القبض بيسير تلميحا إلى قوله : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤].

وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل.

فهذان المحملان في الآية من معجزات القرآن العملية.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧))

٦٦

مناسبة الانتقال من الاستدلال باعتبار أحوال الظلّ والضّحاء إلى الاعتبار بأحوال اللّيل والنهار ظاهرة ، فالليل يشبه الظلّ في أنه ظلمة تعقب نور الشمس.

ومورد الاستدلال المقصد المستفاد من تعريف جزأي الجملة وهو قصر إفراد ، أي لا يشركه غيره في جعل الليل والنهار. أما كون الجعل المذكور بخلق الله فهم يقرون به ؛ ولكنهم لما جعلوا له شركاء على الإجمال أبطلت شركتهم بقصر التصرف في الأزمان على الله تعالى لأنه إذا بطل تصرفهم في بعض الموجودات اختلت حقيقة الإلهية عنهم إذ الإلهية لا تقبل التجزئة.

و (لَكُمُ) متعلق ب (جَعَلَ) أي من جملة ما خلق له الليل أنه يكون لباسا لكم. وهذا لا يقتضي أن الليل خلق لذلك فقط لأن الليل عود الظلمة إلى جانب من الكرة الأرضية المحتجب عن شعاع الشمس باستداراته فتحصل من ذلك فوائد جمة منها ما في قوله تعالى بعد هذا (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ...) [الفرقان : ٦٢] إلخ.

وقد رجع أسلوب الكلام من المتكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات.

و (لِباساً) مشبه به على طريقة التشبيه البليغ ، أي ساترا لكم يستر بعضكم عن بعض. وفي هذا الستر منن كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها.

وتقديم الاعتبار بحالة ستر الليل على الاعتبار بحالة النوم لرعي مناسبة الليل بالظل كما تقدم ، بخلاف قوله : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً* وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) في سورة النبأ [٨ ـ ١٠] ، فإن نعمة النوم أهم من نعمة الستر ، ولأن المناسبة بين نعمة خلق الأزواج وبين النوم أشد.

وقد جمعت الآية استدلالا وامتنانا فهي دليل على عظم قدرة الخالق ، وهي أيضا تذكير بنعمة ، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمّة لما يدل عليه حصول الظلمة من دقة نظام دوران الأرض حول الشمس ومن دقة نظام خلق الشمس ، ولما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس ، ثم ما في خلال ذلك من نظام النوم المناسب للظلمة حين ترتخي أعصاب الناس فيحصل لهم بالنوم تجدد نشاطهم ، ومن الاستعانة على التستر بظلمة الليل ومن نظام النهار من تجدد النشاط وانبعاث الناس للعمل وسآمتهم من الدعة ، مع ما هو ملائم لذلك من النور الذي به إبصار ما يقصده العاملون.

والسبات له معان متعددة في اللغة ناشئة عن التوسع في مادة السبت وهو القطع.

٦٧

وأنسب المعاني بمقام الامتنان هو معنى الراحة وإن كان في كلا المعنيين اعتبار بدقيق صنع الله تعالى. وفسر الزمخشري السبات بالموت على طريقة التشبيه البليغ ناظرا في ذلك إلى مقابلته بقوله : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً).

وإعادة فعل (جَعَلَ) في قوله : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) دون أن يعاد في قوله (وَالنَّوْمَ سُباتاً) مشعرة بأنه تنبيه إلى أنه جعل مخالف لجعل الليل لباسا. وذلك أنه أخبر عنه بقوله (نُشُوراً) ، والنشور : بعث الأموات ، وهو إدماج للتذكير بالبعث وتعريض بالاستدلال على من أحالوه ، بتقريبه بالهبوب في النهار. وفي هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح «الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور».

والنشور : الحياة بعد الموت ، وتقدم قريبا عند قوله تعالى : (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٠]. وهو هنا يحتمل معنيين أن يكون مرادا به البروز والانتشار فيكون ضد اللباس في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) فيكون الإخبار به عن النهار حقيقيا ، والمنّة في أن النهار ينتشر فيه الناس لحوائجهم واكتسابهم. ويحتمل أن يكون مرادا به بعث الأجساد بعد موتها فيكون الإخبار على طريقة التشبيه البليغ.

[٤٨ ـ ٥٠] (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))

استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحبة والمطر. ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به فانتقل إلى ما في الرّياح من النشور بذكر وصفها بأنها نشر على قراءة الجمهور ، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة عاصم. ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالا لادعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) [الفرقان : ٤٧] إلخ ..

وأطلق على تكوين الرياح فعل (أَرْسَلَ) الذي هو حقيقة في بعث شيء وتوجيهه ، لأن حركة الرياح تشبه السير. وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق.

وهذا الاستدلال بدقيق صنع الله في تكوين الرياح ، فالعامة يعتبرون بما هو داخل تحت

٦٨

مشاهدتهم من ذلك ، والخاصة يدركون كيفية حدوث الرياح وهبوبها واختلافها ، وذلك ناشئ عن التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر. ثم إن الرياح بهبوبها حارة مرة وباردة أخرى تكوّن الأسحبة وتؤذن بالمطر فلذلك وصفت بأنها نشر بين يدي المطر.

قرأ الجمهور (أَرْسَلَ الرِّياحَ) بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير الريح بصيغة الإفراد على معنى الجنس. والقراءتان متحدتان في المعنى ، ولكن غلب جمع الريح في ريح الخير وإفراد الريح في ريح العذاب قاله ابن عطية. وتقدم قوله تعالى (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في سورة البقرة [١٦٤].

وقرأ الجمهور نشرا بنون في أوله وبضمتين جمع نشور كرسول ورسل. وقرأ ابن عامر بضم فسكون على تخفيف الحركة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه من الوصف بالمصدر ، وكلها من النشر وهو البسط كما ينشر الثوب المطوي لأن الرياح تنشر السحاب. وقرأ عاصم بباء موحدة وسكون الشين جمع بشور من التبشير لأنها تبشر بالمطر. وتقدم قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) نشرا (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) في سورة الأعراف [٥٧].

والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله (وَأَنْزَلْنا) ـ (لِنُحْيِيَ) ـ و (نُسْقِيَهُ) ـ و (لَقَدْ صَرَّفْناهُ) للداعي الذي قدمناه في قوله آنفا (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً* ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) [الفرقان : ٤٥ ، ٤٦].

والمراد ب (رَحْمَتِهِ) المطر لأنه رحمة للناس والحيوان بما ينبته من الشجر والمرعى.

وجملة (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) عطف على جملة (أَرْسَلَ الرِّياحَ) إلخ ، فهي داخلة في حيز القصر ، أي وهو الذي أنزل من السماء ماء طهورا. وضمير (أَنْزَلْنا) التفات من الغيبة إلى التكلم لأن التكلم أليق بمقام الامتنان. وتقدم معنى إنزال الماء من السماء عند قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) في سورة البقرة [١٩].

والطّهور بفتح الطاء من أمثلة المبالغة في الوصف بالمصدر كما يقال : رجل صبور. وماء المطر بالغ منتهى الطهارة إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم فهو الصافي حقا. والمعنى : أن الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه ووصف الماء بالطهور يقتضي أنه مطهّر لغيره إذ العدول عن صيغة فاعل إلى صيغة فعول لزيادة معنى في الوصف ، فاقتضاؤه في

٦٩

هذه الآية أنه مطهّر لغيره اقتضاء التزامي ليكون مستكملا وصف الطهارة القاصرة والمتعدية ، فيكون ذكر هذا الوصف إدماجا لمنة في أثناء المنن المقصودة ، ويكون كقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] وصف الطهارة الذاتية وتطهيره ، فيكون هذا الوصف إدماجا ولو لا ذلك لكان الأحقّ بمقام الامتنان وصف الماء بالصفاء أو نحو ذلك.

والبلدة : الأرض. ووصفها بالحياة والموت مجازان للري والجفاف لأن ري الأرض ينشأ عنه النبات وهو يشبه الحي ، وجفاف الأرض يجفّ به النبات فيشبه الميّت.

ولماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض لأنه لخلوّه من الجراثيم ومن بعض الأجزاء المعدنية والترابية التي تشتمل عليها مياه العيون ومياه الأنهار والأودية كان صالحا بكل أرض وبكل نبات على اختلاف طباع الأرضين والمنابت.

والبلدة : البلد. والبلد يذكر ويؤنث مثل كثير من أسماء أجناس البقاع كما قالوا : دار ودارة. ووصفت البلدة بميت ، وهو وصف مذكر لتأويل (بَلْدَةً) بمعنى مكان لقصد التخفيف. وقال في «الكشاف» ما معناه : إنه لما دل على المبالغة في الاتصاف بالموت ولم يكن جاريا على أمثلة المبالغة نزّل منزلة الاسم الجامد (أي فلم يغير). وأحسن من هذا أنه أريد به اسم الميت ، ووصف البلدة به وصف على معنى التشبيه البليغ.

وفي قوله (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) إيماء إلى تقريب إمكان البعث.

و (نُسْقِيَهُ) بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل هما لغتان يقال : أسقى وسقى. قال تعالى : (قالَتا لا نَسْقِي) [القصص : ٢٣] بفتح النون. وقيل : سقى : أعطى الشراب ، وأسقى : هيّأ الماء للشرب. وهذا القول أسدّ لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيّأناه لشرب الأنعام والأناسي فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب.

و (أَنْعاماً) مفعول ثان ل (نُسْقِيَهُ). وقوله : (مِمَّا خَلَقْنا) حال من (أَنْعاماً وَأَناسِيَ). و (من) تبعيضية. و (ما) موصولة ، أي بعض ما خلقناه ، والموصول للإيماء إلى علة الخبر ، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات. ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه. وفيه إشارة إلى أن أنواعا أخرى من الخلائق تسقى بماء السماء ، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة ، فالأنعام بها صلاح حال البادين

٧٠

بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران.

والأناسيّ : جمع إنسيّ ، وهو مرادف إنسان. فالياء فيه ليست للنسب. وجمع على فعاليّ مثل كرسي وكراسي. ولو كانت ياؤه نسب لجمع على أناسية كما قالوا : صيرفي وصيارفة. ووصف الأناسيّ ب (كَثِيراً) لأن بعض الأناسيّ لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات ، والآبار والصهاريج ، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء. فالمنة أخص بهم ، قال زيادة الحارثي (١) :

ونحن بنو ماء السماء فلا نرى

لأنفسنا من دون مملكة قصرا (٢)

وفي أحاديث ذكر هاجر زوج إبراهيم عليه‌السلام قال أبو هريرة «فتلك أمّكم يا بني ماء السماء» يعني العرب. وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار.

ووصف أناسي وهو جمع بكثير وهو مفرد لأن فعيلا قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) [الأعراف : ٨٦].

وتقديم ذكر الأنعام على الأناسيّ اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) ، ولو قدم ذكر (أَناسِيَ) لتفكك النظم. ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) في سورة النازعات [٣٣] لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب.

وضمير (صَرَّفْناهُ) عائد إلى (ماءً طَهُوراً). والتصريف : التغيير. والمراد هنا تغيير أحوال الماء ، أي مقاديره ومواقعه.

وتوكيد الجملة بلام القسم و (قد) لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو أن من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم ، لأن كثيرا من الناس لا يقدر قدر النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الربّ الواحد المختار في خلق

__________________

(١) هو من قضاعة ، إسلامي مات قتيلا في خلافة معاوية ، قتله هدبة بن خثرم.

(٢) المملكة : التملك ، أي العزة ، وهي بفتح الميم واللام ، والقصر : الغاية.

٧١

الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية.

ولما كان التذكر شاملا لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون ، جيء في التعليل بفعل (لِيَذَّكَّرُوا) ليكون علة لحالتي التصريف بينهم.

وقوله : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) تركيب جرى بمادّته وهيئته مجرى المثل في الإخبار عن تصميم المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء ، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى ، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأنّ الآبين قد عرضت عليهم ـ من الناس أو من خواطرهم ـ أمور وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكفور ، وإن لم يكن هنالك عرض ولا إباء ، ومنه قوله تعالى في سورة براءة : [٣٢] (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ؛ ألا ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد وفي سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام. وشدّة الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يستعمل في قوله تعالى في سورة الصّفّ : [٨] : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ).

والكفور : مصدر بمعنى الكفر. وتقدم نظيره في سورة الإسراء ، أي أبوا إلّا الإشراك بالله وعدم التذكر.

وقرأ الجمهور (لِيَذَّكَّرُوا) بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاء وأصله ليتذكروا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة ، أي ليذكروا ما هم عنه غافلون.

ويؤخذ من الآية أن الماء المنزّل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القطر ، فعن ابن عباس : ما عام أقل مطرا من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء. وتلا هذه الآية. وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» اه. فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه. وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر ، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير.

٧٢

وجوز فريق أن يكون ضمير (صَرَّفْناهُ) عائدا إلى غير مذكور معلوم في المقام مراد به القرآن ؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره ، وتكرر في قوله : (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : ٣٠]. وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء ، ولقوله بعده (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان : ٥٢].

وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور ، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذّكروا.

[٥١ ، ٥٢] (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

جملة اعتراض بين ذكر دلائل تفرد الله بالخلق وذكر منّته على الخلق. ومناسبة موقع هذه الجملة وتفريعها بموقع الآية التي قبلها خفيّة. وقال ابن عطية في قوله (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) : اقتضاب يدل عليه ما ذكر. تقديره : ولكنّا أفردناك بالنذارة وحمّلناك (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) اه.

فإن كان عنى بقوله : اقتضاب ، معنى الاقتضاب الاصطلاحي بين علماء الأدب والبيان ، وهو عدم مراعاة المناسبة بين الكلام المنتقل منه والكلام المنتقل إليه ، كان عدولا عن التزام تطلب المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها ، وليس الخلوّ عن المناسبة ببدع فقد قال صاحب «تلخيص المفتاح» «وقد ينقل منه (أي مما شبّب به الكلام) إلى ما لا يلائمه (أي لا يناسب المنتقل منه) ويسمى الاقتضاب وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين» إلخ. وإذا كان ابن عطية عنى بالاقتضاب معنى القطع (أي الحذف من الكلام) أي إيجاز الحذف كما يشعر به قوله «يدل عليه ما ذكر تقديره إلخ» ، كأن لم يعرج على اتصال هذه الآية بالتي قبلها.

وفي «الكشاف» : «ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيئا ينذرها ، وإنما قصرنا الأمر عليك وعظّمناك على سائر الرسل (أي بعموم الدعوة) فقابل ذلك بالتصبر» اه. وقد قال الطّيبي : «ومدار السورة على كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ولذلك افتتحت بما يثبت عموم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع الناس بقوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].

وليس في كلام «الكشاف» والطيبي إلّا بيان مناسبة الآية لمهمّ أغراض السورة دون

٧٣

بيان مناسبتها للتي قبلها.

والذي أختاره أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] الآية ، فبعد أن بيّن إبطال طعنهم فقال : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢] انتقل إلى تنظير القرآن بالكتاب الذي أوتيه موسى عليه‌السلام وكيف استأصل الله من كذبوه ، ثم استطرد بذكر أمم كذبوا رسلهم ، ثم انتقل إلى استهزاء المشركين بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشار إلى تحرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إعراض قومه عن دعوته بقوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان : ٤٣].

وتسلسل الكلام بضرب المثل بمدّ الظل وقبضه ، وبحال اللّيل والنّهار ، وبإرسال الرياح ، أمارة على رحمة غيثه الذي تحيا به الموات حتى انتهى إلى قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ويؤيد ما ذكرنا اشتمال التفريع على ضمير القرآن في قوله (وَجاهِدْهُمْ بِهِ).

ومما يزيد هذه الآية اتصالا بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] أن في بعث نذير إلى كل قرية ما هو أشدّ من تنزيل القرآن مجزّأ ؛ فلو بعث الله في كل قرية نذيرا لقال الذين كفروا : لو لا أرسل رسول واحد إلى الناس جميعا فإن مطاعنهم لا تقف عند حد كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) في سورة حم فصلت [٤٤].

وتفريع (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) على جملة (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) لأنها تتضمن أنه مرسل إلى المشركين من أهل مكة وهم يطلبون منه الكف عن دعوتهم وعن تنقّص أصنامهم.

والنهي مستعمل في التحذير والتذكير ، وفعل (تُطِعِ) في سياق النهي يفيد عموم التحذير من أدنى طاعة.

والطاعة : عمل المرء بما يطلب منه ، أي فلا تهن في الدعوة رعيا لرغبتهم أن تلين لهم.

وبعد أن حذره من الوهن في الدعوة أمره بالحرص والمبالغة فيها. وعبر عن ذلك بالجهاد وهو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة. وصيغة المفاعلة فيه ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهوده فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف بالجهاد الكبير ، أي الجامع لكل مجاهدة.

٧٤

وضمير (بِهِ) عائد إلى غير مذكور : فإما أن يعود إلى القرآن لأنه مفهوم من مقام النّذارة ، وإما أن يعود إلى المفهوم من «لا تطع» وهو الثبات على دعوته بأن يعصيهم ، فإن النهي عن الشيء أمر بضده كما دل عليه قول أبي حيّة النميري :

فقلن لها سرّا فديناك لا يرح

صحيحا وإن لم تقتليه فألمم

فقابل قوله : «لا يرح صحيحا» بقوله : «وإن لم تقتليه فألمم» كأنه قال : فديناك فاقتليه.

والمعنى : قاومهم بصبرك. وكبر الجهاد تكريره والعزم فيه وشدّة ما يلقاه في ذلك من المشقة. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه عند قفوله من بعض غزواته «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». قالوا : «وما الجهاد الأكبر»؟ ـ قال : مجاهدة العبد هواه». رواه البيهقي بسند ضعيف.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣))

عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق. جمعت هذه الآية استدلالا وتمثيلا وتثبيتا ووعدا ؛ فصريحها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي ، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين : أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج. وتمثيل الإيمان بالعذب الفرات والشرك بالملح الأجاج ، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخا يحفظ العذب من أن يكدره الأجاج ، كذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسّوا كفرهم بين المسلمين. وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١]. وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك.

ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عقب جملة (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان : ٥٢] أكمل حسن. وهي معطوفة على جملة (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) نشرا (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الفرقان : ٤٨]. ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة. ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين.

٧٥

والمرج : الخلط. واستعير هنا لشدة المجاورة ، والقرينة قوله : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً). والبحر : الماء المستبحر ، أي الكثير العظيم. والعذب : الحلو. والفرات : شديد الحلاوة. والملح بكسر الميم وصف به بمعنى المالح ، ولا يقال في الفصيح إلا ملح وأما مالح فقليل. وأريد هنا ملتقى ماء نهري الفرات والدجلة مع ماء بحر خليج العجم.

والبرزخ : الحائل بين شيئين. والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذب فيه بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظا لطعمه عند المصبّ.

و (حِجْراً) مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول جعل. وليس هنا مستعملا في التعوذ كالذي تقدم آنفا في قوله تعالى (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢]. و (مَحْجُوراً) وصف ل (حِجْراً) مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا : ليل أليل. وقد تقدم في هذه السورة. ووقع في «الكشاف» تكلف بجعل (حِجْراً مَحْجُوراً) هنا بمعنى التعوّذ كالذي في قوله (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢] ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكروه من استعمال (حِجْراً مَحْجُوراً) في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))

مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع. ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلّق منه البشر العظيم ، فالتنوين في قوله (بَشَراً) للتعظيم.

والقصر المستفاد من تعريف الجزءين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية.

والبشر : الإنسان. وقد تقدم في قوله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) في سورة مريم [١٧]. والضمير المنصوب في (فَجَعَلَهُ) عائد إلى البشر ، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسبا وصهرا ، أي قسّم الله البشر قسمين : نسب ، وصهر. فالواو للتقسيم بمعنى (أو) والواو أجود من (أو) في التقسيم.

٧٦

و (نَسَباً وَصِهْراً) مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير : ذا نسب وصهر وشاع ذلك في الكلام.

والنسب لا يخلو من أبوّة وبنوّة وأخوة لأولئك وبنوة لتلك الأخوة.

وأما الصهر فهو : اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة ، ويسمى أيضا مصاهرة لأنه يكون من جهتين ، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه ، فصهر الرجل قرابة امرأته ، وصهر المرأة قرابة زوجها ، ولذلك يقال : صاهر فلان فلانا إذا تزوج من قرابته ولو قرابة بعيدة كقرابة القبيلة. وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج.

ويطلق الصهر على مع له من الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل ، وأما قريب زوج المرأة فهو ختن لها أو حم. ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيدا. وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله : (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) ، أي عظيم القدرة إذ أوجد من هذا الماء خلقا عظيما صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر ، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [الحجرات : ١٣].

وفي تركيب (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له متصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل (كانَ) ، وما في صيغة «قدير» من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥))

الواو للحال ، وهذا مستعمل في التعجيب من استمرارهم في الشرك ، أعقب ذكر ما نفع الله به الناس من إلطافه بهم في تصاريف الكائنات إذ جعل لهم الليل والنهار ، وخلق لهم الماء فأنبت به الزرع وسقى به الناس والأنعام ، مع ما قارنه من دلائل القدرة بذكر عبادتهم ما لا ينفع الناس عودا إلى حكاية شيء من أحوال مشركي مكة.

٧٧

ونفي الضرّ بعد نفي النفع للتنبيه على انتفاء شبهة عبدة الأصنام في شركهم لأن موجب العبادة إما رجاء النفع وإما اتقاء ضر المعبود وكلاهما منتف عن الأصنام بالمشاهدة.

والتعبير بالفعل المضارع للدلالة على تجدد عبادتهم الأصنام وعدم إجداء الدلائل المقلعة عنها في جانبهم.

وجملة (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) تذييل لما قبله ، فاللام في تعريف (الْكافِرُ) للاستغراق ، أي كل كافر على ربّه ظهير.

وجعل الخبر عن الكافر خبرا ل (كانَ) للدلالة على أن اتصافه بالخبر أمر متقرر معتاد من كل كافر.

والظهير : المظاهر ، أي المعين ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) في سورة الإسراء [٨٨] وهو فعيل بمعنى مفاعل ، أي مظاهر مثل حكيم بمعنى محكم ، وعوين بمعنى معاون. وقول عمر بن معد يكرب :

أمن ريحانة الداعي السّميع

أي المسمع. قال في «الكشاف» : «ومجيء فعيل بمعنى مفاعل غير عزيز». وهو مشتق من : ظاهر عليه ، إذا أعان من يغالبه على غلبه ، وأصله الأصيل مشتق من اسم جامد وهو اسم الظهر من الإنسان أو الدابة لأن المعاون أحدا على غلب غيره كأنه يحمل الغالب على المغلوب كما يحمل على ظهر الحامل ، جعل المشرك في إشراكه مع وضوح دلالة عدم استئهال الأصنام للإلهية كأنه ينصر الأصنام على ربه الحق. وفي ذكر الربّ تعريض بأن الكافر عاقّ لمولاه. وعن أبي عبيدة : ظهير بمعنى مظهور ، أي كفر الكافر هيّن على الله ، يعني أي فعيلا فيه بمعنى مفعول ، أي مظهور عليه وعلى هذا يكون (عَلى) متعلقا بفعل (كانَ) أي كان على الله هيّنا.

[٥٦ ، ٥٧] (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))

لما أفضى الكلام بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوى

٧٨

الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك ، وأنه أساطير الأولين ، وأنه سحر ، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي بأنه مرسل من الله ، وقصره على صفتي التبشير والنذارة. وهذا الكلام الوارد في الردّ عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضلّ ولكنه مبشّر ونذير. وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه.

ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتّباعهم إياه حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم ، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك.

والأجر : العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء.

والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجرا لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم ، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعل في صورة الاستثناء ، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وبعبارة أتقن تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان : منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعا عن المستثنى منه أصلا كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

فإن فلول سيوفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال ؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ، ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجرا على الإطلاق في قوله تعالى (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦]. فقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجرا إذ التقدير : إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، وذلك هو اتباع دين الإسلام. ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣]. وقد يسمون مثل هذا الاستثناء الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك.

والسبيل : الطريق. واتخاذ السبيل تقدم آنفا في قوله : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٢٧]. وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا

٧٩

كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) [النبأ : ٣٩].

وذكر وصف الرب دون الاسم العلم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلّا كان آبقا.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨))

عطف على جملة (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [الفرقان : ٥٧] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم.

والتوكل : الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل ، أي المتولّي مهمّات غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في آل عمران [١٥٩].

و (الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) هو الله تعالى. وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصر التوكل في الكون عليه ، فالتعريف في (الْحَيِ) للكامل ، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت ، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام. وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء.

وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحيانا لكنه لا يدوم.

وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية ، أي إذا أهمّك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله.

والباء في (بِحَمْدِهِ) للمصاحبة ، أي سبحه تسبيحا مصاحبا للثناء عليه بما هو أهله.

فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدّما التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشمل الأمة ما لم يكن دليل على الخصوصية.

وجملة (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) اعتراض في آخر الكلام ، فيفيد معنى التذييل

٨٠