تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

[١٤١ ـ ١٤٥] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥))

موقع هذه الجملة استئناف تعداد وتكرير كما تقدم في قوله : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣]. والكلام على هذه الآيات مثل الكلام على نظيرها في قصة قوم نوح ، وثمود قد كذّبوا المرسلين لأنهم كذبوا صالحا وكذبوا هودا لأن صالحا وعظهم بعاد في قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) في سورة الأعراف [٧٤] وبتكذيبهم كذبوا بنوح أيضا ، لأن هودا ذكّر قومه بمصير قوم نوح في آية (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩].

وتقدم ذكر ثمود وصالح عند قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) في سورة الأعراف [٧٣] ، وكان صالح معروفا بالأمانة لأنه لا يرسل رسول إلا وهو معروف بالفضائل (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤] وقد دل على هذا المعنى قولهم (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] المقتضي تغيير حاله عما كان عليه وهو ما حكاه الله عن قومه (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) في سورة هود [٦٢]. وحذف ياء المتكلم من (أَطِيعُونِ) هو مثل نظائره المتقدمة آنفا.

[١٤٦ ـ ١٥٢] (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢))

كانوا قد أعرضوا عن عبادة الله تعالى ، وأنكروا البعث وغرّهم أئمة كفرهم في ذلك فجاءهم صالح عليه‌السلام رسولا يذكّرهم بنعمة الله عليهم بما مكن لهم من خيرات ، وما سخر لهم من أعمال عظيمة ، ونزل حالهم منزلة من يظن الخلود ودوام النعمة فخاطبهم بالاستفهام الإنكاري التوبيخي وهو في المعنى إنكار على ظنهم ذلك ، وسلط الإنكار على فعل الترك لأن تركهم على تلك النعم لا يكون. فكان إنكار حصوله مستلزما إنكار اعتقاده.

وهذا الكلام تعليل للإنكار الذي في قوله : (أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٤٢] لأن الإنكار

١٨١

عليهم دوام حالهم يقتضي أنهم مفارقون هذه الحياة وصائرون إلى الله.

وفيه حثّ على العمل لاستبقاء تلك النعم بأن يشكروا الله عليها كما قال صاحب «الحكم» «من لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها».

و (هاهُنا) إشارة إلى بلادهم ، أي في جميع ما تشاهدونه ، وهذا إيجاز بديع. و (آمِنِينَ) حال مبينة لبعض ما أجمله قوله : (فِي ما هاهُنا). وذلك تنبيه على نعمة عظيمة لا يدل عليها اسم الإشارة لأنها لا يشار إليها وهي نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم ولا يتذوّق طعم النعم الأخرى إلا بها.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ) ينبغي أن يعلّق ب (آمِنِينَ) ليكون مجموع ذلك تفصيلا لإجمال اسم الإشارة ، أي اجتمع لهم الأمن ورفاهية العيش. والجنات : الحوائط التي تشجر بالنخيل والأعناب.

والطّلع : وعاء يطلع من النخل فيه ثمر النخلة في أول أطواره يخرج كنصل السيف في باطنه شماريخ القنو ، ويسمى هذا الطلع الكمّ (بكسر الكاف) وبعد خروجه بأيام ينفلق ذلك الوعاء عن الشماريخ وهي الأغصان التي فيها الثمر كحب صغير ، ثم يغلظ ويصير بسرا ثم تمرا.

والهضيم : بمعنى المهضوم ، وأصل الهضم شدخ الشيء حتى يلين ، واستعير هنا للدقيق الضامر ، كما يقال : امرأة هضيم الكشح. وتلك علامة على أنه يخرج تمرا جيّدا. والنخل الذي يثمر تمرا جيدا يقال له : النخل الإناث وضده فحاحيل ، وهي جمع فحّال (بضم الفاء وتشديد الحاء المهملة) أي ذكر ، وطلعه غليظ وتمره كذلك.

وخصّ النخل بالذكر مع أنه مما تشمله الجنات لقصد بيان جودته بأن طلعه هضيم.

و (تَنْحِتُونَ) عطف على (آمِنِينَ) ، أي وناحتين ، عبر عنه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة في نحتهم بيوتا من الجبال. وتقدم ذلك في سورة الأعراف.

وفرهين صيغة مبالغة في قراءة الجمهور بدون ألف بعد الفاء ، مشتق من الفراهة وهي الحذق والكياسة ، أي عارفين حذقين بنحت البيوت من الجبال بحيث تصير بالنحت كأنها مبنية. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف (فارِهِينَ) بصيغة اسم الفاعل.

١٨٢

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) مفرع مثل نظيره في قصة عاد.

والمراد ب (الْمُسْرِفِينَ) أئمة القوم وكبراؤهم الذين يغرونهم بعبادة الأصنام ويبقونهم في الضلالة استغلالا لجهلهم وليسخروهم لفائدتهم. والإسراف : الإفراط في شيء ، والمراد به هنا الإسراف المذموم كله في المال وفي الكفر ، ووصفهم بأنهم (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ، فالإسراف منوط بالفساد.

وعطف (وَلا يُصْلِحُونَ) على جملة : (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) تأكيد لوقوع الشيء بنفي ضده مثل قوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩] وقول عمرو بن مرة الجهني :

النسب المعروف غير المنكر

يفيد أن فسادهم لا يشوبه صلاح ؛ فكأنه قيل : الذين إنما هم مفسدون في الأرض ، فعدل عن صيغة القصر لئلا يحتمل أنه قصر مبالغة لأن نفي الإصلاح عنهم يؤكد إثبات الإفساد لهم ، فيتقرر ذلك في الذهن ، ويتأكد معنى إفسادهم بنفي ضده كقول السموأل أو الحارثي :

تسيل على حدّ الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

والتعريف في (الْأَرْضِ) تعريف العهد.

[١٥٣ ، ١٥٤] (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤))

أجابوا موعظته بالبهتان فزعموه فقد رشده وتغير حاله واختلقوا أن ذلك من أثر سحر شديد. فالمسحّر : اسم مفعول سحّره إذا سحره سحرا متمكنا منه ، و (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أبلغ في الاتصاف بالتسحير من أن يقال : إنما أنت مسحّر كما تقدم في قوله : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦].

ولمّا تضمن قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) تكذيبهم إياه أيدوا تكذيبه بأنه بشر مثلهم. وذلك في زعمهم ينافي أن يكون رسولا من الله لأن الرسول في زعمهم لا يكون إلا مخلوقا خارقا للعادة كأن يكون ملكا أو جنّيّا. فجملة : (إنّما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) في حكم التأكيد بجملة : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) باعتبار مضمون الجملتين.

١٨٣

وفرعوا على تكذيبه المطالبة بأن يأتي بآية على صدقه ، أي أن يأتي بخارق عادة يدل على أن الله صدقه في دعوى الرسالة عنه. وفرضوا صدقه بحرف (إِنْ) الشرطية الغالب استعمالها في الشّك.

ومعنى (مِنَ الصَّادِقِينَ) من الفئة المعروفين بالصدق يعنون بذلك الرسل الصادقين لدلالته على تمكن الصدق منه ، كما تقدم في قوله : (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦].

[١٥٥ ـ ١٥٩] (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

اسم الإشارة إلى ناقة جعلها لهم آية. وتقدم خبر هذه الناقة في سورة هود ، وذكر أن صالحا جعل لها شربا ، وهو بكسر الشين وسكون الراء : النوبة في الماء ، للناقة يوما تشرب فيه لا يزاحمونها فيه بأنعامهم. والكلام على (عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) نظير الكلام على نظيره في قصة عاد ورسولهم.

وأصبحوا نادمين لما رأوا أشراط العذاب الذي توعدهم به صالح ولذلك لم ينفعهم الندم لأن العذاب قد حلّ بهم سريعا ، فلذلك عطف بفاء التعقيب على (نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ).

وتقدم نظير قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) الآية.

[١٦٠ ـ ١٦٤] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤))

القول في موقعها كالقول في سابقتها ، والقول في تفسيرها كالقول في نظيرتها.

وجعل لوط أخا لقومه ولم يكن من نسبهم وإنما كان نزيلا فيهم ، إذ كان قوم لوط من أهل فلسطين من الكنعانيين ، وكان لوط عبرانيا وهو ابن أخي إبراهيم ولكنه لما استوطن بلادهم وعاشر فيهم وحالفهم وظاهرهم جعل أخا لهم كقول سحيم عبد بني الحسحاس :

١٨٤

أخوكم ومولى خيركم وحليفكم

ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا

يعني نفسه يخاطب مواليه بني الحسحاس. وقال تعالى في الآية الأخرى (وَإِخْوانُ لُوطٍ) [ق : ١٣]. وهذا من إطلاق الأخوّة على ملازمة الشيء وممارسته كما قال :

أخور الحرب لباسا إليها جلالها

إذا عدموا زادا فإنك عاقر

وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء : ٢٧].

[١٦٥ ، ١٦٦] (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦))

هو في الاستئناف كقوله (أَتُتْرَكُونَ) [الشعراء : ١٤٦] في قصة ثمود. والإتيان: كناية. والذكران : جمع ذكر وهو ضد الأنثى. وقوله : (مِنَ الْعالَمِينَ) الأظهر فيه أنه في موضع الحال من الواو في (أَتَأْتُونَ). و (مِنَ) فصلية ، أي تفيد معنى الفصل بين متخالفين بحيث لا يماثل أحدهما الآخر. فالمعنى : مفصولين من العالمين لا يماثلكم في ذلك صنف من العالمين. وهذا المعنى جوزه في «الكشاف» ثانيا وهو أوفق بمعنى : (الْعالَمِينَ) الذي المختار فيه أنه جمع (عالم) بمعنى النوع من المخلوقات كما تقدم في سورة الفاتحة.

وإثبات معنى الفصل لحرف (مِنَ) قاله ابن مالك ، ومثّل بقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] ، وقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧]. ونظر فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» وهو معنى رشيق متوسط بين معنى الابتداء ومعنى البدلية وليس أحدهما. وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) في سورة البقرة [٢٢٠].

والمعنى : أتأتون الذكران مخالفين جميع العالمين من الأنواع التي فيها ذكور وإناث فإنها لا يوجد فيها ما يأتي الذكور.

فهذا تنبيه على أن هذا الفعل الفظيع مخالف للفطرة لا يقع من الحيوان العجم فهو عمل ابتدعوه ما فعله غيرهم ، ونحوه قوله تعالى في الآية الأخرى (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٢٨].

والمراد بالأزواج : الإناث من نوع ، وإطلاق اسم الأزواج عليهن مجاز مرسل بعلاقة الأول ، ففي هذا المجاز تعريض بأنه يرجو ارعواءهم.

١٨٥

وفي قوله : (ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ) إيماء إلى الاستدلال بالصلاحية الفطرية لعمل على بطلان عمل يضاده ، لأنه مناف للفطرة. فهو من تغيير الشيطان وإفساده لسنة الخلق والتكوين ، قال تعالى حكاية عنه (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩].

و (بَلْ) لإضراب الانتقال من مقام الموعظة والاستدلال إلى مقام الذم تغليظا للإنكار بعد لينه لأن شرف الرسالة يقتضي الإعلان بتغيير المنكر والأخذ بأصرح مراتب الإعلان فإنه إن استطاع بلسانه غليظ الإنكار لا ينزل منه إلى ليّنه وأنه يبتدئ باللين فإن لم ينفع انتقل منه إلى ما هو أشد ولذلك انتقل لوط من قوله : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ) إلى قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ).

وفي الإتيان بالجملة الاسمية في قوله : (أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) دون أن يقول : بل كنتم عادين ، مبالغة في تحقيق نسبة العدوان إليهم. وفي جعل الخبر (قَوْمٌ عادُونَ) دون اقتصار على (عادُونَ) تنبيه على أن العدوان سجية فيهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

والعادي : هو الذي تجاوز حدّ الحق إلى الباطل ، يقال : عدا عليه ، أي ظلمه ، وعدوانهم خروجهم عن الحد الموضوع بوضع الفطرة إلى ما هو مناف لها محفوف بمفاسد التغيير للطبع.

[١٦٧ ـ ١٧٣] (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣))

قولهم كقول قوم نوح لنوح إلا أن هؤلاء قالوا : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) فهدّدوه بالإخراج من مدينتهم لأنه كان من غير أهل المدينة بل كان مهاجرا بينهم وله صهر فيهم.

وصيغة (مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أبلغ من : لنخرجنك ، كما تقدم في قوله : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦]. وكان جواب لوط على وعيدهم جواب مستخفّ بوعيدهم إذ أعاد الإنكار قال : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي من المبغضين. وقوله : (مِنَ الْقالِينَ) أبلغ في الوصف من أن يقول : إني لعملكم قال ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧]. وذلك أكمل في الجناس لأنه يكون جناسا تامّا فقد حصل بين (قالَ) وبين (الْقالِينَ) جناس مذيّل ويسمّى مطرّفا.

١٨٦

وأقبل على الدعاء إلى الله أن ينجيه وأهله مما يعمل قومه ، أي من عذاب ما يعملونه فلا بدّ من تقدير مضاف كما دل عليه قوله : (فَنَجَّيْناهُ). ولا يحسن جعل المعنى : نجّني من أن أعمل عملهم ، لأنه يفوت معه التعريض بعذاب سيحل بهم. والقصة تقدمت في الأعراف وفي هود والحجر.

والفاء في قوله : (فَنَجَّيْناهُ) للتعقيب ، أي كانت نجاته عقب دعائه حسبما يقتضي ذلك من أسرع مدة بين الدعاء وأمر الله إياه بالخروج بأهله إلى قرية «صوغر».

والعجوز : المرأة المسنة وهي زوج لوط ، وقوله : (فِي الْغابِرِينَ) صفة (عَجُوزاً).

والغابر : المتصف بالغبور وهو البقاء بعد ذهاب الأصحاب أو أهل الخيل ، أي باقية في العذاب بعد نجاة زوجها وأهله وهي مستثناة من (وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ). وذلك أنها لحقها العذاب من دون أهلها فكان صفة لها. وقد تقدم ذلك في قصتهم في سورة هود.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن إهلاك المكذبين أجدر بأن يذكر في مقام الموعظة من ذكر إنجاء لوط المؤمنين.

والتدمير : الإصابة بالدمار وهو الهلاك ، وذلك أنهم استؤصلوا بالخسف وإمطار الحجارة عليهم.

والمطر : الماء الذي يسقط من السحاب على الأرض. والإمطار : إنزال المطر ، يقال : أمطرت السماء. وسمي ما أصابهم من الحجارة مطرا لأن نزل عليهم من الجو. وقيل هو من مقذوفات براكين في بلادهم أثارتها زلازل الخسف فهو تشبيه بليغ.

و (ساء) فعل ذمّ بمعنى بئس. وفي قوله : (الْمُنْذَرِينَ) تسجيل عليهم بأنهم أنذروا فلم ينتذروا.

[١٧٤ ، ١٧٥] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

أي في قصتهم المعلومة للمشركين آية ، قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨] وتقدم القول في نظيره آنفا.

[١٧٦ ـ ١٨٠] (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧)

١٨٧

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠))

استئناف تعداد وتكرير كما تقدم في جملة : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣]. ولم يقرن فعل (كَذَّبَ) هذا بعلامة التأنيث لأن (أَصْحابُ) جمع صاحب وهو مذكر معنى ولفظا بخلاف قوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) [الشعراء : ١٦٠] فإن (قوم) في معنى الجماعة والأمة كما تقدم في قوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥].

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ليكة بلام مفتوحة بعدها ياء تحتية ساكنة ممنوعا من الصرف للعلمية والتأنيث. وقرأه الباقون (الْأَيْكَةِ) بحرف التعريف بعده همزة مفتوحة وبجر آخره على أنه تعريف عهد لأيكة معروفة. والأيكة : الشجر الملتف وهي الغيضة. وعن أبي عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي‌الله‌عنه في الحجر وق (الْأَيْكَةِ) وفي الشعراء وص ليكة واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف.

وأصحاب ليكة : هم قوم شعيب أو قبيلة منهم. قالوا : وكانت غيضتهم من شجر المقل (بضم الميم وسكون القاف وهو النبق) ويقال له الدّوم (بفتح الدال المهملة وسكون الواو).

وإفرادها بتاء الوحدة على إرادة البقعة واسم الجمع : أيك ، واشتهرت بالأيكة فصارت علما بالغلبة معرفا باللام مثل العقبة. ثم وقع فيه تغيير ليكون علما شخصيا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على لام التعريف وتنوسي معنى التعريف باللام. وعن الزجاج : جاء في التفسير أن اسم المدينة التي أرسل إليها شعيب كان ليكة. وعن أبي عبيد : وجدنا في بعض كتب التفسير أن ليكة اسم القرية والأيكة البلاد كلها كمكة وبكة. وهذا من التغيير لأجل التسمية ، كما سموا شمسا بضم الشين ليكون علما وأصله الشمس علما بالغلبة. والتغيير لأجل النقل إلى العلمية وارد بكثرة ، ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل الحماسة» عند قول تأبط شرا :

إني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عم الصدق شمس بن مالك

وذكره في «الكشاف» في سورة أبي لهب. وقد تقدم بيانه عند الكلام على البسملة قبل سورة الفاتحة ، فلما صار اسم ليكة علما على البلاد جاز منعه من الصرف لذلك ،

١٨٨

وليس ذلك لمجرد نقل حركة الهمزة على اللام كما توهمه النحّاس ، ولا لأن القراءة اغترار بخط المصحف كما تعسّفه صاحب «الكشاف» على عادته في الاستخفاف بتوهيم القراء ، وقد علمتم أن الاعتماد في القراءات على الرواية قبل نسخ المصاحف كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير فلا تتبعوا الأوهام المخطئة.

وقد اختلف في أن أصحاب ليكة هم مدين أو هم قوم آخرون ساكنون في ليكة جوار مدين أرسل شعيب إليهم وإلى أهل مدين. وإلى هذا مال كثير من المفسرين. روى عبد الله بن وهب عن جبير بن حازم عن قتادة قال : أرسل شعيب إلى أمتين : إلى قومه من أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة. وقال جابر بن زيد : أرسل شعيب إلى قومه أهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة. وفي «تفسير ابن كثير» : روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب عليه‌السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي» ، وقال ابن كثير : هذا غريب ، وفي رفعه نظر ، والأشبه أنه موقوف. وروى ابن جريج عن ابن عباس أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين. والأظهر أن أهل الأيكة قبيلة غير مدين فإن مدين هم أهل نسب شعيب وهم ذرية مدين بن إبراهيم من زوجه «قطورة» سكن مدين في شرق بلد الخليل كما في التوراة ، فاقتضى ذلك أنه وجده بلدا مأهولا بقوم فهم إذن أصحاب الأيكة فبنى مدين وبنوه المدينة وتركوا البادية لأهلها وهم سكان الغيضة.

والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لمّا ذكر هذه القصة لأهل مدين وصف شعيبا بأنه أخوهم ، ولما ذكرها لأصحاب ليكة لم يصف شعيبا بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيبا ولا صهرا لأصحاب ليكة ، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة. ومما يرجح ذلك قوله تعالى في سورة الحجر [٧٨ ، ٧٩] (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) ، فجعل ضميرهم مثنى باعتبار أنهم مجموع قبيلتين : مدين وأصحاب ليكة. وقد بيّنّا ذلك في سورة الحجر. وإنما ترسل الرسل من أهل المدائن قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) يوحى (إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وتكون الرسالة شاملة لمن حول القرية.

وافتتح شعيب دعوته بمثل دعوات الرسل من قبله للوجه الذي قدمناه.

وشمل قوله : (أَلا تَتَّقُونَ) النهي عن الإشراك فقد كانوا مشركين كما في آية سورة

١٨٩

هود.

[١٨١ ـ ١٨٣] (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣))

استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله : (أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٧٧] إلى آخره إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم ، فقد كانوا مع شركهم بالله يطفّفون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم ، ويفسدون في الأرض. فأما تطفيف الكيل والميزان فظلم وأكل مال بالباطل ، ولما كان تجارهم قد تمالئوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف.

و (أَوْفُوا) أمر بالإيفاء ، أي جعل الشيء وافيا ، أي تاما ، أي اجعلوا الكيل غير ناقص. والمخسر : فاعل الخسارة لغيره ، أي المنقص ، فمعنى (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) لا تكونوا من المطفّفين. وصوغ (مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أبلغ من : لا تكونوا مخسرين. لأنه يدل على الأمر بالتبرّؤ من أهل هذا الصنيع ، كما تقدم آنفا في عدة آيات منها قوله : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] في قصة نوح.

والقسطاس : بضم القاف وبكسرها من أسماء العدل ، ومن أسماء الميزان ، وتقدم في قوله تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) في سورة الإسراء [٣٥] ، حمل على المعنيين هنا كما هنالك وإن كان الوصف ب (الْمُسْتَقِيمِ) يرجح أن المقصود به الميزان ، وتقدم تفصيل ما يرجع إليه هذا التشريع في قصته في الأعراف.

وقرأ الجمهور : (بِالْقِسْطاسِ) بضم القاف. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بكسر القاف.

وبخس أشياء الناس : غبن منافعها وذمّها بغير ما فيها ليضطروهم إلى بيعها بغبن. وأما الفساد فيقع على جميع المعاملات الضارة.

والبخس : النقص والذم. وتقدم في قوله : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) في سورة البقرة [٢٨٢] ونظيره في سورة الأعراف. وقد تقدم نظير بقية الآية في سورة هود. ومن بخس الأشياء أن يقولوا للذي يعرض سلعة سليمة للبيع : إن سلعتك رديئة ، ليصرف عنها الراغبين فيشتريها برخص.

١٩٠

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))

أكد قوله في صدر خطابه (فَاتَّقُوا اللهَ) [الشعراء : ١٧٩] بقوله هنا : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) وزاد فيه دليل استحقاقه التقوى بأن الله خلقهم وخلق الأمم من قبلهم ، وباعتبار هذه الزيادة أدخل حرف العطف على فعل (اتَّقُوا) ولو كان مجرد تأكيد لم يصح عطفه. وفي قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) إيماء إلى نبذ اتقاء غيره من شركائهم.

و (الْجِبِلَّةَ) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام : الخلقة ، وأريد به المخلوقات لأن الجبلة اسم كالمصدر ولهذا وصف ب (الْأَوَّلِينَ). وقيل : أطلق الجبلة على أهلها ، أي وذوي الجبلة الأولين. والمعنى : الذي خلقكم وخلق الأمم قبلكم.

[١٨٥ ـ ١٨٨] (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨))

نفوا رسالته عن الله كناية وتصريحا فزعموه مسحورا ، أي مختل الإدراك والتصورات من جرّاء سحر سلط عليه. وذلك كناية عن بطلان أن يكون ما جاء به رسالة عن الله. وفي صيغة (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) من المبالغة ما تقدم في قوله : (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] (مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧].

والإتيان بواو العطف في قوله : (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) يجعل كونه بشرا إبطالا ثانيا لرسالته. وترك العطف في قصة ثمود يجعل كونه بشرا حجة على أن ما يصدر منه ليس وحيا على الله بل هو من تأثير كونه مسحورا. فمآل معنيي الآيتين متّحد ولكن طريق إفادته مختلف وذلك على حسب أسلوب الحكايتين.

وأطلق الظن على اليقين في (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) وهو إطلاق شائع كقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ، وقرينته هنا دخول اللام على المفعول الثاني ل (ظنّ) لأن أصلها لام قسم.

و (إِنْ) مخففة من الثقيلة ، واللام في (لَمِنَ الْكاذِبِينَ) اللام الفارقة ، وحقها أن تدخل على ما أصله الخبر فيقال هنا مثلا : وإن أنت لمن الكاذبين ، لكن العرب توسعوا في المخففة فكثيرا ما يدخلونها على الفعل الناسخ لشدة اختصاصه بالمبتدإ والخبر فيجتمع

١٩١

في الجملة حينئذ ناسخان مثل قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) [البقرة : ١٤٣] وكان أصل التركيب في مثله : ونظنّ أنك لمن الكاذبين ، فوقع تقديم وتأخير لأجل تصدير حرف التوكيد لأن (إنّ) وأخواتها لها صدر الكلام ما عدا (أنّ) المفتوحة. وأحسب أنهم ما يخفّفون (إنّ) إلا عند إرادة الجمع بينها وبين فعل من النواسخ على طريقة التنازع ، فالذي يقول : إن أظنك لخائفا ، أراد أن يقول : أظن إنّك لخائف ، فقدم (إنّ) وخففها وصيّر خبرها مفعولا لفعل الظن ، فصار : إن أظنّك لخائفا ، والكوفيون يجعلون (إِنْ) في مثل هذا الموقع حرف نفي ويجعلون اللام بمعنى (إلّا).

والآمر في (فَأَسْقِطْ) أمر تعجيز.

والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة من عدا حفصا : القطعة من الشيء. وقال في «الكشاف» : هو جمع كسفة مثل قطع وسدر. والأول أظهر ، قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) [الطور : ٤٤].

وقرأ حفص (كِسَفاً) بكسر الكاف وفتح السين على أنه جمع كسف كما في قوله: (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) ، وقد تقدم في سورة الإسراء [٩٢].

وقولهم : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) كقول ثمود : (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٥٤] إلا أنّ هؤلاء عينوا الآية فيحتمل أن تعيينها اقتراح منهم ، ويحتمل أن شعيبا أنذرهم بكسف يأتي فيه عذاب. وذلك هو يوم الظّلّة المذكور في هذه الآية ، فكان جواب شعيب بإسناد العلم إلى الله فهو العالم بما يستحقونه من العذاب ومقداره. و (أَعْلَمُ) هنا مبالغة في العالم وليس هو بتفضيل.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩))

(الظُّلَّةِ) : السحابة ، كانت فيها صواعق متتابعة أصابتهم فأهلكتهم كما تقدم في سورة الأعراف. وقد كان العذاب من جنس ما سألوه ، ومن إسقاط شيء من السماء.

وقوله : (فَكَذَّبُوهُ) الفاء فصيحة ، أي فتبين من قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٨٥] أنهم كذبوه ، أي تبين التكذيب والثبات عليه بما دلّ عليه ما قصدوه من تعجيزه إذ قالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧]. وفي إعادة فعل التكذيب إيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال أصحاب شعيب فيوشك أن يكون عقابهم كذلك.

١٩٢

[١٩٠ ، ١٩١] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

أي في ذلك آية لكفار قريش إذ كان حالهم كحال أصحاب ليكة فقد كانوا من المطففين مع الإشراك قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) إلى قوله : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين : ١ ـ ٥]. وقد تقدم القول في نظائره. وقد ذكرنا في طالعة هذه السورة [٨] وجه تكرير آية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً).

[١٩٢ ـ ١٩٥] (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥))

عود إلى ما افتتحت به السورة من التنويه بالقرآن وكونه الآية العظمى بما اقتضاه قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء : ٢] كما تقدم لتختتم السورة بإطناب التنويه بالقرآن كما ابتدئت بإجمال التنويه به ، والتنبيه على أنه أعظم آية اختارها الله أن تكون معجزة أفضل المرسلين. فضمير (وَإِنَّهُ) عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر آيات الرسل الأولين. فبواو العطف اتصلت الجملة بالجمل التي قبلها ، وبضمير القرآن اتصل غرضها بغرض صدر السورة.

فجملة : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) معطوفة على الجمل التي قبلها المحكية فيها أخبار الرسل المماثلة أحوال أقوامهم لحال قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أيدهم الله به من الآيات ليعلم أن القرآن هو آية الله لهذه الأمة ، فعطفها على الجمل التي مثلها عطف القصة على القصة لتلك المناسبة. ولكن هذه الجملة متصلة في المعنى بجملة : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء : ٢] بحيث لو لا ما فصل بينها وبين الأخرى من طول الكلام لكانت معطوفة عليها. ووجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن في التنويه بالقرآن تسلية له على ما يلاقيه من إعراض الكافرين عن قبوله وطاعتهم فيه.

والتأكيد ب (إنّ) ولام الابتداء لرد إنكار المنكرين.

والتنزيل مصدر بمعنى المفعول للمبالغة في الوصف حتى كأنّ المنزّل نفس التنزيل. وجملة: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) بيان (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي كان تنزيله على هذه الكيفية.

١٩٣

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر بتخفيف زاي (نَزَلَ) ورفع (الرُّوحُ). وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف (نَزَلَ) بتشديد الزاي ونصب (الرُّوحُ الْأَمِينُ) ، أي نزّله الله به.

و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) جبرئيل وهو لقبه في القرآن ، سمّي روحا لأن الملائكة من عالم الروحانيات وهي المجردات. وتقدم الكلام على الروح في سورة الإسراء ، وتقدم (رُوحُ الْقُدُسِ) في البقرة [٨٧]. ونزول جبريل إذن الله تعالى ، فنزوله تنزيل من رب العالمين.

و (الْأَمِينُ) صفة جبريل لأن الله أمنه على وحيه. والباء في قوله : (نَزَلَ بِهِ) للمصاحبة.

والقلب : يطلق على ما به قبول المعلومات كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] أي إدراك وعقل.

وقوله : (عَلى قَلْبِكَ) يتعلق بفعل (نَزَلَ) ، و (عَلى) للاستعلاء المجازي لأن النزول وصول من مكان عال فهو مقتض استقرار النازل على مكان.

ومعنى نزول جبريل على قلب النبي عليهما‌السلام : اتصاله بقوة إدراك النبي لإلقاء الوحي الإلهي في قوّته المتلقّية للكلام الموحى بألفاظه ، ففعل (نزل) حقيقة.

وحرف (عَلى) مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي مثل استعارته في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك كما في حديث «الصحيحين» عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول».

وهذان الوصفان خاصّان بوحي نزول القرآن. وثمة وحي من قبيل إبلاغ المعنى وسمّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث آخر نفثا. فقال : «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها». فهذا اللفظ ليس من القرآن فهو وحي بالمعنى (والروع : العقل) وقد يكون الوحي في رؤيا النوم فإن النبي لا ينام قلبه ، ويكون أيضا بسماع كلام الله من وراء حجاب ، وقد بيّنا في شرح الحديث النكتة في اختصاص إحدى الحالتين ببعض الأوقات.

١٩٤

وأشعر قوله : (عَلى قَلْبِكَ) أن القرآن ألقي في قلبه بألفاظه ، قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) [العنكبوت : ٤٨].

ومعنى : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) لتكون من الرسل. واختير من أفعاله النذارة لأنها أخص بغرض السورة فإنها افتتحت بذكر إعراضهم وبإنذارهم.

وفي : (مِنَ الْمُنْذِرِينَ) من المبالغة في تمكن وصف الرسالة منه ما تقدم غير مرة في مثل هذه الصيغة في هذه القصص وغيرها. و (بِلِسانٍ) حال من الضمير المجرور في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).

والباء للملابسة. واللسان : اللغة ، أي نزل بالقرآن ملابسا للغة عربية مبينة أي كائنا القرآن بلغة عربية.

والمبين : الموضّح الدلالة على المعاني التي يعنيها المتكلم ، فإن لغة العرب أفصح اللغات وأوسعها لاحتمال المعاني الدقيقة الشريفة مع الاختصار ، فإن ما في أساليب نظم كلام العرب من علامات الإعراب ، والتقديم والتأخير ، وغير ذلك ، والحقيقة والمجاز والكناية ، وما في سعة اللغة من الترادف ، وأسماء المعاني المقيّدة ، وما فيها من المحسنات ، ما يلج بالمعاني إلى العقول سهلة متمكنة ، فقدّر الله تعالى هذه اللغة أن تكون هي لغة كتابه الذي خاطب به كافة الناس ، فأنزل بادئ ذي بدء بين العرب أهل ذلك اللسان ومقاويل البيان ثم جعل منهم حملته إلى الأمم تترجم معانيه فصاحتهم وبيانهم ، ويتلقى أساليبه الشادون منهم وولدانهم ، حين أصبحوا أمة واحدة يقوم باتحاد الدين واللغة كيانهم.

[١٩٦ ، ١٩٧] (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧))

عطف على (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٩٢] ، والضمير للقرآن كضمير (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ). وهذا تنويه آخر بالقرآن بأنه تصدقه كتب الأنبياء الأولين بموافقتها لما فيه وخاصة في أخباره عن الأمم وأنبيائها.

وقوله : (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي كتب الرسل السالفين ، أي أن القرآن كائن في كتب الأنبياء السالفين مثل التوراة والإنجيل والزبور ، وكتب الأنبياء التي نعلمها إجمالا. ومعلوم

١٩٥

أن ضمير القرآن لا يراد به ذات القرآن ، أي ألفاظه المنزلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ليست سور القرآن وآياته مسطورة في زبر الأولين بلفظها كله فتعين أن يكون الضمير للقرآن باعتبار اسمه ووصفه الخاص أو باعتبار معانيه. فأما الاعتبار الأوّل فالضمير مؤول بالعود إلى اسم القرآن كقوله تعالى : (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] ، أي يجدون اسمه ووصفه الذي يعيّنه. فالمعنى أن ذكر القرآن وارد في كتب الأولين ، أي جاءت بشارات بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه رسول يجيء بكتاب. ففي سفر التثنية من كتب موسى عليه‌السلام في الإصحاح الثامن عشر قول موسى : «قال لي الرب : أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» إذ لا شك أن إخوة بني إسرائيل هم العرب كما ورد في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر عند ذكر الحمل بإسماعيل «وأمام جميع إخوته يسكن» أي لا يسكن معهم ولكن قبالتهم. ولم يأت نبيء بوحي مثل موسى بشرع كشرع موسى غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلام الله المجعول في فمه هو القرآن الموحى به إليه وهو يتلوه.

وفي إنجيل متّى الإصحاح الرابع والعشرين قال عيسى عليه‌السلام : «ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرا .... ولكن الذي يصبر إلى المنتهى (أي يدوم إلى آخر الدهر أي دينه إذ لا خلود للأشخاص) فهذا يخلص ويكرز (أي يدعو) ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة (أي الأرض المأهولة) شهادة لجميع الأمم (رسالة عامة) ثم يأتي المنتهى (أي نهاية العالم)».

فالبشارة هي الوحي وهو القرآن وهو الكتاب الذي دعا جميع الأمم ، قال تعالى : (تابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١] وقال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الإسراء : ٨٩].

وفي إنجيل يوحنا قول المسيح الإصحاح الرابع عشر : «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا (أي رسولا) آخر ليمكث معكم إلى الأبد (هذا هو دوام الشريعة) روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله (إشارة إلى تكذيب المكذبين) لأنه لا يراه ولا يعرفه». ثم قال : «وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي (أي بوصف الرسالة) فهو يعلمكم كلّ شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم (وهذا التعليم لكل شيء هو القرآن ما فرطنا في الكتاب من شيء)».

وأما الاعتبار الثاني فالضمير مؤوّل بمعنى مسماه كقولهم : عندي درهم ونصفه ، أي

١٩٦

نصف مسمى درهم فكما يطلق اسم الشيء على معناه نحو (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] وقوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) [مريم : ٤١] أي أحواله ، كذلك يطلق ضمير الاسم على معناه ، فالمعنى : أن ما جاء به القرآن موجود في كتب الأولين. وهذا كقول الإنجيل آنفا «ويذكّركم بكل ما قلته لكم» ، ولا تجد شيئا من كلام المسيح عليه‌السلام المسطور في الأناجيل غير المحرف عنه إلا وهو مذكور في القرآن ، فيكون الضمير باعتبار بعضه كقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] الآية.

والمقصود : أن ذلك آية على صدق أنه من عند الله. وهذا معنى كون القرآن مصدّقا لما بين يديه.

وقوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق ، بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم ، فباعتبار كون هذه الجملة تنويها آخر بالقرآن عطفت على الجملة التي قبلها ولو لا ذلك لكان مقتضى كونها حجة على صدق القرآن أن لا تعطف.

وفعل : (يَعْلَمَهُ) شامل للعلم بصفة القرآن ، أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء به ، وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم.

وضمير (أَنْ يَعْلَمَهُ) عائد إلى القرآن على تقدير : أن يعلم ذكره. ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ).

[١٩٨ ، ١٩٩] (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩))

كان من جملة مطاعن المشركين في القرآن أنه ليس من عند الله ، ويقولون : تقوله محمد من عند نفسه ، وقالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) [الفرقان : ٥] فدمغهم الله بأن تحدّاهم بالإتيان بمثله فعجزوا.

وقد أظهر الله بهتانهم في هذه الآية بأنهم إنما قالوا ذلك حيث جاءهم بالقرآن رسول عربي ، وأنه لو جاءهم بهذا القرآن رسول أعجمي لا يعرف العربية بأن أوحى الله بهذه الألفاظ إلى رسول لا يفهمها ولا يحسن تأليفها فقرأه عليهم ، وفي قراءته وهو لا يحسن

١٩٧

اللغة أيضا خارق عادة ؛ لو كان ذلك لما آمنوا بأنه رسول مع أن ذلك خارق للعادة فزيادة قوله : (عَلَيْهِمْ) زيادة بيان في خرق العادة. يعني أن المشركين لا يريدون مما يلقونه من المطاعن البحث عن الحق ولكنهم أصروا على التكذيب وطفقوا يتحملون أعذارا لتكذيبهم جحودا للحق وتسترا من اللائمين.

وجملة : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) معطوفة على جملة : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) إلى قوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥] لأن قوله : (عَلى قَلْبِكَ) أفاد أنه أوتيه من عند الله وأنه ليس من قول النبي لا كما يقول المشركون : تقوّله ، كما أشرنا إليه آنفا.

فلما فرغ من الاستدلال بتعجيزهم فضح نياتهم بأنهم لا يؤمنون به في كل حال ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧].

و (الْأَعْجَمِينَ) جمع أعجم. والأعجم : الشديد العجمة ، أي لا يحسن كلمة بالعربية ، وهو هنا مرادف أعجمي بياء النسب فيصح في جمعه على أعجمين اعتبار أنه لا حذف فيه باعتبار جمع أعجم كما قال حميد بن ثور يصف حمامة :

ولم أر مثلي شاقه لفظ مثلها

ولا عربيا شاقه لفظ أعجما

ويصح اعتبار حذف ياء النسب للتخفيف. وأصله : الأعجميين كما في الشعر المنسوب إلى أبي طالب :

وحيث ينيخ الأشعرون رحالهم

بملقى السيول بين ساف ونائل

أي الأشعريون ، وعلى هذين الاعتبارين يحمل قول النابغة :

فعودا له غسان يرجون أوبه

وترك ورهط الأعجمين وكابل

[٢٠٠ ـ ٢٠٣] (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣))

تقدم نظير أول هذه الآية في سورة الحجر [١٢] ، إلّا أن آية الحجر قيل فيها : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) وفي هذه الآية قيل (سَلَكْناهُ) ، والمعنى في الآيتين واحد ، والمقصود منهما واحد ، فوجه اختيار المضارع في آية الحجر أنه دال على التجدد لئلا يتوهم أن

١٩٨

المقصود إبلاغ مضى وهو الذي أبلغ لشيع الأولين لتقدم ذكرهم فيتوهّم أنهم المراد بالمجرمين مع أن المراد كفار قريش. وأما هذه الآية فلم يتقدم فيها ذكر لغير كفار قريش فناسبها حكاية وقوع هذا الإبلاغ منذ زمن مضى. وهم مستمرون على عدم الإيمان.

وجملة : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) إلخ مستأنفة بيانيّة ، أي إن سألت عن استمرار تكذيبهم بالقرآن في حين أنه نزل بلسان عربي مبين فلا تعجب فكذلك السلوك سلكناه في قلوب المشركين ؛ فهو تشبيه للسلوك المأخوذ من (سَلَكْناهُ) بنفسه لغرابته. وهذا نظير ما تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] ، أي هو سلوك لا يشبهه سلوك وهو أنه دخل قلوبهم بإبانته وعرفوا دلائل صدقه من أخبار علماء بني إسرائيل ومع ذلك لم يؤمنوا به.

ومعنى : (سَلَكْناهُ) أدخلناه ، قال الأعشى :

كما سلك السّكّيّ في الباب فيتق

وعبّر عن المشركين ب (الْمُجْرِمِينَ) لأن كفرهم بعد نزول القرآن إجرام. وجملة : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) في موضع الحال من (الْمُجْرِمِينَ).

والغاية في (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) تهديد بعذاب سيحلّ بهم ، وحث على المبادرة بالإيمان قبل أن يحل بهم العذاب. والعذاب صادق بعذاب الآخرة لمن هلكوا قبل حلول عذاب الدنيا ، وصادق بعذاب السيف يوم بدر ، ومعلوم أنه (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام : ١٥٨].

وقوله : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) صالح للعذابين : عذاب الآخرة يأتي عقب الموت والموت يحصل بغتة ، وعذاب الدنيا بالسيف يحصل بغتة حين الضرب بالسيف.

والفاء في قوله : (فَيَأْتِيَهُمْ) عاطفة لفعل (فَيَأْتِيَهُمْ) على فعل (يَرَوُا) كما دل عليه نصب (فَيَأْتِيَهُمْ) وذلك ما يستلزمه معنى العطف من إفادة التعقيب فيثير إشكالا بأن إتيان العذاب لا يكون بعد رؤيتهم إياه بل هما حاصلان مقترنين فتعيّن تأويل معنى الآية. وقد حاول صاحب «الكشاف» والكاتبون عليه تأويلها بما لا تطمئن له النفس.

والوجه عندي في تأويلها أن تكون جملة : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) بدل اشتمال من جملة (يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وأدخلت الفاء فيها لبيان صورة الاشتمال ، أي أن رؤية العذاب مشتملة على حصوله بغتة ، أي يرونه دفعة دون سبق أشراط له.

١٩٩

أما الفاء في قوله : (فَيَقُولُوا) فهي لإفادة التعقيب في الوجود وهو صادق بأسرع تعذيب فتكون خطرة في نفوسهم قبل أن يهلكوا في الدنيا ، أو يقولون ذلك ويرددونه يوم القيامة حين يرون العذاب وحين يلقون فيه.

و (هَلْ) مستعملة في استفهام مراد به التمني مجازا. وجيء بعدها بالجملة الاسمية الدالة على الثبات ، أي تمنوا إنظارا طويلا يتمكنون فيه من الإيمان والعمل الصالح.

[٢٠٤ ـ ٢٠٧] (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧))

نشأ عن قوله : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الشعراء : ٢٠٢] تقدير جواب عن تكرر سؤالهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] ، حيث جعلوا تأخر حصول العذاب دليلا على انتفاء وقوعه ، فأعقب ذلك بقوله : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ). فالفاء في قوله : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) تفيد تعقيب الاستفهام عقب تكرر قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يونس : ٤٨] ونحوه. والاستفهام مستعمل في التعجيب من غرورهم. والمعنى : أيستعجلون بعذابنا فما تأخيره إلا تمتيع لهم. وكانوا يستهزءون فيقولون: (مَتى هذَا الْوَعْدُ) ، ويستعجلون بالعذاب (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦]. قال مقاتل : قال المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به ، فنزلت (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ).

وتقديم «بعذابنا» للرعاية على الفاصلة وللاهتمام به في مقام الإنذار ، أي ليس شأن مثله أن يستعجل لفظاعته.

ولما كان استعجالهم بالعذاب مقتضيا أنهم في مهلة منه ومتعة بالسلامة وأن ذلك يغرهم بأنهم في منجاة من الوعيد الذي جاءهم على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جابههم بجملة : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ).

والاستفهام في (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ) للتقرير. و (ما) في قوله : (ما أَغْنى عَنْهُمْ) استفهامية وهو استفهام مستعمل في الإنكار ، أي لم يغن عنهم شيئا. والرؤية في (أَفَرَأَيْتَ) قلبية ، أي أفعلمت. والخطاب لغير معين يعمّ كل مخاطب حتى المجرمين.

وجملة : (إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) معترضة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سدّ مسدّ

٢٠٠