تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

يشتمل على رد السلام لأن الرد بالكتابة يقاس على الرد بالكلام مع إلغاء فارق ما في المكالمة من المواجهة التي يكون ترك الرد معها أقرب لإلقاء العداوة. ولم أر في كتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جوابا عن كتاب إلا جوابه عن كتاب مسيلمة والسلام على من اتّبع الهدى.

والهدية : فعيلة من أهدى : فالهدية ما يعطى لقصد التقرب والتحبب ، والجمع هدايا على اللغة الفصحى ، وهي لغة سفلى معدّ. وأصل هدايا : هدائي بهمزة بعد ألف الجمع ثم ياء لأن فعيلة يجمع على فعائل بإبدال ياء فعيلة همزة لأنها حرف وقع في الجمع بعد حرف مدّ فلما وجدوا الضمة في حالة الرفع ثقيلة على الياء سكّنوا الياء طردا للباب ثم قلبوا الياء الساكنة ألفا للخفة فوقعت الهمزة بين ألفين فثقلت فقلبوها ياء لأنها مفتوحة وهي أخف ، وأما لغة سفلى معدّ فيقولون : هداوى بقلب الهمزة التي بين الألفين واوا لأنها أخت الياء وكلتاهما أخت الهمزة.

و (فَناظِرَةٌ) اسم فاعل من نظر بمعنى انتظر ، أي مترقبة ، فتكون جملة : (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) مبيّنة لجملة (فَناظِرَةٌ) ، أو مستأنفة. وأصل النظم : فناظرة ما يرجع المرسلون به ، فغير النظم لمّا أريد أنها مترددة فيما يرجع به المرسلون. فالباء في قوله : (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) متعلقة بفعل (يَرْجِعُ) قدمت على متعلّقها لاقترانها بحرف (ما) الاستفهامية لأن الاستفهام له صدر الكلام.

ويجوز أن يكون (فَناظِرَةٌ) من النظر العقلي ، أي عالمة ، وتعلق الباء بفعل (يَرْجِعُ) ، وعلى كلا الوجهين (فَناظِرَةٌ) معلّق عن العمل في مفعوله أو مفعوليه لوجود الاستفهام ، ولا يجوز تعلق الباء بناظرة لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده فمن ثم غلطوا الحوفي في «تفسيره» لتعليقه الباء بناظرة كما في الجهة السادسة من الباب الخامس من «مغني اللبيب».

[٣٦ ، ٣٧] (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))

أي فلما جاء الرسول الذي دل عليه قوله : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) [النمل : ٣٥] ، فالإرسال يقتضي رسولا ، والرسول لفظه مفرد ويصدق بالواحد والجماعة ، كما تقدم في قصة موسى في سورة الشعراء. وأيضا فإن هدايا الملوك يحملها ركب ، فيجوز أن يكون

٢٦١

فاعل (جاءَ) الركب المعهود في إرسال هدايا أمثال الملوك.

وقد أبى سليمان قبول الهدية لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١] فتبيّن له قصدها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب ، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بثّ سلطانه على مملكة سبأ.

والخطاب في (أَتُمِدُّونَنِ) لوفد الهدية لقصد تبليغه إلى الملكة لأن خطاب الرسل إنما يقصد به من أرسلهم فيما يرجع إلى الغرض المرسل فيه.

والاستفهام إنكاري لأن حال إرسال الهدية والسكوت عن الجواب يقتضي محاولة صرف سليمان عن طلب ما طلبه بما بذل له من المال ، فيقتضي أنهم يحسبونه محتاجا إلى مثل ذلك المال فيقتنع بما وجّه إليه.

ويظهر أن الهدية كانت ذهبا ومالا.

وقرأ الجمهور : (أَتُمِدُّونَنِ) بنونين. وقرأه حمزة وخلف بنون واحدة مشدّدة بالإدغام. والفاء لتفريع الكلام الذي بعدها على الإنكار السابق ، أي أنكرت عليكم ظنكم فرحي بما وجهتم إليّ لأنّ ما أعطاني الله خير مما أعطاكم ، أي هو أفضل منه في صفات الأموال من نفاسة ووفرة.

وسوق التعليل يشعر بأنه علم أن الملكة لا تعلم أن لدى سليمان من الأموال ما هو خير مما لديها ، لأنه لو كان يظن أنها تعلم ذلك لما احتاج إلى التفريع.

وهذا من أسرار الفرق في الكلام البليغ بين الواو والفاء في هذه الجملة فلو قال : وما آتاني الله خير مما آتاكم ، لكان مشعرا بأنها تعلم ذلك لأن الواو تكون واو الحال.

و (بَلْ) للإضراب الانتقالي وهو انتقال من إنكاره عليهم إمداده بمال إلى رد ذلك المال وإرجاعه إليهم.

وإضافة (بِهَدِيَّتِكُمْ) تشبيه ؛ تحتمل أن تكون من إضافة الشيء إلى ما هو في معنى المفعول ، أي بما تهدونه. ويجوز أن يكون شبيهة بالإضافة إلى ما هو في معنى المفعول ، أي بما يهدى إليكم. والخبر استعمل كناية عن رد الهدية للمهدي.

ومعنى : (تَفْرَحُونَ) يجوز أن يكون تسرّون ، ويجوز أن يكون تفتخرون ، أي أنتم

٢٦٢

تعظم عندكم تلك الهدية لا أنا ، لأن الله أعطاني خيرا منها.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في «أنتم تفرحون» لإفادة القصر ، أي أنتم. وهو الكناية عن رد الهدية.

وتوعدهم وهددهم بأنه مرسل إليهم جيشا لا قبل لهم بحربه. وضمائر جمع الذكور الغائب في قوله : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ) و (لَنُخْرِجَنَّهُمْ) عائدة إلى القوم ، أي لنخرجن من نخرج من الأسرى.

وقوله : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ) يحتمل أنه أراد غزو بلدها بنفسه ، فتكون الباء للمصاحبة. ويحتمل أنه أراد إرسال جنود لغزوها فتكون الباء للتعدية كالتي في قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] أي أذهبه ؛ فيكون المعنى : فلنؤتينهم جنودا ، أي نجعلها آتية إياهم.

والقبل : الطاقة. وأصله المقابلة فأطلق على الطاقة لأن الذي يطيق شيئا يثبت للقائه ويقابله. فإذا لم يطقه تقهقر عن لقائه. ولعل أصل هذا الاستعمال ناظر إلى المقابلة في القتال.

والباء في (بِها) للسببية ، أي انتفى قبلهم بسببها ، أو تكون الباء للمصاحبة ، أي انتفى قبلهم المصاحب لها ، أي للقدرة على لقائها.

وضمير (بِها) للجنود وضمير (مِنْها) للمدينة ، وهي مأرب ، أي يخرجهم أسرى ويأتي بهم إلى مدينته.

والصاغر : الذليل ، اسم فاعل من صغر بضم الغين المستعمل بمعنى ذل ومصدره الصغار. والمراد : ذل الهزيمة والأسر.

[٣٨ ـ ٤٠] (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

استئناف ابتدائي لذكر بعض أجزاء القصة طوي خبر رجوع الرسل والهدية ، وعلم سليمان أن ملكة سبأ لا يسعها إلا طاعته ومجيئها إليه ، أو ورد له منها أنها عزمت على

٢٦٣

الحضور عنده عملا بقوله : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١].

ثم يحتمل أن يكون سليمان قال ذلك بعد أن حطت رحال الملكة في مدينة أورشليم وقبل أن تتهيّأ للدخول على الملك ، أو حين جاءه الخبر بأنها شارفت المدينة فأراد أن يحضر لها عرشها قبل أن تدخل عليه ليريها مقدرة أهل دولته.

وقد يكون عرشها محمولا معها في رحالها جاءت به معها لتجلس عليه خشية أن لا يهيئ لها سليمان عرشا ، فإن للملوك تقادير وظنونا يحترزون منها خشية الغضاضة.

وقوله : (آتِيكَ) يجوز أن يكون فعلا مضارعا من أتى ، وأن يكون اسم فاعل منه ، والباء على الاحتمالين للتعدية. ولمّا علم سليمان بأنها ستحضر عنده أراد أن يبهتها بإحضار عرشها الذي تفتخر به وتعده نادرة الدنيا ، فخاطب ملأه ليظهر منهم منتهى علمهم وقوتهم. فالباء في (بِعَرْشِها) كالباء في قوله : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ) [النمل : ٣٧] تحتمل الوجهين.

وجملة : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا) مستأنفة ابتداء لجزء من قصة. وجملة : (قالَ عِفْرِيتٌ) واقعة موقع جواب المحاورة ففصلت على أسلوب المحاورات كما تقدم غير مرة. وجملة : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) أيضا جواب محاورة.

ومعنى (عِفْرِيتٌ) حسبما يستخلص من مختلف كلمات أهل اللغة أنه اسم للشديد الذي لا يصاب ولا ينال ، فهو يتّقى لشره. وأصله اسم لعتاة الجن ، ويوصف به الناس على معنى التشبيه.

و (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان.

و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْكِتابِ) ابتدائية ، أي عنده علم مكتسب من الكتب ، أي من الحكمة ، وليس المراد بالكتاب التوراة. وقد عدّ في سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع أحد عشر رجلا أهل خاصة سليمان بأسمائهم وذكر أهل التفسير والقصص أن : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو «آصف بن برخيا» وأنه كان وزير سليمان.

وارتداد الطرف حقيقته : رجوع تحديق العين من جهة منظورة تحول عنها لحظة. وعبر عنه بالارتداد لأنهم يعبرون عن النظر بإرسال الطرف وإرسال النظر فكان الارتداد استعارة مبنية على ذلك.

٢٦٤

وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة ، وأن الحكمة مكتسبة لقوله : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) ، وأن قوة العناصر طبيعة فيها ، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضا. فذكر في هذه القصة مثلا لتغلب العلم على القوة. ولما كان هذان الرجلان مسخرين لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى. ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الإتيان بعرش بلقيس.

والظاهر أن قوله : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) وقوله : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) مثلان في السرعة والأسرعية ، والضمير البارز في (رَآهُ) يعود إلى العرش.

والاستقرار : التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار. وهذا استقرار خاص هو غير الاستقرار العام المرادف للكون ، وهو الاستقرار الذي يقدر في الإخبار عن المبتدأ بالظرف والمجرور ليكون متعلّقا بهما إذا وقعا خبرا أو وقعا حالا ، إذ يقدر (كائن) أو (مستقر) فإن ذلك الاستقرار ليس شأنه أن يصرح به. وابن عطية جعله في الآية من إظهار المقدر وهو بعيد.

ولما ذكر الفضل أضافه إلى الله بعنوان كونه ربّه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه. فليس إحسان الله إليه إلا فضلا محضا ، ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة ، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله.

وضرب حكمة خلقية دينية وهي : (مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا ، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك.

فالكلام في قوله : (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لام الأجل وليست اللام التي يعدى بها فعل الشكر في نحو (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢]. والمراد ب (مَنْ كَفَرَ) من كفر فضل الله عليه بأن عبد غير الله ، فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا. وقد تقدم عند قوله فيما تقدم : (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) [النمل : ١٩].

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) دون أن يقول :

٢٦٥

فإنه غني كريم ، تأكيد للاعتراف بتمحض الفضل المستفاد من قوله : (فَضْلِ رَبِّي).

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١))

هذا من جملة المحاورة التي جرت بين سليمان عليه‌السلام وبين ملئه ، ولذلك لم يعطف لأنه جرى على طريقة المقاولة والمحاورة.

والتنكير : التغيير للحالة. قال جميل :

وقالوا نراها يا جميل تنكّرت

وغيرها الواشي فقلت : لعلها

أراد : تنكرت حالة معاشرتها بسبب تغيير الواشين ، بأن يغير بعض أوصافه ، قالوا :

أراد مفاجأتها واختبار مظنتها.

والمأمور بالتنكير أهل المقدرة على ذلك من ملئه.

و (مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أبلغ في انتفاء الاهتداء من : لا تهتدي ، كما تقدم في نظائره غير مرة.

[٤٢ ، ٤٣] (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣))

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).

دل قوله : (فَلَمَّا جاءَتْ) أنّ الملكة لما بلغها ما أجاب به سليمان رسلها أزمعت الحضور بنفسها لدى سليمان داخلة تحت نفوذ مملكته ، وأنها تجهزت للسفر إلى أورشليم بما يليق بمثلها.

وقد طوي خبر ارتحالها إذ لا غرض مهمّا يتعلق به في موضع العبرة. والمقصود أنها خضعت لأمر سليمان وجاءته راغبة في الانتساب إليه.

وبني فعل (قِيلَ) للمجهول إذ لا يتعلق غرض بالقائل. والظاهر أن الذي قال ذلك هو سليمان.

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣)).

٢٦٦

يجوز أن يكون عطفا على قوله : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) [النمل : ٤٠] الآية وما بينهما اعتراضا ، أي هذا من قول سليمان.

ويجوز أن يكون عطفا على قوله : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) [النمل : ٤١] الآية وما بينهما اعتراضا كذلك ، ويجوز أن يكون عطفا على (أَهكَذا عَرْشُكِ) وما بينهما اعتراضا به جوابها ، أي وقيل أوتينا العلم من قبلها ، أي قال القائل : أهكذا عرشك ، أي قال سليمان ذلك في ملئه عقب اختيار رأيها شكرا لله على ما لديه من العلم ، أو قال بعض ملأ سليمان لبعض هذه المقالة. ولعلهم تخافتوا به أو رطنوه بلغتهم العبرية بحيث لا تفهمهم. وقالوا ذلك بهجين بأن فيهم من له من العلم ما ليس لملأ ملكة سبأ ، أي لا ننسى بما نشاهده من بهرجات هذه الملكة أننا في حالة عقلية أفضل. وأرادوا بالعلم علم الحكمة الذي علمه الله سليمان ورجال مملكته وتشاركهم بعض أهل سبأ في بعضه فقد كانوا أهل معرفة أنشئوا بها حضارة مبهتة.

فمعنى : (مِنْ قَبْلِها) إن حمل على ظاهره أن قومهم بني إسرائيل كانوا أسبق في معرفة الحكمة وحضارة الملك من أهل سبأ لأن الحكمة ظهرت في بني إسرائيل من عهد موسى ، فقد سن لهم الشريعة ، وأقام لهم نظام الجماعة ، وعلمهم أسلوب الحضارة بتخطيط رسوم مساكنهم وملابسهم ونظام الجيش والحرب والمواسم والمحافل. ثم أخذ ذلك يرتقي إلى أن بلغ غاية بعيدة في مدة سليمان ، فبهذا الاعتبار كان بنو إسرائيل أسبق إلى علم الحكمة قبل أهل سبأ ، وإن أريد ب (مِنْ قَبْلِها) القبلية الاعتبارية وهي الفضل والتفوق في المزايا وهو الأليق بالمعنى كان المعنى : إنّا أوسع وأقوى منها علما ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الأولون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» أي نحن الأولون في غايات الهدى ، وجعل مثلا لذلك اهتداء أهل الإسلام ليوم الجمعة فقال : «وهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه». فكان الأرجح أن يكون معنى (مِنْ قَبْلِها) أنّا فائتونها في العلم وبالغون ما لم تبلغه. وزادوا في إظهار فضلهم عليها بذكر الناحية الدينية ، أي وكنا مسلمين دونها. وفي ذكر فعل الكون دلالة على تمكنهم من الإسلام منذ القدم.

وصدّها هي عن الإسلام ما كانت تعبد من دون الله ، أي صدّها معبودها من دون الله ، ومتعلق الصد محذوف لدلالة الكلام عليه في قوله : (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ). وما كانت تعبده هو الشمس. وإسناد الصدّ إلى المعبود مجاز عقلي لأنه سبب صدها عن التوحيد كقوله تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١] وقوله : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال : ٤٩].

٢٦٧

وفي ذكر فعل الكون مرتين في (ما كانَتْ تَعْبُدُ). و (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) دلالة على تمكنها من عبادة الشمس وكان ذلك التمكن بسبب الانحدار من سلالة المشركين ، فالشرك منطبع في نفسها بالوراثة ، فالكفر قد أحاط بها بتغلغله في نفسها وبنشأتها عليه وبكونها بين قوم كافرين ، فمن أين يخلص إليها الهدى والإيمان.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ).

جملة : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) استئناف ابتدائي لجزء من القصة. وطوي ذكر ترحلها إلى وصولها في ذكر ما يدل عليه من حلولها أمام صرح سليمان للدخول معه إليه أو الدخول عليه وهو فيه.

لما أراها سليمان عظمة حضارته انتقل بها حيث تشاهد أثرا بديعا من آثار الصناعة الحكيمة وهو الصرح. والصرح يطلق على صحن الدار وعرصتها. والظاهر أن صرح القصر الذي ذكر في سفر الملوك الأول في الإصحاح السابع وهو بيت وعر له بابان كان يجلس فيه سليمان للقضاء بين الناس.

والقائل لها : (ادْخُلِي الصَّرْحَ) هم الذين كانوا في رفقتها.

والقائل (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) هو سليمان كان مصاحبا لها أو كان يترقبها وزجاج الصرح المبلط به الصرح بينهما.

وذكر الدخول يقتضي أن الصرح مكان له باب. وفي سفر الملوك الأول في الإصحاح العاشر : فلما رأت البيت الذي بناه.

وحكاية أنها حسبته لجة عند ما رأته تقتضي أن ذلك بدا لها في حين دخولها فدل على أن الصرح هو أول ما بدا لها من المدخل فهو لا محالة ساحة معنيّة للنزهة فرشت بزجاج شفاف وأجري تحته الماء حتى يخاله الناظر لجّة ماء. وهذا من بديع الصناعة التي

٢٦٨

اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن على ما بلغته من حضارة وعظمة بناء.

وقرأ قنبل عن ابن كثير (عَنْ ساقَيْها) بهمزة ساكنة بعد السين عوضا عن الألف على لغة من يهمز حرف المدّ إذا وقع وسط الكلمة. ومنه قول جرير :

لحب المؤقدان إليّ مؤسى

وجعدة إذ أضاءهما الوقود

فهمز المؤقدان ومؤسى.

وكشف ساقيها كان من أجل أنها شمرت ثيابها كراهية ابتلالها بما حسبته ماء. فالكشف عن ساقيها يجوز أن يكون بخلع خفيها أو نعليها ، ويجوز أن يكون بتشمير ثوبها.

وقد قيل : إنها كانت لا تلبس الخفّين. والممرّد : المملس.

والقوارير : جمع قارورة وهي اسم لإناء من الزجاج كانوا يجعلونه للخمر ليظهر للرائي ما قرّ في قعر الإناء من تفث الخمر فيظهر المقدار الصافي منها. فسمى ذلك الإناء قارورة لأنه يظهر منه ما يقرّ في قعره ، وجمعت على قوارير ، ثم أطلق هذا الجمع على الطين الذي تتخذ منه القارورة وهو الزجاج ، فالقوارير من أسماء الزجاج ، قال بشار :

ارفق بعمرو إذا حركت نسبته

فإنه عربي من قوارير

يريد أن نسبته في العرب ضعيفة إذا حرّكت تكسرت. وقد تقدم ذكر الزجاج عند قوله تعالى : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في سورة النور [٣٥].

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

بهرها ما رأت من آيات علمت منها أن سليمان صادق فيما دعاها إليه وأنه مؤيّد من الله تعالى ، وعلمت أن دينها ودين قومها باطل فاعترفت بأنها ظلمت نفسها في اتباع الضلال بعبادة الشمس. وهذا درجة أولى في الاعتقاد وهو درجة التخلية ، ثم صعدت إلى الدرجة التي فوقها وهي درجة التحلّي بالإيمان الحق فقالت : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فاعترفت بأن الله هو رب جميع الموجودات ، وهذا مقام التوحيد.

وفي قولها : (مَعَ سُلَيْمانَ) إيمان بالدين الذي تقلده سليمان وهو دين اليهودية ، وقد أرادت جمع معاني الدين في هذه الكلمة ليكون تفصيلها فيما تتلقاه من سليمان من الشرائع والأحكام.

٢٦٩

وجملة : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) جواب عن قول سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ولذلك لم تعطف.

والإسلام : الانقياد إلى الله تعالى. وتقلّد بلقيس للتوحيد كان في خاصة نفسها لأنها دانت لله بذلك إذ لم يثبت أن أهل سبأ انخلعوا عن عبادة الأصنام كما يأتي في سورة سبأ. وأما دخول اليهودية بلاد اليمن فيأتي في سورة البروج. وسكت القرآن عن بقية خبرها ورجوعها إلى بلادها ، وللقصاصين أخبار لا تصح فهذا تمام القصة.

ومكان العبرة منها الاتعاظ بحال هذه الملكة ، إذ لم يصدّها علوّ شأنها وعظمة سلطانها مع ما أوتيته من سلامة الفطرة وذكاء العقل عن أن تنظر في دلائل صدق الداعي إلى التوحيد وتوقن بفساد الشرك وتعترف بالوحدانية لله ، فما يكون إصرار المشركين على شركهم بعد أن جاءهم الهدي الإسلامي إلا لسخافة أحلامهم أو لعمايتهم عن الحق وتمسكهم بالباطل وتصلبهم فيه. ولا أصل لما يذكره القصّاصون وبعض المفسرين من أن سليمان تزوج بلقيس ، ولا أن له ولدا منها. فإن رحبعام ابنه الذي خلفه في الملك كان من زوجة عمّونيّة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥))

هذا مثل ثالث ضربه الله لحال المشركين مع المؤمنين وجعله تسلية لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله.

والانتقال من ذكر ملك سليمان وقصّة ملكة سبأ إلى ذكر ثمود ورسولهم دون ذكر عاد لمناسبة جوار البلاد ، لأن ديار ثمود كانت على تخوم مملكة سليمان وكانت في طريق السائر من سبأ إلى فلسطين.

ألا ترى أنه أعقب ذكر ثمود بذكر قوم لوط وهم أدنى إلى بلاد فلسطين ، فكان سياق هذه القصص مناسبا لسياق السائر من بلاد اليمن إلى فلسطين. ولما كان ما حلّ بالقوم أهمّ ذكرا في هذا المقام قدم المجرور على المفعول لأن المجرور هو محل العبرة ، وأما المفعول فهو محلّ التسلية ، والتسلية غرض تبعيّ.

ولام القسم لتأكيد الإرسال باعتبار ما اتصل به من بقية الخبر ؛ فإما أن يكون التأكيد

٢٧٠

لمجرد الاهتمام ، وإما أن يبنى على تنزيل المخاطبين منزلة من يتردد فيما تضمنه الخبر من تكذيب قومه إياه واستخفافهم بوعيد ربّهم على لسانه. وحلول العذاب بهم لأجل ذلك لأن حالهم في عدم العظة بما جرى للمماثلين في حالهم جعلهم كمن ينكر ذلك.

و (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) تفسير لما دل عليه (أَرْسَلْنا) من معنى القول. وفرع على (أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) إلخ (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ). فالمعنى : أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا لإنقاذهم من الشرك ففاجأ من حالهم أن أعرض فريق عن الإيمان وآمن فريق.

والإتيان بحرف المفاجأة كناية عن كون انقسامهم غير مرضي فكأنّه غير مترقب ، ولذلك لم يقع التعرض لإنكار كون أكثرهم كافرين إشارة إلى أن مجرد بقاء الكفر فيهم كاف في قبح فعلهم. وحالهم هذا مساو لحال قريش تجاه الرسالة المحمدية. وأعيد ضمير (يَخْتَصِمُونَ) على المثنى وهو (فَرِيقانِ) باعتبار اشتمال الفريقين على عدد كثير. كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] ولم يقل : اقتتلتا.

والفريقان هما : فريق الذين استكبروا ، وفريق الذين استضعفوا وفيهم صالح. والفاء للتعقيب وهو تعقيب بحسب ما يقتضيه العرف بعد سماع الدعوة. والاختصام واقع مع صالح ابتداء ، ومع أتباعه تبعا.

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦))

لما كان الاختصام بين الفريقين في شأن صالح ابتداء جيء بجواب صالح عما تضمنه اختصامهم من محاولتهم إفحامه بطلب نزول العذاب. فمقول صالح هذا ليس هو ابتداء دعوته فإنه تقدم قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [النمل : ٤٥] ولكنه جواب عمّا تضمنه اختصامهم معه ، ولذلك جاءت جملة : (قالَ يا قَوْمِ) مفصولة جريا على طريقة المحاورة لأنها حكاية جواب عما تضمنه اختصامهم.

واقتصر على مراجعة صالح قومه في شأن غرورهم بظنهم أن تأخر العذاب أمارة على كذب الذي توعدهم به فإنهم قالوا : فآتنا (بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف: ٧٠] كما حكي عنهم في سورة الأعراف لأن الغرض هنا موعظة قريش في قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] بحال ثمود المساوي لحالهم

٢٧١

ليعلموا أن عاقبة ذلك مماثلة لعاقبة ثمود لتماثل الحالين قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [العنكبوت : ٥٣].

والاستفهام في قوله : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ) إنكار لأخذهم بجانب العذاب دون جانب الرحمة.

فالسيئة : صفة لمحذوف ، أي بالحالة السيئة ، وكذلك (الْحَسَنَةِ).

فيجوز أن يكون المراد (بِالسَّيِّئَةِ) الحالة السيئة في معاملتهم إياه بتكذيبهم إياه. والمراد بالحسنة ضدّ ذلك ، أي تصديقهم لما جاء به ، فالاستعجال : المبادرة. والباء للملابسة. ومفعول (تَسْتَعْجِلُونَ) محذوف تقديره : تستعجلونني متلبسين بسيئة التكذيب. والمعنى : أنه أنكر عليهم أخذهم بطرف التكذيب إذ أعرضوا عن التدبر في دلائل صدقه ، أي إن كنتم مترددين في أمري فافرضوا صدقي ثم انظروا. وهذا استنزال بهم إلى النظر بدلا عن الإعراض ، ولذلك جمع في كلامه بين السيئة والحسنة.

ويجوز أن يكون المراد (بِالسَّيِّئَةِ) الحالة السيئة التي يترقبون حلولها ، وهي ما سألوا من تعجيل العذاب المحكي عنهم في سورة الأعراف ، وب (الْحَسَنَةِ) ضد ذلك أي حالة سلامتهم من حلول العذاب فالسيئة مفعول (تَسْتَعْجِلُونَ) والباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل ما في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

والمعنى : إنكار جعلهم تأخير العذاب أمارة على كذب الوعيد به وأن الأولى بهم أن يجعلوا امتداد السلامة أمارة على إمهال الله إياهم فيتقوا حلول العذاب ، أي لم تبقون على التكذيب منتظرين حلول العذاب ، وكان الأجدر بكم أن تبادروا بالتصديق منتظرين عدم حلول العذاب بالمرة. وعلى كلا الوجهين فجواب صالح إياهم جار على الأسلوب الحكيم بجعل يقينهم بكذبه محمولا على ترددهم بين صدقه وكذبه.

وقوله : (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) حال من السيئة. وهذا تنبيه لهم على خطئهم في ظنهم أنه لو كان صالح صادقا فيما توعدهم به لعجّل لهم به ، فما تأخيره إلا لأنه ليس بوعيد حق ، لأن العذاب أمر عظيم لا يجوز الدخول تحت احتماله في مجاري العقول. فالقبلية في قوله : (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة ، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة.

٢٧٢

وظاهر الاستفهام أنه استفهام عن علة استعجالهم ، وإنما هو استفهام عن المعلول كناية عن انتفاء ما حقه أن يكون سببا لاستعجال العذاب ، فالإنكار متوجه للاستعجال لا لعلته.

ثم أعقب الإنكار المقتضي طلب التخلية عن ذلك بتحريضهم على الإقلاع عن ذلك بالتوبة وطلب المغفرة لما مضى منهم ويرجون أن يرحمهم‌الله فلا يعذبهم ، وإن كان ما صدر منهم موجبا لاستمرار غضب الله عليهم ، إلا أن الله برحمته جعل التائب من الذنب كمن لم يذنب.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧))

هذا من محاورتهم مع صالح فلذلك لم يعطف فعلا القول وجاء على سنن حكاية أقوال المحاورات كما بيّناه غير مرة.

وأصل (اطَّيَّرْنا) تطيّرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجيهما وسكنت لتخفيف الإدغام وأدخلت همزة الوصل لابتداء الكلمة بساكن ، والباء للسببية.

ومعنى التطير : التشاؤم. أطلق عليه التطيّر لأن أكثره ينشأ من الاستدلال بحركات الطير من سانح وبارح. وكان التطيّر من أوهام العرب وثمود من العرب ، فقولهم المحكي في هذه الآية حكي به مماثله من كلامهم ولا يريدون التطيّر الحاصل من زجر الطير لأنه يمنع من ذلك قولهم : (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) وقد تقدم مثله عند قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) في سورة الأعراف [١٣١]. وتقدم معنى الشؤم هنالك.

وأجاب صالح كلامهم بأنه ومن معه ليسوا سبب شؤم ولكن سبب شؤمهم وحلول المضار بهم هو قدرة الله.

واستعير لما حلّ بهم اسم الطائر مشاكلة لقولهم (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) ، ومخاطبة لهم بما يفهمون لإصلاح اعتقادهم ، بقرينة قولهم (اطَّيَّرْنا بِكَ).

و (عِنْدَ) للمكان المجازي مستعارا لتحقّق شأن من شئون الله به يقدر الخير والشر وهو تصرف الله وقدره. وقد تقدم نظيره في الأعراف.

وأضرب ب (بَلْ) عن مضمون قولهم : (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) بأن لا شؤم بسببه هو وسبب من معه ولكن الذين زعموا ذلك قوم فتنهم الشيطان فتنة متجددة بإلقاء الاعتقاد

٢٧٣

بصحة ذلك في قلوبهم.

وصيغ الإخبار عنهم بأنهم مفتونون بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم بذلك. وصيغ المسند فعلا مضارعا لدلالته على تجدد الفتون واستمراره.

وغلب جانب الخطاب في قوله : (تُفْتَنُونَ) على جانب الغيبة مع أن كليهما مقتضى الظاهر ترجيحا لجانب الخطاب لأنه أدل من الغيبة.

[٤٨ ، ٤٩] (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩))

عطف جزء القصة على جزء منها. و (الْمَدِينَةِ) : هي حجر ثمود بكسر الحاء وسكون الجيم المعروف مكانها اليوم بديار ثمود ومدائن صالح ، وهي بقايا تلك المدينة من أطلال وبيوت منحوتة في الجبال. وهي بين المدينة المنورة وتبوك في طريق الشام وقد مرّ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون في مسيرهم في غزوة تبوك ورأوا فيها آبارا نهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشرب والوضوء منها إلا بئرا واحدة أمرهم بالشرب والوضوء بها وقال : «إنها البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح».

والرهط : العدد من الناس حوالي العشرة وهو مثل النفر. وإضافة تسعة إليه من إضافة الجزء إلى اسم الكل على التوسع وهو إضافة كثيرة في الكلام العربي مثل : خمس ذود. واختلف أئمة النحو في القياس عليها ، ومذهب سيبويه والأخفش أنها سماعية.

وكان هؤلاء الرهط من عتاة القوم ، واختلف في أسمائهم على روايات هي من أوضاع القصّاصين ولم يثبت في ذلك ما يعتمد. واشتهر أن الذي عقر الناقة اسمه «قدار» بضم القاف وتخفيف الدال ، وقد تشاءم بعض الناس بعدد التسعة بسبب قصة ثمود وهو من التشاؤم المنهي عنه.

و (الْأَرْضِ) : أرض ثمود فالتعريف للعهد.

وعطف (لا يُصْلِحُونَ) على (يُفْسِدُونَ) احتراس للدلالة على أنهم تمحّضوا للإفساد ولم يكونوا ممن خلطوا إفسادا بإصلاح.

وجملة : (قالُوا) صفة ل (تِسْعَةُ) ، أو خبر ثان ل (كانَ) ، أو هو الخبر ل (كانَ).

٢٧٤

وفي (الْمَدِينَةِ) متعلق ب (كانَ) ظرفا لغوا ولا يحسن جعل الجملة استئنافا لأنها المقصود من القصة والمعنى : قال بعضهم لبعض.

و (تَقاسَمُوا) فعل أمر ، أي قال بعضهم : تقاسموا ، أي ابتدأ بعضهم فقال : تقاسموا. وهو يريد شمول نفسه إذ لا يأمرهم بذلك إلا وهو يريد المشاركة معهم في المقسم عليه كما دل عليه قوله : (لَنُبَيِّتَنَّهُ). فلما قال ذلك بعضهم توافقوا عليه وأعادوه فصار جميعهم قائلا ذلك فلذلك أسند القول إلى التسعة.

والقسم بالله يدل على أنهم كانوا يعترفون بالله ولكنهم يشركون به الآلهة كما تقدم في قصصهم فيما مرّ من السور.

و (لَنُبَيِّتَنَّهُ) جواب القسم ، والضمير عائد إلى صالح. والتبييت والبيات : مباغتة العدوّ ليلا. وعكسه التصبيح : الغارة في الصباح ، وكان شأن الغارات عند العرب أن تكون في الصباح ، ولذلك يقول من ينذر قوما بحلول العدوّ : «يا صباحاه» ، فالتبييت لا يكون إلا لقصد غدر. والمعنى : أنهم يغيرون على بيته ليلا فيقتلونه وأهله غدرا من حيث لا يعرف قاتله ثم ينكرون أن يكونوا هم قتلوهم ولا شهدوا مقتلهم.

والمهلك : مصدر ميمي من أهلك الرباعي ، أي شهدنا إهلاك من أهلكهم. وقولهم: (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) هو من جملة ما هيّئوا أن يقولوه فهو عطف على (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ) أي ونؤكد إنّا لصادقون. ولم يذكروا أنهم يحلفون على أنهم صادقون.

وقرأ الجمهور : (لَنُبَيِّتَنَّهُ) بنون الجماعة وفتح التاء التي قبل نون التوكيد. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أوله وبضم التاء الأصلية قبل نون التوكيد. وذلك على تقدير : أمر بعضهم لبعض. وهكذا قرأ الجمهور (لَنَقُولَنَ) بنون الجماعة في أوله وفتح اللام. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب وبضم اللام.

وقرأ الجمهور : (مَهْلِكَ) بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر الإهلاك أو مكانه أو زمانه. وقرأه حفص بفتح الميم وكسر اللام ويحتمل المصدر والمكان والزمان. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام فهو مصدر لا غير.

ووليّ صالح هم أقرب القوم له إذا راموا الأخذ بثأره.

وهذا الجزء من قصة ثمود لم يذكر في غير هذه السورة. وأحسب أن سبب ذكره أن نزول هذه السورة كان في وقت تآمر فيه المشركون على الإيقاع بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو التآمر

٢٧٥

الذي حكاه الله في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] ؛ فضرب الله لهم مثلا بتآمر الرهط من قوم صالح عليه ومكرهم وكيف كان عاقبة مكرهم ، ولذلك ترى بين الآيتين تشابها وترى تكرير ذكر مكرهم ومكر الله بهم ، وذكر أن في قصتهم آية لقوم يعلمون.

[٥٠ ـ ٥٣] (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

سمّى الله تآمرهم مكرا لأنه كان تدبير ضرّ في خفاء. وأكد مكرهم بالمفعول المطلق للدلالة على قوته في جنس المكر ، وتنوينه للتعظيم.

والمكر الذي أسند إلى اسم الجلالة مكر مجازي. استعير لفظ المكر لمبادرة الله إياهم باستئصالهم قبل أن يتمكنوا من تبييت صالح وأهله ، وتأخيره استئصالهم إلى الوقت الذي تآمروا فيه على قتل صالح لشبه فعل الله ذلك بفعل الماكر في تأجيل فعل إلى وقت الحاجة ، مع عدم إشعار من يفعل به.

وأكد مكر الله وعظّم كما أكد مكرهم وعظّم ، وذلك بما يناسب جنسه ، فإن عذاب الله لا يدانيه عذاب الناس فعظيمه أعظم من كل ما يقدره الناس.

والمراد بالمكر المسند إلى الجلالة هو ما دلت عليه جملة : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية.

وفي قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) تأكيد لاستعارة المكر لتقدير الاستئصال فليس في ذلك ترشيح للاستعارة ولا تجريد.

والخطاب في قوله : (فَانْظُرْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واقترانه بفاء التفريع إيماء إلى أن الاعتبار بمكر الله بهم هو المقصود من سوق القصة تعريضا بأن عاقبة أمره مع قريش أن يكفّ عنه كيدهم وينصره عليهم ، وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من قومه.

والنظر : نظر قلبي ، وقد علق عن المفعولين بالاستفهام.

وقرأ الجمهور : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بكسر الهمزة فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما

٢٧٦

يثيره الاستفهام في قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) من سؤال عن هذه الكيفية. والتأكيد للاهتمام بالخبر. وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الهمزة فيكون المصدر بدلا من (عاقِبَةُ). والتأكيد أيضا للاهتمام.

وضمير الغيبة في (دَمَّرْناهُمْ) للرهط. وعطف قومهم عليهم لموافقة الجزاء للمجزيّ عليه لأنهم مكروا بصالح وأهله فدمّرهم الله وقومهم.

والتدمير : الإهلاك الشديد ، وتقدم غير مرة منها في سورة الشعراء.

والقصة تقدمت. وتقدم إنجاء صالح والذين آمنوا معه وذلك أن الله أوحى إليه أن يخرج ومن معه إلى أرض فلسطين حين أنذر قومه بتمتع ثلاثة أيام.

وتفريع قوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) على جملة : (دَمَّرْناهُمْ) لتفريع الإخبار. والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرّهم إلى الشام.

وانتصب (خاوِيَةً) على الحال. وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وقد تقدم في سورة هود [٧٢].

والخاوية : الخالية ، ومصدره الخواء ، أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها.

والباء في (بِما ظَلَمُوا) للسببية ، و (ما) مصدرية ، أي كان خواؤها بسبب ظلمهم.

والظلم : الشرك وتكذيب رسولهم ، فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته ، وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق.

ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثرا في خراب بلادهم. وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال : أجد في كتاب الله أن الظلم يخرّب البيوت وتلا : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا). وهذا من أسلوب أخذ كل ما يحتمل من معاني الكلام في القرآن كما ذكرناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.

ونزيده هنا ما لم يسبق لنا في نظائره ، وهو أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلا في الوجود الذهني كان بين كثير منها انتساب وتقارب يردّ بعضها إلى بعض

٢٧٧

باختلاف الاعتبار. فالشرك مثلا حقيقة معروفة يكون بها جنسا عقليا وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم ، أي الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم فإنه من أسبابه ، ومثل الفسق فإنه من آثاره ، وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضا : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) [المزمل : ١١] ، ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضا : فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع ، وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس ، وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي فيعبر عنه هنا بالظلم وهو كثير ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم ، ناهيك أن الشرك من أنواعه. وكذلك قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر : ٢٨] أي هو متأصل في الشرك وإلا فإن الله هدى كثيرا من المسرفين والكاذبين بالتوبة ، ومن قوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠] ونحو ذلك.

وجملة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) معترضة بين الجمل المتعاطفة. والإشارة إلى ما ذكر من عاقبة مكرهم. والآية : الدليل على انتصار الله لرسله.

واللام في (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لام التعليل يعني آية لأجلهم ، أي لأجل إيمانهم. وفيه تعريض بأن المشركين الذين سبقت إليهم هذه الموعظة إن لم يتعظوا بها فهم قوم لا يعلمون.

وفي ذكر كلمة (قوم) إيماء إلى أن من يعتبر بهذه الآية متمكن في العقل حتى كان العقل من صفته القومية ، كما تقدم في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

وفي تأخير جملة : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) عن جملة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) طمأنة لقلوب المؤمنين بأن الله ينجيهم مما توعد به المشركين كما نجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من ثمود وهم صالح ومن آمن معه. وقيل : كان الذين آمنوا مع صالح أربعة آلاف ، فلما أراد الله إهلاك ثمود أوحى الله إلى صالح أن يخرج هو ومن معه فخرجوا ونزلوا في موضع الرسّ فكان أصحاب الرسّ من ذرياتهم. وقيل : نزلوا شاطئ اليمن وبنوا مدينة حضرموت. وفي بعض الروايات أن صالحا نزل بفلسطين. وكلها أخبار غير موثوق بها.

وزيادة فعل الكون في (وَكانُوا يَتَّقُونَ) للدلالة على أنهم متمكّنون من التقوى.

٢٧٨

[٥٤ ، ٥٥] (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥))

عطف (لُوطاً) على (صالِحاً) في قوله السابق (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [النمل : ٤٥]. ولا يمنع من العطف أن العامل في المعطوف تعلق به قوله : (إِلى ثَمُودَ) لأن المجرور ليس قيدا لمتعلّقه ، ولكنه كواحد من المفاعيل فلا ارتباط له بالمعطوف على مفعول آخر. فإن الاتباع في الإعراب يميز المعطوف عليه من غيره. وقد سبق نظير هذا في سورة الأعراف. ولم يذكر المرسل إليهم هنا كما ذكر في قصة ثمود لعدم تمام المشابهة بين قوم لوط وبين قريش فيما عدا التكذيب والشرك. ويجوز أن ينصب (وَلُوطاً) بفعل مقدّر تقديره : واذكر لوطا ، لأن وجود (إِذْ) بعده يقربه من نحو : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣٠].

وتعقيب قصة ثمود بقصة قوم لوط جار على معتاد القرآن في ترتيب قصص هذه الأمم ، فإن قوم لوط كانوا متأخرين في الزمن عن ثمود.

وإنما الذي يستثير سؤالا هنا هو الاقتصار على قصة قوم لوط دون قصة عاد وقصة مدين. وقد بينته آنفا أنه لمناسبة مجاورة ديار قوم لوط لمملكة سليمان ووقوعها بين ديار ثمود وبين فلسطين وكانت ديارهم ممرّ قريش إلى بلاد الشام ، قال تعالى (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر : ٧٦] وقال (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات: ١٣٧ ، ١٣٨].

وظرف (إِذْ) يتعلق ب (أرسلنا) أو ب (اذكر) المقدّرين. والاستفهام في (أَتَأْتُونَ) إنكاري.

وجملة : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) حال زيادة في التشنيع ، أي تفعلون ذلك علنا يبصر بعضكم بعضا ، فإن التجاهر بالمعصية معصية لأنه يدل على استحسانها وذلك استخفاف بالنواهي.

وقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ) تقدم في الأعراف [٨١] (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ) ، فهنا جيء بالاستفهام الإنكاري ، وما في الأعراف جاء الخبر المستعمل في الإنكار ، فيجوز أن يكون اختلاف الحكاية لاختلاف المحكي بأن يكون لوط قد قال لهم المقالتين في مقامين

٢٧٩

مختلفين. ويجوز أن يكون اختلاف الحكاية تفننا مع اتحاد المعنى. وكلا الأسلوبين يقع في قصص القرآن ، لأن في تغيير الأسلوب تجديدا لنشاط السامع.

على أن ابن كثير وأبا عمرو وابن عامر وحمزة وأبا بكر عن عاصم قرءوا ما في سورة الأعراف بهمزتين فاستوت الآيتان على قراءة هؤلاء. وقد تقدمت وجوه ذلك في سورة الأعراف.

ووقع في الأعراف [٨٠] (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ولم يذكر هنا لأن ما يجري في القصة لا يلزم ذكر جميعه. وكذلك القول في عدم ذكر (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) في سورة الأعراف مع ذكره هنا.

ونظير بقية الآية تقدم في سورة الأعراف ، إلّا أن الواقع هنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ، فوصفهم بالجهالة وهي اسم جامع لأحوال أفن الرأي وقساوة القلب.

وفي الأعراف وصفهم بأنهم قوم مسرفون وذلك يحمل على اختلاف المقالتين في مقامين.

وفي إقحام لفظ (قَوْمٌ) في الآيتين من الخصوصية ما تقدم آنفا في قوله في هذه السورة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل : ٥٢].

ورجّح في قوله : (تَجْهَلُونَ) جانب الخطاب على جانب الغيبة فلم يقل : يجهلون ، بياء الغيبة وكلاهما مقتضى الظاهر لأن الخطاب أقوى دلالة كما قرئ في قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) [النمل : ٤٧].

[٥٦ ـ ٥٨] (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

تقدم نظير هاته الآية في سورة الأعراف [٨٢] ، وخالفتها هذه بوقوع العطف بالفاء في قوله (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) دون الواو ، وبقوله (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) عوض (أَخْرِجُوهُمْ) [الأعراف : ٨٢] وبقوله (قَدَّرْناها) عوض (كانَتْ) [الأعراف : ٨٣] ، وبقوله (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) عوض (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف : ٨٤].

فأما موقع الفاء هنا فهو لتعقيب الجملة المعطوفة بالفاء على التي قبلها تعقيب جزء

٢٨٠