تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

من مساوئ الاعتقادات والأعمال التي اعتادوها ، فإضافة أعمال إلى ضمير الذين لا يؤمنون بالآخرة يقتضي أن تلك الأعمال هي أعمال الإشراك الظاهرة والباطنة فهم لإلفهم إياها وتصلّبهم فيها صاروا غير قابلين لهدي هذا الكتاب الذي جاءتهم آياته.

وقد أشارت الآية إلى معنى دقيق جدا وهو أن تفاوت الناس في قبول الخير كائن بمقدار رسوخ ضد الخير في نفوسهم وتعلق فطرتهم به. وذلك من جراء ما طرأ على سلامة الفطرة التي فطر الله الناس عليها من التطور إلى الفساد كما أشار إليه قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ، ٦] الآية. فمبادرة أبي بكر رضي‌الله‌عنه إلى الإيمان بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمارة على أن الله فطره بنفس وعقل بريئين من التعلق بالشر مشتاقين إلى الخير حتى إذا لاح لهما تقبّلاه. وهذا معنى قول أبي الحسن الأشعري «ما زال أبو بكر بعين الرضى من الرحمن».

وقد أومأ جعل صلة الموصول مضارعا إلى أن الحكم منوط بالاستمرار على عدم الإيمان ، وأومأ جعل الخبر ماضيا في قوله : (زَيَّنَّا) إلى أن هذا التزيين حكم سبق وتقرر من قبل ، وحسبك أنه من آثار التكوين بحسب ما طرأ على النفوس من الأطوار.

فإسناد تزيين أعمال المشركين إلى الله في هذه الآية وغيرها مثل قوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في سورة الأنعام [١٠٨] لا ينافي إسناد ذلك إلى الشيطان في قوله الآتي (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النمل : ٢٤] ؛ فإن وسوسة الشيطان تجد في نفوس أولئك مرتعا خصبا ومنبتا لا يقحل ؛ فالله تعالى مزين لهم بسبب تطور جبلة نفوسهم من أثر ضعف سلامة الفطر عندهم ، والشيطان مزيّن لهم بالوسوسة التي تجد قبولا في نفوسهم كما قال تعالى حكاية عنه (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص : ٨٢ ، ٨٣] وقال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية في سورة البقرة [٧].

وفرّع على تزيين أعمالهم لهم أنهم في عمه متمكن منهم بصوغ الإخبار عنهم بذلك بالجملة الاسمية. وأفادت صيغة المضارع أن العمه متجدد مستمر فيهم ، أي فهم لا يرجعون إلى اهتداء لأنهم يحسبون أنهم على صواب.

والعمه : الضلال عن الطريق بدون اهتداء. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥]. وفعله كمنع وفرح.

٢٢١

فضمير هم عائد إلى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بمراعاة هذا العنوان لا بذواتهم.

واعلم أن هذا الاستمرار متفاوت الامتداد فمنه أشدّه وهو الذي يمتد بصاحبه إلى الموت ، ومنه دون ذلك. وكل ذلك على حسب تزيين الكفر في نفوسهم تزيينا خالصا أو مشوبا بشيء من التأمل في مفاسده ، وتلك مراتب لا يحيط بها إلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

قصد باسم الإشارة زيادة تمييزهم فضحا لسوء حالهم مع ما ينبه إليه اسم الإشارة في مثل هذا المقام من أن استحقاقهم ما يخبر به عنهم ناشئ عما تقدم اسم الإشارة كما في (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

وعزز ما نبه عليه باسم الإشارة فأعقب باسم الموصول وصلته لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.

وجيء بلام الاختصاص للإشارة إلى أنهم في حالتهم هذه قد هيّئ لهم سوء العذاب. والظاهر أن المراد به عذاب الدنيا وهو عذاب السيف وخزي الغلب يوم بدر وما بعده بقرينة عطف : (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

ففي الآية إشارة إلى جزاءين : جزاء في الدنيا معدود لهم يستحقونه بكفرهم ، فهم ما داموا كافرين متهيئون للوقوع في ذلك العذاب إن جاء إبانه وهم على الكفر.

وجزاء في الآخرة ينال من صار إلى الآخرة وهو كافر ، وهذا المصير يسمى بالموافاة عند الأشعري.

ولكون نوال العذاب الأول إياهم قابلا للتفصّي منه بالإيمان قبيل حلوله بهم جيء في جانبه بلام الاختصاص المفيدة كونه مهيّأ تهيئة ، أما أصالة جزاء الآخرة إياهم فلا مندوحة لهم عنه إن جاءوا يوم القيامة بكفرهم.

فالضمائر في قوله (لَهُمْ) وقوله : (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ) عائدة إلى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [النمل : ٤] بمراعاة ذلك العنوان الذي أفادته الصلة فلا دلالة في الضمير على أشخاص معيّنين ولكن على موصوفين بمضمون الصلة فمن تنقشع عنه الضلالة ويثوب

٢٢٢

إلى الإيمان يبرأ من هذا الحكم. وصيغ الخبر عنهم بالخسران في صيغة الجملة الاسمية وقرن بضمير الفصل للدلالة على ثبات مضمون الجملة وعلى انحصار مضمونها فيهم كما تقدم في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [النمل : ٣].

وجاء المسند اسم تفضيل للدلالة على أنهم أوحدون في الخسران لا يشبهه خسران غيرهم ، لأن الخسران في الآخرة متفاوت المقدار والمدة وأعظمه فيهما خسران المشركين.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))

عطف على جملة : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) [النمل : ١] انتقال من التنويه بالقرآن إلى التنويه بالذي أنزل عليه بأن القرآن آيات دالة على أنه كتاب مبين. وذلك آية أنه من عند الله ، ثم بأنه آية على صدق من أنزل عليه إذ أنبأه بأخبار الأنبياء والأمم الماضين التي ما كان يعلمها هو ولا قومه قبل القرآن. وما كان يعلم خاصة أهل الكتاب إلا قليلا منها أكثره محرف. وأيضا فهذا تمهيد لما يذكر بعده من القصص.

وتلقى مضارع لقاه مبنيّ للمجهول ، أي جعله لاقيا. واللّقيّ واللقاء : وصول أحد الشيئين إلى شيء آخر قصدا أو مصادفة. والتلقية : جعل الشيء لاقيا غيره ، قال تعالى : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١] ، وهو هنا تمثيل لحال إنزال القرآن إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال التلقية كأنّ جبريل سعى للجمع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

وإنما بني الفعل إلى غير مذكور للعلم بأنه الله أو جبريل ، والمعنى واحد : وهو أنك مؤتى الوحي من لدن حكيم عليم.

وتأكيد الخبر لمجرد الاهتمام لأن المخاطب هو النبي وهو لا يتردد في ذلك ، أو يكون التأكيد موجها إلى السامعين من الكفار على طريقة التعريض.

وفي إقحام اسم (لَدُنْ) بين (مِنْ) و (حَكِيمٍ) تنبيه على شدة انتساب القرآن إلى جانب الله تعالى ، فإن أصل (لَدُنْ) الدلالة على المكان مثل (عند) ثم شاع إطلاقها على ما هو من خصائص ما تضاف هي إليه تنويها بشأنه ، قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥].

والحكيم : القوي الحكمة ، والعليم : الواسع العلم. وفي التنكير إيذان بتعظيم هذا

٢٢٣

الحكيم العليم كأنه قيل : من حكيم أيّ حكيم ، وعليم أيّ عليم.

وفي الوصفين الشريفين مناسبة للمعطوف عليه وللممهّد إليه ، فإن ما في القرآن دليل على حكمة وعلم من أوحى به ، وأن ما يذكر هنا من القصص وما يستخلص منها من المغازي والأمثال والموعظة ، من آثار حكمة وعلم حكيم عليم ، وكذلك ما في ذلك من تثبيت فؤاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))

قال الزجاج والزمخشري وغيرهما : انتصب (إِذْ) بفعل مضمر تقديره : اذكر ، أي أن (إِذْ) مجرد عن الظرفية مستعمل بمعنى مطلق الوقت ، ونصبه على المفعول به ، أي اذكر قصة زمن قال موسى لأهله ، يعني أنه جار على طريقة (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

فالجملة استئناف ابتدائي. ومناسبة موقعها إفادة تنظير تلقي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن بتلقّي موسى عليه‌السلام كلام الله إذ نودي (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النمل : ٩].

وذلك من بديع التخلص إلى ذكر قصص هؤلاء الأنبياء عقب التنويه بالقرآن ، وأنه من لدن حكيم عليم. والمعنى : أن الله يقصّ عليك من أنباء الرسل ما فيه مثل لك ولقومك وما يثبت به فؤادك.

وفي ذلك انتقال لنوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن المغيبات وهو ما عددناه في الجهة الرابعة من جهات إعجاز القرآن في المقدمة العاشرة من المقدمات.

وجملة : (قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) إلى آخرها تمهيد لجملة (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [النمل : ٨] إلخ. وزمان قول موسى لأهله هذه المقالة هو وقت اجتلابه للمبادرة بالوحي إليه. فهذه القصة مثل ضربه الله لحال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه ، ابتدئت بما تقدم رسالة موسى من الأحوال إدماجا للقصة في الموعظة.

والأهل : مراد به زوجه ، ولم يكن معه إلا زوجه وابنان صغيران. والمخاطب بالقول زوجه ، ويكنى عن الزوجة بالأهل. وفي الحديث : «والله ما علمت على أهلي إلا خيرا».

ولم تظهر النار إلا لموسى دون غيره من أهله لأنها لم تكن نارا معتادة ، لكنها من

٢٢٤

أنوار عالم الملكوت جلّاه الله لموسى فلا يراه غيره. ويؤيد هذا تأكيده الخبر ب (إن) المشير إلى أن زوجه ترددت في ظهور نار لأنها لم ترها.

والإيناس : الإحساس والشعور بأمر خفي ، فيكون في المرئيات وفي الأصوات كما قال الحارث بن حلزة :

آنست نبأة وأفزعها القنّ

اص عصرا وقد دنا الإمساء

والمراد بالخبر خبر المكان الذي تلوح منه النار. ولعله ظن أن هنالك بيتا يرجو استضافتهم إياه وأهله تلك الليلة ، وإن لم يكن أهل النار أهل بيت يستضيفون بأن كانوا رجالا مقوين يأت منهم بجمرة نار ليوقد أهله نارا من حطب الطريق للتدفّؤ بها.

والشهاب : الجمر المشتعل. والقبس : جمرة أو شعلة نار تقبس ، أي يؤخذ اشتعالها من نار أخرى ليشعل بها حطب أو ذبالة نار أو غيرهما.

وقرأ الجمهور بإضافة (بِشِهابٍ) إلى (قَبَسٍ) إضافة العام إلى الخاص مثل : خاتم حديد. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بتنوين شهاب ، فيكون قبس بدلا من شهاب أو نعتا له. وتقدم في أول سورة طه.

والاصطلاء : افتعال من الصلي وهو الشيّ بالنار. ودلت صيغة الافتعال أنه محاولة الصلي فصار بمعنى التدفّؤ بوهج النار.

[٨ ـ ١١] (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

أنث ضمير (جاءَها) جريا على ما تقدم من تسمية النور نارا بحسب ما لاح لموسى. وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه ، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب ، فقوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) هو بعض ما اقتضاه قوله في طه [١٢] : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) لأن معنى (بُورِكَ) قدّس وزكّي.

وفعل (بارك) يستعمل متعديا ، يقال : باركك الله ، أي جعل لك بركة وتقدم بيان

٢٢٥

معنى البركة في قوله تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في آل عمران [٩٦] ، وقوله (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) في سورة هود [٤٨]. و (أن) تفسيرية لفعل (نُودِيَ) لأن فيه معنى القول دون حروفه ، أي نودي بهذا الكلام.

و (مَنْ فِي النَّارِ) مراد به موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطا به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف ، فعبر عنه ب (مَنْ فِي النَّارِ) وهو نفسه.

والعدول عن ذكره بضمير الخطاب كما هو مقتضى الظاهر ، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر ، لأن في معنى صلة الموصول إيناسا له وتلطفا كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ «قم أبا تراب» وكثير التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطّف به من أحواله. وهذا الكلام خبر هو بشارة لموسى عليه‌السلام ببركة النبوءة.

ومن حول النار : هو جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسه إن كان النداء بغير واسطة جبريل بل كان من لدن الله تعالى. فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر (مَنْ) الموصولة في الموضعين ، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة. وقيل إن قوله (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) إنشاء تحية من الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام كما كانت تحية الملائكة لإبراهيم (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود : ٧٣] أي أهل هذا البيت الذي نحن فيه.

و (سُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عطف على ما نودي به موسى على صريح معناه إخبارا بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بإلهيته من أحوال المحدثات ليعلم موسى أمرين : أحدهما أن النداء وحي من الله تعالى ، والثاني أن الله منزه عما عسى أن يخطر بالبال أن جلالته في ذلك المكان. ويجوز أن يكون (سُبْحانَ اللهِ) مستعملا للتعجيب من ذلك المشهد وأنه أمر عظيم من أمر الله تعالى وعنايته يقتضي تذكّر تنزيهه وتقديسه.

وفي حذف متعلق التنزيه إيذان بالعموم المناسب لمصدر التنزيه وهو عموم الأشياء التي لا يليق إثباتها لله تعالى وإنما يعلم تفصيلها بالأدلة العقلية والشرعية.

فالمعنى : ونزّه الله تنزيها عن كل ما لا يليق به ، ومن أول تلك الأشياء تنزيهه عن أن يكون حالا في ذلك المكان.

وإرداف اسم الجلالة بوصف (رَبِّ الْعالَمِينَ) فيه معنى التعليل للتنزيه عن شئون المحدثات لأنه رب العالمين فلا يشبه شأنه تعالى شئونهم.

٢٢٦

وضمير (إِنَّهُ) ضمير الشأن ، وجملة : (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبر عن ضمير الشأن. والمعنى : إعلامه بأن أمرا مهما يجب علمه وهو أن الله عزيز حكيم ، أي لا يغلبه شيء ، لا يستصعب عليه تكوين.

وتقديم هذا بين يدي ما سيلقى إليه من الأمر لإحداث رباطة جأش لموسى ليعلم أنه خلعت عليه النبوءة إذ ألقي إليه الوحي ، ويعلم أنه سيتعرض إلى أذى وتألب عليه ، وذلك كناية عن كونه سيصير رسولا ، وأن الله يؤيده وينصره على كل قوي ، وليعلم أن ما شاهد من النار وما تلقّاه من الوحي وما سيشاهده من قلب العصا حية ليس بعجيب في جانب حكمة الله تعالى ، فتلك ثلاث كنايات ، فلذلك أتبع هذا بقوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ). والمعنى : وقلنا ألق عصاك.

والاهتزاز : الاضطراب ، وهو افتعال من الهزّ وهو الرفع كأنها تطاوع فعل هازّ يهزّها. والجانّ : ذكر الحيات ، وهو شديد الاهتزاز وجمعه جنّان (وأما الجانّ بمعنى واحد الجن فاسم جمعه جنّ). والتشبيه في سرعة الاضطراب لأن الحيات خفيفة التحرك ، وأما تشبيه العصا بالثعبان في آية (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٠٧] فذلك لضخامة الجرم.

والتولي : الرجوع عن السير في طريقه. وفعل (تولى) مرادف فعل (وَلَّى) كما هو ظاهر صنيع «القاموس» وإن كان مقتضى ما في فعل (تولى) من زيادة المبنى أن يفيد (تولى) زيادة في معنى الفعل. وقد قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) في سورة القصص [٢٤]. ولعل قصد إفادة قوة توليه لمّا رأى عصاه تهتزّ هو الداعي لتأكيد فعل (وَلَّى) بقوله : (مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) فتأمّل.

والإدبار : التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله : (مُدْبِراً) حال لازمة لفعل (وَلَّى).

والتعقب : الرجوع بعد الانصراف مشتق من العقب لأنه رجوع إلى جهة العقب ، أي الخلف ، فقوله : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) تأكيد لشدة تولّيه ، أي ولّى توليا قويا لا تردد فيه. وكان ذلك التولي منه لتغلّب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله : (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ) من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد ، إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة ، وتأصّل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوهم بتعاقب الأيام.

٢٢٧

وقوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ) مقول قول محذوف ، أي قلنا له. والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف. لأن خوفه قد حصل. والخوف الحاصل لموسى عليه‌السلام خوف رغب من انقلاب العصا حية وليس خوف ذنب ، فالمعنى : لا يجبن لديّ المرسلون لأني أحفظهم.

و (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه. وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ علّل بأن المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى.

ومعنى (لَدَيَ) في حضرتي ، أي حين تلقّي رسالتي. وحقيقة (لَدَيَ) مستحيلة على الله لأن حقيقتها المكان.

وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعا لما سبقه من الوحي ، وهذا تعليم لموسى عليه‌السلام التخلق بخلق المرسلين من رباطة الجأش. وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه‌السلام عن مراتب غيره من المرسلين وإنما هو جار على طريقة : مثلك لا يبخل. والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧].

والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ظاهره أنه متصل. ونسب ابن عطية هذا إلى مقاتل وابن جريج فيكون (مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيّز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب ، أي إلا رسولا ظلم ، أي فرط منه ظلم ، أي ذنب قبل اصطفائه للرسالة ، أي صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثله في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل ، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل (قبل أن يكون الرسول متعبّدا بشرع) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم ، واعتداء موسى على القبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية ؛ فذلك الذي ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء ، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له.

والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه ، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٥ ، ١٦] ، فأفرغ هذا

٢٢٨

التطمين لموسى في قالب العموم تعميما للفائدة.

واستقامة نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع في قوله : (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). فالتقدير : إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يخاف لأني غافر له وقابل لتوبته لأني غفور رحيم. وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة ، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبين بذلك كأنه يقول : لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولك (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٥ ، ١٦] ، وعزمك على الاستقامة يوم قلت : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص : ١٧].

ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدّل حسنا بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم.

ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل (ظَلَمَ) ليومئ إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) [القصص : ١٦] ولذلك تعين أن يكون المقصود ب (مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) موسى نفسه.

وقال الفرّاء والزجاج والزمخشري وجرى عليه كلام الضحاك : الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظلم وبدّل حسنا بعد سوء من الناس يغفر له. وعليه تكون (مَنْ) صادقة على شخص ظلم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل. وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس. والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثبات نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، ونقيض انتفاء الخوف حصول الخوف. والموجود بعد أداة الاستثناء أنه مغفور له فلا خلاف عليه. ويفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسنا بعد سوء يخاف عذاب الآخرة.

أما الزمخشري فزاد على ما سلكه الفرّاء والزجاج فجعل ما صدق (مَنْ ظَلَمَ) رسولا ظلم. والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعا هو أحد الداعيين اللذين دعيا الفرّاء والزجاج وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضا لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ما صدق (مَنْ ظَلَمَ) رسولا من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل موسى وهو واحد منهم.

وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله (أي حين

٢٢٩

القيام بواجبات الرسالة) لا يخافون شيئا من المخلوقات لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة ، ولا يخافون الذنوب لأن الله تكفل لهم العصمة. ولا يخافون عقابا على الذنوب لأنهم لا يقربونها ، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بدّل حسنا بعد سوء أمن ممّا يخاف من عقاب الذنوب لأنه تدارك ظلمه بالتوبة ، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه. فهذه معان دلّ عليها الاستثناء باحتماليه ، وذلك إيجاز.

وفي «تفسير ابن عطية» أن أبا جعفر قرأ : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) بفتح همزة (ألا) وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ، ولا تعرف نسبة هذه القراءة لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن أبي جعفر.

وفعل (بَدَّلَ) يقتضي شيئين : مأخوذا ، ومعطى ، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان [٧٠] (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) ، ويتعدّى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عاوض كما قال تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء : ٢] ، أي لا تأخذوا خبيث المال وتضيّعوا طيّبه ، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول ، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول امرئ القيس :

وبدّلت قرحا داميا بعد صحة

فيا لك من نعمى تبدّلن أبؤسا

وكذلك قوله تعالى هنا : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي أخذ حسنا بسوء ، فإن كلمة (بَعْدَ) تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتا ثم زال وخلفه غيره. وكذلك ما يفيد معنى (بعد) كقوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) [الأعراف : ٩٥] فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة.

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

عطف على قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) [النمل : ١٠] وما بينهما اعتراض ، بعد أن أراه آية انقلاب العصا ثعبانا أراه آية أخرى ليطمئن قلبه بالتأييد ، وقد مضى في «طه» التصريح بأنه أراه آية أخرى. والمقصود من ذلك أن يجعل له ما تطمئن له نفسه من تأييد الله تعالى إياه عند لقاء فرعون.

وقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ) حال من (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي حالة كونها آية من تسع

٢٣٠

آيات ، و (إِلى فِرْعَوْنَ) صفة لآيات ، أي آيات مسوقة إلى فرعون. وفي هذا إيذان بكلام محذوف إيجازا وهو أمر الله موسى بأن يذهب إلى فرعون كما بيّن في سورة الشعراء.

والآيات هي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والقحط ، وانفلاق البحر وهو أعظمها ، وقد عدّ بعضها في سورة الأعراف. وجمعها الفيروزآبادي في بيت ذكره في مادة (تسع) من «القاموس» وهو :

عصا سنة بحر جراد وقمّل

يد ودم بعد الضفادع طوفان

[١٣ ، ١٤] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

أوجز بقية القصة وانتقل إلى العبرة بتكذيب فرعون وقومه الآيات ، ليعتبر بذلك حال الذين كذبوا بآيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقصد من هذا الإيجاز طي بساط القصة لينتقل منها إلى قصة داود ثم قصة سليمان المبسوطة في هذه السورة. والمراد بمجيء الآيات حصولها واحدة بعد أخرى وهي الآيات الثمان التي قبل الغرق.

والمبصرة : الظاهرة. صيغ لها وزن اسم فاعل الإبصار على طريقة المجاز العقلي ، وإنما المبصر الناظر إليها. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) في سورة الإسراء [٥٩].

والجحود : الإنكار باللسان.

و (اسْتَيْقَنَتْها) بمعنى أيقنت بها ، فحذف حرف الجر وعدي الفعل إلى المجرور على التوسع أو على نزع الخافض ، أي تحققتها عقولهم ، والسين والتاء للمبالغة. والظلم في تكذيبهم الرسول لأنهم ألصقوا به ما ليس بحق فظلموه حقه.

والعلو : الكبر ويحسن أن تكون جملة : (وَاسْتَيْقَنَتْها) حالية ، فقوله : (ظُلْماً وَعُلُوًّا) نشر على ترتيب اللفّ. فالظلم في الجحد بها والعلوّ في كونهم موقنين بها.

وانتصب (ظُلْماً وَعُلُوًّا) على الحال من ضمير (جَحَدُوا) وجعل ما هو معلوم من حالهم فيما لحق بهم من العذاب بمنزلة الشيء المشاهد للسامعين فأمر بالنظر إليه بقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). والخطاب لغير معين. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له بما حلّ بالمكذبين بالرسل قبله لأن في ذلك تعريضا بتهديد المشركين

٢٣١

بمثل تلك العاقبة.

و (كَيْفَ) يجوز أن يكون مجرّدا عن معنى الاستفهام منصوبا على المفعولية ، ويجوز أن يكون استفهاما معلّقا فعل النظر عن العمل ، والاستفهام حينئذ للتعجيب.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥))

كما كان في قصة موسى وإرساله إلى فرعون آيات عبرة ومثل للذين جحدوا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك في قصة سليمان وملكة سبأ وما رأته من آياته وإيمانها به مثل لعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإظهار لفضيلة ملكة سبأ إذ لم يصدها ملكها عن الاعتراف بآيات سليمان فآمنت به ، وفي ذلك مثل للذين اهتدوا من المؤمنين.

وتقديم ذكر داود ليبنى عليه ذكر سليمان إذ كان ملكه ورثه من أبيه داود. ولأن في ذكر داود مثل لإفاضة الحكمة على من لم يكن متصديا لها. وما كان من أهل العلم بالكتاب أيام كان فيهم أحبار وعلماء ؛ فقد كان داود راعيا غنم أبيه (يسّي) في بيت لحم فأمر الله شمويل النبي أن يجعل داود نبيئا في مدة ملك طالوت (شاول). فما كان عجب في نبوءة محمد الأمي بين الأميين ليعلم المشركون أن الله أعطى الحكمة والنبوءة محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن يعلم ذلك من قبل ولكن في قومه من يعلم ذلك كما قال تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] ، فهذه القصة تتصل بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٦].

فيصح أن تكون جملة : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ) معطوفا على (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) [النمل : ٧] إذا جعلنا (إذ) مفعولا لفعل (اذكر) محذوف.

ويصح أن تكون الواو للاستئناف فالجملة مستأنفة. ومناسبة الذكر ظاهرة. وبعد ففي كل قصة من قصص القرآن علم وعبرة وأسوة.

وافتتاح الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين به منزلة من يتردد في ذلك لأنهم جحدوا نبوءة مثل داود وسليمان إذ قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١].

وتنكير (عِلْماً) للتعظيم لأنه علم بنبوة وحكمة كقوله في صاحب موسى (وَعَلَّمْناهُ

٢٣٢

مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥].

وفي فعل (آتَيْنا) ما يؤذن بأنه علم مفاض من عند الله ، لأن الإيتاء أخصّ من علمناه فلذلك استغني هنا عن كلمة (من لدنّا).

وحكاية قولهما (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) كناية عن تفضيلهما بفضائل غير العلم. ألا ترى إلى قوله : (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) ومنهم أهل العلم وغيرهم ، وتنويه بأنهما شاكران نعمته.

ولأجل ذلك عطف قولهما هذا بالواو دون الفاء لأنه ليس حمدا لمجرد الشكر على إيتاء العلم.

والظاهر أن حكاية قوليهما وقعت بالمعنى ، بأن قال كل واحد منهما : الحمد لله الذي فضلني ، فلما حكي القولان جمع ضمير المتكلم ، ويجوز أن يكون كل واحد شكر الله على منحه ومنح قريبه ، على أنه يكثر استعمال ضمير المتكلم المشارك لا لقصد التعظيم بل لإخفاء المتكلم نفسه بقدر الإمكان تواضعا كما قال سليمان عقب هذا (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ١٦]. وجعلا تفضيلهما على كثير من المؤمنين دون جميع المؤمنين ؛ إمّا لأنهما أرادا بالعباد المؤمنين كلّ من ثبت له هذا الوصف من الماضين وفيهم موسى وهارون ، وكثير من الأفضل والمساوي ، وإمّا لأنهما اقتصدا في العبارة إذ لم يحيطا بمن ناله التفضيل ، وإما لأنهما أرادا بالعباد أهل عصرهما فعبّرا ب (كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ) تواضعا لله. ثم إن كان قولهما هذا جهرا وهو الظاهر كان حجة على أنه يجوز للعالم أن يذكر مرتبته في العلم لفوائد شرعية ترجع إلى أن يحذر الناس من الاغترار بمن ليست له أهلية من أهل الدعوى الكاذبة والجعجعة الجالبة ، وهذا حكم يستنبط من الآية لأن شرع من قبلنا شرع لنا ، وإن قالاه في سرهما لم يكن فيه هذه الحجة.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ).

طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفا. وقد كان داود ملكا على بني إسرائيل ودام ملكه أربعين سنة وتوفي وهو ابن

٢٣٣

سبعين سنة.

فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم. فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) [النمل : ١٥] فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه.

وقد كان لداود أحد عشر ولدا فلا يختص إرث ماله بسليمان وليس هو أكبرهم ، وكان داود قد أقام سليمان ملكا على إسرائيل. وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به لجواز أن يورث مال النبي ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نورث ما تركنا صدقة» ، وظاهره أنه أراد من الضمير جماعة الأنبياء وشاع على ألسنة العلماء : إنا أو نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ولا يعرف بهذا اللفظ ، ووقع في كلام عمر بن الخطاب مع العباس وعلي في شأن صدقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عمر : «أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، يريد رسول الله نفسه» وكذلك قالت عائشة ، فإذا أخذنا بظاهر الآية كان هذا حكما في شرع من قبلنا فينسخ بالإسلام ، وإذا أخذنا بالتأويل فظاهر. وقد أجمع الخلفاء الراشدون وغيرهم على ذلك ، خلافا للعباس وعلي ، ثم رجعا حين حاجهما عمر. والعلة هي سدّ ذريعة خطور تمني موت النبي في نفس بعض ورثته.

(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

قال سليمان هذه المقالة في مجمع عظيم لأن لهجة هذا الكلام لهجة خطبته في مجمع من الناس الحاضرين مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة. فهذه الجملة متضمنة شكر الله تعالى ما منحه من علم وملك ، وليقدر الناس قدره ويعلموا واجب طاعته إذ كان الله قد اصطفاه لذلك ، وأطلعه على نوايا أنفر الحيوان وأبعده عن إلف الإنسان وهو الطير ، فما ظنك بمعرفة نوايا الناس من رعيته وجنده فإن تخطيط رسوم الملك وواجباته من المقاصد لصلاح المملكة بالتفاف الناس حول ملكهم وصفاء النيات نحوه ، وبمقدار ما يحصل ذلك من جانبهم يكون التعاون على الخير وتنزل السكينة الربانية ، فلما حصل من جانب سليمان الاعتراف بهذا الفضل لله تعالى فقد أدى واجبه نحو أمته فلم يبق

٢٣٤

إلا أن تؤدي الأمة واجبها نحو ملكها ، كما كان تعليم فضائل النبوة من مقاصد الشارع ، فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» أي أقوله لقصد الإعلام بواجب التقادير لا لقصد الفخر على الناس ، ويعلموا واجب طاعته.

وعلم منطق الطير أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وإرادتها. وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلا له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القوى الكثيرة ، وللطير دلالة في تخاطب أجناسها واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته ، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار وردها ونحو ذلك.

ووراء ذلك كله انشراح الصدر بالحكمة والمعرفة لكثير من طبائع الموجودات وخصائصها. ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها : بعضها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها ، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه ممسك أو يهاجمه كاسر ، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل ، فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضا فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل لما أجملته الأحوال المجملة ، فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس ولا يطلع عليها إلا خالقها ، وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكّها وإدغامها واختلاف حركاتها على معان لا يهتدي إليها من يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة ولم يتقن دقائقها. مثل أن يسمع ضللت وظللت ، فالله تعالى اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير وأعلمه بأحوال نفوس الطير عند ما تصفر بتلك التقاطيع ، وقد كان الناس في حيرة من ذلك كما قال المعري :

أبكت تلكم الحمامة أم غنّ

ت على غصن دوحها الميّاد

وقال صاحبنا الشاعر البليغ الشيخ عبد العزيز المسعودي من أبيات في هذا المعنى :

فمن كان مسرورا يراه تغنيا

ومن كان محزونا يقول ينوح

والاقتصار على منطق الطير إيجاز لأنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفورا منه ، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطا بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله تعالى فيما يأتي قريبا : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) [النمل : ١٩] ، فتدل هذه الآية على أنه علّم منطق كل صنف من أصناف الحيوان. وهذا العلم

٢٣٥

سماه العرب علم الحكل (بضم الحاء المهملة وسكون الكاف) قال العجاج وقيل ابنه رؤبة :

لو أنني أوتيت علم الحكل

علم سليمان كلام النمل

أو أنني عمّرت عمر الحسل

أو عمر نوح زمن الفطحل

كنت رهين هرم أو قتل وعبر عن أصوات الطير بلفظ (مَنْطِقَ) تشبيها له بنطق الإنسان من حيث هو ذو دلالة لسليمان على ما في ضمائر الطير ، فحقيقة المنطق الصوت المشتمل على حروف تدل على معان.

وضمير (عُلِّمْنا) ـ (أُوتِينا) مراد به نفسه ، جاء به على صيغة المتكلم المشارك ؛ إما لقصد التواضع كأنّ جماعة علموا وأوتوا وليس هو وحده كما تقدم في بعض احتمالات قوله تعالى آنفا : (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) [النمل : ١٥] ، وإما لأنه المناسب لإظهار عظمة الملك ، وفي ذلك تهويل لأمر السلطان عند الرعية ، وقد يكون ذلك من مقتضى السياسة في بعض الأحوال كما أجاب معاوية عمر رضي‌الله‌عنهما حين لقيه في جند (وأبهة) ببلاد الشام فقال عمر لمعاوية «أكسرويّة يا معاوية؟ فقال معاوية : إنا في بلاد من ثغور العدوّ فلا يرهبون إلا مثل هذا. فقال عمر : خدعة أريب أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك» فترك الأمر لعهدة معاوية وما يتوسمه من أساليب سياسة الأقوام.

والمراد ب (كُلِّ شَيْءٍ) كل شيء من الأشياء المهمة ففي (كُلِّ شَيْءٍ) عمومان عموم (كُلِ) وعموم النكرة وكلاهما هنا عموم عرفي ، ف (كُلِ) مستعملة في الكثرة و (شَيْءٍ) مستعمل في الأشياء المهمة مما له علاقة بمقام سليمان ، وهو كقوله تعالى فيما حكى عن أخبار الهدهد. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] ، أي كثيرا من النفائس والأموال. وفي كل مقام يحمل على ما يناسب المتحدث عنه.

والتأكيد في (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) بحرف التوكيد ولامه الذي هو في الأصل لام قسم وبضمير الفصل مقصود به تعظيم النعمة أداء للشكر عليها بالمستطاع من العبارة.

و (الْفَضْلُ) : الزيادة من الخير والنفع. و (الْمُبِينُ) : الظاهر الواضح.

[١٧]

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))

٢٣٦

وهب الله سليمان قوة من قوى النبوءة يدرك بها من أحوال الأرواح والمجردات كما يدرك منطق الطير ودلالة النمل ونحوها. ويزع تلك الموجودات بها فيوزعون تسخيرا كما سخر بعض العناصر لبعض في الكيمياء والكهربائية. وقد وهب الله هذه القوة محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم فصرف إليه نفرا من الجن يستمعون القرآن ، ويخاطبونه. وإنما أمسك رسول الله عن أن يتصرف فيها ويزعها كرامة لأخيه سليمان إذ سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فلم يتصرف فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المكنة من ذلك ، لأن الله محضه لما هو أهمّ وأعلى فنال بذلك فضلا مثل فضل سليمان ، ورجح بإعراضه عن التصرف تبريرا لدعوة أخيه في النبوءة لأن جانب النبوءة في رسول الله أقوى من جانب الملك ، كما قال للرجل الذي رعد حين مثل بين يديه : «إني لست بملك ولا جبّار». وقد ورد في الحديث : «أنه خيّر بين أن يكون نبيئا عبدا أو نبيئا ملكا فاختار أن يكون نبيئا عبدا» ، فرتبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رتبة التشريع وهي أعظم من رتبة الملك ، وسليمان لم يكن مشرّعا لأنه ليس برسول ، فوهبه الله ملكا يتصرف به في السياسة ، وهذه المراتب يندرج بعضها فيما هو أعلى منه فهو ليس بملك ، وهو يتصرف في الأمة تصرف الملوك تصرفا بريئا مما يقتضيه الملك من الزخرف والأبّهة كما بيناه في كتاب «النقد» على كتاب الشيخ علي عبد الرازق المصري الذي سماه «الإسلام وأصول الحكم» (١).

والحشر : الجمع. والمعنى : أن جنوده كانت محضرة في حضرته مسخّرة لأمره حيث هو.

والجنود : جمع جند ، وهو الطائفة التي لها عمل متّحد تسخّر له. وغلب إطلاق الجند على طائفة من الناس يعدّها الملك لقتال العدوّ ولحراسة البلاد.

وقوله : (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) بيان للجنود فهي ثلاثة أصناف : صنف الجن وهو لتوجيه القوى الخفية ، والتأثير في الأمور الروحية. وصنف الإنس وهو جنود تنفيذ أوامره ومحاربة العدو وحراسة المملكة ، وصنف الطير وهو من تمام الجند لتوجيه الأخبار وتلقيها وتوجيه الرسائل إلى قواده وأمرائه. واقتصر على الجن والطير لغرابة كونهما من الجنود فلذلك لم يذكر الخيل وهي من الجيش.

والوزع : الكفّ عما لا يراد ، فشمل الأمر والنهي ، أي فهم يؤمرون فيأتمرون وينهون

__________________

(١) انظر صفحة ٧٦ من كتاب «الإسلام وأصول الحكم» طبع مطبعة مصر سنة ١٣٤٣ ه‍ ، وصفحة ١٣ ، ١٤ من كتاب «النقد العلمي» طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة ١٣٤٤ ه‍.

٢٣٧

فينتهون ، فقد سخر الله له الرعية كلها.

والفاء للتفريع على معنى حشر لأن الحشر إنما يراد لذلك.

وفي الآية إشارة إلى أن جمع الجنود وتدريبها من واجبات الملوك ليكون الجنود متعهدين لأحوالهم وحاجاتهم ليشعروا بما ينقصهم ويتذكروا ما قد ينسونه عند تشوش الأذهان عند القتال وعند النفير.

[١٨ ، ١٩] (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

(حَتَّى) ابتدائية ، ومعنى الغاية لا يفارقها ، ولكنها مع الابتدائية غاية غير نهاية.

و (إِذا) ظرف زمان بمعنى حين ، وهو يقتضي فعلين بعده يشبهان فعلي الشرط وجوابه لأن (إِذا) مضمّنة معنى الشرط ، و (إِذا) معمول لفعل جوابه ، وأما فعل شرطه فهو جملة مضاف إليها (إِذا). والتقدير : حتى قالت نملة حين أتوا على واد النمل. وواد النمل يجوز أن يكون مرادا به الجنس لأن للنمل شقوقا ومسالك هي بالنسبة إليها كالأودية للساكنين من الناس ، ويجوز أن يراد به مكان مشتهر بالنمل غلب عليه هذا المضاف كما سمي وادي السباع موضع معلوم بين البصرة ومكة. قيل : واد النمل في جهة الطائف ، وقيل غير ذلك ، وكله غير ظاهر من سياق الآية.

و (النَّمْلِ) : اسم جنس لحشرات صغيرة ذات ست أرجل تسكن في شقوق من الأرض. وهي أصناف متفاوتة في الحجم ، والواحد منه نملة بتاء الوحدة ، فكلمة نملة لا تدل إلا على فرد واحد من هذا النوع دون دلالة على تذكير ولا تأنيث فقوله : (نَمْلَةٌ) مفاده : قال واحد من هذا النوع.

واقتران فعله بتاء التأنيث جرى على مراعاة صورة لفظه لشبه هائه بهاء التأنيث وإنما هي علامة الوحدة ، والعرب لا يقولون : مشى شاة ، إذا كان الماشي فحلا من الغنم ، وإنما يقولون : مشت شاة ، وطارت حمامة ، فلو كان ذلك الفرد ذكرا وكان مما يفرق بين ذكره وأنثاه في أغراض الناس وأرادوا بيان كونه ذكرا قالوا : طارت حمامة ذكر ، ولا

٢٣٨

يقولون طار حمامة ، لأن ذلك لا يفيد التفرقة. ألا ترى أنه لا يصلح أن يكون علامة على كون الفاعل أنثى ، ألا ترى إلى قول النابغة :

ما ذا رزئنا به من حيّة ذكر

نضناضة بالرزايا صلّ أصلال

فجاء باسم (حية) وهو اسم للجنس مقترن بهاء التأنيث ، ثم وصفه بوصف ذكر ثم أجرى عليه التأنيث في قوله : نضناضة ، لأنه صفة ل (حية).

وفي حديث ابن عباس عن صلاة العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقبلت راكبا على حمار أتان» فوصف (حمار) الذي هو اسم جنس باسم خاص بأنثاه. ولذلك فاقتران فعل (قالَتْ) هنا بعلامة التأنيث لمراعاة اللفظ فقط ، على أنه لا يتعلق غرض بالتمييز بين أنثى النمل وذكره بله أن يتعلق به غرض القرآن لأن القصد وقوع هذا الحادث وبيان علم سليمان لا فيما دون ذلك من السفاسف.

وذكر في «الكشاف» : أن قتادة دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة حاضرا وهو غلام حدث ، فقال لهم أبو حنيفة : سلوه عن نملة سليمان : أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه ، فأفحم. فقال أبو حنيفة : كانت أنثى. فقيل له: من أين عرفت؟ قال : من كتاب الله وهو قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ) ولو كانت ذكرا لقال : قال نملة. قال في «الكشاف» : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وقولهم : وهو وهي. اه.

ولعل مراد صاحب «الكشاف» إن كان قصد تأييد قولة أبي حنيفة أن يقاس على الوصف بالتذكير ما يقوم مقامه في الدلالة على التفرقة بين الذكر والأنثى فتقاس حالة الفعل على حالة الوصف ، إلا أن الزمخشري جاء بكلام غير صريح لا يدرى أهو تأييد لأبي حنيفة أم خروج من المضيق. فلم يقدم على التصريح بأن الفعل يقترن بتاء التأنيث إذا أريد التفرقة في حالة فاعله. وقد رد عليه ابن المنير في «الانتصاف» وابن الحاجب في «إيضاح المفصّل» والقزويني في «الكشف على الكشاف». ورأوا أن أبا حنيفة ذهل فيما قاله بأنه لا يساعد قول أحد من أئمة اللغة ولا يشهد به استعمال ولا سيما نحاة الكوفة ببلده فإنهم زادوا فجوزوا تأنيث الفعل إذا كان فعله علما مؤنث اللفظ مثل : طلحة وحمزة. واعلم أن إمامة أبي حنيفة في الدين والشريعة لا تنافي أن تكون مقالته في العربية غير ضليعة. وأعجب من ذهول أبي حنيفة انفحام قتادة من مثل ذلك الكلام. وغالب ظني أن

٢٣٩

القصة مختلفة اختلاقا غير متقن.

ويجوز أن يخلق الله لها دلالة وللنمل الذي معها فهما لها وأن يخلق فيها إلهاما بأن الجيش جيش سليمان على سبيل المعجزة له.

والحطم : حقيقته الكسر لشيء صلب. واستعير هنا للرفس بجامع الإهلاك. و (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) إن جعلت (لا) فيه ناهية كانت الجملة مستأنفة تكريرا للتحذير ودلالة على الفزع لأن المحذّر من شيء مفزع يأتي بجمل متعددة للتحذير من فرط المخافة والنهي عن حطم سليمان إياهن كناية عن نهيهن عن التسبب فيه وإهمال الحذر منه كما يقال : لا أعرفنك تفعل كذا ، أي لا تفعله فأعرفك بفعله ، والنون توكيد للنهي ؛ وإن جعلت (لا) نافية كانت الجملة واقعة في جواب الأمر فكان لها حكم جواب شرط مقدّر. فالتقدير : إن تدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان ، أي ينتف حطم سليمان إياكنّ ، وإلّا حطمكم. وهذا مما جوّزه في «الكشاف». وفي هذا الوجه كون الفعل مؤكدا بالنون وهو منفي ب (لا) وذلك جائز على رأي المحققين إلا أنه قليل. وأما من منعه من النحاة فيمنع أن تجعل (لا) نافية هنا. وصاحب «الكشاف» جعله من اقتران جواب الشرط بنون التوكيد لأن جواب الأمر في الحكم جواب الشرط وهو عنده أخف من دخولها في الفعل المنفي بناء على أن النفي يضاد التوكيد.

وتسمية سليمان في حكاية كلام النملة يجوز أن تكون حكاية بالمعنى وإنما دلت دلالة النملة على الحذر من حطم ذلك المحاذي لواديها ، فلما حكيت دلالتها حكيت بالمعنى لا باللفظ ، ويجوز أن يكون قد خلق الله علما في النملة علمت به أن المارّ بها يدعى سليمان على سبيل المعجزة وخرق العادة.

وتبسّم سليمان من قولها تبسم تعجب. والتبسّم أضعف حالات الضحك فقوله : (ضاحِكاً) حال موكدة ل (فَتَبَسَّمَ) وضحك الأنبياء التبسّم ، كما ورد في صفة ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ما يقرب من التبسّم مثل بدوّ النواجذ كما ورد في بعض صفات ضحكه. وأما القهقهة فلا تكون للأنبياء ، وفي الحديث «كثرة الضحك تميت القلب». وإنما تعجب من أنها عرفت اسمه وأنها قالت : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فوسمته وجنده بالصلاح والرأفة وأنهم لا يقتلون ما فيه روح لغير مصلحة ، وهذا تنويه برأفته وعدله الشامل لكل مخلوق لا فساد منه أجراه الله على نملة ليعلم شرف العدل ولا يحتقر مواضعه ، وأن وليّ الأمر إذا عدل سرى عدله في سائر الأشياء وظهرت آثاره فيها حتى كأنه معلوم عند ما لا إدراك له،

٢٤٠