تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

فتسير جميع أمور الأمة على عدل. ويضرب الله الأمثال للناس ، فضرب هذا المثل لنبيه سليمان بالوحي من دلالة نملة ، وذلك سر بينه وبين ربّه جعله تنبيها له وداعية لشكر ربّه فقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ).

وأوزع : مزيد (وزع) الذي هو بمعنى كفّ كما تقدم آنفا ، والهمزة للإزالة ، أي أزال الوزع ، أي الكف. والمراد أنه لم يترك غيره كافّا عن عمل وأرادوا بذلك الكناية عن ضد معناه ، أي كناية عن الحث على العمل. وشاع هذا الإطلاق فصار معنى أوزع أغرى بالعمل. فالمعنى : وفّقني للشكر ، ولذلك كان حقّه أن يتعدى بالباء.

فمعنى قوله : (أَوْزِعْنِي) ألهمني وأغرني. و (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) منصوب بنزع الخافض وهو الباء. والمعنى : اجعلني ملازما شكر نعمتك. وإنما سأل الله الدوام على شكر النعمة لما في الشكر من الثواب ومن ازدياد النعم ، فقد ورد : النعمة وحشية قيّدوها بالشكر فإنها إذا شكرت قرّت. وإذا كفرت فرّت (١). ومن كلام الشيخ ابن عطاء الله : «من لم يشكر النعمة فقد تعرّض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها». وفي «الكشاف» عند قوله : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [لقمان : ١٢] وفي كلام بعض المتقدمين «أن كفران النعم بوار ، وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم راهنها بكرم الجوار ، واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارا» (٢).

وأدرج سليمان ذكر والديه عند ذكره إنعام الله تعالى عليه لأن صلاح الولد نعمة على الوالدين بما يدخل عليهما من مسرة في الدنيا وما ينالهما من دعائه وصدقاته عنهما من الثواب.

ووالداه هما أبوه داود بن يسّي وأمه (بثشبع) بنت (اليعام) وهي التي كانت زوجة (أوريا) الحثّي فاصطفاها داود لنفسه (٣) ، وهي التي جاءت فيها قصة نبأ الخصم المذكورة في سورة ص.

__________________

(١) ذكره الطيبي في حاشية «الكشاف» ولم أقف عليه.

(٢) لم يذكر شراح «الكشاف» اسم هذا المتقدم المعزو إليه الكلام وأقشعت : تفرقت. والراهن : الدائم. ورجعت في نصابها أي في أصلها وقرارها. والوقار الحلم ، أي مالكم لا تظنون أن تأثير العذاب حلم من الله عليكم يوشك أن يزول.

(٣) الإصحاح ١١ والإصحاح ١٢ ، من سفر صمويل الثاني ، والإصحاح ٢ من سفر الملوك الأول.

٢٤١

و (أَنْ أَعْمَلَ) عطف على (أَنْ أَشْكُرَ). والإدخال في العباد الصالحين مستعار لجعله واحدا منهم ، فشبه إلحاقه بهم في الصلاح بإدخاله عليهم في زمرتهم ، وسؤاله ذلك مراد به الاستمرار والزيادة من رفع الدرجات لأن لعباد الله الصالحين مراتب كثيرة.

[٢٠ ، ٢١] (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

صيغة التفعّل تدل على التكلف ، والتكلف : الطلب. واشتقاق (تَفَقَّدَ) من الفقد يقتضي أن (تَفَقَّدَ) بمعنى طلب الفقد. ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد ، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء ، فالتفقد : البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيرا من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل ، ومنه الهدهد أيضا لمعرفة الماء ، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد. وللطير جنود يقومون بشئونها. وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها. والمعنى : تفقّد الطير في جملة ما تفقده ، فقال لمن يلون أمر الطير : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ).

ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية ، أو بمن يكل إليه ذلك ، فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال.

و (الْهُدْهُدَ) : نوع من الطير وهو ما يقرقر ، وفي رائحته نتن وفوق رأسه قزعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض ، فإذا رفرف على موضع علم أن به ماء ، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان. قال الجاحظ : يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها.

وقوله : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد ، ف (ما) استفهام. واللام من قوله : (لِيَ) للاختصاص. والمجرور باللام خبر عن (ما) الاستفهامية. والتقدير : ما الأمر الذي كان لي.

وجملة : (لا أَرَى الْهُدْهُدَ) في موضع الحال من ياء المتكلم المجرورة باللام ،

٢٤٢

فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال ، أي عن المانع لرؤية الهدهد. والكلام موجه إلى خفائه ، يعني : أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد.

و (أَمْ) منقطعة لأنها لم تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين. و (أَمْ) لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها ، فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر. والتقدير : بل أكان من الغائبين؟ وليست (أَمْ) المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام.

وصاحب «المفتاح» مثّل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض. ولما كان قول سليمان هذا صادرا بعد تقصّيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه ، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداما له لئلا يلقّن بالفساد غيره فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالا لغيره. فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود. ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عيّن له من عمل أو تغيب عنه.

وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله. قال القرافي في «تنقيح الفصول» في آخر فصوله : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهرّ الموذي هل يجوز؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اه. قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله. قال القرافي : وقال أبو حنيفة : إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة» اه. وقال الشيخ ابن أبي زيد في «الرسالة» : ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها. فقول سليمان (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) شريعة منسوخة.

أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير ، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش.

٢٤٣

و (أَوْ) تفيد أحد الأشياء فقوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول.

والسلطان : الحجة. والمبين : المظهر لحق المحتج بها. وهذه الزيادة من النبي سليمان استقصاء للهدهد في حقه لأن الغائب حجته معه.

وأكد عزمه على عقابه بتأكيد الجملتين (لَأُعَذِّبَنَّهُ) ـ (لَأَذْبَحَنَّهُ) باللام الموكدة التي تسمى لام القسم وبنون التوكيد ليعلم الجند ذلك حتى إذا فقد الهدهد ولم يرجع يكون ذلك التأكيد زاجرا لباقي الجند عن أن يأتوا بمثل فعلته فينالهم العقاب.

وأما تأكيد جملة : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فلإفادة تحقيق أنه لا منجى له من العقاب إلا أن يأتي بحجة تبرّر تغيبه ، لأن سياق تلك الجملة يفيد أن مضمونها عديل العقوبة. فلما كان العقاب مؤكّدا محققا فقد اقتضى تأكيد المخرج منه لئلا يبرئه منه إلا تحقق الإتيان بحجة ظاهرة لئلا تتوهم هوادة في الإدلاء بالحجة فكان تأكيد العديل كتأكيد معادله. وبهذا يظهر أن (أَوْ) الأولى للتخيير و (أَوْ) الثانية للتقسيم. وقيل جيء بتوكيد جملة : (لَيَأْتِيَنِّي) مشاكلة للجملتين اللتين قبلها وتغليبا. واختاره بعض المحققين وليس من التحقيق.

وكتب في المصاحف (لَأَذْبَحَنَّهُ) بلام ألف بعدها ألف حتى يخال أنه نفي الذبح وليس بنفي ، لأن وقوع نون التوكيد بعده يؤذن بأنه إثبات إذ لا يؤكد المنفي بنون التأكيد إلا نادرا في كلامهم ، ولأن سياق الكلام والمعنى حارس من تطرق احتمال النفي ، ولأن اعتماد المسلمين في ألفاظ القرآن على الحفظ لا على الكتابة ، فإن المصاحف ما كتبت حتى قرئ القرآن نيّفا وعشرين سنة. وقد تقع في رسم المصحف أشياء مخالفة لما اصطلح عليه الراسمون من بعد لأن الرسم لم يكن على تمام الضبط في صدر الإسلام وكان اعتماد العرب على حوافظهم.

وقرأ ابن كثير : أو ليأتينني بنونين ، الأولى مشددة وهي نون التوكيد ، والثانية نون الوقاية. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة بحذف نون الوقاية لتلاقي النونات.

[٢٢ ـ ٢٦] (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا

٢٤٤

يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ).

الفاء لتفريع الحكاية عطفت جملة على جملة وضمير (فَمَكَثَ) للهدهد.

والمكث : البقاء في المكان وملازمته زمنا ما ، وفعله من باب كرم ونصر. وقرأه الجمهور بالأول. وقرأ عاصم وروح عن يعقوب بالثاني.

وأطلق المكث هنا على البطء لأنّ الهدهد لم يكن ماكثا بمكان ولكنه كان يطير وينتقل ، فأطلق المكث على البطء مجاز مرسل لأن المكث يستلزم زمنا.

و (غَيْرَ بَعِيدٍ) صفة لاسم زمن أو اسم مكان محذوف منصوب على الظرفية ، أي مكث زمنا غير بعيد ، أو في مكان غير بعيد ، وكلا المعنيين يقتضي أنه رجع إلى سليمان بعد زمن قليل.

و (غَيْرَ بَعِيدٍ) قريب قربا يوصف بضد البعد ، أي يوشك أن يكون بعيدا. وهذا وجه إيثار التعبير ب (غَيْرَ بَعِيدٍ) لأن (غَيْرَ) تفيد دفع توهم أن يكون بعيدا ، وإنما يتوهم ذلك إذا كان القرب يشبه البعد.

والبعد والقرب حقيقتهما من أوصاف المكان ويستعاران لقلة الحصة بتشبيه الزمن القصير بالمكان القريب وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة قال تعالى : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩].

والفاء في (فَقالَ) عاطفة على «مكث» وجعل القول عقيب المكث لأنه لما حضر صدر القول من جهته فالتعقيب حقيقي.

والقول المسند إلى الهدهد إن حمل على حقيقة القول وهو الكلام الذي من شأنه أن ينطق به الناس ، فقول الهدهد هذا ليس من دلالة منطق الطير الذي علّمه سليمان لأن ذلك هو المنطق الدال على ما في نفوس الطير من المدركات وهي محدودة كما قدمنا بيانه عند قوله تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل : ١٦]. وليس للهدهد قبل بإدراك ما اشتمل عليه

٢٤٥

القول المنسوب إليه ولا باستفادة الأحوال من مشاهدة الأقوام والبلدان حتى تخطر في نفسه وحتى يعبر عنها بمنطقه الذي علّم سليمان دلالته كما قدمناه. فهذا وحي لسليمان أجراه الله على لسان الهدهد.

وأما قول سليمان (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧] فيجوز أن يكون سليمان خشي أن يكون ذلك الكلام الذي سمعه من تلقاء الهدهد كلاما ألقاه الشيطان من جانب الهدهد ليضلّل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ليسخر به كما يسخر بالمتثائب ، فعزم سليمان على استثبات الخبر بالبحث الذي لا يترك ريبة في صحته خزيا للشيطان.

ولنشتغل الآن بما اشتمل عليه هذا الكلام فابتداؤه ب (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) تنبيه لسليمان بأن في مخلوقات الله ممالك وملوكا تداني ملكه أو تفوقه في بعض أحوال الملك جعله الله مثلا له ، كما جعل علم الخضر مثلا لموسى عليه‌السلام لئلا يغتر بانتهاء الأمر إلى ما بلغه هو. وفيه استدعاء لإقباله على ما سيلقى إليه بشراشره لأهمية هذا المطلع في الكلام ، فإن معرفة أحوال الممالك والأمم من أهم ما يعنى به ملوك الصلاح ليكونوا على استعداد بما يفاجئهم من تلقائها ، ولتكون من دواعي الازدياد من العمل النافع للمملكة بالاقتداء بالنافع من أحوال غيرها والانقباض عما في أحوال المملكة من الخلل بمشاهدة آثار مثله في غيرها.

ومن فقرات الوزير ابن الخطيب الأندلسي (١) : فأخبار الأقطار مما تنفق فيه الملوك أسمارها ، وترقم ببديع هالاته أقمارها ، وتستفيد منه حسن السير ، والأمن من الغير ، فتستعين على الدهر بالتجارب .. وتستدل بالشاهد على الغائب اه.

والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط. وهي هنا مستعارة لاستيعاب العلم بالمعلومات كقوله تعالى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨] فما صدق (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) معلومات لم يحط بها علم سليمان.

و (سَبَإٍ) : بهمزة في آخره وقد يخفف اسم رجل هو عبّشمس بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. لقب بسبإ. قالوا : لأنه أول من سبى في غزوه. وكان الهمز فيه لتغييره العلمية عن المصدر. وهو جدّ جذم عظيم من أجذام العرب. وذريته كانوا باليمن ثم

__________________

(١) في رسالة من مراسلاته في كتاب «ريحان الكتّاب».

٢٤٦

تفرقوا كما سيأتي في سورة سبأ. وأطلق هذا الاسم هنا على ديارهم لأن (مِنْ) ابتدائية وهي لابتداء الأمكنة غالبا.

فاسم (سَبَإٍ) غلب على القبيلة المتناسلة من سبأ المذكور وهم من الجذم القحطاني المعروف بالعرب المستعربة ، أي الذين لم ينشئوا في بلاد العرب ولكنهم نزحوا من العراق إلى بلاد العرب ، وأول نازح منهم هو يعرب (بفتح التحتية وضم الراء) بن قحطان (وبالعبرانية يقطان) بن عابر بن شالخ بن أرفخشد (وبالعبرانية أرفكشاد) بن سام بن نوح. وهذا النسب يتفق مع ما في سفر التكوين من سام إلى عابر ، فمن عابر يفترق نسب القحطانيين من نسب العبرانيين ؛ فأما أهل أنساب العرب فيجعلون لعابر ابنين أحدهما اسمه قحطان والآخر اسمه (فالغ). وأما سفر التكوين فيجعل أنّ أحدهما اسمه (يقطن) ولا شك أنه المسمى عند العرب قحطان ، والآخر اسمه (فالج) بفاء في أوله وجيم في آخره ، فوقع تغيير في بعض حروف الاسمين لاختلاف اللغتين.

ولما انتقل يعرب سكن جنوب البلاد العربية (اليمن) فاستقر بموضع بنى فيه مدينة ظفار (بفتح الظاء المشالة المعجمة وكسر الراء) فهي أول مدينة في بلاد اليمن وانتشر أبناؤه في بلاد الجنوب الذي على البحر وهو بلاد (حضرموت) ثم بنى ابنه يشجب (بفتح التحتية وضم الجيم) مدينة صنعاء وسمى البلاد باليمن ، ثم خلفه ابنه عبّشمس (بتشديد الموحدة ومعناه ضوء الشمس) وساد قومه ولقب سبأ (بفتحتين وهمزة في آخره) واستقل بأهله فبنى مدينة مأرب حاضرة سبأ ، قال النابغة الجعدي :

من سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما

وبين مأرب وصنعاء مسيرة ثلاث مراحل خفيفة.

ثم جاء بعد سبأ ابنه حمير ويلقب العرنجج (أي العتيق) ، ويظهر أنه جعل بلاده ظفار بعد أن انتقل أبناء يشجب منها إلى صنعاء. وفي المثل : من ظفّر حمّر ، أي من دخل ظفار فليتكلم بالحميرية ، ولهذا المثل قصة.

فكانت البلاد اليمنية أو القحطانية منقسمة إلى ثلاث قبائل : اليمنية ، والسبئية ، والحميرية. وكان على كل قبيلة ملك منها ، واستقلّت أفخاذهم بمواقع أطلقوا على الواحد منها اسم مخلاف (بكسر الميم) وكان لكل مخلاف رئيس يلقب بالقيل ويقال له : ذو كذا ، بالإضافة إلى اسم مخلافه ، مثل ذو رعين. والملك الذي تتبعه الأقيال كلها ويحكم اليمن

٢٤٧

كلّها يلقب تبّع لأنه متبوع بأمراء كثيرين.

وقد انفردت سبأ بالملك في حدود القرن السابع عشر قبل الهجرة وكان أشهر ملوكهم أو أولهم الهدهاد بن شرحبيل ويلقب اليشرّح (بفتح التحتية وفتح الشين المعجمة وفتح الراء مشددة وبحاء مهملة في آخره). ثم وليت بعده بلقيس ابنة شرحبيل أيضا أو شراحيل ولم تكن ذات زوج فيما يظهر من سياق القرآن. وقيل كانت متزوجة شدد بن زرعة ، فإن صح ذلك فلعله لم تطل مدته فمات. وكان أهل سبأ صابئة يعبدون الشمس. وبقية ذكر حضارتهم تأتي في تفسير سورة سبأ.

و (أَحَطْتُ) يقرأ بطاء مشددة لأنه التقاء طاء الكلمة وتاء المتكلم فقلبت هذه التاء طاء وأدغمتا.

والباء في قوله : (بِنَبَإٍ) للمصاحبة لأن النبأ كان مصاحبا للهدهد حين مجيئه ، والنبأ : الخبر المهم.

وبين ب (سَبَإٍ) و (بِنَبَإٍ) الجناس المزدوج. وفيه أيضا جناس الخط وهو أن تكون صورة الكلمتين واحدة في الخط وإنما تختلفان في النطق. ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٧٩ ، ٨٠].

ووصفه ب (يَقِينٍ) تحقيق لكون ما سيلقى إليه شيء محقق لا شبهة فيه فوصف بالمصدر للمبالغة.

وجملة : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) بيان لنبأ فلذلك لم تعطف. وإدخال (إنّ) في صدر هذه الجملة لأهمية الخبر إذ لم يكن معهودا في بني إسرائيل أن تكون المرأة ملكا.

وفعل (تَمْلِكُهُمْ) هنا مشتق من الملك بضم الميم وفعله كفعل ملك الأشياء. وروي حديث هرقل «هل كان في آبائه من ملك» بفتح اللام ، أي كان ملكا ، ويفرق بين الفعلين بالمصدر فمصدر هذا ملك بضم الميم ، والآخر بكسرها ، وضمير الجمع راجع إلى سبأ.

وهذه المرأة أريد بها بلقيس (بكسر الموحدة وسكون اللام وكسر القاف) ابنة شراحيل وفي ترتيبها مع ملوك سبأ وتعيين اسمها واسم أبيها اضطراب للمؤرخين. والموثوق به أنها كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عشر قبل الهجرة وكانت امرأة عاقلة. ويقال : هي التي بنت سدّ مأرب. وكانت حاضرة ملكها مأرب مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل وسيأتي ذكرها في سورة سبأ.

٢٤٨

وتنكير (امْرَأَةً) وهو مفعول أول ل (وَجَدْتُ) له حكم المبتدأ فهو كالابتداء بالنكرة إذا أريد بالنكرة التعجب من جنسها كقولهم : بقرة تكلمت ، لأن المراد حكاية أمر عجيب عندهم أن تكون امرأة ملكة على قوم. ولذلك لم يقل : وجدتهم تملكهم امرأة.

والإيتاء : الإعطاء ، وهو مشعر بأن المعطى مرغوب فيه ، وهو مستعمل في لازمه وهو النول.

ومعنى (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) نالت من كل شيء حسن من شئون الملك. فعموم كل شيء عموم عرفي من جهتين يفسره المقام كما فسر قول سليمان (أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ١٦] ، أي أوتيت من خصال الملوك ومن ذخائرهم وعددهم وجيوشهم وثراء مملكتهم وزخرفها ونحو ذلك من المحامد والمحاسن.

وبناء فعل (أُوتِيَتْ) إلى المجهول إذ لا يتعلق الغرض بتعيين أسباب ما نالته بل المقصود ما نالته على أن الوسائل والأسباب شتى ، فمنه ما كان إرثا من الملوك الذين سلفوها ، ومنه ما كان كسبا من كسبها واقتنائها ، ومنه ما وهبها الله من عقل وحكمة ، وما منح بلادها من خصب ووفرة مياه. وقد كان اليونان يلقبون مملكة اليمن بالعربية السعيدة أخذا من معنى اليمن في العربية ، وقال تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ : ١٥]. وأما رجاحة العقول ففي الحديث : «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية» فليس المراد خصوص ما آتاها الله في أصل خلقتها وخلقة أمتها وبلادها ، ولذا فلم يتعين الفاعل عرفا. وكلّ من عند الله.

وخص من نفائس الأشياء عرشها إذ كان عرشا بديعا ولم يكن لسليمان عرش مثله. وقد جاء في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول ما يقتضي أن سليمان صنع كرسيّه البديع بعد أن زارته ملكة سبأ. وسنشير إليه عند قوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) [النمل : ٣٨].

والعظيم : مستعمل في عظمة القدر والنفاسة في ضخامة الهيكل والذات. وأعقب التنويه بشأنها بالحط من حال اعتقادهم إذ هم يسجدون ، أي يعبدون الشمس. ولأجل الاهتمام بهذا الخبر أعيد فعل وجدتها إنكارا لكونهم يسجدون للشمس ، فذلك من انحطاط العقلية الاعتقادية فكان انحطاطهم في الجانب الغيبي من التفكير وهو ما يظهر فيه تفاوت عوض العقول على الحقائق لأنه جانب متمحّض لعمل الفكر لا يستعان فيه بالأدلة

٢٤٩

المحسوسة ، فلا جرم أن تضل فيه عقول كثير من أهل العقول الصحيحة في الشئون الخاضعة للحواس. قال تعالى في المشركين (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ* أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الروم : ٧ ، ٨] وكان عرب اليمن أيامئذ من عبدة الشمس ثم دخلت فيهم الديانة اليهودية في زمن تبّع أسعد من ملوك حمير ، ولكونهم عبدة شمس كانوا يسمون عبد شمس كما تقدم في اسم سبأ.

وقد جمع هذا القول الذي ألقي إلى سليمان أصول الجغرافية السياسية من صفة المكان والأديان ، وصبغة الدولة وثروتها ، ووقع الاهتمام بأخبار مملكة سبأ لأن ذلك أهم لملك سليمان إذ كانت مجاورة لمملكته يفصل بينهما البحر الأحمر ، فأمور هذه المملكة أجدى بعمله.

وقرأ الجمهور : (مِنْ سَبَإٍ) بالصرف. وقرأه أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بفتحة غير مصروف على تأويل البلاد أو القبيلة. وقرأه قنبل عن ابن كثير بسكون الهمزة على اعتبار الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)).

يجوز أن يكون هذا من جملة الكلام الذي ألقي على لسان الهدهد ، فالواو للعطف. والأظهر أنه كلام آخر من القرآن ذيّل به الكلام الملقى إلى سليمان ، فالواو للاعتراض بين الكلام الملقى لسليمان وبين جواب سليمان ، والمقصود التعريض بالمشركين.

وقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) قرأه الجمهور بتشديد اللام على أنه مركب في الخط من (أن) و (لا) النافية كتبتا كلمة واحدة اعتبارا بحالة النطق بها على كل المعاني المرادة منها. و (يَسْجُدُوا) فعل مضارع منصوب. ويقدر لام جر يتعلق ب (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي صدهم لأجل أن لا يسجدوا لله ، أي فسجدوا للشمس.

ويجوز أن يكون المصدر المسبوك من (أَلَّا يَسْجُدُوا) بدل بعض من (أَعْمالَهُمْ) وما بينهما اعتراض.

٢٥٠

وجوز أن يكون (أَلَّا) كلمة واحدة بمعنى (هلّا) فإن هاءها تبدل همزة. وجعل (يَسْجُدُوا) مركبا من ياء النداء المستعملة تأكيدا للتنبيه وفعل أمر من السجود كقول ذي الرمة :

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

وهو لا يلائم رسم المصحف إلا أن يقال : إنه رسم كذلك على خلاف القياس. وقرأ الكسائي بتخفيف اللام على أنها (ألا) حرف الاستفتاح ويتعين أن يكون (يَسْجُدُوا) مركبا من ياء النداء وفعل الأمر ، كما تقدم وفيه ما تقدم. والوقف في هذه على (ألا).

وتزيين الأعمال تقدم في أول السورة عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل : ٤]. وإسناده هنا للشيطان حقيقي و (السَّبِيلِ) مستعار للدين الذي باتباعه تكون النجاة من العذاب وبلوغ دار الثواب.

و (الْخَبْءَ) : مصدر خبأ الشيء إذا أخفاه. أطلق هنا على اسم المفعول ، أي المخبوء على طريقة المبالغة في الخفاء كما هو شأن الوصف بالمصدر. ومناسبة وقوع الصفة بالموصول في قوله : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) لحالة خبر الهدهد ظاهرة لأن فيها اطلاعا على أمر خفي. وإخراج الخبء : إبرازه للناس ، أي إعطاؤه ، أي إعطاء ما هو غير معلوم لهم من المطر وإخراج النبات وإعطاء الأرزاق ، وهذا مؤذن بصفة القدرة. وقوله : ويعلم ما يخافون وما يعلنون مؤذن بعموم صفة العلم.

وقرأ الجمهور : يخفون ... ويعلنون بياء الغيبة. وقرأه الكسائي وحفص عن عاصم بتاء الخطاب فهو التفات.

ومجيء جملة : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) عقب ذلك استئناف هو بمنزلة النتيجة للصفات التي أجريت على اسم الجلالة وهو المقصود من هذا التذييل ، أي ليس لغير الله شبهة إلهية.

وقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي مالك الفلك الأعظم المحيط بالعوالم العليا وقد تقدم. وفي هذا تعريض بأن عظمة ملك بلقيس وعظم عرشها ما كان حقيقا بأن يغرها بالإعراض عن عبادة الله تعالى لأن الله هو رب الملك الأعظم ، فتعريف (الْعَرْشِ) للدلالة على معنى الكمال. ووصفه ب (الْعَظِيمِ) للدلالة على كمال العظم في تجسم النفاسة.

وفي منتهى هذه الآية موضع سجود تلاوة تحقيقا للعمل بمقتضى قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا

٢٥١

لِلَّهِ). وسواء قرئ بتشديد اللام من قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) أم بتخفيفها لأن مآل المعنى على القراءتين واحد وهو إنكار سجودهم لغير الله لأن الله هو الحقيق بالسجود.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧))

تقدم عند قوله : (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النمل : ٢٢] بيان وجه تطلب سليمان تحقيق صدق خبر الهدهد. والنظر هنا نظر العقل وهو التأمّل ، لا سيما وإقحام (كُنْتَ) أدخل في نسبته إلى الكذب من صيغة (أَصَدَقْتَ) لأن فعل (كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) يفيد الرسوخ في الوصف بأنه كائن عليه. وجملة : (مِنَ الْكاذِبِينَ) أشدّ في النسبة إلى الكذب بالانخراط في سلك الكاذبين بأن يكون الكذب عادة له. وفي ذلك إيذان بتوضيح تهمته بالكذب ليتخلص من العقاب ، وإيذان بالتوبيخ والتهديد وإدخال الروع عليه بأنّ كذبه أرجح عند الملك ليكون الهدهد مغلّبا الخوف على الرجاء ، وذلك أدخل في التأديب على مثل فعلته وفي حرصه على تصديق نفسه بأن يبلغ الكتاب الذي يرسله معه.

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨))

الجملة مبيّنة لجملة (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧] لأن فيما سينكشف بعد توجيه كتابه إلى ملكة سبأ ما يصدق خبر الهدهد إن جاء من الملكة جواب عن كتابه ، أو يكذب خبر الهدهد إن لم يجىء منها جواب. ألهم الله سليمان بحكمته أن يجعل لاتصاله ببلاد اليمن طريق المراسلة لإدخال المملكة في حيّز نفوذه والانتفاع باجتلاب خيراتها وجعلها طريق تجارة مع شرق مملكته فكتب إلى ملكة سبأ كتابا لتأتي إليه وتدخل تحت طاعته وتصلح ديانة قومها ، وليعلم أن الله ألقى في نفوس الملوك المعاصرين له رهبة من ملكه وجلبا لمرضاته لأن الله أيّده وإن كانت مملكته أصغر من ممالك جيرانه مثل مملكة اليمن ومملكة مصر. وكانت مملكة سليمان يومئذ محدودة بالأردن وتخوم مصر وبحر الروم (١). ولم يزل تبادل الرسائل بين الملوك من سنة الدول ومن سنة الدعاة إلى الخير. وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر. وقد عظم شأن الكتابة في دول الإسلام ، قال الحريري في «المقامة الثانية والعشرين» : «والمنشئ جهنية الأخبار ، وحقيبة الأسرار ، وقلمه لسان الدولة ، وفارس الجولة ...» إلخ.

__________________

(١) انظر الإصحاح ٤ من سفر الملوك الأولى.

٢٥٢

واتخذ للمراسلة وسيلة الطير الزاجل من حمام ونحوه ، فالهدهد من فصيلة الحمام وهو قابل للتدجين ، فقوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) يقتضي كلاما محذوفا وهو أن سليمان فكر في الاتصال بين مملكته وبين مملكة سبأ فأحضر كتابا وحمّله الهدهد.

وتقدم القول على (ما ذا) عند قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) في سورة النحل [٢٤]. وفعل انظر معلق عن العمل بالاستفهام.

والإلقاء : الرمي إلى الأرض. وتقدم في قوله تعالى : (وَأَلْقُوهُ فِي) غيابات الجب في سورة يوسف [١٠] وهو هنا مستعمل إمّا في حقيقته إن كان شأن الهدهد أن يصل إلى المكان فيرمي الكتاب من منقاره ، وإما في مجازه إن كان يدخل المكان المرسل إليه فيتناول أصحابه الرسالة من رجله التي تربط فيها الرسالة فيكون الإلقاء مثل قوله : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) في سورة النحل [٨٦].

والمراد بالرّجع : رجع الجواب عن الكتاب ، أي من قبول أو رفض. وهذا كقوله الآتي: (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) [النمل : ٣٣].

[٢٩ ـ ٣١] (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

طويت أخبار كثيرة دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث ، إذ التقدير : فذهب الهدهد إلى سبأ فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته ، قالت : يا أيها الملأ إلخ.

وجملة : (قالَتْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالا عن شأنها حين بلغها الكتاب.

و (الْمَلَأُ) : الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها. وظاهر قولها : (أُلْقِيَ إِلَيَ) أن الكتاب سلّم إليها دون حضور أهل مجلسها. وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأسا. والإلقاء تقدم آنفا.

ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في سورة الأنفال [٧٤] ؛ بأن كان نفيس الصحيفة نفيس التخطيط

٢٥٣

بهيج الشكل مستوفيا كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه. ومن ذلك أن يكون مختوما ، وقد قيل : كرم الكتاب ختمه ، ليكون ما في ضمنه خاصا باطلاع من أرسل إليه وهو يطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء. قال ابن العربي : «الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير ، والأثير ، والمبرور ، فإن كان لملك قالوا : العزيز ، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة».

وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محمودا عندها لأنها قالت : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [النمل : ٣٤].

ثم قصّت عليهم الكتاب حين قالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) إلى آخره. فيحتمل أن يكون قد ترجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشورتها ، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية ، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوبا بالعربية القحطانية ، فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتّاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته ، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك ، وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للملوك باللغة العربية.

أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشئ بها.

وقوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) هو من كلام الملكة ابتدأت به مخاطبة أهل مشورتها لإيقاظ أفهامهم إلى التدبر في مغزاه لأن اللائق بسليمان أن لا يقدّم في كتابه شيئا قبل اسم الله تعالى ، وأن معرفة اسم سليمان تؤخذ من ختمه وهو خارج الكتاب فلذلك ابتدأت به أيضا.

والتأكيد ب (إنّ) في الموضعين يترجم عما في كلامهما باللغة السبائية من عبارات دالة على اهتمامها بمرسل الكتاب وبما تضمنه الكتاب اهتماما يؤدّى مثله في العربية الفصحى بحرف التأكيد الذي يدل على الاهتمام في مقام لا شك فيه.

وتكرير حرف (إن) بعد واو العطف إيماء إلى اختلاف المعطوف والمعطوف عليه بأن المراد بالمعطوف عليه ذات الكتاب ، والمراد بالمعطوف معناه وما اشتمل عليه ، كما تقول : إن فلانا لحسن الطلعة وإنه لزكيّ. وهذا من خصوصيات إعادة العامل بعد حرف العطف مع إغناء حرف العطف عن ذكر العامل ، ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

٢٥٤

أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، أعيد (أَطِيعُوا) لاختلاف معنى الطاعتين ، لأن طاعة الله تنصرف إلى الأعمال الدينية ، وطاعة الرسول مراد بها طاعته في التصرفات الدنيوية ، ولذلك عطف على الرسول أولو الأمر من الأمة.

وقوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) حكاية لمقالها ، وعرفت هي ذلك من عنوان الكتاب بأعلاه أو بظاهره على حسب طريقة الرسائل السلطانية في ذلك العهد في بني إسرائيل ، مثل افتتاح كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الملوك بجملة : «من محمد رسول الله».

وافتتاح الكتاب بجملة البسملة يدل على أن مرادفها كان خاصا بكتب النبي سليمان أن يتبع اسم الجلالة بوصفي : الرحمن الرحيم ، فصار ذلك سنة لافتتاح الأمور ذوات البال في الإسلام ادخره الله للمسلمين من بقايا سنة الأنبياء بعد أن تنوسي ذلك فإنه لم يعرف أن بني إسرائيل افتتحوا كتبهم باسم الله الرحمن الرحيم.

روى أبو داود في كتاب «المراسيل» : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكتب «باسمك اللهم» كما كانت قريش تكتب ، فلما نزلت هذه الآية صار يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ، أي صار يكتب البسملة في أول كتبه. وأما جعلها فصلا بين السور أو آية من كل سورة فمسألة أخرى.

وكان كتاب سليمان وجيزا لأن ذلك أنسب بمخاطبة من لا يحسن لغة المخاطب فيقتصر له على المقصود لإمكان ترجمته وحصول فهمه فأحاط كتابه بالمقصود ، وهو تحذير ملكة سبأ من أن تحاول الترفع على الخضوع إلى سليمان والطاعة له كما كان شأن الملوك المجاورين له بمصر وصور والعراق.

فالإتيان المأمور به في قوله : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) هو إتيان مجازي مثل ما يقال : اتبع سبيلي.

و (مُسْلِمِينَ) مشتق من أسلم إذا تقلد الإسلام. وإطلاق اسم الإسلام على الدين يدل على أن سليمان إنما دعا ملكة سبأ وقومها إلى نبذ الشرك والاعتراف لله بالإلهية والوحدانية ولم يدعهم إلى اتباع شريعة التوراة لأنهم غير مخاطبين بها وأما دعوتهم إلى إفراد الله بالعبادة والاعتراف له بالوحدانية في الإلهية فذلك مما خاطب الله به البشر كلهم وشاع ذلك فيهم من عهد آدم ونوح وإبراهيم. وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٢] ، قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ

٢٥٥

لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠]. جمع سليمان بين دعوتها إلى مسالمته وطاعته وذلك تصرف بصفة الملك ، وبين دعوة قومها إلى اتباع دين التوحيد وذلك تصرف بالنبوءة لأن النبي يلقي الإرشاد إلى الهدى حيثما تمكّن منه كما قال شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] وهذا نظير قول يوسف لصاحبي السجن (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] الآية. وإن كان لم يرسل إليهم ، فالأنبياء مأمورون أمرا عاما بالإرشاد إلى الحق ، وكذلك دعاء سليمان هنا ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم» فهذه سنة الشرائع لأن الغاية المهمة عندها هو إصلاح النفوس دون التشفي وحب الغلبة.

وحرف (أن) من قوله : (أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى) في موقعه غموض لأن الظاهر أنه مما شمله كتاب سليمان لوقوعه بعد البسملة التي هي مبدأ الكتاب. وهذا الحرف لا يخلو من كونه (أن) المصدرية الناصبة للمضارع ، أو المخففة من الثقيلة ، أو التفسيرية.

فأما معنى (أن) المصدرية الناصبة للمضارع فلا يتضح لأنها تستدعي عاملا يكون مصدرها المنسبك بها معمولا له وليس في الكلام ما يصلح لذلك لفظا مطلقا ولا معنى إلا بتعسف ، وقد جوزه ابن هشام في «مغني اللبيب» في بحث (ألّا) الذي هو حرف تحضيض وهو وجهة شيخنا محمد النجار رحمه‌الله بأن يجعل (أَنْ لا تَعْلُوا) إلخ خبرا عن ضمير (كِتابٌ) في قوله : (وَإِنَّهُ) فحيث كان مضمون الكتاب النهي عن العلو جعل (أَلَّا تَعْلُوا) نفس الكتاب كما يقع الإخبار بالمصدر. وهذا تكلف لأنه يقتضي الفصل بين أجزاء الكتاب بقوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وأما معنى المخففة من الثقيلة فكذلك لوجوب سدّ مصدر مسدّها وكونها معمولة لعامل ، وليس في الكلام ما يصلح لذلك أيضا. وقد ذكر وجها ثالثا في الآية في بعض نسخ «مغني اللبيب» في بحث (ألّا) أيضا ولم يوجد في النسخ الصحيحة من «المغني» ولا من «شروحه» ولعله من زيادات بعض الطلبة. وقد اقتصر في «الكشاف» على وجه التفسيرية لعلمه بأن غير ذلك لا ينبغي أن يفرض. وأعقبه بما روي من نسخة كتاب سليمان ليظهر أن ليس في كتاب سليمان ما يقابل حرف (أن) فلذلك تتعين (أن) لمعنى التفسيرية لضمير (وَإِنَّهُ) العائد إلى (كِتابٌ) كما علمته آنفا لأنه لما كان عائدا إلى (كِتابٌ) كان بمعنى معاده فكان مما فيه معنى القول دون حروفه فصح وقع (أن) بعده فيكون (أن) من كلام ملكة سبأ فسّرت بها وبما بعدها مضمون (كِتابٌ) في قولها : (أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ).

٢٥٦

و (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) يكون هو أول كتاب سليمان ، وأنها حكاية لكلام بلقيس. قال في «الكشف» يتبين أن قوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) بيان لعنوان الكتاب وأن قوله : (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إلخ بيان لمضمون الكتاب فلا يرد سؤال كيف قدم قوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) على (إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ولم تزل نفسي غير منثلجة لهذه الوجوه في هذه الآية ويخطر ببالي أن موقع (أن) هذه استعمال خاص في افتتاح الكلام يعتمد عليه المتكلم في أول كلامه. وأنها المخففة من الثقيلة. وقد رأيت في بعض خطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الافتتاح ب (أن) في ثاني خطبة خطبها بالمدينة في «سيرة ابن إسحاق». وذكر السهيلي : أنّ الحمد ، مضبوط بضمة على تقدير ضمير الأمر والشأن. ولكن كلامه جرى على أن حرف (إن) مكسور الهمزة مشدد النون. ويظهر لي أن الهمزة مفتوحة وأنه استعمال ل (أن) المخففة من الثقيلة في افتتاح الأمور المهمة وأن منه قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠].

و (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) نهي مستعمل في التهديد ولذلك أتبعته ملكة سبأ بقولها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) [النمل : ٣٢].

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢))

سألتهم إبداء آرائهم ما ذا تعمل تجاه دعوة سليمان. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا مثل التي قبلها.

والإفتاء : الإخبار بالفتوى وهي إزالة مشكل يعرض. وقد تقدمت عند قوله تعالى : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) في سورة يوسف [٤١].

والأمر : الحال المهم ، وإضافته إلى ضميرها لأنها المخاطبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شئون المملكة وعليها تبعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة ، ولذلك يقال للخليفة وللملك وللأمير ولعالم الدين : وليّ الأمر. وبهذه الثلاثة فسّر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩]. وقال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان :

أوليّ أمر الله إنا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

فهذا معنى قولهم لها : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) [النمل : ٣٣].

٢٥٧

وقد أفادت إضافة (أَمْرِي) تعريفا ، أي في الحادثة المعيّنة.

ومعنى (قاطِعَةً أَمْراً) عاملة عملا لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان.

وصيغة (كُنْتُ قاطِعَةً) تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم ، فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين.

والأمر في (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) هو أيضا الحال المهم ، أي أنها لا تقضي في المهمات إلا عن استشارتهم.

و (تَشْهَدُونِ) مضارع شهد المستعمل بمعنى حضر كقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، أي حتى تحضرون. وشهد هذا يتعدى بنفسه إلى كل ما يحضر فاعل الفعل عنده من مكان وزمان واسم ذات ، وذلك تعدّ على التوسع لكثرته ، وحق الفعل أن يعدى بحرف الجر أو يعلق به ظرف. يقال : شهد عند فلان وشهد مجلس فلان. ويقال : شهد الجمعة. وفعل (تَشْهَدُونِ) هنا مستعمل كناية عن المشاورة لأنها يلزمها الحضور غالبا إذ لا تقع مشاورة مع غائب.

والنون في (تَشْهَدُونِ) نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفا وألقيت كسرة النون المجتلبة لوقاية الحرف الأخير من الفعل عن أن يكون مكسورا ، ونون الوقاية دالة على المحذوف.

وقرأه الجمهور بحذف الياء وصلا ووقفا. وقرأ يعقوب بإثبات الياء وصلا ووقفا.

وفي قولها : (حَتَّى تَشْهَدُونِ) كناية عن معنى : توافقوني فيما أقطعه ، أي يصدر منها في مقاطع الحقوق والسياسة : إما بالقول كما جرى في هذه الحادثة ، وإما بالسكوت وعدم الإنكار لأن حضور المعدود للشورى في مكان الاستشارة مغن عن استشارته إذ سكوته موافقة. ولذلك قال فقهاؤنا : إن على القاضي إذا جلس للقضاء أن يقضي بمحضر أهل العلم ، أو مشاورتهم. وكان عثمان يقضي بمحضر أهل العلم وكان عمر يستشيرهم وإن لم يحضروا. وقال الفقهاء : إن سكوتهم مع حضورهم تقرير لحكمه.

وليس في هذه الآية دليل على مشروعية الشورى لأنها لم تحك شرعا إليها ولا سيق مساق المدح ، ولكنه حكاية ما جرى عند أمة غير متدينة بوحي إلهي ؛ غير أن شأن القرآن فيما يذكره من القصص أن يذكر المهم منها للموعظة أو للأسوة كما قدمناه في المقدمة السابعة. فلذلك يستروح من سياق هذه الآية حسن الشورى. وتقدم ذكر الشورى في سورة

٢٥٨

آل عمران.

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣))

جواب بأسلوب المحاورة فلذلك فصل ولم يعطف كما هي طريقة المحاورات.

أرادوا من قولهم : نحن ، جماعة المملكة الذين هم من أهل الحرب. فهو من أخيار عرفاء القوم عن حال جماعاتهم ومن يفوض أمرهم إليهم. والقوة : حقيقتها ومجازها تقدم عند قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) في سورة الأعراف [١٤٥]. وأطلقت على وسائل القوة كما تقدم في قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) في سورة الأنفال [٦٠] ، أي وسائل القدرة على القتال والغلبة ، ومن القوة كثرة القادرين على القتال والعارفين بأساليبه.

والبأس : الشدة على العدوّ ، قال تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧] أي في مواقع القتال ، وقال : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) [الحشر : ١٤] ، وهذا الجواب تصريح بأنهم مستعدون للحرب للدفاع عن ملكهم وتعريض بأنهم يميلون إلى الدفع بالقوة إن أراد أن يكرههم على الدخول تحت طاعته لأنهم حملوا ما تضمنه كتابه على ما قد يفضي إلى هذا.

ومع إظهار هذا الرأي فوّضوا الأمر إلى الملكة لثقتهم بأصالة رأيها لتنظر ما تأمرهم فيمتثلونه ، فحذف مفعول (تَأْمُرِينَ) ومتعلقه لظهورهما من المقام ، والتقدير : ما تأمريننا به ، أي إن كان رأيك غير الحرب فمري به نطعك.

وفعل (فَانْظُرِي) معلق عن العمل بما بعده من الاستفهام وهو (ما ذا تَأْمُرِينَ).

وتقدم الكلام على (ما ذا) في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) في سورة النحل [٢٤].

[٣٤ ، ٣٥] (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

(قالَتْ) جواب محاورة فلذلك فصل.

أبدت لهم رأيها مفضّلة جانب السلم على جانب الحرب ، وحاذرة من الدخول تحت سلطة سليمان اختيارا لأن نهاية الحرب فيها احتمال أن ينتصر سليمان فتصير مملكة سبأ إليه ، وفي الدخول تحت سلطة سليمان إلقاء للمملكة في تصرفه ، وفي كلا الحالين يحصل

٢٥٩

تصرف ملك جديد في مدينتها فعلمت بقياس شواهد التاريخ وبخبرة طبائع الملوك إذا تصرفوا في مملكة غيرهم أن يقلبوا نظامها إلى ما يساير مصالحهم واطمئنان نفوسهم من انقلاب الأمة المغلوبة عليهم في فرص الضعف أو لوائح الاشتغال بحوادث مهمة ، فأول ما يفعلونه إقصاء الذين كانوا في الحكم لأن الخطر يتوقع من جانبهم حيث زال سلطانهم بالسلطان الجديد ، ثم يبدلون القوانين والنظم التي كانت تسير عليها الدولة ، فأما إذا أخذوها عنوة فلا يخلو الأخذ من تخريب وسبي ومغانم ، وذلك أشد فسادا. وقد اندرج الحالان في قولها (إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً).

وافتتاح جملة : (إِنَّ الْمُلُوكَ) بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وتحقيقه ، فقولها (إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) استدلال بشواهد التاريخ الماضي ولهذا تكون (إِذا) ظرفا للماضي بقرينة المقام كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) [التوبة : ٩٢].

وجملة : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل الذي في قوله : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها). والإشارة إلى المذكور من الإفساد وجعل الأعزة أذلة ، أي فكيف نلقي بأيدينا إلى من لا يألو إفسادا في حالنا.

فدبرت أن تتفادى من الحرب ومن الإلقاء باليد ، بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بإرسال هدية إليه ، وقد عزمت على ذلك ولم تستطلع رأي أهل مشورتها لأنهم فوضوا الرأي إليها ، ولأن سكوتهم على ما تخبرهم به يعدّ موافقة ورضى.

وهذا الكلام مقدمة لما ستلقيه إليهم من عزمها ، ويتضمن تعليلا لما عزمت عليه.

والباء في (بِهَدِيَّةٍ) باء المصاحبة. ومفعول (مُرْسِلَةٌ) محذوف دل عليه وصف (مُرْسِلَةٌ) وكون التشاور فيما تضمنه كتاب سليمان. فالتقدير : مرسلة إليهم كتابا ووفدا مصحوبا بهدية إذ لا بد أن يكون الوفد مصحوبا بكتاب تجيب به كتاب سليمان فإن الجواب عن الكتاب عادة قديمة ، وهو من سنن المسلمين ، وعدّ من حق المسلم على المسلم ، قال القرطبي : إذا ورد على إنسان في كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كرد السلام اه. ولم أقف على حكم فيه من مذاهب الفقهاء. والظاهر أن الجواب إن كان عن كتاب مشتمل على صيغة السلام أن يكون رد الجواب واجبا وأن

٢٦٠